رواية أسد مشكى الفصل الأول 1 بقلم رحمة نبيل
رواية أسد مشكى الفصل الأول 1 بقلم رحمة نبيل
رواية أسد مشكى البارت الأول
رواية أسد مشكى الجزء الأول
رواية أسد مشكى الحلقة الأولى
مرحبًا أراك وقد عدت مشتاقًا لرفقتنا، ترقبت عودتنا كما فعلنا نحن، فكم يعز علينا تركك وقتًا طويلًا في عالم المفسدين خاصتكم..
لذا هلم واقترب من الحدود بين عالمينا فها هي أبواب وجهتك التالية تُفتح امامك على مصرعيها ، ولا ليست سفيد، أعلم انك ربما تشتاق لصوت أبواب سفيد، لكن دعني أخبرك أن رحلتك مع شعب سفيد انتهت وتم دعوتك بشكل رسمي لتحيا حياة أخرى، وعالم آخر قريب من سفيد لكن بنكهة مشكى وملك مشكى ….
الآن وجهتنا التالية هي ” درة الممالك ” مشكى العزيزة تلك البلاد التي عاشت انهيارات اكثر مما ذاقت رخاءّ، بكى شعبها اكثر مما ابتسموا، فبعدما عبر بها ملكها من ظلمات الفقر صوب نور الرخاء، وحينما استقرت واخيرًا حياتهم، آتاهم البلاء على هيئة بعض الخنازير الذين احالوا نعيمها لجحيم، خربوا كل ما عُمر بها حتى الأنفس، لكن حقت كلمة الله عليهم ونصرهم رغم أنهم أُستضعفوا في الأرض……
والان تبدأ جولتنا بعد استقلال مشكى وعودة ملكها وانجلاء المحتل، جولة كادت أن تكون هادئة هانئة، لولا أن قصة إنسان كارسلان أبت أن تنتهي بمثل هذه البساطة، أبت ان يكون الجلاء نهاية البلاء، والان كما شاركتونا قصة المملكة الاولى ” سفيد”، ادعوكم لرحلة بين طرقات مشكى حيث ينتظركم الكثير والكثير رفقة ملكها و……تلك المسكينة التي كتب عليها ان تنال قلبه لهذا المتجبر، فكان قدرها الذي لا مفر منه .
فهل تستطيع ان تكون مرافقا جيدا لأسد مشكى في رحلته، ام تكون حملا إضافيًا فوق أكتافه ؟؟
وهل تكون هي بالوداعة المطلوبة لتتعامل معه، أم يضطرها هو أن تخرج اسوء سيئها من داخلها ؟؟؟
مملكة مشكى
غدًا نبدأ رحلتنا …..
الفصل الأول | وصية |
صلوا على نبي الرحمة.
البداية
١ أكتوبر ٢٠٢٤
__________________________
الأول ( وصية )
من قال أن الجلاء نهاية الابتلاء؟!!
فقط عليه مراجعة نفسه والتفكير لثواني، فمتى كان جلاء المحتل نهاية بلاء الشعوب ؟؟
بل هو بداية تعافٍ مما نالهم، بداية لفظ السواد الذي تجرعه الشعب خلال أيام قهرٍ وذلٍ، بداية قصة تعافي شعب من مشاهد سينام هاربًا منها في يقظته، لتصاحبه في كوابيسه ..
الجلاء بداية التعافي، لكنه ليس التعافي بالكامل .
كان يتوسط نافذة القلعة الخاصة به وهو يراقب الظلام المحيط بالمكان، ظلام ينافس الظلمة والفراغ داخل صدره، عيونه التي تطالع الفراغ شاردة، لا يبصر سوى بقايا بلادٍ، واشباح بشر يطوفون بين الطرقات .
الله ابتلى بلاده بجماعة من المخنثين، جاءوا شهورًا، خربوا بها ما عُمّر عقودًا، رحلوا وتركوا خلفهم دخان حرائقهم، واطلال فسادهم، تركوا شعبًا بنفوسٍ مهتزةٍ وكوابيسٍ مخيفة .
زفر زفرة مرتفعة يسمع صوت خطوات خلفه تبعه كلمات رفيقه الجديد وخليله الوفي الذي وضع كل ثقته به، أو بالأحرى بقايا ثقته بعدما غدر به أقرب الأقربين ..
” مولاي ”
استدار نصف استدارة يمنحه بسمة صغيرة هادئة مشيرًا له بالاقتراب ليجاوره الشرفة الفسيحة حيث يحب قضاء وقته منذ كان طفلًا يتطلع لبلاده الجميلة ولم يدرك ما خبأه لها المستقبل :
_ اقترب يا المعتصم، هيا تعال وانظر لمشكى .
اقترب منه المعتصم يجاوره الشرفة يحدق بالبلاد التي ورغم نكبتها لا تزال متماسكة، بلاده وبلاد أجداده رغم أنه لم يولد أو يحيا بها، لكنه عشقها من حديث والده عنها، وكان يتشوق لزيارته السنوية لها :
_ اجمل البلاد مولاي .
ابتسم أرسلان وهو يهز رأسه هزة صغيرة، ثم تنهد وقال بحسرة :
_ لهذا تكالبوا عليها يا صديقي، ذنبها جمالها .
يعلم المعتصم ما يمر به أرسلان، فما يحمل فوق اكتافه في هذه اللحظة ثقيل، بلاد منكوبة، وشعب محطم، ودفاع شبه مكشوف؛ الجيش اعداده قليلة، والامدادت لا تكفي تغطية نصف حدود المملكة، الزراعة في تراجع بسبب تأثر الأراضي الزراعية بعمليات التخريب التي نالتها على أيدي الباطشين، لا شيء سليم في هذه البلاد سوى ايمان شعبها بربهم .
ارتفع صوت الأذان في الأرجاء معلنًا موعد الفجر في المملكة ليربت أرسلان على كتف المعتصم يدعوه ليتبعه صوب مسجد القصر، تحرك بصمت وخفة صوب الخارج وقد أخذ معطفه الاسود يتطاير خلفه يسير بخطوات قوية لا يبصر حوله سوى طريقه، حتى خطى بوابة المسجد ليخلع معطفه الملكي وتاجه وحذائه ويترك سيفه، ثم دخل المسجد مُجردًا من كل ما قد يميزه كملك عن باقي جنوده وقاطني القصر .
فبين يديّ الله الكل سواسية …
ابتسم للجميع بسمات صغيرة، ثم جاورهم الصفوف خلف الإمام لتعلو في هذه اللحظات كلمات الله وتصمت جميع الاصوات خاشعة لها.
” الله أكبر..”
بدأ الجميع يتبع الإمام في صلاته لتمر دقائق قبل أن يعلو صوته بالتسليم معلنًا انتهاء الصلاة .
تحرك الجميع ليباشر البعض أعماله والبعض يعود لإكمال نومه، فيما بقي أرسلان جالسًا يضم قدميه أسفله يدعو الله أن يعينه على القادم، فالبلاد على شفا جرفٍ من الانهيار، عاد بها لنقطة الصفر.
عادت له بلاده مدمرة كما تسلمها من والده، بل اسوء، فالأن ليست البلاد فقط المدمرة، بل نفوس قاطنيها .
_ مولاي، هل انتهيت ؟!
ابتسم أرسلان يستقيم في جلسته، ثم تحرك صوب المعتصم الذي كان قد سبقه لبوابه المسجد، يلتقط حذائه ومعطفه وسيفه يتحرك معه صوب الساحة يردد :
_ هل تقدم أحد للانضمام للجيش يا المعتصم ؟!
صمت المعتصم وتردد في الحديث يحاول إيجاد أي إجابة لا تصيب أرسلان بالاحباط، أرسلان الذي يعلم الإجابة بالفعل، لكنه يتساءل فقط لدفع المعتصم إلى مشاركته كل ما يصل له دون تردد أو مواراة .
_ سوف يأتي الكثيرون مولاي أثق بذلك، هم فقط يحتاجون لبعض الوقت للتعافي .
ابتسم له أرسلان ينظر للسماء التي بدأت تنير بعض الشيء معلنة بداية يوم جديد ومولد أمل جديد .
_ لهم كل الوقت يا المعتصم، لهم كل الوقت .
كانت كلماته غريبة بنبرة اغرب، جعلت المعتصم ينظر له بعدم فهم وترقب لشرح ما يقصد، لكن أرسلان استدار له برأسه ونظرات خبيثة يرفع سيفه قائلًا :
_ إذن يا المعتصم هل تستطيع مجاراتي في القتال، أم أنك تماثل معلمك فشلًا ولن تتمكن من الصمود أمامي لثواني ؟؟
اتسعت أعين المعتصم بصدمة كبيرة يدرك أن الحديث الآن موجه لقائده السابق والذي تتلمذ على يديه وتعلم القتال منه :
_ ماذا ؟؟ القائد سالار لم يكن يومًا فاشلًا .
ابتسم له أرسلان يرفع السيف في وجهه يلقي معطفه جانبًا وعليه التاج دون اهتمام، ثم اتخذ وضعية الهجوم يشير له بالتقدم :
_ اثبت لي ذلك …
وفي ثواني وقبل أن يستوعب أحدهم ما يحدث دارت معركة حامية بين المعتصم وارسلان الذي يقاتل بشراسة ارعبت المعتصم لثواني وهزت ثباته، قبل أن يتمالك نفسه ويعود لمجابهة أرسلان في القتال .
ومع بداية اليوم وحيث من المفترض أن يستيقظ أهالي القصر الملكي في مشكى على صوت زقزقة العصافير ونسمات الهواء، كانوا يستيقظون على أصوات السيوف .
تجمع بعض الجنود يراقبون ما يدور بين المعتصم وارسلان الذي كان يحارب وكأنه يقاتل عدوًا ..
وبعد دقائق طويلة انتهت المعركة بسقوط سيف المعتصم، وسقوط المعتصم نفسه ليجاور سيفه ارضًا، ويشرف عليه أرسلان بنفسه مبتسمًا بسخرية ومزاح خشن يتخيل نظرات سالار أمامه وهو يردد تلك الكلمات :
_ كما توقعت، فاشل تمامًا كمعلمك .
تشنجت ملامح المعتصم، يحاول النهوض ينفض ثيابه بسأمٍ ورفضٍ تام للهزيمة ومذاقها المُر :
_ لقد اخذتني على حين غرة، هذا ليس عادلًا .
توقف أرسلان يلوي فمه بسخرية لاذعة:
_ ومنذ متى كانت الحرب منصفة يا صغير ؟؟ الحرب هي الساحة الاولى للغدر يا المعتصم .
ختم حديثه يحرك سيفه أمام عيون المعتصم الذي تنفس بغيظ شديد، يحاول تهدئة نفسه وتمرير تلك الهزيمة وتذكير نفسه أنه هُزم من شخص ينافس قائده ومعلمه، هُزم من أرسلان بيجان ملك مشكى، الرجل الذي قضى نصف حياته في الحروب، والنصف الآخر يبحث عن الحروب.
