رواية نعيمي وجحيمها الفصل السادس والستون 66 بقلم أمل نصر
رواية نعيمي وجحيمها الفصل السادس والستون 66 بقلم أمل نصر
رواية نعيمي وجحيمها البارت السادس والستون
رواية نعيمي وجحيمها الجزء السادس والستون
رواية نعيمي وجحيمها الحلقة السادسة والستون
بشرفة المنزل الجديد، وعلى كرسيه الوحيد كان جالسًا يدخن بشراهة وعدم توقف حتى أثار ضيق زوجته التي أتت أليه بكوب الشاي للمرة العاشرة منذ الصباح، بعد طلبه له:
– مش كفاية بقى يا محروس، سجاير وشاي، سجاير وشاي، خف شوية يا حبيبي عشان صــ درك حتى.
نفث بوجهها الدخان الكثيف ليرد على كلماتها بضيق:
– وانتي مالك يا ختي ومال صحتي؟ ولا يكونش مزعلاكي المصاريف، بعد ما بقيتي بتصرفي وتبقششي من جيبك، عجبت لك يا زمن.
قال الاَخيرة بضربة قوية من كفه على فخــ ذه، هزت هي رأسها بسأم تقول له:
– حرام عليك، هو انت مبتشعبش من النكد يا راجل انت؟ يعني هو انا كنت بصرف على نفسي ولا الفسح والفساتين يا حسرة، دا الفلوس كلها رايحة على مصاريف البنات وتعليمهم ولا الأكل والشرب بتاعنا واللي يعوزا البيت، وانت ما شاء الله، كل اللي بتعوزوا بيجيلك بدليل السجاير اللي بتحرق فيها بالهبل دي، مش فاهمة انا عايز ايه تاني بالظبط عشان تحمده؟
برقت عينيه نحوها بنظرة عاصفة ليحتد بحديثه:
– انتي كمان بتجبي عليا يا ست البرنسيسة؟ طبعًا عندك حق تعملي ما بدالك، بعد ما سيبتلك الجمل بما حمل وريحتك من خلقتي شهور، وانا في المصحة اتشال واتحط من قهرتي، وانت تصرفي وتدلعي مع بناتك، اعملي ما بدالك يا سمية، حقك.
كبتت غيظها حتى لا تنفــ جر بوجهه صارخة، وفضلت الرد بصوتها الرزين:
– طب انت فهمني يا محروس إيه اللي مزعلك دلوقتي؟ هي المصحة دي مش هي السبب برضوا في انك تبطل الزفت اللي كنت بتشربه وتأذي نفسك، يعني جات بألفايدة، يمكن تكون تعبت على ما خرج السم من جسـمك، بس كدة أحسن مية مرة من الاول، كمان بقى لو اتشطرت وسيبت السجاير يبقى رضا من عند ربنا ونحمده على فضله.
برغم رقة كلماتها، إلا أنها لم تزيده إلا حنقًا وعنادًا، بفضل رأسه المتحجر، وغباءه الفطري الممتزج بأنانيته المفرطة دائمًا وأبدًا، لذلك لم يكن غريبًا أن يهتف باعتراضه:
– لا يا ست سمية، انا مش قابل بالوضع دا كله، انا راجل حر نفسي، طول عمري كلمتي من مخي، اشتغل واصرف واروق دماغي، دماغي اللي هتنفــ جر دلوقتي من الصداع والقرف، عايزانى اصفى وارضى عنك، يبقى ارجع انا راجل البيت وكل قرش بيوصلك من المحروسة بت ال…… اللي مش معبرة ابوها باتصال حتى، تدهوني، انا الأولى بفلوس البت زهرة، أنا أبوها، لكن انت حيالله مرات ابوها، وبناتك يبقوا خواتها مني انا .
طحنت على أسنانها حتى لا يخرج لسانها بسبة هو يستحقها بالفعل، ولكن أخلاقها وما تربت عليه من مبادئ قديمة لتوقير الزوج حتى لو كان مخطئ، تمنعها من الرد، لذلك فضلت الإنسحاب فنهضت من أمامه تقول بكلمات مقتضبة:
– اللي زرعته الايام من حب زهرة مع اخوتها، اقوى من صلة الدم اللي بتتكلم عنها انت دلوقت، وانت اول من يقطعها بقسوتك، ربنا يقويك على شيطانك يا محروس، ربنا يقويك.
بصقت كلماتها وخطت تغادر من أمامه، ليغمغم هو من خلفها بتهكم:
– قال زرعته الايام قال هه، قولي زرعته الفلوس يا ختي اللي ملت عنيكي انتي وبناتك، وقوة قلب المحروسة على ابوها بنت ال…… .
