رواية الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء) الفصل الحادي والثلاثون 31 بقلم آية محمد رفعت
رواية الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء) الفصل الحادي والثلاثون 31 بقلم آية محمد رفعت
رواية الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء) البارت الحادي والثلاثون
رواية الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء) الجزء الحادي والثلاثون
رواية الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء) الحلقة الحادية والثلاثون
ظنت بأن ما ستفعله سيخلصها من وصمةٍ العار الذي تحمله على أعتاقها، فكانت تتمنى أن ينتهي الوقت سريعًا، وحينما تستيقظ تستطيع الشعور بأنه لم يعد شيئًا بداخلها، فجاهدت “روجينا” لرفع جفنيها الثقيل على مهلٍ، فأغلقتهما سريعًا حينما ضرب ظلامها ضوءًا قوي جعلها تغلفهما، لتعاود فتحهما من جديدٍ في محاولةٍ منها للتأقلم، فاستندت بذراعيها لتجلس على الفراش بشكلٍ مستقيم، جحظت عينيها في صدمةٍ من المكان الغريب الذي تقبع به، فأخر ما تتذكره وجودها بذلك المكان المقزز، إذًا كيف أتت إلى هنا، كادت بالنهوض، ولكنها توقفت لتزيح الأبر الطبية المندثة بوردها، فما أن وقفت على ساقيها حتى أمسكت برأسها بألمٍ، لينتابها دوار حاد جعلها تكاد تهوى للخلف، فتتفاجأ بيدٍ تساندها لتحيل بينها وبين السقوط، استدارت برأسها للخلف تلقائيًا فصعقت حينما رأته أمامها، فشعرت بتلك اللحظة بحالة من الحيرةٍ والتخبط لما يحدث، كيف وصلت لهنا وكيف يقف أمامها بعد ما فعله بها؟ ، استجمعت روجينا قوتها لتدفعه بعيدًا عنها وهي تردد بدهشةٍ:
_أنت!
نظراتها البائسة تجاه قرعت أجراس قلبه بكل قوة امتلكتها، وعلى الرغم من ذلك مازال يقف شامخًا يجابه تيار حبها العتيق، فدفعها برفق لتقف أمامه، ثم وضع يديه معًا في جيب بنطاله الأسود، قائلاً في سخطٍ:
_فاكرة إنك هتتخلصي مني بالبساطة دي، تبقي بتحلمي.
ترقرقت الدموع بعينيها، لتصرخ به بجنون:
_أنت لسه عايز مني أيه، سبني في حالي بقى مبقاش عندي اللي ادهولك تاني!
احتدت نظراته تجاهها، فقطع المسافة بينهما حتى بات يقف مقابلها، فابتلعت ريقها بتوترٍ من قربه منها، فلفحت أنفاسه وجهها:
_في، ابني اللي في بطنك.
كزت على أسنانها بحقد، فحاولت السيطرة على انفعالاتها وهي تسأله بسخريةٍ:
_وأنت فاكر اني هحتفظ بيه!
لف يديه حول حجابها، متعمدًا الضغط على خصلات شعرها، فصرخت ألمًا، فاستمعت لفحيح صوته المخيف:
_مش بمزاجك، كل ما هتحاولي تأذيه هتلاقيني في وشك يا روجينا، ومش كده وبس أنتي مش هتقدري تتوقعي اللي هعمله فيكي قدام أهلك لانك ببساطة لسه مش عارفة إنتي وقعتي مع مين يا حلوة!
أطبقت على شفتيها بقوةٍ، علها تحتمل الألم، فرددت بدموع:
_أبعد عني.
عنيدًا هو ليقف أمام مشاعره وما تهمس به دقات قلبه، فمازال عالقًا بين انتقامه الذي يخيل له بأنه سيمنحه شعور السكينة والراحة، ابتعد عنها “أيان” ثم وقف ليوليها ظهره ليتابع حديثه بعنجهيةٍ:
_بنت عمك مستنايكي برة، وطبعًا مش هقولك تاني عواقب اللي هتفكري فيه من دلوقتي.
وتركها وغادر ببرودٍ جعلها تزداد كرهًا له، فجلست محلها تبكي بقهرٍ على ما فعلته بنفسها وبأبيها الذي لا يستحق سوى الإحترام منها قبل أي أحدًا، انهمرت في موجة من البكاء الذي لن يكون عونًا لها في تلك اللحظة، فترنح لمسمعها صوتًا مألوفًا يناديها:
_روجينــــا!
التفتت تجاه باب الغرفة الطبية فوجدت “حور” تدنو منها، فاحتضنتها وهي تردد بدموعٍ تسبق حديثها:
_عمل فيكي أيه الكلب ده؟
ردت عليها بانكسارٍ، وكأنها تشكو اختيار طريقها:
_بيهددني عشان فكرت أنزل الجنين.