إذن هزيمته أمام هذا الرجل كانت حتمية، لكن لن يستمر الأمر طويلًا .
_ لا بأس بهزيمة اليوم مولاي، يومًا ما ستُهزم، وسيكون لي الشرف لتكون هزيمتك على يدي.
ارتسمت بسمة جانبية على فم أرسلان يتحدث بجدية شديدة وهو يلوح بالسيف في وجهه معترضًا على تلك الكلمات التي كانت كما لو أنها سبة له :
_ خسئت أنت واشباهك الاربعين، لم يولد بعد من يهزم أرسلان بيجان .
نفض المعتصم ثيابه، ثم رفع عيونه صوب أرسلان يقول ببسمة واسعة يسخر منه وبكلماته تلك :
_ سمعت هذه الكلمات من قبل، أين يا ترى ؟؟ آه نعم رجال سفيد، الآن انظر إليهم، حتى القائد سالار ركع على ركبتيه لزوجته يعترف بهزيمة مستحقة لها .
_ هذا سالار يا بني …
_ أنت لا تفرق شيئًا عن القائد سالار، أنتما بنفس العقلية تقريبًا .
أطلق أرسلان صوتًا ساخرًا :
_ خسئت، لا أحد ولا حتى سالار يشبهني، هذا سالار، وأنا أرسلان، لا سالار يشبهني ولا أنا أشبه سالار، كلٌ يمتلك شخصيته .
هز المعتصم كتفه يراقب تحرك أرسلان بعيدًا عنه وهو يحرك السيف بين كفيه يطلق صفيرًا عاليًا مستفزًا للمعتصم الذي رفع صوته وهو يقول بجدية :
_ نعم، لكن الهزيمة لا تفرق بين سالار وارسلان مولاي، وغدًا سنجلس جميعًا نراقب هزيمتك ونصفق لها .
لوح أرسلان بسيفه في الهواء دون أن يتوقف في سيره أو يستدير له حتى :
_ استمر في احلامك يا بني .
ابتسم له المعتصم يجيب بثقة :
_ ليس في احلامي يا مولاي، بل في الواقع، أين ستهرب من مصيرك أنت، هزيمتك ستصيبك ولو حفرت لذاتك قبرًا في الأرض السابعة، هي فقط تنتظر الوقت المناسب للظهور وتعلن عن نفسها ..
________________________
البرازيل_ سجن “كارانديرو” :
أمام بوابة السجن وحيث كان يحيط بها عدد كبير من المسلحين لمنع تخطي أي مسجون للبوابات أو الاقتراب منها حتى، انتفض البعض على صوت إطارات تحتك بالأرض أمامهم، ومن ثم توقف سيارة سوداء بشكل همجي تسببت في إحداث غبار جعل أحدهم يزفر بضيق وهو ينظر في ساعة يده يتأكد أن موعد حضورها الاسبوعي قد حان .
يسمع صوت أحد الجنود جواره :
_ لقد أتت سيدي .
أجابه بسخرية وهو يرفع عيونه صوب السيارة السوداء أمامه:
_ استطيع رؤية ذلك، أفتح البوابة لها .
تحرك الجندي ينفذ أوامره، بينما استمر الآخر يراقب السيارة ينتظر أن تطل هي عليهم بهئتها المعروفة والتي لا تتغير، صورة محفوظة تسير بها طوال الوقت .
وما هي إلا ثواني وأخرجت قدمها التي كانت ترتدي بها حذاء اسود لامع ذو كعب عالٍ، ومن ثم خرجت بجسدها ترتدي ثيابها الرسمية المعروفة، بنطال بذلة اسود اللون، يعلوه قميص ابيض تدخل اطرافه داخل البنطال، مع وجه شبه خال من المساحين عدا القليل، وخصلات تجمعها في ” كعكة سوداء ” محكمة، تسير بهدوء تحمل حقيبة سوداء، وبنظرات هادئة تحركت صوب البوابة التي كانت قد فُتحت لها بالفعل لتدخل دون أن تحيد بنظرها لأحدهم، تتحرك خلف الجندي الذي كان يعلم دوره يقودها صوب الغرفة المخصصة لتبدأ عملها الاسبوعي …
الطبيبة النفسية الشرعية ” سول ” والتي تعمل لتأهيل المجرمين داخل سجون البرازيل للحياة الطبيعية بعد سجنهم، تؤمن أن الجميع _ حتى المجرمين _ يستحقون فرصة ثانية للعيش بشكل طبيعي، بعيدًا عن السجون وما عانوه بها .
سارت في الممر لا يُسمع سوى صوت قرع حذائها الاسود، تبتسم بلطف لمن يقابلها، بسمة رسمية صغيرة تحاول بها كسر الجليد مع من حولها، حتى وصلت أخيرًا لغرفة صغيرة حيث تمارس جلساتها الأسبوعية للتأهيل مع اخطر المجرمين الذي يعانون من خلل نفسي يزين لهم أذية الغير، غرفة مراقبة بالكامل تحتوي ثلاثة حراس لمراقبة الأوضاع .
_ شكرًا لك .
قالت جملتها بلكنة برتغالية متقنة، ثم تحركت بهدوء تلقي الحقيبة الخاصة بها على الطاولة تجذب المقعد المقابل لذلك المجرم المقيد أمامها تمنحه بسمة لطيفة صغيرة لا تناسب الوضع الذي تجلس به أمامه وهي تلوح له :
_ مرحبًا .
زمجر الرجل أمامها، ولولا الأصفاد التي تقيد نصف جسده العلوي، لكان نهض الآن وهجم عليها وقطعها بأسنانه دون أن يرف له جفن .
لكن هل تهتم هي ؟؟ لا والله لا تفعل.
فتحت الحقيبة الخاصة بها تبحث عن المدونة التي تسجل بها كافة الملاحظات الخاصة، تزفر بضيق وهي تحاول ابعاد اغراضها الشخصية جانبًا، تحدث السجين بأريحية وكأنه رفيق قديم لها :
_ فوضى عارمة تسود الحقيبة، لا ادري حتى ما سبب حملي لكل تلك الأشياء و….ها لقد وجدته .
اخرجت الدفتر تبتسم له بسمة واسعة، ثم فتحته تضع قدم على الأخرى وهي تردد براحة :
_ والآن اخبرني كيف حالك وكيف هي أيامك في هذا المكان الـ… في هذا السجن ؟؟
ارتج الرجل في مقعده يحاول النهوض وسحب أي سلاح وأخذها رهينة حتى يطلقوا سراحه ويخرج من هذا السجن الخانق، ومن ثم يفرغ احشائها ويحطم أسنانها ليمحو بسمتها تلك، وسول أبصرت كل ذلك تتنهد وهي تسجل بعض الكلمات :
_ سيئة ها ؟؟ هل يمكنك أن تصف لي ما يزعجك بالمكان تحديدًا؟! هل هي الأجواء الباردة أم الإضاءة المزعجة أم الطعام قليل الملح، أم قهوة تشارلي المريعة على سبيل المثال ؟؟
زمجر الرجل زمجرات جعلتها ترفع عيونها له تردد بجدية مستاءة منه وكأنه خيب ظنها أو ما شابه :
_ عزيزي هل تتحدث مع أحد حيوانات الغابة ؟؟ أنا لا افهم زمجراتك حدثني بكلماتٍ كالبشر كي استطيع مساعدتك رجاءً .
مال الرجل وهو ينظر لها بشر، لتعلم أنه على وشك إطلاق كلماته الاولى لها، وهذا جعلها تترقب باهتمام، أما هو ابتسم بشر مرعب هامسًا بصوت متحشرج مخيف وكأنه لم يستعمل حنجرته منذ عقود وهذا أول عهده بالحديث :
_ تبًا لكِ أيتها الـ *****.
لم تصدم أو تبتأس من كلماته وقد كانت ابسط شيء تقابله في حياتها المهنية، فقط ابتسمت تجيبه بهدوء ورقة شديدة تحاول التحلي بالصبر، فهو ليس أول سجين يعاندها في بداية العلاج :
_ تبًا لك أيضًا أيها الوسخ .
ختمت حديثها ببسمة مترقبة حين رأت نظراته تحتد أكثر وأكثر، ثم أكملت بكل بساطة وهي تدون بعض الكلمات :
_ أخبرني إذن، هل يعجبك وجودك في المكان هنا؟؟
ومجددًا الرد زمجرة وسبات عديدة ومحاولة عقيمة ليفلت من اصفاده ويهجم عليها يقتلها ويقطعها أربًا، احلام قاطعتها هي بجملتها :
_ ألا يحفزك شيء للخروج من هنا؟؟ لا تمتلك ما يجعلك تحارب نفسك القذرة والخروج ؟؟ ألا يوجد بالخارج ما يستحق سحق شياطينك لأجله ؟؟ زوجة أخت…ابنة مثلًا .
صمتت حين رأت نظراته تلين بشكل مريب وقد أصابت وتره الحساس، تبتسم بسمة بسيطة صغيرة وهي تميل على الطاولة تكمل حديثها بهمس :
_ لديك ابنة صغيرة صحيح ؟؟ آلانا ها ؟؟
رفع عيونه لها وقد التمعت بشكل قوي وهي ترى أنها وجدت واخيرًا ما ستلعب عليه في الفترة القادمة، فتحت فمها للحديث، لكن وقبل فعل ذلك وأد هو كلماتها حين رفع يده المصفدة يجذب رأسها بحدة صوبه وقد بدأ يخنقها بالاصفاد يطحن عظام رأسها بالطاولة ..
حركة مفاجئة غفلت عنها “سول” التي أطلقت سبة مرتفعة تحاول الإفلات منه وقد بدأ وجهها يتحول للأحمر بسبب الاختناق، تدفع يده عنها وهو فقط ينظر لها بشر يطلق تهديدات للجنود بعدم التدخل وإلا قطع رأسها، وقد اندلعت حالة من الهرج والمرج في المكان بأكمله .
_ إن اقترب أحدكم سأحطم عظام رأسها لتلك الـ ***** .
وسول لا تسمع شيء ولا تهتم بشيء سوى رقبتها العزيزة التي تكاد تنفصل عن جسدها بأقسى طريقة ممكنة، تجاهد لدفع جسدها عبر الطاولة ترفع يدها حتى تصل لوجهه، وبصعوبة شديدة وصلت واخيرًا لتدفع أصابعها في عيونه بقوة مستغلة انشغاله بالحراس، حتى كادت تشعر بأنها فقأتهما له .