❈-❈-❈
على مدخل الغرفة توقفت عن التقدم تتطلع إلى هيئته وهو مستلقي على سريره الطبي مغمض العينين، بعد إجراءه لعملية جراحية بركبته، خلف الأولى التي كانت لأخراج الرصاصة، وكأن الزمان يعيد نفسه، لكن بصورة أخرى، بعد أن دارت الدائرة، نفس هذا المشهد رأته سابقًا حينما ذهبت لزيارة كريم صديق ابنها قديمًا، فنالها من والدته كلمات كالسهام اخترقت قلبها من وقتها، وجعلتها تخرج مطئطئة الرأس بخزي مع وجع الضمير الذي ظل مرافقها رغم مرور السنوات ، لتأتي الاَن القاسمة بإصابته هو أيضًا بركبته أي بقدمه.
– قاعدة واقفة عندك على باب الأوضة ليه يا ماما؟ سرحانة في إيه؟
تفوه بها كارم نحو والدته يجفلها عن شرودها، بعد أن شعر بها أثناء غفوته الصغيرة، استفاقت هي لتكمل بخطواتها وتلج إليه بالغرفة حتى اقتربت منه، لتقبله فوق رأسهِ متسائلة:
– عامل إيه النهاردة يا حبيبي؟ يارب تكون كويس.
تبسم ساخرًا يجيبها:
– ومبقاش ليه كويس والحال عال العال، دا انا هموت من الانبساط حتى شوفي.
قال الاَخيرة مع إبتسامة صفراء ليس لها أي معنى، زادت من حزن المرأة لتردف بتأثر لحالته:
-معلش يا حبيبي، بكرة ترجع تقف على رجلك وترجع كل حاجة لطبيعتها من تاني
صاح يرد عليها بسخط:
– هي ايه اللي ترجع من تاني؟ رجلي اللي اتصابت في حتة صعبة في الركبة وحتى بعد العملية دي مش مضمون المشي عليها، ولا الست هانم اللي رفعت عليا قضية طلاق وزمانها كسبتها دلوقتي، ولا هيبتي اللي راحت مع اللي حصل، إيه اللي فاضل عشان ارجعه لطبيعته قولي.
لم تؤثر فيها صيحته، بل زادتها تحدي في مواجهته بقولها:
-كل اللي حصل كان بايديك يا كارم، عنفك في أول مشكلة قابلتها في البداية هو نفسه كان السبب في اللي أدى للنهاية دي.
اشتعلت عينيه نحوها، فاستطردت غير مبالية:
-ايوة يا كارم، انا هقول اللي في قلبي حتى لو هتغضب، مش كل حاجة بتيجي بالقوة يا حبيبي، ومحدش فينا بياخد كل اللي هو عايزه، مهما وصل ولا كان يملك الدنيا وما فيها، إنت ربنا إداك جمال الشكل ودا خلقة ربنا، ورثت السلطة وقوة الشخصية من والدك، ورثت المال مني ومن والدك، دا غير اللي عملته انت بنفسك، لكن الحب دا بإيد ربنا، رزق تاني مش كل الناس بتتوفق فيه….
– ومين قالك إني عايز حب؟
صرخ بها مقاطعًا ليتابع هادرًا:
– أنا عايزها هي نفسها، ليه كل ما اعوز واحدة من قلبي تروح لغيري، أنا عيبي إيه؟ أنا أحسن من الاتنين اللي فضولهم عليا، أنا ممتاز في كل حاجة لكن هما إيه؟
تحلت والدته بالحلم في سماعه حتى انتهى، ثم قالت :
-بس الحكاية دي ملهاش دعوة بالكويس ولا الوحش يا كارم، دي حاجة من عند ربنا، ياريت يا حبيبي تنسى بقى وتعيش حياتك، إنت في بينك وبينها قضايا دلوقتي، يعني مينفعش تقرب لها ولا تكلمها، دا غير قضيتك مع فوزي البحيري، إنت لازم تاخد حذرك بقى وتفكر هتمعل أيه لنفسك،
تنهد بصوت خشن، ليغمغم بتفكير عميق ووجه متجمد وكأنه يحدث نفسه:
– مش عارف دلوقتي هعمل أيه؟ بس أكيد هلاقي حاجة اعملها.