وشددت من احتضنها وهي تطالبها بتوسلٍ:
_مشيني من المكان ده يا حور، خلينا نرجع البيت.
هزت رأسها عدة مرات، فحاولت مساندتها، وإتكأت الأخيرة على معصمها في مجاهدةٍ للوقوف على قدميها المرتعشة، فبدت خطواتها غير متزنة بالمرة، فخطت بضعة خطوات حتى وصلت للإستقبال الخاص بالمشفى، فجلست بإرهاقٍ على المقعد المعدني، وهي تردد بصوتٍ واهن للغاية:
_مش قادرة أمشي على رجلي يا حور، مش قادرة.
جلست جوارها، ثم قالت بحيرةٍ:
_طب هنعمل أيه؟
هزت رأسها بتشتتٍ، فأخرجت حور هاتفها ثم اختارت اسمه من القائمة وعين روجينا تراقبها، فقالت بحزنٍ:
_مفيش حل تاني.
هزت روجينا رأسها بتفهمٍ، فحررت زر الإتصال بأحمد لتخبره بحاجتهما للمساعدة وأرسلت إليه عنوان المشفى، فاستغرق أقل من ثلاثون دقيقة حتى وصل إليهم، فما أن ولج من باب المشفى حتى فتش عنهم بالمكان ومازالت هناك علامات تعجب لوجودهما بالمشفى بذلك الوقت، فاهتدت عينيه عليهن، فاتجه حتى صار قريبًا، فرددت حور بفرحةٍ:
_الحمد لله يا أحمد انك جيت بسرعة.
وزع نظراته بينها وبين روجينا الذي يفترس التعب ملامحها، فقال بشكٍ:
_بتعملوا أيه هنا؟
ابتلعت حور ريقها بصعوبةٍ بالغة، فبحثت عن حجة تخرجها من تلك المعضلة، فقالت بعد فترة من الصمت:
_مفيش روجينا كانت تعبانه شوية.
كرهت الكذب الذي توقع أسيرته كل مرة، لذا قاطعتها حينما قالت:
_كنت بحاول أنزل الجنين وفشلت.
صدمت حور مما قالتله ابنة عمها، فبينما تحاول التغطية عليها تعترف هي بمنتهى البساطة، احتدت نظرات أحمد بغضبٍ كان كالنيران المتراقصة بين حدجتيه، فصاح بانفعالٍ:
_تنزلي الجنين!!
ثم عاد ليسترسل بحدةٍ ونظرة استحقار تجوبها من رأسها لأخماص قدميها:
_أد أيه أنا بستحقرك كل مدى عن الأول، عايزة تقتلي روح بريئة ملهاش أي ذنب غير انك أمه!
لم يكن يكفيها سماع تلك الكلمات التي انهالت عليها كالصفعات لتمزق أخر ما تبقى بداخلها، فرفعت رأسها تجاهه ثم قالت بصوتٍ متقطع:
_وذنبه أيه يتولد يلاقي أم مش مناسبة ليه ولو عرف الحقيقة هيجي اليوم اللي هيتمنى فيه انه ميتولدش.
نجحت كلماتها في اظهار مدى ألمها وما تخوضه من وجع دافين إليه، فانحنى ليحملها بين ذراعيه ثم قال بهدوءٍ لا يتناسب مع حدة معالم وجهه:
_يالا نمشي من هنا.
وخرج بها “أحمد” فقدم مفاتيح سيارته لحور التي أسرعت لفتح باب السيارة الخلفي، فاتبعها وهو يحملها، كاد بالوصول لسيارته ولكنه تفاجئ بمن يقطع طريقه ليقف قبالته وجهًا لوجه، جحظت عين روجينا في صدمةٍ لا مثيل لها، على عكس أحمد الذى كان يراقب خصمه بنظراتٍ صلدة، فتجاهله عن عمدٍ ومن ثم انحنى ليضعها بالسيارة، وأحكم إغلاق بابها، ثم عاد ليقف مقابله من جديدٍ، ارتسمت بسمة شيطانية على شفتي “أيان”، فاقترب منه ثم وضع يديه على كتفيه وهو يردد باستهزاءٍ:
_تعرف إني على الرغم من إني كنت متفاجئ من ردة فعلك بعد ما تعرف الحقيقة الا إني توقعته.. مهو اللي اتربى في بيت”فهد الدهشان” بيبرمجه انه يشيل أي شيلة عشان شكلهم وهيبتهم قدام الناس حتى ولو كان على حساب رجولته.