أطلق الرجل صرخة عالية، ولم يكد يتبعها بسبة حتى رفعت سول قدمها تضرب أسفل معدته بعنف شديد من أسفل الطاولة، ثم ابتعدت عن يده بسرعة تمسك رأسها تصطدمها بشر في الطاولة ليفقد الرجل اتزانه في ثواني ويلتف حوله الجنود يخرجونه من الغرفة بسرعة كبيرة، بينما سول عادت بظهرها للمقعد تستريح عليه متنفسة بصوت مرتفع وهيئة مُدمرة.
ثواني التقطت بها الأنفاس، ثم جمعت اغراضها وأخرجت المرآة تتفحص هيئتها المدمرة، وقد فسد الكحل الخاص بها وهذا يذكرها بالبحث عن ” ماركة ” أخرى تصلح للتعامل مع هؤلاء الهمج، وأصبحت الكعكة في شعرها تميل للجانب بشكل مزري، وأحمر الشفاة تدمر بالكامل .
ضيقت عيونها وهي تدقق النظر في هيئتها :
_ هناك شيء خاطئ هنا ..
ثواني حتى أخرجت أحمر الشفاة من حقيبتها و ضعت القليل منه، ثم ابتسمت تقول متجاهلة باقي هيئتها المزرية :
_ هذا أفضل.
حملت الحقيبة وخرجت بكل هدوء مرفوعة الرأس كعادتها لا تهتم بمن حولها تودعهم ببساطة، ثم خرجت من البوابة وهي تردف بحنق :
_ كان أبي محقًا حين أمرني بالاهتمام بمحل الزهور الخاص بي وتركي لهؤلاء الفاسقين، عسى أن يحترق السجن بكم يا همج .
تحركت بالسيارة وهي تخرج يدها من النافذة تتوعدهم بالعودة مجددًا وتسجيل انتصار آخر على هؤلاء القذرين :
_ سأعود لك أيها الفاسق، سأعلمك كيف تصبح وتتصرف كإنسانٍ طبيعي، فكل مختلٍ وله طريقته الخاصة في التعامل…
________________________
ثواني وتوقفت بسيارتها في حي راقي هادئ تحيطه الأشجار من كل الجهات، وقد كانت الضوضاء الوحيدة في المكان صادرة من سيارتها التي اوقفتها، ثم هبطت منها تغلقها بقوة، تتحرك صوب محل ذو واجهة زجاجية مليئة بالزهور واعلاه لافتة مكتوب عليها بأحرف ملونة وردية ” زهور سول ”
سول الثانية التي تتناقض مع الاولى، فتاة تعيش بهويتين، صباحًا تعمل اخصائية تأهيل وعلاج نفسي في أخطر السجون، ومن ثم بائعة ورود في غاية الهشاشة والرقة .
وهنا الأمر يعتمد على حظك، إما أن تتعامل معها بشخصيتها الاولى أو تكون من الحظ الجيد لتقابلها بالثانية .
دخلت المحل الخاص بها تلقي مفاتيح السيارة بأهمال، ثم اختفت في غرفة جانبية لدقائق قبل أن تخرج منها وقد ابدلت ثوبها الرسمي بفستان يغطي كامل جسدها عدا ذراعيها ممتلئ بالورود الصغيرة يعطيها لمحة رقيقة، ومن ثم تركت لخصلاتها العنان، تضع لافتة ( مفتوح ) على باب المحل لتستقبل أول زبائنها ببسمة واسعة لطيفة .
– مرحبًا، كيف اساعدكِ اليوم آنستي ؟؟
ابتسمت لها الفتاة تردد ببسمة مشابهة لخاصة سول :
– مرحبًا سول، أود الحصول على بعض الورود الحمراء فاليوم زفاف ابنة خالتي واريد إحضار هدية مناسبة لها .
– اخترتي المكان المناسب عزيزتي، استريحي ريثما اجهز لكِ طلبك رجاءً.
ومن ثم بدأت تتحرك في المكان بكل همة وبسمة واسعة ترتسم على شفتيها تنتقي زهور بعناية ودقة تكوّن بوكيه في غاية الجمال والبهجة للفتاة، قبل أن تسمع صوت الاجراس التي تعلن وصول زبون آخر، فتحدثت بجدية وهي منكبة على الانتهاء من البوكيه أمامها تسمع صوت نقرات لحذاء رجالي :
_ لحظات واتفرغ لك سيدي …
وعادت للانشغال قبل أن يوقفها صوت رجلي يهتف بنبرة لعوبة عابثة تعلمها جيدًا :
– سول جميلة جميلات سجون البرازيل بأكملها، وقاهرة الفاسدين ….
توقفت يد سول عما تفعل تتنهد بصوت مرتفع قبل أن تعقد رابطة الزهور بشكل رقيق، ثم حملتها تستدير صوب الفتاة ببسمة صغيرة :
– تفضلي، انتهينا ..
– اشكرك سول، أنتِ الافضل في هذا .
ابتسمت لها سول تتحرك معها صوب الحاسوب الخاص بها كي تسجل ما تم بيعه وتنتهي من حساب الفتاة بينما صوت الرجل يصدح حولها في المكان مفسدًا مزاجها المعتدل :
– أنتِ لم تنسي موعدنا صحيح ؟!
أغمضت سول عيونها تخرج الايصال للفتاة مبتسمة :
– تشرفت بوجودك عزيزتي، اتمنى لكِ وقتِا سعيدًا في الزفاف .
ودعتها الفتاة ببسمة تغادر المكان، بينما رفعت سول عيونها صوب الرجل تردد بنبرة مغتاظة :
– مرحبًا بك لود، أنرت محلي المتواضع.
هز لها لود رأسه هزة صغيرة، ثم نظر حوله يقول :
– حفلة اليوم مهمة سول، لا يمكنك تجاهلها ككل مرة .
صمت يراها تتحرك في المكان برشاقة وخفة، ليقرر أن الوقت ربما يكون مناسبًا ليعرض عليها عرضه الذي يكبته داخل صدره خائفًا من البوح به، خاصة وقد تلبستها شخصيتها اللطيفة الرقيقة :
– الحفلة ستضم أكبر رجال الدولة وستكون فرصة ممتازة لبناء علاقات وثيقة تفتح لكِ جميع الأبواب المغلقة، فقط لو ….
صمت بتردد حين رأى توقف جسدها وتحفزها الخطير وهي تضيق عيونها تدعوه بصمت أن يكمل ما جاء لأجله والذي تدرك داخل صدرها أنه لن يعجبها :
– فقط لو ماذا لود ؟؟
ابتلع ريقه يهتف بالكلمات بسرعة قبل أن يتراجع :
– فقط لو ارتديتي بعض الفساتين الملائمة لمثل هذه الحفلات بعيدًا عن ثيابك الرسمية السوداء وتلك الفساتين الملئية بالزهور، ما …ما رأيك لو ارتديتي ما احضرته لكِ .
رفعت حاجبها مترقبة وهو اتخذ صمتها موافقة مؤقتة ليسارع صوب سيارته وفي دقيقة كان يعود حاملًا حقيبة لإحدى الماركات العالمية مبتسمًا :
– انظري عزيزتي، بمجرد أن رأيته اقسم أنني لم أر غيرك يرتديه، انظري إليه سوف تخطفين الأنظار والانفاس اليوم .
حركت سول عيونها ببطء تراقب الفستان القصير الذي كان يتميز بحملات ذهبية من الحديد مع فتحة ظهر تظهر كامل ظهرها .
اكمل لود وقد ابتسم لصمتها، لأول مرة لا تعترض على شيء، يستفيض في إظهار خبرته كمساعد شخصي لها، وصاحب ذوق من الطراز الأول وخبير بالنساء وما يلائمهن أكثر من النساء أنفسهن :
– بشرتك الذهبية هذه ستليق مع اللون الاحمر المثير وبشدة، لطالما كنت مؤمنًا أن اللون الأحمر خُلق لاصحاب البشرة الذهبية؛ وخاصة اللاتينيات منهن …
ابتسمت سول بسمة رقيقة، تقترب منه، ثم مدت ذراعها تضعه جوار خاصته مشيرة له بعيونها :
– انظر أنت تمتلك لون البشرة ذاتها، ربما يمكنك أنت ارتدائه إن اعجبك لهذه الدرجة عزيزي .
ختمت حديثها تتحرك تاركة له متسع الأعين فاغر الفاه من كلماتها، قبل أن يزفر بضيق شديد :
– سول أ….
– ولا كلمة لود، أنا لا ارتدي ثياب الجواري وفتيات الليل هذه، إما أن ارتدي ما اريد أو تنسى أمر ذهابي لحفل النخاسة هذا .
صمتت ثواني، ثم عقدت حاجبيها تقول بعد تفكير قصير وكأن شخصيتها الأولى تحكمت بها فجأة تحرك يديها بعدم اهتمام :
_ مهلًا ما الذي يجبرني من الأساس على الذهاب؟! اللعنة عليهم جميعًا وعليك وعلى الفستان الأحمر لود، أنا لن أذهب لذلك المكان .
سارع لود بسرعة يصرخ بصدمة كي لا تغير رأيها يلقي الفستان على المقعد جوارها :
– لا لا انسي أمر الفستان، فلتحرقيه إن اردتي، لكن هذا الحفل جد مهم لتعميق علاقاتك، بحثك الاخير الذي تجرينه يحتاج لمن يموله يا ابنتي وأنا اثق أن هناك من سيكون مهتمًا هناك .
على رنين هاتف لود ليتأفف وهو يرفعه :
– حسنًا إذن القاكِ مساء اليوم سول، و….ربما سيفيدك اختيار شيء غير البذلة السوداء و….
تراجع حين أبصر نظراتها ليزفر بحنق :
– حسنًا افعلي ما تريدين لقد سئمت، وأنا من اخترت مقابلتك حين تتلبسك شخصيتك اللطيفة كي يسهل اقناعك .
– هذا ما جعلك تخرج على قدميك لود، والآن أرحل فأنت تخنق زهوري برائحتك النفاذة هاته، هيا تحرك خارج مملكتي .
رفع حاجبه بغيظ شديد قبل أن يخرج من المكان وصوت تمتماته يتبعه :
_ حسنًا سمو الملكة، سأتركك لتولي أمور مملكتك .
وهي فقط ابتسمت بسمة صافية، تراقبه حتى خرج من مملكتها العزيزة، ثم تحركت بين زهورها تقلمهم وتسقيهم وهي تدندن بصوت خافت رائق هادي .
كانت ملامح سول من تلك الملامح الرقيقة، إذ تميزت بوجه وبشرة ذهبية ورثتها عن والدتها وعائلة والدتها اللاتينية أبًا عن جد، بينما ورثت عيونها الخضراء من والدها وخصلاتها السوداء كذلك منه ..