❈-❈-❈
في مقر عمله كان يقطع مساحة الغرفة ذهابًا وإيابًا بقلق ينهشه، يلعن حظه الذي منعه من الذهاب معها في هذه الجلسة المصيرية، على الأقل كان رحم نفسه من عذاب الإنتظار، فما أبشعه من إحساس ينتابه منذ شهور وليس الاَن فقط، كالمجنون يفرك كفيه ببعضهما ويغمغم بالأدعية، يريدها بشدة، يريدها بقوة، يريدها زوجة وحبيبة وامرأة تملأ عالمه؛ الذي أظلم من وقت أن اصطدام برفضها له، تحت تأثير الأفكار السيئة وعقدها القديمة، حتى وهي مرتبطة برجل غيره لم يفقد الأمل، ظل ينتظرها وينتظر استفاقتها، والاَن وبعد أن تحقق جزء من المستحيل، تبقى فقط أن تعود إليها حريتها المعلقة بجلسة الاَن هي تحضرها وهو هنا في عمله ينتظر.
– يا ألله.
هتف بها بصوت عالي مع نفسه قبل ان يجفل على الصوت الرفيع من خلفه:
– سلامتك يا فندم، هو انت فيك حاجة وجعاك؟
ضغط بأسنانه على شفته السفلى وهو يلتف إليها بغيظه يطالع فيروزيتيها التي كانت ترمقه بهما بمكر وعلى وجهها تدعي البرائة، فقال يخاطبها بتهديد:
-ملكيش دعوة وروحي على مكتبك دلوقتي، واما اعوزك يا شاطرة، هبقى اندهلك
رفرفت بأهدابها لتردف باضطراب تدعيه:
– أسفة يا فندم لو أزعجتك، بس بصراحة انا خوفت لما سمعت صوتك من برا، لتكون تعبان ولا جراتلك حاجة لا سمح الله.
– لأ وإنتي شطورة وبتخافي عليا قوي،
اردف بها ساخرًا، ليهتف بعدها بصوت أشد:
-إمشي يا بت.
ضربت بأقدامها تحدجه بنظرة عاصفة قبل أن تلتف عائدة وتغادر من أمامه على الفور، فتمتم من خلفها هو:
– عملالي فيها الموظفة الرقيقة، وهي مية من تحت تبن.
❈-❈-❈
وخارج الغرفة
خرجت تزفر بصوت عالي اظهر حجم ضيقها، وعلى لسانها كانت تغمغم بالكلمات الحانقة:
-بيطردني كأني حشرة شغالة عنده وانا داخلة أساسًا عشان أطمن عليه…. يا باي عليك وعلى تقل دمك…. انا مش عارفة الستات بتحبك على إيه؟….. قال وبيعيب على نيازي قال….. دا قمر نيازي بالنسبالك قمر.
– إنتي بتكلمي نفسك يا لينا؟
سألتها كاميليا والتي كانت قد أتت منذ قليل، فتوقفت على باب الغرفة، تطالع فعلها باستغراب، إنتفضت على قولها الأخرى لتنهض عن مكتبها على الفور، وتدعي الأدب في مخاطبة رئيستها:
– اهلًا حضرتك نورتي المكتب، تأمريني بحاجة يا فندم؟
ضحكت كاميليا متجاهلة الرد عليها، لتخطو نحو غرفة شريكها في العمل مرددة لها بمرح؛
– أنتي مصيبة، وعنده حق طارق في كل عمايله معاكي. قالتها ثم طرقت على غرفة الاَخر، حتى إذا ما وصلها إذنه بالدخول، دلفت وتركتها، ليتغير وجه لينا من الأبتسام إلى كرمشته بحنق مرددة:
– قال عنده حق قال؟ دا مدير مفتري.
وفي الداخل وفور أن ولجت إليه تلقفها على الفور يسألها بلهفة:
-ها يا كاميليا إيه الأخبار؟ وعملتي إيه في جلستك، رضيت القاضية بطلاقك؟
تبسمت تجيبه بإشارة بيدها تدعوه للتروي حتى تجلس أولا، فصاح بها بنفاذ صبر:
– ما تقولي بقى وريحي قلبي، إيه اللي حصل؟
ردت بابتسامة مستترة:
– جرا إيه يا طارق مش قادر تستنى ثواني؟
هتف بنزق:
– لأ مش قادر قولي بقى.
تنهدت بارتياح يغمرها لتريح قلبه هو الاَخر:
– الحمد لله يا سيدي، المحكمة نصفتني وادتني حريتي.
– بجد؟
تفوه بها بعدم تصديق وهو يسقط بجسده على الكرسي المقابل لها، ليردد بعدها يبتغي التأكيد:
-يعني الست القاضية حكمتلك بالطلاق وخلاص خلصتي؟ يعني مفيش كارم وبح على كدة؟
أطلقت ضحكتها بصوت عالي يدهشها إلحاحه، لتردد بالإجابة مرة أخرى كي تريحه:
– والله خلصت خلاص، وزي ما انت بتقول كدة بالظبط، بح الأستاذ كارم.
تنهد يعود برأسه للخلف يغمض عينيه ويتنفس الصعداء اَخيرًا، وكأنه عاد من سباق مجهد مع الخيل وليس البشر العادين.