أراد أن يستدرجه لبقعةٍ يعميها الغضب، فيصبح بذلك الوقت قاتلًا أو مقتولًا، ولكن لم يمنحه أحمد تلك الفرصة، بل جعله يغلو بداخله غضبًا حينما أزاح يديه عنه وهو يجيبه ببرودٍ:
_وهو الرجولة عندكم إنكم تستخبوا زي الحريم وتأخدوا تاركم منهم!
ثم مال برأسه على أذنيه وهو يهمس ساخرًا:
_تفتكر كنت هتقدر تقرب لآسر أو لحد من الشباب!
ثم انتصب بوقفته وهو يسترسل بنظرةٍ أسقطته من قاموس الرجال:
_عمي الكبير “فهد الدهشان” علمنا منخدوش بتارنا من الضعيف، لكن انتوا عندكم بتستغلوا ضعف اللي قدامكم عشان تاخدوا بتاركم، عشان اكده ضربتنا بتبقى قاضية وهتشوف بنفسك.
وكاد بأن يتجه لسيارته ولكنه عاد ليقف مقابله وهو يردد بوعيدٍ:
_روجينا متخصش حد غيري، عشان كده محدش هينتقم منك على اللي عملته غيري، وهتشوف.
وتركه وغادر من أمام عينيه، تاركًا النيران تكاد تلتهمه، فازددت شعلة الانتقام التي كان يهتز لهيبها.
*******
بالصعيد… وبالأخص بمنزل كبير الدهاشنة.
لم يروق له أن يرسل إليه أحد. رجاله ليخبره بأن الكبير يريده في الحال، فاتجه “مهران الدهشان” للثرايا وهو يجاهد ليكبت الحقد والكره الدافين بداخله منذ توالى “فهد” زمام أمور العائلة، مع إنه الأحق بعد أبيه “وهدان الدهشان” ، فكم كان يريد أن تنتقل الزعامة لعائلته فهو ابن عم “وهدان” وفهد يصغره سنًا، وحينما أراد أن يزرع الفتنة بالعائلة لنشأ خلاف بين اختيار كبيرهم وجدهما يؤيدون “فهد” قلبًا وقالبًا، لذا أرغم على تقبله وإظهار حبًا وإحترامًا مخادع إليه، جاهد “مهران” لرسم ابتسامة باهتة وهو يدنو من المندارة، ليجلس على الاريكة الخشبية المجاورة للمخصصة اليه وهو يقول بودٍ مخادع:
_جاني أن الكبير بنفسيه طالبني، فهملت مصالحي وجيت جري أشوف في أيه؟
كانت نظرات “فهد” الهادئة تتطالعه، ومن جواره كان يجلس “سليم” و”عمر”، ينتظران ما سيقوله “فهد” الذي طال صمته، ليشتت انتباه من يترقب ما سيقول باهتمامٍ، طال الصمت والسكون بالمندارة الى أن مزق صفحاته الطويلة صوت “فهد” المتعصب حينما نهض عن مقعده ليصل له خطورة ما يفعله:
_اسمعني زين يا عمي، إني لو كنت بعديلك اللي بتعمله سابق فده احترامًا لسنك لانك أد والدي، لكن هتنجاوز حدودك يبقى لا ملهوش لزمة سكاتي بعد اكده.
نهض عن مقعده ليدنو منه وهو يتساءل بمكرٍ:
_ليه بس يا كبير أيه اللي حوصل وخلاك زعلان مني!
ناب عنه”سليم ” بالرد، حينما قال بسخطٍ:
_يعني متعرفش اللي عملته وخلى الدنيا قايمة عليك اكده!
قال بحيرةٍ تصنع في جعلها حقيقية:
_وأني لو أعرف كنت سألت يا ولدي!
رد عليه “عمر” تلك المرة، باحترام لا يستحقه بالمرة:
_مهو يا عمي ميخلصكش إنك تأجر أراضي الفلاحين ومتدهمش حقوقهم!
منحه نظرة مندهشة وهو يردد بصدمةٍ:
_أني! محصلش الحديت ده يا ولدي، أني بديهم حقوقهم أول بأول، دول ناس كدابة وطماعين عايزين الطاق طاقين.
صوت صارم قطع حديثهم المتبادل فيما بينهما:
_عمي، أني اتوكدت بنفسي ان الناس دي مبتكدبش، وقولتلهالك سابق وهرجع أقولهالك تاني أني مقبلش أن حد من أهلي يستغل اللي بينا ويدوس الغلابة اللي أني نصيرهم وكبيرهم.
ثم أشار بيديه على الباب وهو يخبره بحزمٍ بث الخوف بقلبه و:
_هتخرج من اهنه تدي الناس فلوسها طوالي، والا مهتدخلوش واصل، ولا كأنك عمي من الأساس… خلص الكلام.