ابتسمت بشجن تتذكر والديها العزيزين، رحلا وتركاها وحيدة تحيا ما بين حلميهما لها، فوالدتها والتي انحدرت من عائلة ذات سيادة وماضٍ عريق في البلاد اختارت لسول حياة تكون ابنتها بها ذات مكانة قوية مرموقة وحازمة فأصبحت الطبيبة سول اخصائية التأهيل النفسي، بينما والدها العزيز أبى إلا أن تحيا فتاته المدلله حياة تليق بالاميرات، فأفتتح لها محل الزهور هذا، وما بين والدها ووالدتها واحلامهما، تشتتت حياتها واحلامها حتى نست ما تريده هي وعاشت تحقق لهما ما يريدان، لكن الحق يُقال هي لا تبتأس، ولا تمل، هي فقط تفتقدهما وبشدة …..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يجلس أعلى عرشه يتابع بعيونه كافة المستشارين الذين عيّنهم له بعد عودة بلاده من نكبتها في محاولة للخروج لشاطئ الأمان بعد الأمواج التي جرفت البلاد مؤخرًا .
يجلس بكل هدوء وعيونه تتحرك على الجميع أمامه، الكل يشكو ويتذمر من حالة البلاد، وكأنهم كانوا يأملون أن تعود بين ليلة وضحاها، يبتئسون من وضع احضرهم كي يغيرونه
ابتسم بسخرية لاذعة وهو يسمع صوت أحدهم يردد :
– أنت تطلب مستحيلًا مولاي، الأمر كبير ويحتاج للكثير من العمل، أن تعود البلاد لحالتها السابقة أسبق بأحياء جثة، هذا مستحيل، بالطبع لا يمكننا إنجاز كل هذا، خاصة أنك تطلب التكفل بالكامل بالأسر المنكوبة، أنا أقترح أن نرفع الدعم عن البعض ونخفف من أعباء الخزينة، فبهذه الطريقة لن نستطيع دفع الرواتب للعاملين بالقصر وخارجه، وهذا سيدفعهم للرحيل كغيرهم.
حرك أرسلان لسانه على شفتيه ثواني قبل أن يقول بهدوء شديد :
– سلّم عُهدتك للمعتصم وأخرج من هنا .
رفع الرجل عيونه بفزع في وجه أرسلان لا يفهم ما قاله ليكون هذا رده، بل لا يستوعب سرعة رد أرسلان واتخاذه لهذا القرار، بينما أرسلان لم تتحرك شعرة واحدة به وهو يهتف بصوت مرتفع :
– تسلم من الرجل عهدته يالمعتصم، وابحث لي عن آخر يدرك جيدًا معنى أن تكون مستشارًا لبلادٍ منكوبة، أبحث لي عن رجل يعلم يقينًا أنه لن يأتي ليتمتع بأمتيازات منصبه بقدر ما سيحمل اعباءه .
صمت، ثم نظر للرجل المصدوم يشير صوب الباب مبتسمًا بكل برود واستفزاز بسمة واسعة :
– شرفتنا، سوف نبحث لك عن عملٍ سهل بسيط ونرسل في طلبك .
ختم كلماته والرجل يحاول استيعاب ما يحدث قبل أن ينتفض ويخرج من المكان بسرعة يبتلع الإهانة التي وُجهت له وهو من أكبر علماء هذه المملكة، بينما صدح صوت أرسلان خلفه يردد بجدية وقوة وعيونه تمر على الجميع يتحدث بتجبر :
– حين اخترتكم من بين الجميع، اخترت صفوة علماء وأطباء ومهندسي البلاد، أنتم تقلدتم مناصب تحمل لكم من الأعباء أكثر مما تحمل من الرفاهيات، هذه بلادكم قد طالها من الخراب حتى أضحت رماد، وإن رأيتم أن إعادة تعميرها مستحيل وأنتم الاعلون، فما الذي تتوقعونه من شعوب لا حول لها ولا قوة ؟!
صمت الجميع لينهض أرسلان يتحدث بجدية وصوت جهوري كي يصل للجميع :
– مشكى ستنهض وتعود كسابق عهدها وإن اضطررت لفعلها وحدي ودون مساعدة منكم سأفعلها، لذا من يشعر أنه لن يستطيع التكيف على المسؤولية التي وكلته إياها، لينسحب من الآن وأنا سأتكفل بنفسي لإعطائه عمل بديل .
عم صمت طويل في القاعة وهو يمر بعيونه في قوة ينتظر فقط رفة جفن من أحدهم ليخرجه من المكان، وحين رأى منهم ثباتًا قال بهدوء :
_ شكرًا لكم، تحركوا لتنفيذ ما طلبته منكم .
تحرك الجميع للخارج واحدًا تلو الآخر، قبل أن يتراجع ويوقفهم معذبًا إياهم بنظراته المرعبة مجددًا، وحينها قد ينهار أحدهم دون شعور .
كام يراقبهم بأعين هادئة والمعتصم يجاوره، متحدثًا بهدوء وبكامل الصلاحيات التي منحها له أرسلان :
_ ألا تعتقد أنك بالغت بعض الشيء في ردة فعلك مولاي ؟؟
عقد أرسلان حاجبيه ثواني، ثم استدار صوب المعتصم يجيب بهدوء وبكلمة واحدة:
_ لا .
عض المعتصم شفتيه يحاول أن يجعله يتعامل بلين أكثر مع الجميع، لكن أرسلان الذي اشبعته الحياة غدرًا وطعنًا تعهد ألا يعطي لأحدهم مكانة أكثر مما نال بالفعل، هم رضوا بتقلد مناصب عليا، إذن ليتحملوا اعبائها كما يتنعمون بمميزاتها.
تنهد المعتصم وهو يتحدث بخفوت :
_ أتسمح لي بالتحدث بحرية مولاي ؟!
_ لك ما تريد يا المعتصم.
_ أخشى أنك تصنع لنفسك أعداءً جدد مولاي .
رفع أرسلان حاجبه يهبط عن عرشه متحركًا صوب المعتصم ينظر له باهتمام، ثم قال بهدوء :
_ أخبرني يا المعتصم، ما الذي سيجبرهم على صنع عداوات معي ؟؟ ما التصرف الذي صدر مني ليجبرهم على ذلك ؟؟ اعني أخبرني أنت هل أسئت لأحدهم ؟؟
نفى المعتصم، فأكمل أرسلان بهدوء شديد :
_ إذن هل حدث ورأيت مني تجبرًا أو ظلمًا في حق أحدهم ؟!
ومجددًا نفى المعتصم، فرغم تجبر أرسلان بعض الأوقات إلا أنه يشهد أنه يومًا لم يظلم أحدهم أو يتجبر عليه .
تنهد أرسلان بصوت مرتفع يوضح للمعتصم ما يفعل، فهو في النهاية سيكون مرافقه وعليه تفهم ما يفكر به :
_ أنا لا أطمح لعداوة يا المعتصم، لكن هذه بلادي وأي تراخي سيؤخر من نهوضها، أوتعلم عدد الأسر المشردة وغير القادرة على العيش، عدد المنازل المحطمة ؟! عدد الجثث التي ما تزال نبحث لها عن مقبرة لنكرمها بدفنها ؟؟ عدد الأطفال بلا آباء ؟؟
صمت ثم صاح باستنكار مشيرًا للباب الذي خرج منه الجميع :
_ البلاد على شفا جرفٍ من الانهيار وهذا يتذمر بشأن الرواتب ؟؟ هذا وأنا لم اقصر في رواتبهم حتى، فما بالك إن فعلت لظرف ليس بيدي؟؟ امثال هذا الرجل إن منحته المزيد من الصلاحيات قد يقتل أسرة بكاملها جوعًا، ليتزين هو بالذهب، ألا لعنة الله عليهم، لا حاجة لي بهم بين رجالي يالمعتصم، فهمت ؟!
هز المعتصم رأسه بتفهم، بينما أرسلان فقط اغمض عيونه يقول بهدوء بعد صمت قصير :
_ دعنا نتحرك صوب الساحة لتفقد تدريب الجيش ….
وبهذه الكلمات ختم الحوار القصير مع المعتصم يتحرك بجدية صوب الخارج بقوة لا يهتم بمن حوله وكل ما يراه هو بلاده وما سيحتاجه ليعيد تعميرها …
ــــــــــــــــــــــــــــــ
تسير بين طرقات البلاد وهي تجر قدميها جرًا، تشعر بجسدها يأن وجعًا، روحها تطلب استراحة، حتى المحارب ينال استراحته الخاصة، وهي ألا راحة لها ؟!
تتحرك ولا تهتم للأعين المشفقة التي تدور حولها، ثيابها الرثة هيئتها المدمرة، ملامحها التي تخفيها خلف غطاء متسخ، حتى ما ظهر منها لم يكن افضل حالًا من غطائها .
تتحرك بين الجميع لا صاحب لها غير كلمات الشفقة والحسرة عليها، لم تهتم تكمل جر قدمها صوب منزلها كي تحتمي به من الجميع، تحتمي من اشباح ماضيها القريب المريع .
واخيرًا ارتسمت بسمة داخل عيونها وهي تحدق بجدران منزلها، أو بقايا جدرانه، اقتربت بأقدام تعرج بسبب إصابتها تفتح الباب، ثم اندفعت بجسدها للداخل تنهار ارضًا وهي تهمس كلمات خافتة موجوعة :
_ لقد عدت أمي…
رفعت عيونها تبحث عن طيف والدتها، وحين لم يصل لها رد منها، تنهدت بحنق تحمل حقيبة الطعام تتحرك للداخل بتعب شديد، وهي تخلع الحجاب والغطاء تكشف عن وجهها المستدير الابيض ذو الأعين البنية والشعر الاشقر ..
_ أنا هنا فاطمة .
ابتسمت فاطمة تتحرك بخطوات متمهلة داخل المطبخ، تراقب والدتها تدور في المكان أمامها تصنع لها من الطعام ما تحب وتهوى، فجأة تذكرت فاطمة ما أبصرت بالخارج لتزفر بضيق مرددة وهي تفرغ الحقائب :
_ أمي، لقد أحضرت طعامًا يكفينا لأيام، كي لا نخرج مجددًا، لقد أصبحت البلاد بحال سيئة للغاية، أصبحت مدمرة تمامًا، والطعام قد بدأ ينفذ من الجميع .
صمتت ثم استدارت صوب والدتها تتأمل ملامحها بتسائل :
_ أين ابي وأحمد أمي ؟! ألن يتناولوا الطعام معنا ؟!
توقفت يد والدتها عما تفعل وقد شحب وجهها، تحاول تمالك نفسها وقد بدأ جسدها يرتجف حين ذكرت فاطمة زوجها وولدها البكر، تنهدت بصوت مرتفع، ثم استدارت صوب ابنتها تقول بهدوء مصطنع عكس ما يموج داخلها من عواصف :
_ فاطمة يا ابنتي اذهبي للاغتسال، فهيئتك مدمرة، ومن ثم بدلي ثيابك فقد أصبحت رثة بشكل غير محتمل .
نظرت فاطمة لنفسها ثواني قبل أن تزفر بضيق :
_ أي ثياب تلك أمي، لقد احترقت مع المنزل .