طالعت هيئته بتأثر بالغ، تعقب:
– ياه يا طارق، هو لدرجادي المشوار دا كان تاعبك أوي كدة؟
هتف بها بانفعال حارق:
-دا كان قاهرني مش تاعبني، لدرجة اني لحد الآن خايف لتكوني بتهزري والخبر دا مش حقيقي.
شهقت تقول بمرح:
– ليه يا عم؟ هو انا عيلة قدامك عشان العب بأعصابك كدة؟ إطمن يا سيدي.
أومأ برأسه يقول متبسمًا:
– الحمد لله، كدة يبقى انتي ملكيش حجة بقى، تكملي شهور العدة يا قلبي ونتجــ وز على طول منستناش يوم زيادة، ولا استني صحيح انتي ملكيش عدة على حسب ما اعرف.
قالها وانتبه على فتور ابتسامتها وقد ظهر على وجهها التردد، فهتف يطرقع بأصابع يده أمامها:
-إيه يا حلوة سرحتي في ايه؟ فوقي لنفسك يا ماما، إنتي المرة دي معندكيش إختيار غيري، دا عافية وفرض أمر واقع عشان تبقي عارفة.
ضحكت على مزحته الاَخيرة، فقالت بتخوف:
– بس انت عرفت باللي حصل لماما يا طارق، يعني ممكن انا كمان….
قاطعها بحدة غاضبًا:
– وأفرضي يا ستي لا قدر ربنا اختبرك زيها، تفتكريني راجل دون يعني عشان اتخلى عنك؟ انتي ليه مصرة انك تزعليني منك يا كاميليا؟
هزهزت برأسها تقول بتعب:
-والله ما عايزة أزعلك بس متزعلش مني يعني… إنت سايب ابنك بعيد عنك وفي بلد تانية يا طارق.
قالت الاَخيرة بخجل قابله هو باستنكار يُفاجئها بقوله:
– مش إبني يا كاميليا، مش ابني يا مجنونة.
طالعته باستفهام، فاستطرد لها:
-علاقتي بوالدته كانت في سنة رابعة جامعة في كندا هناك، كنت فاكر نفسي بحبها ولما خلفت الولد كتبته بإسمي وسيبت اهلي يربوه، عشان احنا كنا صغيرين ع التربية والمسؤلية، وكنت على استعداد اتجوزها لكن هي كانت بتأجل من غير سبب، بس المفاجأة بقى حصلت لما الولد اتصاب بمرض وراثي، اضطرني اعمل تحليل dna ، عشان اكتشف خيانة والدته ليا مع زميلها في الشغل، ساعتها كان أهلي اتعلقوا بالولد ومردويش يخلوني احرمهم منه، او اديه لوالدته اللي كانت سيباه أساسًا…
قطع ليميل برأسهِ نحوها يردف بتشديد:
– عرفتي بقى يا ستي موضوع الولد؟ اهو انتي لو كنتي صبرتي كنت هحكيلك لوحدي، مش انا اللي اسيب ابني بعيد عني يا ست كاميليا، بس دا لما يكون إبني.
❈-❈-❈
بمنتهى الجدية كان يمارس عمله الجديد الذي تسلمه حديثًا، رغم الصعوبة الشديدة التي واجهها في البداية لاستيعاب هذا الكم الهائل من المعلومات الحديثة عليه، هذا نتيجة لعمله منذ بداية تخرجه في مجالات أخرى بعيدة عن عمله الأساسي نظرًا لظروف المعيشة وانعدام الفرص أمامه، ولكن بالتدريب مع ذكائه الفطري رويدًا رويدًا أصبح ينجز وينهي في أقل الأوقات، فما أجمل من أن يتولى الفرد العمل في المجال المتخصص به او يحبه.
انتبه فجأة على طرق باب غرفته، فهتف بصوته لمن يقف خلفه:
-إدخل.
قالها ورأسهِ منكفئة بتركيز على إحدى الملفات أمامه، لترتفع عينيه فجأة على الصوت الناعم رغم قوته:
– ممكن أدخل يا فندم.
تبسم قليلًا يطالع وجهها البهي ويتشرب مشهد ابتسامتها التي تسلب لب قلبه في مرة يراها بها، ليومئ لها برأسه قائلًا:
– بيتك ومطرحك يا فندم، مستنية إيه؟
تقدمت لداخل الغرفة تدعي الخجل بخطواتها المتأنية أمام أنظاره المتابعة لها بتسلية، لتجلس أمامه قائلة بأدب:
-متشكرة أوي يا فندم على زوق حضرتك.
رد يدعي الرسمية هو الاَخر:
-الله يحفظك يا هانم، نورتي مكتبي المتواضع.