ازدرد ريقه الجاف وهو يحاول ابتلاع تلك الاهانة التي كانت نتيجة لتصرفاته البغيضة، فاتجه بخطاه البطيئة ليخرج من المنزل متكئًا على عصاه، فما أن وصل لسيارته حتى لكم الأن بعصاه وهو يردد بتشفي:
_ماشي يا فهد بكره نشوف هتعمل أيه لما راسك تبقى في الوحل قدام الناس اللي بتمنظر بيهم دول.
وصعد سيارته ثم أمر السائق بالتوجه لمنازل هؤلاء الفلاحين خوفًا من أن يتخذ فهد أي قرار تجاهه، فهو بالنهاية يعلم بأنه يقدر على إيذائه.
********
بجناح “رؤى”
كانت تجلس “تسنيم” و”تالين” معها، بعد أن جمعتهما لتتفق معهم على الخروج غدًا برحلة استكشافية للصعيد، فارادت أن تصطحبهما “تسنيم” كونها تعلم كل ما يخص أمر بلدها، فقالت بابتسامةٍ مشرقة:
_وأنا والله نفسي أخرج، فقول لآسر ونخرج مع بعض بكره.
صفقت “تالين” بحماسٍ:
_ياريت الواحد حاسس انه اتحبس هنا.
ضحكت “رؤى” ثم قالت:
_عشان تعرفي أن أفكاري بتنفع..
وتركتهما بالشرفة واتجهت للبراد الصغير الموجود بجناحها لتحضر بعض المشروبات الباردة، فتفاجئت بمن يحتضنها من الخلف، ليميل على عنقها وهو يهمس بشوقٍ:
_مختفية فين طول النهار، وحشتيني!
جحظت عينيها في صدمة، لتدفعه بعيدًا عنها وهي تردد بحرجٍ:
_بدر أنا مش لوحدي!
لم يفهم ما تقول الا حينما خرجت “تسنيم”، و”تالين” من الشرفة، وكلًا منهن يستحوذ الخجل على ملامح وجههم المصطبغ بالأحمر، فمرر يديه على شعره بحرجٍ مما فعله ووضعهما بموقف هكذا، فقال بمحاولة لتلطيف الأجواء:
_رايحين فين السهرة لسه طويلة، أنا كده كده نازل لسه تحت هقعد مع الشباب.
ردت عليه “تالين” بابتسامةٍ رسمتها بالكد:
_أنا كده كده كنت نازلة لأني هموت وأنام… تصبحوا على خير.
وغادرت من أمامهم على الفور وكأن هناك عقرب لدغها، فكادت “تسنيم” بأن تلحق بها، ولكن “رؤى” اوقفتها وهي تتوسل لها:
_خليكي انتي يا تسنيم عشان خاطري.
جذبت يدها وهي نخبرها بخجلٍ:
_ما أحنا الصبح هنخرج مع بعض يا رؤى، أنا لازم أرجع اوضتي قبل ما آسر يطلع من تحت، تصبحي على خير.
وتركتها وغادرت سريعًا، فاستدارت الاخيرة تجاه من يخفي وجهه لما سيلاقاه من معركة حاسمة، فرددت بغيظٍ:
_يعني مش شايفهم قاعدين!
أجابها بجديةٍ وهو يحاول تبرير ما حدث:
_أبدًا والله مخدتش بالي منهم، وبعدين انا عملت أيه يعني لكل ده!
رفعت حاجبيها باستنكارٍ:
_لا معملتش أي حاجة.
منحها ابتسامة خبيثة قبل أن يدنو منها وهو يردد بمكرٍ:
_شوفتي اني مظلوم.
ابتسمت كلما حرك جبهتها على جبهتها، فدفعته وهي تركض تجاه الفراش، ففاجئها حينما صعد خلفها ليجذبها اليه، لتعلو ضحكاتهم معًا، بينما خيم العشق برداء سكينته عليهما ليصبح ما بينهما خاص للغاية.