ختمت حديثها تشير للجدران المحترقة حولها والشبه مدمرة، ثم زفرت تحاول أن تمحو ذكرى احتراق المنزل من ذاكرتها تكرر السؤال مرة ثانية :
_ إذن أين أبي وأحمد ؟؟ مازالا في المسجد ؟؟
توقفت يد والدتها تجيب بمرارة وقد التمعت الدموع بعيونها تنظر بوجه ابنتها تردد بحسرة وقهر :
_ بل احترقا مع المنزل …
اتسعت عيون فاطمة وهي تتراجع للخلف بصدمة وعنف حتى أن جسدها اصطدم في الجدار صدمة قوية، ترى اندفاع والدتها صوبها وهي تتلقف جسدها قبل السقوط تردد بلهفة :
_ بسم الله عليكِ يا ابنتي، ما بكِ عزيزتي تنفسي .
رفعت فاطمة عيونها صوب والدتها تحاول التحدث، لكن غصتها استحكمت حلقها تمنعها الحديث، سقطت دموعها بقوة تهتف بصعوبة :
_ مـ…مـا….ماذا ؟؟ أبي وأحمد ؟؟ أبي كان هنا منذ ….
_ لا إله إلا الله، يا ابنتي والدكِ وأخيكِ رحلا وقت حريق المنزل منذ شهر ونصف، رجاءً افيقي، لم يعد لي سواكِ لا تجبريني على فقدانك كذلك يا ابنتي .
رفعت فاطمة عيونها لوالدتها ثواني قبل أن تسقط في موجة حارة من البكاء والصراخ وعقلها لا يستوعب أن والدها الذي ودعها منذ ثواني مع شقيقها للذهاب إلى الصلاة قد رحلا، رحلا وتركاها مع والدتها وحدهما، بلا معيل أو سند لهما في هذه الحياة .
انطلقت صرخاتها وارتفعت أصوات البكاء والشهقات في المكان، ووالدتها تضم جسدها بقوة تحاول أن تحتوي انهيار صغيرتها وآخر من تبقى لها في هذه الحياة .
وفاطمة فقط تتنفس بعنف وصوت بكائها ما يزال يصدح بالمنزل، بالتزامن مع صوت ابتهال واستغفار ودعاء والدتها …
وكانت هذه حالة فاطمة كل ليلة تبكي حتى تنهار لتسقط نائمة في النهاية بين احضان والدتها التي كانت تسهر ليلتها تتلو عليها آيات القرآن…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
توقفت أمام المنزل تتنفس بصوت مرتفع وهي تحمل العديد من الحقائب بين جميع أصابعها، وبين أسنانها ولا ينقصها سوى أن تحمل حقائب بين رموشها .
تنفست بصعوبة بسبب وجود حقيبة بين أسنانها، تنظر لجيب الحقيبة المعلقة على كتفها وهي تفكر في طريقة لإخراج المفتاح الخاص بها، نظرت حولها تبحث عمن يساعدها، قبل أن تقرر ترك الحقائب بهدوء ارضًا كي لا يتحطم ما بها، ومن ثم تخرج المفتاح، لكن وقبل أن تفعل سمعت صوتًا خلفها يتحدث :
_ تحتاجين مساعدة ؟!
استدارت ” سول” ببطء صوب الخلف تبصر جارها العزيز يقف في منتصف الممر بين منزليهما وهو يرتدي ثياب نوم وشعره مشعث مبعثر، وقد كانت عيونه شبه مغلقة، وكأن أحدهم سحبه عن فراشه بالقوة ليأتي ويساعدها.
وفي الحقيقة لم يكن هذا مجرد تخمين، بل كانت حقيقة مجردة ..
فهذا الجار العزيز كان يحظى بنومة هنيئة هادئة على فراشه بعد يوم عمل طويل، قبل أن يتفاجئ بوالدته الغالية تقتحم غرفته بقوة تسحب عنه الغطاء بعنف، ومن ثم سحبته هو شخصيًا عن الفراش تصرخ في وجهه وهي تسحبه من تلابيبه :
_ أنت نائم هنا أيها الاحمق والفتاة المسكينة لا تستطيع حمل الحقائب وحدها، يا عديم الشرف والرجولة .
فتح “راجيش ” عيونه بصدمة وفزع وهو يتحرك عن الفراش بسرعة وخوف حتى أنه تعرقل في المفرش وهو يصرخ :
_ يا ويلي الفتاة تحمل الحقائب ..
ولم يكد يتحرك خلف والدته حتى توقف فجأة يستوعب ما قيل يردد بلغة هندية وتفكير :
_ مهلًا حقائب ماذا وفتاة من ؟!
جذبت والدته ثيابه تقول بشر وهي تنظر في عيونه :
_ وتمتلك وقتًا لتتساءل ؟؟ الابطال لا يفكرون وهم يندفعون صوب فتياتهم للمساعدة أيها الحقير، تحرك وساعد الفتاة كأي رجل راقي .
رمقها ” راجيش” بعدم فهم وقبل أن يستوعب ما يحدث وجد جسده يندفع خارج المنزل وقد طردته والدته ليساعد الفتاة التي تقطن أمامهم علّه يثير إعجابها وتتزوجه كما تتمنى هي وترغب، وينال الجنسية وتحصل هي على أحفاد برازيليين.
ابتسمت له سول بلطف شديد، بسمة جعلت والدة راجيش تستند على الباب مبتسمة بسعادة وهي تضع يدها على قلبها تراقب ذلك المشهد الرائع :
_ ستكون كنة ممتازة، سأعلمها صنع الكاري والبرياني لولدي.
تحدثت سول المسكينة والتي كانت غافلة عن احلام جارتها العزيزة التي تطوف حولها، بنبرة مترددة محرجة :
_ أوه راجيش هذا لطف حقًا منك .
اتسعت بسمة والدة راجيش وهي تضع يدها على فمها تخفي بصعوبة صيحة انتصار كادت تفلت منها تردد بصوت منخفض :
_ يا الله رائعان سويًا، عسى أن يرزقكما الله بالكثير والكثير من الأولاد .
فجأة انتفض جسدها بعدما كانت مستندة على باب المنزل بهيام في تلك اللحظة التي تنافس افلامها المفضلة رومانسية تخرج الهاتف من الساري الخاص بها :
_ أخشى أن تلد احفادي ويرثون مظهر والدهم، عسى أن يكونوا كلهم كوالدتهم الجميلة ولا يرثون من راجيش سوى اسم عائلة خان .
وبعيدًا عن احلام” السيدة خان ” كانت الحياة الواقعية، حيث ابتسم راجيش بسمة عادية هادئة يحمل عنها بعض الحقائب كي يعطيها فرصة اخراج المفتاح .
وهي تنفست براحة تقول مشيرة بعيونها على الحقائب :
_ بحذر رجاءً فهي تحتوي اشياء رقيقة هشة .
امتصت والدة راجيش شفتيها بحنق وهي ترمق ولدها بعدم رضا :
_ والله أخبرته لهذا الحمار أن يتعامل برقة مع الأشياء الهشة مثلك، لكن ماذا نقول وهو ثور كوالده، لا يفقه في التعامل الناعم شيئًا .
استدارت سول صوب الباب تفتحه بهدوء، ثم نظرت لراجيش تفكر فيما ستفعله، فهي لا تقبل إدخال رجال لمنزلها وبالطبع لن تخجله وهو يساعدها، مدت يدها بتردد صوب الباب تقول بتوتر جعلها تنطق ما لا تقبل :
_ تفضل راجيش .
نظر لها راجيش يلاحظ التردد الذي على نظراتها ليدرك ما تفكر بها فابتسم يضع الحقائب على باب المنزل بهدوء قائلًا :
_ لا شكرًا، أفضل ألا ازعجك، فأنتِ بالتأكيد عدتي متعبة من عملك .
كادت زفرة راحة تخرج من فمها ترمقه بامتنان شديد، فلطالما كان راجيش من ذلك النوع اللطيف الراقي والمحترم من الشباب، ذلك النوع النادر الذي لا ينبت في بلادها كثيرًا .
فتحت فمها لتشكره، لكن فجأة اقتحمت والدته المكان تقول :
_ أيها الغبي الفتاة تدعوك للمنزل وأنت تتعفف؟!
ختمت حديثها تضربه بخفة على رقبته ليميل راجيش بسرعة يتفادى ضربتها يحذرها بعيونه أن تتمادى في كلامها المريب أمامها :
_ أمي ما الذي تقولينه أنتِ ؟؟
دفعته السيدة خان جانبًا تزجره بعيونها متوعدة :
_ اصمت أنت أيها الحقير حسابي معك بمنزلنا .
ابتسمت تستدير صوب سول المتعجبة تردد ببسمة واسعة :
_ دعكِ من هذا الغبي الذي لا يفقه شيئًا يا ابنتي، وأخبريني إن كنتِ مهتمة بالطعام الهندي، سوف يدعوكِ راجيش على مطعم هندي ويعرض الزواج عليكِ هناك، وبمجرد عودة والد راجيش من الهند نتمم الزواج، وحينها يمكنكم الدخول سويًا للمنزل لا بأس .
اتسعت أعين سول بصدمة كبيرة وقد اشتد احمرار وجهها مما سمعت، بينما راجيش انتفض يضم جسد والدته يحاول أن يكتم فمها يصمتها عن الحديث، لكن يبدو أنها أخذت عهدًا على نفسها ألا تصمت بعد اليوم، يكفيها خمس سنوات من الصمت بين الاثنين، كان وقت كسر الجليد بينهما، ولم تدرك أنها تحطمه فوق رأس ولدها :
_ يمكنك أخذ ميعاد لنا مع قريبك، ذلك الضخم الذي يأتيكِ هنا كل ثانية ويزعجنا بصراخه أمام المنزل لتسمحي له بالدخول، ماذا كان اسمه ؟!
نظرت لراجيش وكأنها تنتظر إجابته، بينما هو أشار لها بعيونه أن تتوقف، لكنها لن تهتم وهي تكمل تحرك رأسها للجانبين في حركة معتادة منها :
_ نعم صحيح لود، خذي معه ميعاد لحين يعود زوجي، ونقابله، ولا تقلقي نحن لن نطالبك بمهر ضخم كما تفعل بعض العائلات .
تشنجت ملامح سول ترفع حاجبها، ثم حركت عيونها صوب راجيش الذي كان يخفي وجهه ينظر بعيدًا، وهي فقط قالت تفرك خدها بأصبعها في تفكير :
_ ماذا ؟؟
نظرت لها السيدة وقد تلاشت بسمتها شيئًا فشيء، بعد كل ذلك الحديث يكون ردها كلمة واحدة ؟؟ استدارت صوب راجيش وكأنها تشكوها له تهمس بصوت مسموع لسول التي رفعت حاجبها :
_ يبدو أنها حمقاء مثلك يابني، الفتاة استيعابها بطئ، مساكين احفادي .