هنا ضحكت بصوت عالي معقبة على قوله:
-بسم الله ما شاء الله، متواضع دا إيه يا عم الحج، دا أكبر من مكتب والدي وقت ما كان مستشار.
ردد ضاحكًا هو الاَخر:
– الله الله انتي جاية تقري على جوزك ولا إيه يا ست انتي؟
ردت بدفاعية:
-أقر ازاي يعني وانا مكبرة من الأول، بس اقول الحق، إنت لازم تغير، المنصب حلو برضو ولايق عليك بصراحة.
أومأ برأسهِ يقول لها:
-هو حلو ومختلفناش، بس بصراحة الشغل كتير اوي ويهد الحيل، انا مش عارف إللي اسمه كارم كان نوعيته، انا لحد الاَن مبقدرش اَأدي نص اللي بيعمله، رغم ان طول عمري متعود ع الشقا.
رددت تخاطبه بتحفيز:
– شوية شوية يا قلبي وانت تبقى أحسن منه كمان، إنت لسة في البداية وعندك ميزة الإجتهاد، بس بقى لو كمان تقدر……
توقفت ليسألها باستفهام على الفور:
– أقدر على إيه؟
تبسمت تجيبه بخبث:
– متزعلش مني، بس انت ناقصك بس الرياضة وتنظيم الوقت وانت ساعتها تبقى ممتاز، ما هو كارم دا إيه، بني زي كل البني أدمين، بس هو حسب معرفت عن تربيته العسكرية، يعني كان ماشي بالمسطرة، ودي حاجة على قد ماهي صعبة بتبقى حلوة في نتايجها، بس طبعًا من غير ما نلغي مشاعرنا ودا الأهم.
لعب حاجبيه بعبثية لينهض عن مقعده يردد خلفها:
– طب وبمناسبة المشاعر بقى يا جميل، مشتاقتيش كدة ليوم من ايام شهر العسل اللي رجعنا منه عشان نتسحل السحلة المنيلة دي.
ضحكت بصوت عالي فور أن شعرت به يقترب منها، لتنهض عن مقعدها هي الأخرى، تقابله بقولها:
– خلي بالك يا استاذ، انت في مكان شغل، يعني أي غلطة محسوبة عليك.
هددها بالاقتراب أكثر ممازحًا قبل أن يُغير ويتجه للجلوس على الكرسي المقابل لها، ثم قال متنهدًا:
– بو هنتكلم جد، بصراحة مكنتش اتوقع اني يجي اليوم ووافق فيه إن اشتغل في مجموعة الريان، دا كان من رابع المستحيلات قدامي، حتى لما عرض عليا الشغل ده كنت ناوي ارفضه رغم إلحاحك انتي وزهرة.
– طب وإيه اللي خلاك وافقت؟
سألته بفضول وكانت إجابته:
-حسيت إني برفص نعمة ربنا لو رفضت فرصة زي دي عشان أفكار غبية في راسي، هو لو مكنش شايفني كفء مكنش هيطلبني في حاجة كبيرة زي دي، وانا لو مجتهدتش عشان اثبت نفسي في فرصة زي دي، ابقى فعلًا مستهلش الفرصة.
صمتت قليلها تستوعب كلماته قبل أن ترد بإعجاب:
-انا دلوقتي بس عرفت سر استمرار جاسر الريان، لأنه لما اختارك، شايفك بعين خبير، مش كقريب لمراته إللي بيحبها، رجل أعمال على حق.
❈-❈-❈
– سيادة المدير فاضي ولا اخدها من قاصرها واجي في وقت تاني؟
قالتها زهرة وهي تقتحم عليه غرفته هي الأخرى عقب عودتها من موعد الطبيبة النسائية، نهض لها على الفور يستقبلها مقبلًا وجنتيها قبل أن يتناول كفها ليساعدها على الجلوس على الاَريكة الجانبية بالغرفة مرددًا بسرور:
-حتى لو مش فاضي يا ستي افضي نفسي، هو احنا نطول؟ بس انتي جيتي ازاي لوحدك يا مجنونة؟ ولميا هانم سبتك ازاي أساسًا؟
ضحكت تجيبه وهي تعتدل في جلستها بوضع الوسادة خلف ظهرها لتستريح عليها جيدًا من الخلف:
-لا اطمن يا حبيبي، هي مسبتنيش ولا حاجة، دي وقفت بس تسلم على واحدة عميلة شافتها هنا صدفة في الشركة وطلعت صاحبتها باين ولا إيه، دي حتى عرفتنا على بعض وخلتني أسلم عليها، بس انا استئذنت منهم وكملت طريقي ع الأنساسير عدل، بصراحة معنديش القدرة للوقوف معاهم الدقايق دي.