******
اتجهت “تسنيم” لغرفتها شادرة بما رأته منذ قليل، فعلى الرغم من أن قلبها ناصع البياض ولا تكن أي غيرة أو كره لأحدًا ولكنها بالنهاية أنثى، تقارن وتعاتب نفسها على الحياة التي فرضتها عليها وعليه، كرهت ذاتها في تلك اللحظة حينما تذكرت ما فعلته بالأمس، وصراخها المتواصل له بالابتعاد عنها، وكأنها تمقته وتمقت قربه منها، وما جلد روحها مقارنتها بينه وبين ذلك اللعين خالها، فكيف تسول لها نفسها بأن لمسته الحنونة تشابه لمسات ذاك المقزز اللعين، ولجت لجناحها الخاص وقد اتخذت قرارًا صارمًا بأن تلقي خلفها نواقص الماضي التعيس، فولجت لحمامها الخاص لتبدل ثيابها لقميصٍ قطني قصير أبيض اللون، ثم فردت شعرها خلفها، وجلست على المقعد تترقب صعوده، وما هي الا لحظات حتى وجدته يفتح باب الغرفة، فما أن رآها حتى صفن بها مشدوهًا، حتى وإن كانت تتهرب هي من نظراته خجلًا، عاد “آسر” لواقعه حينما تذكر ما سيحل به بعدما يواجه طوفان مشاعره ورغباته تجاهها، لا لن يختبر ذلك الإحساس القاسي الذي خاضه بالامس إن حدث بينهما ما حدث، فأن رآها تبتعد عنها وتصرخ له بالابتعاد حينها سينكسر قلبه وسيصبح أسير تلك الهلاوس التي ستقضي عليه حتمًا، لذا عبث بالمفاتيح التي يحملها، ثم اتجه لخزانته ليجذب بنطال رمادي اللون قصير بعض الشيء، وتيشرت من نفس درجاته، ثم اتجه لحمامه ليبدل ثيابه، وحينما خرج كان يتجاهل التطلع اليها حتى وإن لم تنصاع اليه عينيه، كان يجبرهما على عدم التطلع اليها، فقال وعينيه تتأمل شاشة حاسوبه:
_اتعشيتي؟
كانت تشعر بما يفعله، حتى نظراته التي تتهرب منها، فابتلعت تلك الغصة المؤلمة وهي تجيبه:
_أيوه أكلت مع تالين ورؤى.
أومأ برأسه وهو يرد عليها بابتسامة صغيرة:
_كويس، وأنا كمان أكلت مع الشباب تحت.
ثم قال وهو يشغل نفسه بتأمل الملف الخاص بمصنع القاهرة:
_لو ممكن بس تعمليلي قهوة تبقي عملتي فيا جميلة.
نهضت عن مقعدها وهي تتجه للركن المخصص للمشروبات الساخنة، فوضعت مقادير القهوة بالآلة ثم وقفت تنتظرها وهي تود أن تقف لساعات طويلة، علها تتمكن من اذابة الخجل القابع بداخلها، ولكنها لم تكن سوى دقائق قصيرة لتخبرها الماكينة بأن قهوتها أصبحت جاهزة، فحملتها ثم اتجهت إليه لتضعها على سطح مكتبه ثم قالت:
_القهوة يا آسر.
ارتشف منها بضعة قطرات ثم قال ببسمة جذابة:
_تسلم أيدك.
منحته ابتسامة باهتة تخفي من خلفها الكثير، فكادت بالابتعاد عنه ومازال هناك حربًا تدفعها لتقترب منه وتحتضنه، ولكن الف شيء يوقفها، عادت تسنيم لتقترب منه فجلست على قدميه واندثت باحضانه وهو يراقبها بصدمة وعدم استيعاب، ولكن قلبه انصاع اليها بكل جوارحه، فلف ذراعيه حولها، تشبثها به جعله يفطن ما تريد، وبالرغم من خوفه الا أنه لم يمانع أبدًا، لذا نهض وهو يحملها ومن ثم اتجه لفراشهما وهو يتمنى أن لا يحدث ما يعكر صفوه، انغمس معها بطوفان عشق جرف قدميها فباتت تبادله نفس المشاعر، كانت سعادته لا توصف بتلك اللحظة، فانجرف خلف رغباته، ولكنه تفاجئ بها تطالبه بهمساتها المنقطعة بالابتعاد مجددًا، فتطلع بها بصدمةٍ مما تطلبه منه فتلك المرة سمحت له بمساحة خاصة أكثر من الأمس، فكان من المستحيل اليه أن يتركها وخاصة بأن مشاعره لن تتوقف عند ذاك الحد، فاشتدت بالبكاء وهي تطالبه بصوتٍ مازال هادئًا:
_إبعد عني.. إبعـد
هز رأسه بالنفي وهو يهمس لها بحبٍ:
_بأحبك… أنتي ليه مش قادرة تفهمي حبي ليكي!
وعاد ليقترب منها مجددًا على أمل أن ينجح بجعلها تشاركه مشاعره مثلما فعلت بالبداية، ولكنه تفاجئ بتشنج جسدها وهي تحاول دفعه وبات حديثها صراخ لا يوقف:
_قولتلك إبــــــــــــعد.