ابتسمت سول بعدك تصديق هامسة بصوت خافت :
_ يا ويلي .
رفعت صوتها تقاطع حديث السيدة مع ولدها تقول بصوت مرتفع جعل جسدها ينتفض :
_ سيدة خان .
نظرت لها السيدة بفزع :
_ ماذا يا كنتي ؟!
_ كنـ…ماذا ؟!
نظرت صوب راجيش متشنجة، بينما أشار لها الاخير مترجيًا أن تتجاوز عن حديث والدته التي أفسدت الافلام عقلها بالكامل وأصبحت تبحث حولها عن قصة لولدها متحججة أنه لا يقل عن “شاروخان ” و ” عامر خان ” و ” سلمان خان ” شيئًا، هو أيضًا ينحدر من نفس العائلة ويمتلك نظارة طبية تشبه تلك الخاصة بعامر خان، إذن لا أحد أفضل من الآخر..
_ ماذا ألا يعجبك راجيش ؟؟ هذا ولدي كانت فتيات ترافندروم يركضن خلفه لاهثات وهو من رفض قائلًا أن نصفه الآخر يقبع في الجزء الآخر من العالم، حيث أنتِ .
نفى راجيش برأسه بسرعة وهو يهتف :
_ والله لم يحدث، لقد كنت أحب ابنة الجيران من الأساس .
فجأة أطلق صرخة متألمة حين هبطت صفعة والدته على كتفه وهي تصرخ في وجهه :
_ أيها الغبي أحاول تحسين صورتك هنا وأنت تتفاخر بعلاقاتك السابقة أيها الفاسق ؟!
_ أي علاقات هذه يا أمي لقد كانت تكبرني بخمس أعوام والآن أصبح لديها ولد بعمري، توقفي عن هذه الأفعال، أنتِ تحرجينني.
أخذت والدته تصرخ في وجهه بلغة هندية غير مفهومة لسول التي كانت تتابع ما يحدث بضيق قبل أن تبصر راجيش يستأذن منها وهو يسحب والدته خلفه بالقوة معتذرًا، وهي فقط تحركت لداخل المنزل تتنفس الصعداء بعدما أخرجها الله بعقلها من عالم بوليوود ذاك .
_ رحمتك يا الله، متى يتوب الله عليّ من كل هذا ؟؟
تنفست بعمق تتحرك داخل المنزل تلقي حقيبة كتفها جانبًا ومن ثم بحثت بعيونها عن رفيق السكن خاصتها تناديه بقلق :
_ موزي هل أنت هنا ؟؟
ثواني فقط وقبل أن تكرر ندائها للمرة الثانية وجدته يقفز في وجهها يصدر اصوات صاخبة منقضًا عليها لتتراحع للخلف ساقطة على ظهرها تحاول التنفس بشكل طبيعي :
_ ليس أنت أيضًا موزي، ألا من راحة لي ؟!
أخذ المدعو ” موزي” يقفز حولها مصدرًا اصواتًا صاخبة وكأنه يحتفي بعودها، ابتسمت له سول تنهض وهي تنفض ثيابها، ثم تحركت صوبه ليقفز على كتفها يتوسطه وهي توجهت به صوب الغرفة لترتيب الأغراض التي احضرتها .
_ أتدري أن الحياة تهون بوجودك موزي، مالي سواك بعد رحيل والديّ .
صمتت وهي تنظر للصورة التي كانت تجمع عائلتها، هي ووالدها ووالدتها وموزي، قردها العزيز الذي ربته مذ كان مجرد رضيع .
_ أخشى أن تنتهي حياتي دون أن أجد من يشاركني بها موزي.
أصدر القرد صوتًا مرتفعًا لتبتسم له وهي تتحرك صوب الخزانة الخاصة بها :
_ لا اقصد الإساءة عزيزي لكنني بالطبع لن اقضي المتبقي من حياتي معك، يحق لي الحصول على رجلٍ وسيم راقٍ حنون وشاعري، يحبني وكأن لا نساء غيري، ويدللني وكأن الدلال لم يُخلق لسواي، رجل ينحني له العالم، وينحني هو لي .
حملت ثيابها تتجهز للاستحمام، ثم توقفت تراقبه بشرود :
_ هل تعتقد أنني سأجد هذا الرجل في هذا العالم أم عليّ الذهاب لعالم موازي والحصول عليه ؟؟
أصدر لها موزي صوتًا لتبتسم وهي تهمس بمزاح متحركة صوب المرحاض :
_ نعم في العالم الموازي بالطبع ………
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتحرك بقوة صوب الخارج مندفعًا بشكل جعل الجميع يتخذ ساترًا بعيدًا عن عيونه، وقد تخلى أرسلان عن ثوبه الملكي وارتدي ثيابه المعتادة التي كان يخرج بها للحروب، ثياب سوداء يعلوها معطفه الاسود ذو شارة الأسد الذهبية والقلنسوة السوداء .
وفي الخلف كان يتبعه المعتصم بسرعة وهو ينظر له بقلق يراه يعتلي صهوة حصانه وهو يهتف بنبرة قوية :
_ تولى الأمور لحين عودتي يالمعتصم .
_ مولاي فقط تمهل ارجوك، حتى ….
ومنذ متى تمهل أرسلان أو فكر في شيء مرتين، تجاهل حديث المعتصم يتحرك بخيله بسرعة مرعبة وهو لا يرى أمامه سوى طريق يسابقه وكأن الأشجار تركض جوار خيله .
وعقله عاد لساعة من الآن حين كان يراقب تدريبات جيشه قبل أن يأتيه مرسول إحدى الممالك……….
تنهد أرسلان يراقب التدريب الذي يقوده المعتصم، ثم هز رأسه للجميع ليكمل، يتحرك هو بعيدًا عنهم كي يطمئن على باقي الأمور في المملكة، لكن لم يكد يتحرك خطوة حتى توقفت قدمه على صوت أحد الجنود يردد بجدية وصوت مرتفع بعض الشيء جذب انتباه الباقيين :
_ مولاي مرسول من سبز .
ضيق أرسلان ما بين حاجبيه بتعجب يتوقف في سيره يراقب الرجل الذي يقف خلف الجندي يحمل بين يديه رسالة مرددًا :
_ مولاي رسالة لك من ملك سبز .
_ الملك بارق ؟!
ردد أرسلان الاسم بخفوت متعجبًا حضور مرسول من سبز دون مقدمات، فهو بالفعل منذ اسبوعين تحدث مع ملك سبز ” بارق ” بنفسه واعلمه أنه سيزوره مع نهاية الأسبوع الثالث من الشهر للأتفاق على الغلال التي سيأخذها منه .
التقط منه الرسالة يمحو علامات التعجب التي علت وجهه :
_ اكرموا ضيفنا لحين رؤية رسالة الملك ومن ثم اااا….
قاطعه الرجل بشكل جعل أرسلان يرفع عيونه له بانتباه :
_ شكرًا لك مولاي، لكن الأوامر تقتضي أن أسلمك رسالة الملك ومن ثم أعود سريعًا، اشكرك والآن اسمح لي بالانصراف .
شعر أرسلان بالريبة من تصرفات الرسول الذي كان ينظر حوله بشكل مُقلق، وكأنه جاء يرتكب جريمة قتل أو ما شابه .
اقترب المعتصم من أرسلان الذي كان يراقب الرسول بأعين ضيقة مخيفة، توقف جواره يهمس بفضول :
_ من هذا ؟؟
_ مرسول من سبز
_ من سبز ؟؟ ما الذي يريده الملك بارق يا ترى ؟؟
فتح أرسلان الرسالة وهو يردد بجدية يحدق بها :
_ سنعلم الآن.
وبمجرد أن فتح الرسالة بدى الأمر كما لو أنه فتح أبواب الجحيم لتمر عيونه على الكلمات أمامه بسرعة كبيرة وقد اشتعلت عيونه بقوة وبشكل مخيف وارتسمت بسمة مريبة على فمه، بينما المعتصم في الخلف يقرأ كلمات الملك بارق بصدمة بالغة هامسًا بعدم تصديق :
_ ما الذي ….ما الذي يحدث هنا …ومن ….ماذا … أنا لا افهم شيئًا .
طوى أرسلان الرسالة بقوة حتى تقطعت بين أنامله وقد بدأت عروقه تنفر بشكل مخيف حتى كادت تنفجر هامسًا بجنون :
_ الويل لهم جميعًا …..
كان المعتصم يراقب رحيل أرسلان ليجذب خصلاته بقوة متخوفًا مما يحدث حوله، لقد فُتحت أبواب الجحيم على الجميع وقد استفزوا نيران أرسلان الخامدة .
_ الرجل كان يبحث عن متنفس لغضبه ونيرانه، وها قد أعطوه سببًا ليرينا أي مختل هو، أعان الله سبز ومن بها …
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في المساء ..
سبز تلك المملكة الهادئة المسالمة والتي كانت تحيا بعيدًا عن أي صراعات، بجبالها الخضراء ومساكنها البسيطة وأشجارها المتناثرة في كل مكان، بلاد وشعب وجدوا حياتهم في الزراعة فاختاروها مهنة أساسية للبلاد منذ قديم السنين، إلى جانب بعض المصانع القليلة التي تكفي بالكاد احتياجات الشعب من المواد المصنعة .
فجأة يقتحم تلك الصورة الهادئة لمملكة سبز عاصفة متمثلة على هيئة جسد رجولي يمتطي خيل ابيض اللون ينافي سواد ثيابه، يخفي ملامحه خلف قلنسوته المعروفة، يتقدم من حدود سبز بشكل مخيف كما لو أنه جاء لاحتلالها وحده .
انتفض جنود الحدود بعدم فهم يراقبون ذلك الخيل الغريب الذي يقتحم حدود البلاد، حمل أحدهم المنظار يردد بجهل :
_ من هذا الذي يقترب من الحدود بهذا الشكل الجنوني ؟!
اقترب من سور المراقبة جندي آخر يبدو ذو رتبة عالية ينتزع منه المنظار، ثم أخذ يدقق النظر في ذلك الجسد، يحاول التوصل بهويته قبل أن يأخذ أي إجراء مقاومة غير محسوبة تجاهه، ولولا شارة الأسد الذهبية التي التمعت يسبب انعاكس الشمس عليها، لما تعرف هؤلاء الجنود على هوية الزائر .
ارتفع صوت القائد يردد بصوت مرتفع لرجاله :
_ افتحوا الابواب يا رجال هذا ملك مشكى، الملك أرسلان .
وارسلان الذي كان قد وصل لبوابة الحدود وبعد ساعات طويلة من امتطاء خيله لم يتوقف فيها للراحة، رفع رأسه تزامنًا مع كلمات الجندي التي صدحت في الأرجاء .