أومأ لها بهز رأسهِ لتردف بسأم:
-بس بصراحة انا زهقت يا جاسر من رعايتها المبالغ فيها دي، كل الستات بتحمل على فكرة وبيتشغلوا وبيعملوا كل حاجة، محدش بيخاف الخوف ده.
ردد معقبًا بسخرية:
-ما هي مش كل الناس عندها ندرة في العدد زينا يا روح قلبي، دا انتي مبتشوفيش والدي لما بيقعد يوصيني كل ما يشوفني، نفسه البيت يتملي بالاطفال، وبيقولي الأمل فيك إنت ومراتك، انا متكل على الله وعليك فيها دي…
توقف ضاحكًا ليتابع:
– الراجل بيفكرني على طول بعبد المنعم مدبولي في ريا وسكينة.
شهقت مرتعبة رغم ابتسامتها:
– يا لهوي عليا وعلى سنيني، دا انا على كدة وبنهج من التعب يا جاسر، هو انا فيا حيل للخلفة تاني، انت بس ادعيلي انزل اللي تاعبني ده ومطلع عيني بالسلامة والف شكر على كدة، هو عم عامر متفائل أوي كدة ليه ؟
-يا ستي ما تسبيه يتفائل، ما احنا برضوا قدها وقدود .
صاح بها جاسر يضحكها قبل أن ينهض من جوارها قائلًا:
– تحبي اطلبلك عصير ولا حاجة تاكليها على ما تيجي الست الوالدة؟
-متطلبش حاجة يا جاسر، احنا مش هناخد من وقتك كتير أساسًا.
قالتها زهرة ليسألها على الفور
– اه صحيح انتي مقولتيش، هو انتوا جاين النهاردة عندي ليه؟
ردت وهي تميل لتتكئ على ذراع الاَريكة بمرفقها نحوه:
-ما احنا روحنا لميعاد المتابعة مع الدكتورة يا روح قلبي، ولا انت ناسي تاريخ النهاردة؟
ضرب بكف يده على جبهته ليرد بتذكر:
-اَه صحيح…. دا انا نسيت والله والشغل خدني، وإيه الأخبار بقى؟
قال الأخيرة وهو يعود للجلوس بجوارها مرة أخرى، ردت بدلال يشوبه العتب:
– لا واحنا نقولك ليه بقى؟ مدام نسيت خليك يا حبيبي مشغول مع نفسك، واحنا كمان نقوم نروح.
قالتها وهمت لتنهض مستندة بكف يدها على ذراع الاَريكة، فقمع بجذبه لكفها الأخرى الحركة التمثيلية من بدايتها بقوله لها:
– اقعدي بقى يا ست انتي ببطنك المنفوخة دي، هو انتي هتعمليها بجد ولا إيه؟
استسلمت له لتردد بمكر تدعي الجدية:
– ما انت لو مهتم كنت هتعرف لوحدك من غير ما حد يقولك.
توسعت على ثغره إبتسامة مرحة مستمتعًا بمناكفتها اللذيذة على قلبه، ليرد اَخيرًا على مزاحها:
-حلو اوي شغل الستات ده، إديني منه كتير بقى، عشان انا بصراحة بستمتع بالحاجات دي.
برقت عينيها لتعقب على قوله بحماس:
-بتحب شغل الستات يا جاسر، طب تحب اديك بقى حبة بلدي كمان ونفرش الملاية هنا، وبلاها بقى شغل بلا قرف.
ضيق عينيه ليردف بادعاء الغضب وهو يلكزها بخفة على ذراعها قبل أن ينهض من جوارها:
-انتي باين الغزالة رايقة معاكي، وانا راجل غلبان وعندي شغل متكوم يا ست يا كسلانة انتي، ولا وكمان عايزة تفرشيلي الملاية، دا على أساس إني مدير سكة ومبهتمش بشغلي، إيه الستات دي؟
اردف بالكلمات وهو يلملم أشياءه الخاصة من فوق سطح المكتب مع أغلاق الحاسوب وبعض الملفات التي كان يتناولها ليضعها في الخزنة الأليكترونية المخصصة لها، قطبت مندهشة تسأله:
– طب انت بتقفل الملفات ليه؟
التف يجيبها بمرح:
-ما انا هخدك ونروح بيتنا عشان نفرش الملاية براحتنا مش انتي قولتيها بنفسك، بلا شغل بلاقرف.
ضحكت بصوتها العالي تردد:
– قول كدة بقى، أن انت واخدها حجة عشان تزوغ من شغلك، بس يا خسارة يعيني انا مضطرة ازعلك واقولك أننا مش مروحين البيت .