رفض تلك المرة أن يخضع لهواجسه التي ستحطمه تلك المرة، فمرر يديه على وجهها بحنانٍ، وهو يسألها:
_ليه يا تسنيم، انتي مش بتحبيني زي ما بحبك؟
لم تستمع لكلماته تلك فكانت مغيبة تمامًا، كل ما تراه هو صورة لهذا الحقير يلامس جسدها، وهي تحاول محاربته بكل ما تملك، فقدت ذرات عقلها البائس فلم تعد ترى شيئًا سواه، حركت رأسها بجنونٍ وجسدها ينقبض، حتى سلطت عينيها على ذاك السكين الصغير الموضوع بين طبق الفاكهة على الكومود الصغير من حولها، جاهدت لتصل إليه وما أن لامسته بيدها حتى أصابته بخدشٍ كبير استهدف كتفيه، ارتفع عنها “آسر” وهو يتطلع لها بصدمةٍ مما فعلته لتو، فابتسم وهو يردد بسخريةٍ تحمل ألم خانق بصوته:
_للدرجادي!
وابتعد عنها ثم القى السكين الذي تحمله، والاخيرة ترى صورة مشوشة بدت اكثر وضوحًا الآن، مهلًا هل ترى آسر ينزف دمًا!!!!!! ولكن الذي استهدفته بضربتها كان ذلك اللعين، ليس محبوب قلبها، اقترب آسر من المرآة وهو يتفحص كتفه ومازالت الصدمة خلفيته فود لو يتأكد بنفسه عله يتوهم، لم يؤثر به جرحه أكثر من جرح قلبه الغائر، بل ما جعله متخبطًا حينما هرعت اليه وهي تتفحص ظهره مرددة بلهفةٍ:
_آسر!!
دفع يدها بعيدًا عنه، وهو يشير لها باصبعه الذي تملأه الدماء:
_متقربيش.
بكت بانهيارٍ، وأسرعت تجاه المناديل الورقية، فحاولت وضع احداهما على جرحه الذي مازال ينزف، فالقى ما بيدها ثم جذبها اليه وهو يصيح بها بجنونٍ اشعل غضبه المكبوت:
_أنتي عايزة أيه بالظبط، عايزة تكسريني!
وألقاها بعيدًا عنه لتستقر أرضًا، بينما تحرك هو تجاه الفراش، ليجذب التيشرت الخاص به، وبصعوبة تمكن من ارتدائه، فجرحه كان يشل يديه اليمنى، وتركها محلها ثم خرج، احتضنت ذاتها وسبحت باعماق جراحها، فمازال عقلها لا يستوعب ما فعلته به، فكيف تخبره بما مرت به بطفولتها، ليست تجربة واحدة بل أكثر من تجربة جعلتها ترى الرجل كائن همجي، الى أن رأته هو فبدد ظلمتها ولكنها لا تستطيع ان تجتاز كل ذلك لتعيش هذا الحلم معه، مازالت بحاجة لأمانًا يخرجها من حبسها العتيق، مازالت تحتاجه بعد!
*******
انزعج “يحيى” بنومه حينما استمع لصوت دقات خافتة على باب غرفته، ففتح المصباح الصغير الموضوع لجواره على الكومود، ثم رفع “ماسة” عن ذراعيه ليضعها على الوسادة برفقٍ، ونهض ليفتح بابه فردد بنومٍ:
_آسر!
بدى إليه بأنه ليس بحالته الطبيعية، فكان وجهه أصفر للغاية، فتساءل بلهفةٍ:
_أنت كويس!
أشار له بتتبعه للغرفة الفارغة من جواره، فأغلق “يحيى” باب غرفته ثم تتبعه وقد تسنى له رؤية تيشرته الملطخ بالدماء، فصاح بفزعٍ:
_أيه ده يا آسر؟
أغلق الباب من خلفهما، ثم خلع التيشرت الذي يرتديه وجذب صندوق الاسعافات الاولية ليناوله ليحيى قائلًا:
_مفيش اتجرحت فى سن الكومدينو وكتفي زي ما انت شايف اتفتح.
وقف من خلفه وهو يتفحص جرحه، ليخبره بشكٍ:
_مستحيل الكومدينو يعمل فيك كده الجرح كبير!
احتدت نظراته تجاهه، فقال بعصبية:.
_لو مش هتخيط الجرح أنا ممكن أتصرف عادي.
وكاد بالخروخ فاوقفه يحيى وهو يشير اليه:
_لا هعمله اقعد انت بس.
انصاع اليه وجلس على الفراش مهمومًا، فشعر يحيى بأن هناك خطبًا ما ومع ذلك لم يرد الضغط عليه فهو يعرفه أكثر من نفسه، قام بتطهير جرحه قبل أن يبدأ بالخياطة، فلم يشعر آسر بأي جرح، فجرحه النازف بداخله أقوى مما يلاقاه الآن، وما أن انتهى يحيى مما يفعله حتى وضع اللاصق الطبي عليه، وجذب التيشرت ليرتديه وهو يخبره دون أن يتطلع اليه:
_مش عايز حد يعرف بحاجة يا يحيى.
أجابه بتفهمٍ:
_متقلقش.