توقف بحصانه بسرعة يلتقط أنفاسه، رحلة سفر استمرت ساعات لم يتوقف خلالها لحظة واحدة وكل كلمة قرأها في الخطاب تثير جنونه .
ثواني وابصر بوابة الحدود تُفتح له، وقائد الجنود يرحب به ببسمة واسعة :
_ مرحبًا بـ …..
ولم يعطه أرسلان فرصة لإكمال جملته حتى يندفع بحصانه للداخل بشكل مرعب جعل الجميع يفتحون أعينهم بصدمة يردد كلمات تلاشت مع الغبار الذي خلفه :
_ مرحبًا بك أيضًا…
اتسعت عين قائد الجنود يراقب تحركات أرسلان المخيفة ولولا أنه يمتلك تصريحه بالمرور وقتما يريد ولأنه ملك إحدى الممالك، لكان شك أنه جاء يعيث فسادًا في البلاد بهيئته تلك .
وفي الحقيقة كان شكه أقرب للواقع، إذ أن أرسلان في هذه اللحظة كان على استعداد ليحيل قصر سبز لرماد بنظراته، ولولا أنه يثق ببارق وبأن هذا الخطاب الذي وصله منه ربما يخفي خلفه أكثر مما يظهر، لكان أظهر لهم من الجحيم ألوانًا .
وبعد ساعة قضاها في طريقه للقصر تحت نظرات أهالي سبز المتعجبة من ذلك الفارس الذي يلتحف في الاسود، وصل واخيرًا صوب قصر سبز يطلب إذن الدخول :
_ أخبروا الملك بارق أنني اطلب مقابلته .
وما هي إلا دقائق وكانت ابواب قلعة سبز تُفتح أمامه بموجب السلطة الممنوحة لجميع ملوك الممالك الأربعة، تحرك أرسلان للداخل يهبط عن حصانه، يسلمه لأحدهم، ثم تحرك بهدوء بين الطرقات صوب المبنى الرئيسي للقلعة بأعين هادئة تخفي خلفها الكثير .
وهناك بالاعلى كان يقف من شرفة غرفته يراقبه ببسمة واسعة غامضة وقد علم أنه بمجرد استلام رسالته سيأتيه دون تفكير، ولم يخيب أرسلان ظنه، لكن العجب أنه جاء وحده وهو من تخيل أن شخص بتجبر وكبرياء أرسلان، بمجرد قراءته لتلك الرسالة سيهجم بجيوشه على القلعة.
يبدو أن المحنة التي مر بها علمت أرسلان الصبر …
أطلق ضحكات خافتة تزامنًا مع سماعه صوت الحاجب في الخارج يتحدث بصوت جهوري كي يصل له :
_ مولاي الملك أرسلان ملك مشكى يطالب بمقابلتك.
ضاقت عيونه وهو ما يزال يتأمل سبز بجبالها بهدوء :
_ استضفه في غرفة الاجتماعات لحين مجيئي .
ختم حديثه، يعود بنظراته صوب البلاد يردد بهدوء وبسمة واسعة يستند على سور النافذة :
_ فلنعلم أسد مشكى بعض الصبر، لا بد أنه يحطم القاعة الآن على رؤوس من بها …
وفي القاعة كان يجلس هو بهدوء شديد، هدوء عكس عواصفه الداخلية، وإن سألتموه عن سبب صبره وهذا الهدوء المنبثق منه في هذه اللحظة، سيخبركم أنه يختزن طاقة غضبه ليفجرها في الوقت المناسب .
أبصر أرسلان من أسفل رموشه رجل يتحرك داخل الغرفة يضع له بعض الفواكه والعصائر يبتسم له بتوتر، ثم قال بهدوء :
_ هل تود طلب شيء سيدي، اساعدك في احضار شيء معين ؟!
رفع أرسلان عيونه للشاب الذي تراجع للهلف بريبة من نظراته، قبل أن يبتسم أرسلان مرددًا بهدوء :
_ نعم رجاءً، أخبر الملك بارق أن هذا العنب والموز لن يصمدا طويلًا أمام غضبي، وأنني انتظر الغداء لتناوله معه .
فتح الرجل فمه ببلاهة وعدم فهم، يحاول إدراك ما يقصد أرسلان، بينما الاخير ابتسم بسمة صغيرة يشير له بعيونه أن يتحرك مرددًا بنبرة هادئة قدر الإمكان فهذا المسكين لا ذنب له ليخرج به غضبه :
_ تحرك يا بني وأخبر الملك بارق أنني لست بصبور لانتظر أكثر.
تحرك الشاب بسرعة للخارج، كي يتفادى نظراته التي بدأت تشتعل، بينما أرسلان اعتدل في جلسته يراقب المكان حوله بعين شادرة وهو يتذكر الكلمات التي خُطت في رسالة الملك بارق، كلمات لم تُحقّر من شأنه كملك فقط، بل وقللت من شأن مملكته وشعبه ..
شعر أرسلان بالدماء تشتعل في رأسه وهو يضغط على قبضتيه يحاول الصمود في وجه امواج غضبه كي لا تقتلع جذور صبره ..
ليقاطع كل أفكاره السوداء صوت صدح من أمامه:
_ مرحبًا بأسد مشكى، أنرت سبز …
رفع أرسلان رأسه بهدوء صوب المتحدث ليبتسم له بسمة صغيرة، ثم هز رأسه هزة مرحبة يجيب بكلمات مقتضبة :
_ مرحبًا بك أنمار، أين الملك بارق ؟!
تحدث أنمار وهو يتحرك داخل الغرفة يراقب ما يقبع أمام أرسلان مستاءً، يجلس على المقعد المقابل له :
_ أرى أن ضيافتنا لم تنال اعجابك أرسلان .
رفع أرسلان حاجبه وهناك بسمة متجهمة ارتسمت على فمه مرددًا باستنكار :
_ أرسلان ؟!
_ نعم أوليس باسمك ؟؟ اعذرني فآخر عهدي بأخبارك أن اسمك كان أرسلان .
ضحك أرسلان ضحكة صغيرة يجيبه بهدوء وهو يتناول بعض حبات العنب يحركها بين أنامله بهدوء :
_ لا عتب عليك، أنا اعذرك، فمن أين لك بأخبار الرجال والحروب، وأنت تقضي يومك بين الأسواق والاحتفالات الموسمية لكم، أنمار ؟؟ أعانك الله .
اشتعلت أعين انمار الذي شعر بالإهانة مستترة بين كلمات أرسلان، لكنه تجاوز عنها يجيب بهدوء :
_ أخبروني أنك طلبت مقابلتي ؟؟
رفع أرسلان عينه عن حبات العنب يجيب بهدوء :
_ وما حاجتي بك ؟؟ أنا جئت لمقابلة الملك بارق، تحرك وأخبره أنني في انتظار أنمار فلا وقت لي اضيعه على تُرّاهاتك …
اتسعت بسمة انمار بشكل لا يلائم الإهانة التي وُجهت له منذ قليل، يتراجع على المقعد الخاص به، يضع قدم أعلى الأخرى بشكل أثار انتباه أرسلان الذي راقب قدمه التي رفعها في وجهه بسبب قرب المقاعد، رفع عيونه ببطء صوب انمار الذي أردف بهدوء :
_ يبدو أن رسالتي وصلت لك ولهذا السبب أنت هنا، جيد أنك أسرعت في المجئ، فكلما اسرعنا في مناقشة هذا الأمر كان افضل لي ولك .
كانت عيون أرسلان ما تزال معلقة على قدم أنمار الذي ما يزال يرفعها أمامه بكل تبجح، ولم يجبه بكلمة واحدة .
رفع أنمار حاجبه يبتسم بخبث :
_ إذن ما رأيك فيما ذكرت لك في الخطاب ؟؟
والإجابة من طرف أرسلان كانت صمت تام، لم يتحدث بكلمة واحدة مما جعل أنمار ينظر له بعدم فهم، لينتبه إلى نظراته المشتعلة على قدمه، اعتدل بتوتر غير مقصود منه يتنحنح بصوت منخفض :
_ لقد رأيت أن الأمور يجب أن تُوضح كي يدرك كلٌ واجبه، سبز ليست ملزمة على أن تجود بخيراتها على شعبك وبلا مقابل، نحن لا نوزع صدقات هنا ملك أرسلان، هذا تعب شعبي ومجهود سنة، نحن لن نتصدق بربع انتاج سبز على شعب مشكى هذا ليس عادلًا وأنت تعلم هذا، لذا كما أوضحت لك في الخطاب نحن سنتلقى نصف السعر قبل شحن الغلال والنصف الآخر حين تسليمه لمشكى، فقد اكتفينا من أعمال الخير، ما ردك؟!
كان يتحدث بكل هدوء وجدية وهو ينظر صوب أرسلان الذي يراقبه دون ردة فعل واضحة منه، وحينما انتهى من الحديث ابتسم له أرسلان بسمة صغيرة لا معنى لها :
_ أنت حقًا لا تريد سماع ردي صدقني .
توتر أنمار من كلماته يدرك تمامًا أنه ضغط على زر انفجار أرسلان حين اقترب من كبريائه كرجل قبل أن يكون ملك :
_ بلى، أريد سماعه .
ابتسم أرسلان ثواني قبل أن يميل ببطء ينزع حذاءه، تحت نظرات أنمار المتعجبة، وقبل أن يتحدث بكلمة يفهم بها ما يفعل أرسلان كان حذاء أرسلان يصطدم بوجهه في صفعة قوية يبصق كلماته في وجهه :
_ والله لو علم حذائي أن مصيره سيكون لمس وجهك، لتمنى أن تفنى حياته كقطعة جلد قذرة في الوحل ممزقًا أكرم له .
شعر أنمار بإهانة كبيرة جعلت جسده يتيبس دون القدرة على النطق ومازالت الضربة على وجهه تنبض بعنف، أما عن أرسلان فانطلق يجذب ثيابه وقد فلت عقال صبره يردد من بين أسنانه :
_ لم أعتد التحدث في أمور الممالك والبلاد مع الصغار، لذا سأكون ممتنًا لك إن رحلت وارسلت لي الملك بارق، وايضًا زوجتك ستكون ممتنة لأن تعود لها سالمًا …..أنمار .
انتفض جسد أنمار انتفاضة قوية وهو يثأر لكرامته التي التصقت بباطن حذاء أرسلان :
_ ما الذي ترمي إليه بحديثك ملك أرسلان، هل تهددني ؟!
_ لو كنت تعلمني علم اليقين لادركت أنني لا اهدد، أنا أنفذ ما افعل دون تحذير أو تهديد، أنا فقط اشفق عليك من غبائك ورعونتك، أنت لن يعجبك أن اجيبك الجواب اللائق على حديثك؛ لذا تحرك وأرسل لي ملك البلاد أنمار…
رفع أنمار رأسه بتكبر يجيب :
_ أنت بالفعل تتحدث معه.
رفع أرسلان حاجبه بعدم فهم ليبتسم له أنمار ملقيًا بقنبلته :
_ لقد تعرض الملك بارق لنوبة صحية جعلته طريح الفراش وحسب الأعراف والقوانين، أنا من ينوب عنه، لذا أنت الآن تتحدث مع ملك سبز، ومن اليوم وصاعدًا سيكون التعامل بيننا مختلفًا عما كان أيام الملك بارق، فذلك الرجل الطيب كان يخجل مطالبتك بثمن ما تأخذه من خير سبز، لكن أنا لا، البلاد ستسير بنظام آخر، واول حجر وضع لذلك النظام هو وضع حدود لك ولمملكتك أرسلان……
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تجلس على سجادتها والهدوء يحيط بها من جميع الاتجاهات، سارحة في ملكوت آخر غير واعية لما يدور حولها ولا لموزي الذي اجار على كل الفاكهة التي أحضرتها فقط تدعو وتبتهل الله ألا تكون الوحدة مصيرًا أبديًا لها، وأن يرزقها الله بمن يؤنس حياتها .
ختمت دعائها على رنين جرس الباب لتنتفض وهي تردد بصوت مرتفع :
_ آتية .
ولم تكد تنهض بما ترتدي حتى داست بالخطأ على طرف صوب الصلاة الخاص بها ” الاسدال” لتسقط مجددًا وبعنف شديد على وجهها تطلق تأوهات عالية جذبت انتباه من بالخارج .
إذ جاءت السيدة خان مع راجيش بعد ساعة من إقناعها بالاعتذار عما قالت، كانت تنفخ وتزفر بعدم رضا أمام الباب تردد بسخرية :
_ لم أتوقع أن أحيا لليوم الذي تُقاد به والدة الزوج لتعتذر لكنتها .
اتسعت عين راجيش بصدمة، كنتها ؟! ماذا كان يفعل طوال الساعة المنصرمة إذن ؟؟ هذه المرأة ستصيبه بالمرض والشيخوخة المبكرة :
_ كنة من يا امي ؟؟ ماذا أخبرتك أنا ؟! أي كنة هذه والفتاة تــــ
وقبل إكمال كلماته سمع الجميع صوت تأوهات وصرخة سول تأتيهم من الداخل لتطلق والدته شهقة مرتفعة تدفع راجيش صوب الباب مرددة :
_ اقتحم المنزل، حطم الباب واندفع لتنقذ الفتاة بسرعة، منحك القدر فرصة للتقرب منها ايها الأحمق فلا تضيعها .
_ أحطم ماذا امي ؟؟ هل تمزحين معي ؟! توقفي عن مشاهدة افلامك هذه، لا يوجد في هذه الحياة الواقعية مثل تلك التراهات .
شهقت السيدة خان بصوت مرتفع تخفي أذنها وكأنها تأبى سماع المزيد من كلماته السامة لها والمرفوضة تمامًا تبتعد عنه متراجعة صوب المنزل الخاص بها :
_ لا أصدق أن تلك الأحاديث تخرج منك راجيش، لا أصدق لقد خذلتني حقًا، يا الله رحمتك .
راقبها راجيش بعدم فهم لتلك الأفعال المبالغة التي تصدر منها، ثم نظر لباب منزل سول ثواني حيث عم هدوء مفاجئ، قبل أن يركض صوب والدته بغيظ :
_ أمي عودي هنا لنعتذر إلى الفتاة …
بينما في الداخل كانت سول قرب الباب على وشك فتحه، قبل أن تصل لها المحادثة الخارجية لتتنفس الصعداء، فهي لم تكن في مزاج يسمح لها بمعاملة السيدة خان بكل تعقيداتها الآن.
تنفست بصوت مرتفع تستدير صوب المطبخ الخاص كي تحضر بعض الطعام لها، لكن فجأة توقفت حين أبصرت موزي يحمل مزهرية والدها المفضلة والتي كان يعاني بأزهارها طوال الوقت .
_ موزي ما الذي تفعله ضع هذا ارضًا كي لا يتحطم .
أصدر القرد عدة اصوات عالية وهو يضم له المزهرية، ثم تحرك بها صوب الأريكة يقف عليها يرفعها عاليًا وكأنه على وشك قذفها، لتتسع أعين سول تصرخ به :
_ لا يا سيد، أنت لن تفعل هذا، أقسم أن احرمك من الطعام ليوم كامل موزي، دعها، دعها ارضًا، لا ادري ما سبب أفعالك هذه منذ أيام، هيا اتركها ارضًا أيها القرد الاجرب الحقـــ
وقبل إكمال جملتها كان موزي ينفذ أوامرها بالفعل ويتركها ارضًا، لكن يبدو أنه نفذها بطريقته هو إذ تركها تطيح من بين أنامله لتتحطم إلى أشلاء جعلت أعين سول تتسع تباعًا وضربات قلبها تتوقف لثواني ووجهها يشحب تنبس بذهول :
_ ما …ما الذي ….ما الذي فعلته ؟! هذا كان عزيز على قلب والدي، ما الذي فعلته ؟!
سقطت دموع سول تراقب أشلاء المزهرية ارضًا بوجع كبير تنحني ارضًا لا ترى من بين دموعها تتلمس اشلائها التي ما تزال تحتفظ بذكرى لمسات والدها الغالي، سقطت دموعها أكثر وهي تبكي بوجع تجمع القطع المتناثرة :
_ لماذا موزي ؟! لقد كان آخر ما تبقى من أبي لماذا فعلت هذا ؟!
ارتفع صوت بكائها أكثر ليقترب منها موزي بتردد وهي فقط تبكي، تبكي فقدان والديها، تبكي وحدتها التي جعلتها عاجزة عن الارتماء في احضان أحدهم وإفراغ بكائها بها .
اقترب منها موزي يصدر اصواتًا جعلتها تصرخ بجنون في وجهه :
_ ابتعد عني أيها القذر قبل أن اقتلك، أخرج من هنا هيا، أرحل سأبقى وحدي، هيا ارحل، هذا خطأي، كان عليّ رميك في الطرقات منذ فترة طويلة .
نهضت بعنف وغضب كي تنفذ كلماتها تتحرك صوبه، ليهرب القرد منها في المنزل يصعد على الأثاث هنا وهناك وبين أنامله شيء معدني اسود ألقاه على وجه سول بعنف يدافع به عن نفسه لتتأوه الأخيرة تطلق سبات عديدة وهي تحمي عيونها :
_ لقد تجاوزت حدودك أيها الحقير اقسم أنني سأفرغ احشائك واحشوك قطنًا والقي بك في ملجأ اطفال يعيثون بجلدك الفساد ومن ثم الا…..
توقف عن الحديث فجأة حين أبصرت ما رماها به موزي قرص مدمج صغير جعلها تنحني ببطء تلتقطه بتردد لترتجف أناملها حين تعرفت على الخط الذي يزينه، كان خط والدها وقد كتب على القرص اسمها ..
ارتجفت تقرأ الكلمة التي زينت القرص أسفل اسمها بخط صغير ” وصيتي ” ……
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
_ ربما كان عليّ ارسال مرسول لسفيد وطلب النجدة من القائد والملك، لقد أخطأت حين تركته يذهب وحيدًا .
كانت هذه كلمات المعتصم الذي وقف في منتصف الساحة يراقب السماء وقد مرت ساعات منذ رحل أرسلان ولم يعد حتى الآن، يا الله يخشى سقوط مشكلة أعلى رؤوس الجميع في لحظة غضب من أرسلان .
سمع صوتًا خلفه لأحد المستشارين يردد بهدوء يحاول بث الطمأنينة بصدر المعتصم الذي يتعامل الآن كأم تأخر ولدها عن العودة قبل الغروب :
_ لا تقلق معتصم هو سيكون بخير، الملك يستطيع التعامل مع الجميع بطريقته .
استدار له المعتصم يتحدث بغيظ شديد يرفع إصبعه في وجه الشاب والذي كان يعمل طبيبًا في العاصمة قبل أن يستدعيه أرسلان ليترأس مشفى القلعة الرئيسية :
_ اولًا اسمي المعتصم وليس معتصم، ثانيًا أنا لست خائفًا على الملك، أنا خائفٌ منه، هناك فرق، أخشى أن يحيل سبز لرماد، هذا خطأي ربما كان عليّ التحدث مع الملك إيفان ليدركه فهو من يستطيع التعامل مع نوباته جيدًا .
فرك الشاب والذي كان يُدعى ” زيان ” وجهه يتنهد بحنق مرددًا بصوت منخفض حانق :
_ لقد أصبحت متعجرفًا كالملك لكثرة مرافقتك له .
استدار له المعتصم يرمقه بغضب وقبل أن يتحدث بكلمة صدر صوت أحد الجنود يردد بجدية :
_ سيدي هناك من جاء لمقابلة الملك لأمر هام ..
رفع المعتصم يديه في الهواء بقلة حيلة وعصبية غير مبررة :
_ وأين هو الملك ها ؟؟ هل ترى الملك بيننا ؟!
تراجع الجندي للخلف متعجبًا حالة المعتصم الغريبة عليه وهو كان الرجل الهادئ المسالم، يقسم أنه جاءهم من سفيد راقيًا هادئًا مسالمًا، لكن يبدو أن التأثير السلبي لمشكى وملكها تفشى داخله بسرعة البرق .
فجأة ومن بين صرخاته أبصر المعتصم رجلًا يبدو في بداية الخمسينات من عمره يظهر على وجهه الإرهاق الشديد :
_ أنا فقط جئت اسلمه رسالة هامة وسأرحل .
مسح المعتصم وجهه يهتف بصوت خافت غير مسموع :
_ ترى أي كارثة تحملها هذه الرسالة .
رفع صوته متسائلًا :
_ رسالة من من ؟!
تحدث الرجل بصوت حزين وهو يمدها له :
_ هذه وصية من رجل كان قريبًا للملك، أراد أن يتم تسليمها له بمجرد رحيله عن هذه الحياة، لكن وبسبب بعض الظروف لم استطع المجئ وتسليمها مباشرة بعد موته .
نظر له المعتصم بهدوء يحاول فهم ما يقول :
_ وصية ؟؟ وصية من ؟؟ وما الذي تتحدث عنه ؟! من تقصد ؟؟ وأي نوع من الوصايا هي وما هي علاقة الملك بوصية الرجل ؟!
نظر الرجل له نظرات غامضة جعلت المعتصم يشعر بالريبة ويتأكد ظنه أن هذه الرسالة تحمل لملكهم كارثة ثانية، لكن ستكون كارثة من نوع آخر……..
ــــــــــــــــــــــــــــــ
بداية الحرب ومن يدري كيف تكون نهايتها .
فالحرب لم تنتهي بعد والفوز مصير حتمي.
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية أسد مشكى)