توقف عما يفعله ليتكتف بذراعيه ليسألها بتعجب يشوبه الإنزعاج:
– ليه بقى؟ وعلى فين العزم ان شاء الله كدة؟
ضحكت بتسلية فانفعاله السريع بحمائيته، دائمًا ما يثير داخلها دغدغة من البهجة، فردت لتزيد من غيظه:
– انا خارجة مع طنت لميا رايحين مشوار كدة يعني.
– مشوار إيه يعني يا زهرة؟ فهميني بقى وانجزي.
صاح بها من محله، فاستسلمت لتجيه متجنبة غضبه:
– رايحين خطوبة بنت عمتي يا جاسر على إمام، حتى دي نسيتها يا راجل؟
أغمض عينيه يطرق بأطراف أنامله على جبهته عدة لحظات قبل ان يقول متفكهًا:
– لا انا كدة اشوفلي حل بقى مع الذاكرة، دي بقت نيلة خالص.
ضحكت لتعود بعدها تخاطبه بشفقة:
– سلامتك يا حبيبي ولا يهمك، اكيد بس زحمة الشغل هي اللي واخدة عقلك، لكن هو خالي مش بيساعدك يا جاسر؟ أكيد طبعًا هو مش زي المدعوق اللي اسمه كارم.
– مين قالك كدة بقى؟
تفوه بها ثم عاد ليجلس على الطاولة التي أمامها ليتابع:
– على فكرة يا زهرة، خالد ما شاء الله عليه بيتقدم بسرعة رهيبة في الفترة القليلة دي، انا ضاغط نفسي شوية كدة بس على ما يستوعب ويندمج، وانا بقولك اهو خالد هيبقى احسن من كارم وهيبقى دراعي اليمين في المرحلة الجاية، ودا مش عشانك لا والله، انا بتكلم بعين خبير، خالد كان محتاج بس الفرصة.
ردت معقبة على كلماته:
-وانت حققت حلمه بالفرصة، ربنا ما يحرمني منك يا جاسر.
اعترض رافضًا قولها:
– يا زهرة افهمي بقى، بقولك مش عشانك، انا شوفت شغل خالد وعارف امكانياته، يعني مش واسطة هي..
أومأت رأسها بتفهم ليردف لها:
– طب مدام فهمتي يبقى قومي معايا عشان اوصلك انتي والست الوالدة وبالمرة اروح معاكم عند خطوبة إمام.
سألته بعدم تصديق:
– معقولة يا جاسر، يعني انت هتروح معايا بجد؟
أومأ بوجه جاد وهو يساعدها على النهوض:
– طبعا يا ست زهرة، إمام دا يبقى الراجل بتاعي وعشرة سنين في الحراسة بكل أمانة، يعني ان ماكنتتش افرح انا بيه في يوم زي ده، مين بقى اللي يعملها؟
هللت بفرحة:
– ايوة كدة، ربنا يخليك يا روح قلبي، اصل بصراحة كدة كنت عايزة أفاتحك من الأول ع المشوار ده، بس كنت مكسوفة اقولك.
– رمقها باستغراب ليردف لها:
– وتتكسفي ليه بقى يا ست زهرة؟ دا الحارس بتاعي ودا حفل خطوبته على بنت عمتك، أيه الكسوف في كدة؟
صمتت قليلًا وقبل أن يهم بفتح باب غرفة المكتب، ردت تجيبه:
– إنت اتغيرت قوي يا جاسر، واللي يشوفك دلوقتي ، ما يصدقش أبدًا هيئتك القديمة بتكشيرتك اللي كانت تخوف، ولا حواجبك اللي كانت مقلوبة دايمًا، إنت بقيت واحد تاني يا حبيبي..
صمت يطالعها بتفكير قبل أن يقول بنتهد:
– وليه متقوليش إن دا وشي الحقيقي، اصل بصراحة يعني على ما أظن، انا عمري ما كنت ظالم ولا اتعديت على حد، أو حتى جيت على موظف عندي، كل اللي الحكاية اني كنت دايمًا غضبان ومخنوق وشكل الحياة كلها متفرقش معايا، فشئ طبيعي يعني إني ابقى مكشر بحواجب مقلوبة، ويتغير كل ده، حتى وشي يبقى بشوش، بعد ما لقيت راحتي مع حبيبة قلبي.
أسعدتها الكلمات فلم تجد أمامها سوى أن تقبله من كتفه المحازي لها تردد له بامتنان:
– ربنا يجعل أيامك كلها فرح وراحة يارب.
بادلها بقبلة على وجنتها وبقوله:
– وانتي ربنا يخليكي ليا وميحرمني منك أبدًا.
❈-❈-❈
في شقة شعبان كان الحفل كما قرره الخطيبان عائلي ومحدود بعدد أفراد العائلتين والجيران والأصدقاء، غادة التي تزينت برقة أظهرت وجهها الحقيقي ذو الملامح الجميلة المحددة، أما إمام والذي تخلي عن حلة العمل السوداء، ليرتدي حلة شبابية جديدة، رغم عرض جسده الضخم بهيئته كحارس شخصي، ولكنه اليوم كان أقرب ما يكون إلى هيئته المعروف بها في وسطه وبين افراد حارته، برنس الحتة، كما يُلقبونه نظرًا لمكانته وهيبة اكتسبها باحترامه لنفسه ولقوة جسده التي لا يستعملها سوى في الخير، حتى يعيد الحقوق لأصحابها، أو تأديب من يجرأ ويفتري بالظلم على غيره.
فرحته اليوم كانت طاغية على مشاعره بكل المقايس، بعد أن هدى الله إليه غادة، وانزاحت عن عينيها الغاشية التي كانت تفقدها المقدرة على الرؤية الجيدة للأمور وعدلت عن هذا الطريق المؤذي، لتتغير وتصبح بقدرة قادر أجمل مما كان يتخيل.
– إيه بتبصلي كدة ليه؟ فوق يا حبيبي كدة واصحالي.
سألته بابتسامة ما أجملها لتخرجه من شروده، فتبسم يقترب برأسه منها ليهمس متفكهًا بغزل:
-لا انتي النهاردة متسألنيش خالص، وسبينى كدة مع نفسي اسرح على كيفي، حد يبقى جمبه القمر وميسرحش برضوا؟
ردت بابتهاج قلبها مع كل كلمة غزل تخرج منه إليها:
– بتعرف تثبني كويس قوي، ودا خطر على فكرة، عشان عيلة وبشبط في الكلام الحلو، يعني هتتعب قوي معايا لو سهيت في مرة وكسلت، انا بقولك اهو .
توسعت إبتسامة خبيثة على وجهها حتى أظهرت أسنانه البيضاء، ثم قال يوجه كلماته بمغزى:
– لا اطمني قوي من الناحية دي، انا شغلتي الكلام الحلو، خصوصًا لما يكون طالع من قلبي للقمر اللي يستاهله..
اخجلها حتى خبئت بكفيها على وجهها لتضحك بسعادة مندمجة في حديث الهمسات معه.
ومن ناحية قريبة كانت إحسان جالسة بجوار رقية وسمية وبناتها، يبدو على وجهها الضيق بشكل فاضح، حتى اضطر رقية على مشاكستها:
– يا ختي وانتي قالبة وشك كدة ليه؟ جرا إيه يا ولية دي خطوبة بنتك.
التفت إليها بوجه مكفهر تدعي عدم الفهم، رغم سماعها الجيد للكلمات:
– نعم يا خالتي، هو انتي كنتي بتكلميني؟
ردت رقية بلؤم على قولها:
-سلامتك يا روح خالتك، انا بس كنت عايزة انبهك يا ختي ع الأصول، أم العريس واخته اللي سيباهم يرقصوا ويهيصوا مع الجيران وحبايبهم لوحدهم، مش انت اولى برضوا تبقي معاهم في اللحظة دي، حتى يا ختي عشان بنتك، أو ع الأقل تحسسيهم بترحيبك.
التفت إحسان نحو المذكورين تطالع رقصاتهم والفرحة التي تعلو وجهوهم بالغيظ، فضغطت تخرج الكلمات بصعوبة:
-إنتي قلتي بنفسك انهم بيرقصوا ويهيصوا، يعني مش محتاجين ترحيب أساسًا، دول بيتعاملوا معايا وكأنهم أصحاب بيت سيبك منهم يا خالتي ومتشغليش نفسك انتي.
قالتها والتفت عن رقيقة التي كانت تمتم بكلمات الأستغراب والتعجب من فعلها، لتنتبه على وجه دلوف زهرة ومعها زوجها ووالدته لمياء، متوجهين نحو العروسين بالتهنئة والتقاط الصور التذكارية بكل سعادة معهم، لتفاجأ بعد ذلك بمجئ كاميليا ومعها طارق ليفعلا نفس الفعل معهما بشكل أظهر قرب علاقة قريبة بين الإثنين، للتمصمص بشفتيها تغمغم بحقد:
– يعني سابت ابن اللوا عشان تلبد في اللي أحسن منه..
أوقفت ترمي بنظرة نحو ابنتها وعريسها الهُمام لتكمل حديث نفسها:
– وبت الجزمة دي مسكت في الحارس واكن الدنيا مجابتش غيره ….
مصمصت مرة أخرى لتختم بقولها:
– أرزاق.
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية نعيمي وجحيمها)