ثم قال بلهفةٍ:
_بس طمني أنت كويس؟
اكتفى بهز رأسه، ثم ربت على كتفيه:
_روح كمل نومك.
وغادر الغرفة بهدوءٍ كان خطرًا على قلبه الذي يئن، فاختار الجلوس أسفل بغرفة مكتبه الخاص، وكأنه يرفض لقائها في ذلك الوقت الذي يختبر قلبه حساسية تفوقه.
*******
أما بالاعلى ظلت تترقبه لساعاتٍ وقلبها سيقف لا محالة من شدة خوفها عليه، فحينما شعرت بحركة خافتة تأتي من الخارج فتحت بابها لتراقب ما يحدث بالخارج، فوجدته يهبط لغرفة مكتبه، أغلقت “تسنيم” بابها لتستند عليه وعينيها تملأها البكاء، لا تعلم ما الذي يتعين عليها فعله، فجذبت اسدال الصلاة الخاص بها ثم ارتدته لتلحق به للأسفل، وقفت أمام باب الغرفة تلتقط نفسًا مطولًا قبل أن تفتح بابه، فهي تعلم بأنها بتلك اللحظة لن يشفعلها شيئًا أمامه، حررت مقبض الباب ثم ولجت للداخل، لتجده يجلس على الأريكة وما أن رآها حتى تقوست عينيه بغضبٍ خانق، فكاد بأن يصيح بها بابشع ما يمتلكه ولكنه وجدها تركض اليه ثم جلست أسفل قدميه وهي تحتضن يديه وتبكي بقهرٍ، حاول سحب يديه منها ولكنه وجدها تهمس بصوتها الباكي:
_أنا أسفة معرفش عملت كده ازاي والله، سامحيني.
انتشل يديه عنها ثم نهض ليقف جوار الشرفة وهو يؤمرها بعنفٍ:
_اطلعي فوق أنا مش طايق أشوف خلقتك.
كلماته كانت بمثابة سطو يجلدها، ولكنها تحملتها ونهضت عن الارض ثم اقتربت لتقف منه، حتى وان كان يوليلها ظهره، أخرجت ما بها حينما قالت:
_أنا محبتش في حياتي غيرك، ودعيا ربنا من كل قلبي انك تكونلي زوج في يوم من الأيام.
ومسحت العبارات المترقرقة بعينيها قبل ان تستكمل:
_كنت بتمنى انك تقدر تخرجني من اللي بعيشه بس مقدرتش أخرج منه، أنا فعلا مستهلكش يا آسر..سامحني أنا أسفة.
استوقفته كلماتها، فلطالما شعر بأن هناك شيئًا غامض يحدث معها، استدار بجسده تجاهها، ثم تعمق بالتطلع لعينيها، رأى عشقها يلمع بعين والأخرى تلمع بخوفها القاتل عليه، ففطن بأن هناك حلقة مفقودة ولن ينالها ان حكم رجولته بين ما يحدث وبين قلبه الحنون الذي سيستمع اليها، فجذبها لاحضانه ويدها متصلبة كحالها، لم تستوعب ما فعله هو بالرغم مما اصابته هي به، فانهارت بين احضانه باكية وهي تهمس بصوتها الشاحب:
_أنا أسفة، والله ما كنت أقصدك أنت.
دقائق هدأت بهما بين أحضانه وهو يلتزم الصمت ينتظر أن تستكين بين ذراعيه، فما أن شعر بذلك حتى تحرك بها للاريكة، فابعدها عنه لتقابل نظرة عينيه الدافئة، ليتبعها سؤاله:
_بتحاولي تخبي عني أيه يا تسنيم، قوليلي أنا مستحيل أكون ضدك؟
رفعت عينيها تجاهه، ثم تطالعته بنظرة حزينة قبل أن تقول:
_خايفة متصدقنيش زي ماما.
حمد الله بتلك اللحظة بأن هناك شيئًا يدفعها لفعل ذلك، فسيطر على ثباته وهو يرد عليها بصوته الرخيم:
_جربيني.
بدت مشتتة، حائرة، لا تعلم بأي شيء تبدأ، فانهمرت دمعاتها وهي تقول دون أن تنظر بعينيه:
_أنت عارف يا آسر أن الاهل هما المفروض الاقرب لينا بعد الام والأب، وبيقولوا ان الخال والد بس أنا مشوفتش كده.
ثم رفعت حدقتيها لتتعلق بعينيه التي تراقبها باهتمام، فاستكملت بدموع وقد تهربت من لقاء عينيه:
_انا على طول بشوفه بيبصلي وبيبص لجسمي نظرات قذرة، حتى لما كان بيسلم عليا كان بيتعمد انه يلمس جسمي بطريقة مش كويسة، كنت بقول بالبداية اني يمكن اكون مزودها، بس لما بابا سافر وروحنا نعيش معاهم بقيت آآ…
وانفرطت بموجة من البكاء قطعها عن استكمال ما تريد قوله، فأمسك بيدها وقلبه يكاد ينشطر مما يستمع اليه، لا يحتمل ان تقص عليه المزيد مجرد تخيل الامر كفيل بقتله على البارد ومع ذلك يهاجمه فضول لمعرفة المزيد، فاستكملت بعد رداء القوة الزائف التي ارتدته:
_كنت بقوم كل يوم مفزوعة وانا شايفاه نايم جنبي وبيحاول يلمسني، ولما قولت لماما ضربتني وقالت اني مجنونة وبتخيل حاجات مش صحيحة..انا لسه زي ما أنا هو مأذنيش جسديًا اكتر من انه اذاني نفسيا، يكفي حالة الخوف اللي كنت عايشة فيها طول ما انا عايشة هناك، كنت بخاف انام، وبخاف ماما تخرج في حتة وتسبني لوحدي في البيت، وحتى بعد ما بابا رجع وكبرت كنت فاكرة انه مش هيتجرأ يعملي حاجة بس برضه لما بيسلم عليا بيعمل نفس الحركات الزبالة والاسم خالك وبيسلم عليكي!
كان بتلك اللحظة ينازع كل كلمة تخبرها هي به، يتجسد أمامه كل مشهد وحرف قصته له، وازدادت أوجاعه حينما قالت بانكسار:
_وفي وسط كل الصراع ده نفس الطفلة اللي مكملتش 13سنة تشوف واحد قدامها بيغتصب واحدة متعرفهاش ولا عمرها شافتها قبل كده، وبعد كده قتلها ورماها في الترعة، تخيل انا عشت كل ده، وبقى تفكيري عن الرجالة منتهى البشاعة.
ثم رفعت عينيها اليه لتناشده بدموع:
_لحد ما جيت انت وغيرت تفكيري تمامًا، حسستني اني كنت غلط وان مش كل الناس زي بعضها، بس بغبائي كنت هضيعك من أيدي يا آسر.
شعرت بالارتياح حينما أفاضت بما يضيق بصدرها، فترقبت ما سيفعله بخوفٍ، خشيت أن يبتعد عنها ولكنها وجدته يحتضن بيديه وجهها وهو يعاتبها بحزنٍ:
_ليه مقولتليش كل ده من زمان؟
أجابته بابتسامة منكسرة:
_خوفت انت كمان متصدقنيش!
رد عليها ومازالت نظراته متعلقة عليها:
_قولتلك الف مرة أنا غير أي حد.
وضمها لصدره وهو يربت عليها بحنوٍ، جعلها تخرج ما كبت بداخلها، فبكت ومازال هو يحتضنها ويقربها اليه، ثم همس إليها بصوته الرجولي المميز بالنسبة لها عن باقي الرجال:
_مستحيل أفترق عنك لأنك حياتي، وأقربلي من روحي..
ثم استكمل بوعيد وقد غامت عينيه بشرارة شرًا مخيف:
_أما الكلب ده فأنا اللي هقفله.. وهيأخد جزاته.
شعر بانتظام أنفاسها فعلم بأنها غفت على كتفيه، فتمدد بها على الأريكة والنوم في تلك اللحظة بات خصيمه، ساعات كوي بها بنيران ألهبت قلبه، يتمنى ان تشرق شمس النهار ليتمكن من تنفيذ مخططه، فما أن غاب ظلام الليل الكحيل وسطعت الشمس لتكسو العالم بردائها الذهبي، حتى حملها “آسر” وصعد بها لغرفتهما خشية من ان يراهم احدًا بالاسفل، فوضعها بالفراش وخرج للشرفة يعبث بهاتفه الا ان اختار الشخص المناسب لمهمته، فرفع هاتفه ليستمع صوت المتصل به يرحب به بعظمة لا تليق بسواه:
_الكبير ابن كبيرنا بيكلمني بنفسه، ده أيه الهنا ده..
اتاه صوته الصارم يؤمره:
_عايزك في مصلحة يا “صالح” بس مش عايز مخلوق يعرف عنها حاجة حتى أبويا نفسه.
_تحت أمرك انت تؤمر وإحنا علينا التتفيذ.
_لا الطالعة دي عايزك انت اللي تعملها وبنفسك بلاش حد من رجالتك..
_أومرك يا كبيرما، اديني بس التفاصيل وسيب الباقي عليا.
غامت عين الآسر بغموضٍ وغضب لا يتمنى أن يرأه أعدائه، فمن يرى طيبة قلبه واحترامه لا يخمن أبدًا ما يكنه في سبيل تلك العداوة، ولكن ترى ما الذي ينوي فعله تلك المرة؟
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء))