رواية أسد مشكى الفصل الثاني 2 بقلم رحمة نبيل
رواية أسد مشكى الفصل الثاني 2 بقلم رحمة نبيل
رواية أسد مشكى البارت الثاني
رواية أسد مشكى الجزء الثاني
رواية أسد مشكى الحلقة الثانية
صلوا على نبي الرحمة .
ـــــــــــــــــــــــ
” أعلم أنني لم أكن الأب الذي تتمنينه في الكثير من الأوقات، وكذلك لم أكن الأخ أو الابن الذي قد يتمناه إنسان في حياته، لم أفلح في أي دور عدا دور العاشق والزوج، الدور الوحيد الذي أجدت لعبه في حياتي هو دور العاشق لوالدتك، المرأة التي كنت على استعداد للتخلي عن حياتي مقابل سعادتها، المرأة التي تخليت عن عالمي وحياتي وقيمي فداءً لعينيها، انغمست في عالمٍ ليس بعالمي وحياة ليست بحياتي، انغمست ونسيت ما عشت عليه وتربيت عليه، نسيت قيمي وحياتي ونسيت أن أعلمك ذلك، اهتممت فقط بتسجيل كلمة مسلمة في اوراقك الشخصية ونسيت أن أعلمك معنى أن تكوني ”
خرجت تنهيدة عميقة من صدر ذلك الرجل صاحب الملامح المليحة، يرفع عيونه الممتلئة بالدموع للشاشة يردد بحسرة وندم :
” نسيت نفسي وظننت أن صلاتي وقربي من ربي يكفيان، ولا يهم ما يحيط بي، رأيت المنكر ولم استنكره، ألفت الحرام رغم إني لم اقربه، أبيت أن أُحزن والدتك إن اجبرتك على ثياب تخفيكِ عن الأعين، تركت لها حرية نشأتك طالما أنني سجلتك تحت لقب مسلمة، أصمتُ ضميري برؤيتك تصلين فروضك واقنعت نفسي أنني اديت رسالتي وعدت للاستمتاع بحياتي مع والدتك تاركًا لها حرية تعليمك، وانظري أين أنا الآن؟؟ رحلت والدتك وتركتني وحدي، رحلت وبقيت أنا، بقيت لادرك أنني أضعت حياتي سدى وركضت خلف الفناء ونسيت الحي الذي لا يموت ”
صمت يمحو بعض الدموع، ثم تنهد بصوت مرتجف يكمل حديثه :
” لا تسيئي فهمي وتظنين أنني ألقي بكامل الذنب على والدتك، فوالله ما رأيت منها شرًا يومًا، بل والله يشهد أنها كانت ونعم المرأة، أنا فقط المخطئ هنا أنني خفت التحدث واغضابها، لم أجرب حتى لأعلم إن كانت قد تقبل نصيحتي، والدتك امرأة لو عاد بي العمر مرات لاخترتها دون تفكير، لكن كنت سأصلح ما أفسدته، رحلت والدتك وتركت لي حياة فارغة باهتة دونها، وإن كنتِ تسمعين حديثي الآن فهذا يعني أن الله كان بي رحيمًا والحقني بها، وكل أمل أن أفعل بعدما أكفر عن ذنوبي واعيدك للطريق الذي حدت أنا عنه ”
ثواني عم بها صمت طويل جعل أعين سول تدمع أكثر وهي تراقب والدها بحسرة تتذكر بعد موت والدتها وكيف تحول والدها، أصبح لا يفارق سجادة الصلاة، بل وكان يصر على أن يؤدي فروضه في المسجد، وقد عكف في آخر شهرين على تحفيظها ما تيسر له من القرآن، كانت تشعر كما لو أن والدها استيقظ من سبات عميق، اشرق وجهه ورأت به نورًا لم تبصره طوال الست والعشرين عامًا التي عاشتهم، ابتسمت من بين دموعها وهي تراقبه يهمس لها ويكمل باللغة العربية التي علمها إياها خصيصًا لتكون قريبة منه ويشعر بالألفة :
” إن كنتِ تسمعين حديثي هذا، فهذا يعني أنني رحلت، وأنكِ الآن وحيدة، لكن يا ابنتي لن يدوم الأمر طويلًا، اعلم أنني قديمًا ظلمتك حين ألقيت بكِ بين امواج الحيرة والتشتت، بين حياتك كفتاة مسلمة، وعيشتك كفتاة غربية، لكن نحن لسنا كذلك، لا أنا كذلك ولا حتى أنتِ، نحن لا ننتمى لهنا يا ابنتي، نحن ننتمى لعالم آخر، هناك حيث ستجدين روحك المفقودة، عودي لعالمك وعيشي بين من يشبهك، لا تسمحي للقذارة بالتغلغل داخلك، ولا تقاوميه سيري مع الموجة، اوصيكِ بنفسك خيرًا يا ابنتي، اوصيكِ بروحك، سلميها لمن يعتني بها، عودي لمشكى يا ابنتي ….”
ومن بعد تلك الكلمات انقطعت الصورة ولم يصدر شيء سوى صوت تشويش يعلن نهاية المقطع المصور وهي فقط تراقب الشاشة بدون فهم، ما الذي يقصده والدها ؟! تعود لمن ؟؟ ولأين ؟؟ و…مشكى ؟؟ ما الذي يقصده بهذه الكلمة يا ترى، وأين سمعتها من قبل ؟؟؟
كان عقلها يدور في دوائر مغلقة تشعر بالحيرة وهي تبحث في ذاكرتها عن تلك الكلمة التي تكررت على مسامعها كثيرًا و…
فجأة شعرت بكتاب يُقذف في وجهها بقوة لتسقط للخلف مطلقة صرخة موجوعة وسباب مرتفع، ولم تكد تعتدل في جلستها لتنفذ تهديدها لذلك القرد حتى أبصرت ما اصطدم في وجهها والذي لم يكن سوى مجلد اسود اللون خُط عليه بأحرف فارسية كلمات تدركها جيدًا، وكيف لا وهي تعلم أن والدها عربي إيراني من أصل فارسي – كما أخبرها – أم لا ؟!
تحركت عيونها على الكلمات وقد بدأ نبض قلبها يزداد بشدة تنطق بصوت منخفض :
_ خاطرات من در وطنم ( مذكراتي في وطني ) …
رفعت سول عيونها بتردد صوب موزي الذي كان يراقبها برضى بعدما اوصل ما يريد لها كما أمره والدها مئات المرات ودربه .
_ حسنًا موزي هذا لا يبدو مبشرًا تمامًا .
أصدر موزي اصواتًا صاخبة وكأنه يشاركها اللحظة لتردد هي بصوت خافت :
_ يبدو أن والدي أشفق عليّ من رتابة الحياة بعده، فترك لي ما يزيد من حياتي إثارة، وليست أية إثارة، أخشى أنني لن احب ما سأراه …
صمتت ثم همست بفضول وهي تقلب المذكرات بين أناملها :
_ ترى ما الذي تخفيه هذه الصفحات عني ؟؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
_ والدك .
اتسعت عيون أنمار بصدمة من الرد الذي لم يتوقعه، انتظر غضب وصراخ وانهيار وربما جزء مريض غبي خيالي داخله هيأ له أن أرسلان ربما يتوسله حتى لو في أحلامه .
لكن كان رد أرسلان عليه كلمة واحدة أصابته بالحيرة قبل أن يوضح الاخير ما يقصد :
_ رحمة الله على والدك، جيد أن الله قبض روحه قبل أن يبصر عاره بعيونه، أنت ……….
صمت ثواني ثم قال بعجز وضيق وهو يمرر يده على وجهه يتنهد بصوت مرتفع :
_ اعذرني فلا أجد حديث لبق اجيبك به، وكل ما يدور في عقلي الأن كلمات لا تلائم مكانتي ولا تناسب عمرك، لذا حين أجد ردًا أكثر احترامًا عما يدور في رأسي سأرسله في خطابٍ لك .
اشتد غضب أنمار وهو يراقب تحرك جسد أرسلان بعيدًا عنه دون رد واضح على الخبر الذي ألقاه على مسامعه منذ ثواني، لا رد، لا إجابة شافية لصدره .
بينما أرسلان فقط لم يأخذ حديثه بشكل جدي، إذ تحرك للبحث عن الملك بارق بنفسه والتحدث معه عما يحدث، يبارك لنفسه رده اللبق، ها هو بدأ يخطو خطوات جيده في تقويم نفسه كما نصحه إيفان، أوه ليأتي رفيقه العزيز ويرى الأخلاق التي أضحى يتمتع بها، لكن فجأة توقفت أقدامه حين وصل له صوت ذلك الحقير زوج ابنته للملك بارق :
_ صدقني أنت لست في موضع قوة لتتجبر وتسخر وتتصرف بهذه الطريقة، عليك تعلم الرد والتحدث على قدر مكانتك أرسلان .
توقف أرسلان عن التحرك، ثم استدار ببطء يردد ببسمة واسعة وانبهار :
_ أحسنت، صحيح، هذه هي الجملة التي كنت أبحث عنها في عقلي لاخبرك بها، عليك تعلم الرد والتحدث على قدر مكانتك يا حقير .
صمت ثم أضاف ببسمة فخورة :
_ اضفت عليها بعض اللمسات المميزة الخاصة بي، اتمنى ألا تمانع ذلك .
ختم حديثه ثم استدار وفورًا انمحت بسمته يتحرك في ممرات القصر ومعطفه الاسود يتطاير خلفه، يتجاهل الجميع، حتى وصل لجناح الملك بارق ولم يكد يطلب الأذن بالدخول حتى أبصر جسدًا انثويًا يخرج منه ..
تراجع أرسلان سريعًا للخلف مخفضًا رأسه ارضًا كي تمر مرددًا بصوت خافت :
_ هل الملك بارق متفرغ لمقابلتي ؟؟
رفعت الفتاة عيونها صوب المتحدث لتتفاجئ بجسد أرسلان، ابتلعت ريقها بتوتر وهي تهمس بنبرة شبه مرتجفه كأرتجاف سائر جسدها وقلبها :
_ هو … أبي ليس …هو ليس بخير هذه الأيام .
عقد أرسلان حاجبيه يرفع رأسه في لمحة سريعة ليتأكد أنها هي نفسها، قبل أن يخفضها حين أدرك هويتها :
_ أميرة توبة، السلام عليكم .
وكانت الرجفة في هذه اللحظة من نصيب قلبها الذي رقص سعادة حين وصلت أحرف اسمها محملة بصوته ونبرته التي تقتلها، كتمت تنهيدة شوق داخل صدرها بصعوبة :
_ عليكم السلام ملك أرسلان، لقد … أبي هذه الأيام ليس بخير .
تنهد أرسلان وهو يرفع رأسه لها يردد بهدوء :
_ إذن ما قاله أنمار صحيح ؟؟
وكأن ذكره لاسم زوجها صفعها ليفيقها وتشعر بفداحة افكارها، وحقارة عقلها الذي أبى نسيان حبيب طفولة بعيد عنها بعد المشرق والمغرب، ابتلعت ريقها تشعر بالكره لذاتها، للحظة ضعفها حين رؤيته وسماع صوته بعد كل هذه السنوات وهي من عوّدت قلبها على البعد :
_ ما الذي قاله أنمار ؟!
_ أنه الملك الحالي .
رفعت عيونها له بصدمة تردد بشراسة :
_ ملك ؟! ملك ماذا ؟؟ أبي ما يزال حي يُرزق، ما الذي تقوله أنت ؟؟
رفع أرسلان عيونه لها يتعجب هجومها عليه رغم استياءه لتحدثها معه بهذه النبرة، لكن باعتبارها امرأة، وإكرامًا لوالدها، فقد نجت من لذاعة لسانه :
_ لست أنا من قال، بل زوجك، يخبرني أن الأمور ستكون بين يديه هذه الأيام بسبب حالة الملك الصحية .
توتر جسد توبة من كلماتها، هي ليست في وعيها وإن وقفت ثانية إضافية أمامه سوف اتحدث بما لا يجب الافشاء به :
_ أبي يمر بوعكة صحية جعلته طريح الفراش و…هو لا يشعر حاليًا بشيء حوله، لذا …جميع امور الدولة أنمار من سيتولاها، لكن هذا لا يعني أنه الملك .
لم يهتم أرسلان بكل ما يحدث وقد أدرك أن القادم لن يكون سهلًا لتحكم الحقير أنمار بكل شيء، كل ما اهتم به في هذه اللحظة هي كلمات توبة حول حالة الملك بارق، اهتز صدره بخوف يردد :
_ يمكنني رؤيته ؟؟
هزت توبة رأسها وهي تتحرك بعيدًا عن الباب تسمح له بالمرور، وهو تحرك دون كلمة واحدة أو حتى يرفع عيونه لها، ولم ينتبه لنظراتها التي لحقته، قبل أن تتحرك بعيدًا تستغفر ربها وصدرها يرتجف .
أرسلان حب حياتها مذ كانت طفلة، أحبته وكبتت مشاعرها داخلها، تشفق على حالها أن تعصى الله لأجل نظرة خاطئة، حفظت ذاتها لأجله، لأجل أن يجمعها الله به بالحلال، ولم يحدث، انتظرت وانتظرت ولم يكن حتى يرفع عيونه بها بالخطأ، تجنبها كما يتجنب جميع النساء، لتدرك في النهاية أنها ليست مميزة لديه، وأن شأنها شأن كل النساء عنده .
كان أبعد من السماء عنها، لذا رضخت للأمر الواقع وتزوجت أنمار، مستشار والدها الوسيم الذي بذل الغالي والنفيس ليحظى بها، لتتعهد له بالاخلاص، إذ عزلت ذاتها عن كل ما قد يشينها، لكن الآن وقد عاد ما سعت للهروب منه عادت كل المشاعر لها، لتصيبها بحالة اشمئزاز من ذاتها .
في غرفة الملك بارق .
تحرك للداخل بهدوء وكأنه يخشى أن تزعج اصوات خطواته راحة الملك بارق، وصل للفراش يميل عليه ببطء، ثم طبع قبلة على رأسه، ومن بعدها قبل يده باحترام وحب :
_ شفاك الله وعفاك عم بارق، ليبعد الله عنك كل مكروهٍ .
جلس على المقعد أمام الفراش يراقب ملامحه الشاحبة بحزن شديد لا يدرك ما حدث له، هو كان يعلم عن مرضه المزمن، لكن ليس لدرجة أن يجعله طريح الفراش بهذا الشكل وقد حسب أن الأدوية تؤتي ثمارها في تحسن حالته .
مال أرسلان على الفراش يضم كف بارق بين كفيه هامسًا :
_ عسى ألا يريني الله بك سوءًا، لست في حالة تسمح لي بعيش مأساة فقد أخرى يا عم .
تنهد بصوت مرتفع هامسًا :
_ خذ راحتك وخذ وقتك لكن لا تتأخر وتتركني مع زوج ابنتك القذر هذا، كي لا تستيقظ وتجده مقطعًا لاشلاء، أنا لست بالحُلم الذي يجعلني اتحمله طويلًا، لذا عد سريعًا رجاءً….
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أجواء صاخبة وموسيقى تكاد تصيب الأصم بصمم مضاعف، اضواء حمراء تصيب الضرير بوجع في عيونه، نساء تتحرك بين أذرع الرجال، ورجال تدور عيونهم على الأجساد الشبه عارية حولهم، هذه الأجواء التي تجعلك تشعر أنك سقطت بالخطأ في الجحيم، أجواء لم تكن تناسبها ولا تشبهها البتة وهذا ما جعل جسد سول يتوقف عن التحرك حينما طلب منها النادل أخذ كعطفها الذي يخفي أسفله ثوبها الرسمي المعتاد .
رفعت عيونها له تراه يبتسم لها بسمة رسمية ساحرة هامسًا بلباقة :
_ معطفك سيدتي الجميلة .
وتبع حديثه بامتداد يده لنزع المعطف الخاص بها، لولا أن ضربت سول يده الممتدة بعنف تهتف له بتحذير :
_ يدك عن معطفي أيها الـ …
وقبل أن تكمل كلماتها قاطعها وصول لود الذي بمجرد أن لمح وجودها حتى هرول لأخذها :
_ أوه سول جميلة جميلات سجون البرازيل بأكملها، انرتي المكان حبيبتي .
رفعت سول عيونها صوب لود تجيب بضيق واختناق :
_ لم تذكر لي أن الحفل في الجحيم لود، ما بئر المعاصي هذا، هل تمزح معي ؟؟
شحب وجه لود بقوة ينظر حوله بسرعة يتأكد أن لا أحد سمع كلماتها، ثم اقترب منها يقول ببسمة صغيرة يحاول أن يلملم ما بعثرته من كلمات وقحة، وكم تمنى ألا تأتيهم بشخصيتها هذه، فهو يفضل سول الرقيقة بائعة الورود أكثر في مثل هذه المواقف .
_ حسنًا عزيزتي في البداية اعطني هذا المعطف ومن ثم سأشرح لكِ كـ …
وقبل أن تمتد يده لها صرخت في وجهه بغضب بدأ يشتعل رافضة أن تخطو لمثل هذا المكان وتغرس نفسها في كل هذه المعاصي :
_ لعنة الله على معطفي، ما مشكلتكم مع معطفي يا قوم ؟؟ ثم دعك منه وأخبرني ما هذه القذارة التي تسميها ظلمًا حفلة ؟؟ وهؤلاء المخنثين الذين يتمايلون يمينًا ويسارًا، لا تخبرني أنهم أنفسهم من احضرتني لاقابلهم .
ابتلع لود ريقه سريعًا يحاول التماسك وهو يقترب منها يحاول أن يسترضيها ويخفف من غضبها، ومن ثم يأخذها لتتعرف على الجميع في الداخل :
_ سولي حبيبتي أنا….
رمقته سول بشر وقبل صدور كلمة واحدة منها ردًا عليه قاطعهم صوت نسائي من الخلف يردد :
_ لودي عزيزي ما بالك انسحبت قبل إكمال حديثنا ؟؟ ما رأيك لو نكمله فوق .
اتسعت أعين سول تستدير صوب لود الذي نفى برأسه سريعًا يفتح فمه لتبرئة نفسه، لكن الفتاة كانت كمن أقسم على تلويث ما تبقى من صورته النظيفة في عيون سول :
_ لقد حضرت لك شرابك المفضل افخم أنواع الشمبانيا هنا .
شهقت سول بصوت مرتفع تهمس بعدم تصديق :
_ شمبانيا ؟؟ خمر يا خالد ؟!
ابتلع خالد ريقه يحاول أن يتحدث لكن الفتاة اقتربت منه تضم ذراعه مرددة بدلال :
_ من هذا خالد لودي ؟! ماذا تقول هذه الفتاة ؟؟
بللت سول شفتيها، ثم تراجعت للخلف بملامح منكمشة مشمئزة، تهز رأسها بيأس منه وقد انغمس رفيق الطفولة في المعاصي وغرته الحياة القذرة التي ولد بها رغم انتمائه لعائلة محافظة .
وقبل أن تتحرك خطوة بعيدًا عن باب منزل النخاسة هذا قاطعها وصول أحد الرجال، ذوي البذلات السوداء والملامح القاسية كزعماء المافيا، يدور بعيونه عليها بشكل جعل جسدها يرتجف وهي تعود للخلف بريبة من نظراته مرددًا بجدية ونبرة عابثة :
_ لا تخبرني أن تلك الفاتنة هي نفسها سول يا لود، لو كانت كذلك فأنا على استعداد لتمويل المتبقي من حياتها على نفقتي الشخصية وليس فقط مجرد بحث .
مالت رأس سول وهي ترمقه بملامح متشنجة تشعر أنها تقف أمامه عارية بسبب نظراته تلك، ضغطت باسنانها على شفتيها كارهة خالد وما فعله ليضعها بمثل هذا الموقف القذر :
_ اشكرك يا سيد لا حاجة لي بتمويلك احتفظ به لنفسك واحتفظ بعيونك في وجهك كي لا افقأهم لك .
تبعت حديثها بالتحرك بعيدًا عنهم، لكن ذلك الرجل لم يكن ليقبل رحيلها بهذه السهولة، ليس بعدما نالت إعجابه، سارع يمسك يدها يجذبها بقوة لاحضانه مرددًا بصوت خافت أجش :
_ إلى أين يا جميلة، لم تبدأ الحفل بعد .
لم تستوعب سول مايحدث إلا حينما وجدت نفسها بين احضان ذلك الرجل، اتسعت عيون خالد بصدمة وقد أحمر وجهه غضبًا، ولم يكد يتحرك ليبعده عنها، حتى وجد سول تعود برأسها للخلف وبكل قوتها اندفعت بها تضربها في خاصة الرجل وتحديدًا منطقة الأنف لتنفجر الدماء منها ويتراجع للخلف مطلقًا صرخة مرتفعة جعلت الجميع ينتبه لما يحدث .
تأوهت سول بصوت مرتفع تمسك رأسها وقد شعرت بالدوار يصيبها تعود للخلف وهي تفرك رأسها، رفعت عيونها لتبصر ما يحدث لتجد العديد من الحراس يركضون صوبها، تراجعت للخلف بخوف مما رأت:
_ على رسلكم يا رجال، كان الأمر مجرد نقاش بيني وبين هذا القذر .
وحين وجدت الشر يعلو ملامح الرجال، عادت بسرعة للخلف تركض على الدرج الرخامي وآخر ما أبصرته هو اندفاع خالد ليمنعهم بجسده من اللحاق بها يلقي على الرجال كل ما يقابله، ثم وحين تأكد أنها هربت ركض بسرعة صوب سيارتها التي بدأت تتحرك بسرعة مريعة يصرخ بصوت مرتفع :
_ انتظريني … انتظريني سول .
بصقت سول خارج النافذة بغضب منهم :
_ لتحترق في الجحيم يا حقير، عسى أن يحطموا عظامك
أطلق خالد صرخة مرتفعة وقد أبصر الرجال يندفعون صوبه كالسيل ولم يكن أمامه من طريقة للنجاة سوى القفز على مقدمة سيارة سول التي اندفعت بها خارج القصر بسرعة مرعبة وهو يحاول التمسك بها صارخًا برعب :
_ على مهل، على مهل سوف اسقط أسفل عجلات سيارتك ..
ابتسمت سول بخبث تزيد من سرعتها يشكل جنوني :
_ وهذا المطلوب عزيزي …
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
_ وصية ؟؟ وصية من ؟؟ ولِمَ أنا بالتحديد من يوصيني ؟؟ ما الذي رآه ذلك الرجل بي حتى يضع وصيته بين يدي ؟؟
كان يتحدث وهو يلقي بثوبه في سلة الملابس داخل جناحه يقف بجذع عارٍ أمام المعتصم والذي بمجرد عودته تلقاه بكارثة أخرى وكأنه ينقصه، فبعد عودته رفض التحدث حتى يفكر فيما سيحدث، ليعاجله المعتصم بكارثة جديدة .
_ لا ادري، لقد سلمني الرسالة وأخبرني أنه لا يستطيع التأخر ورحل مؤقتًا حتى تقرر، مؤكدًا عليّ تسليمها لك بنفسي وضمان تنفيذها .
رفع أرسلان حاجبه ينتزع منه الرسالة بحنق شديد، ثم نفخ ينزع عنها الخيط الحريري المحيط باللفافة يهتف بسخرية :
_ أصبحت المصائب تُلف في رابطة حريرية، وتُرسل على هئية كلمات في رسائل ورقية و….
فجأة توقفت كلماته حين أبصرت عيونه اسم المرسل الذي بدأ به الخطاب، اغمض عيونه يعيد النظر مرة واثنين وثلاثة حتى يتأكد أن ما رآه صحيحًا .
رفع عيونه صوب المعتصم الذي اقترب منه بفضول شديد يحاول أن يبصر ما تحتويه الرسالة، لكن لم يفهم شيئًا في النهاية ..
_ ما هذا ؟؟
حدق به أرسلان ثواني قبل أن يعود بنظراته مجددًا صوب الخطاب يحاول إدراك ما يراه، بعد كل هذه الأعوام يعود ؟! يعود بوصيته .
همس أرسلان وكأن صوته جاء من اعماق بئر سحيق :
_ العم رائف .
ولم تكن هذه الإجابة شافية للمعتصم، الذي استمر بالتحديق في وجه أرسلان يحاول معرفة ما يقصد، لكن يبدو أن أرسلان لم يكن يعي حتى بوجوده إذ سحبته امواج ذكرياته صوب مشهد قديم حفظه عقله، مشهد لا يدري حتى كيف يحتفظ به كل هذا الوقت ومنذ كان بالسادسة؟؟
كان الرجل يحمل الصغير بين أحضانه يضمه بقوة مرتعبًا أن يطاله أذى من مقتحمي القصر، وارسلان فقط يتململ بين ذراعيه يود الهبوط والتحرك للقتال مع والده، ورغم سنوات عمره الصغيرة إلا أنه كان يصمم على القتال بكل تهور .
_ دعني أريد أبي..
رمقه الرجل بحنق وغضب متأففًا بصوت مرتفع، يخرج من ممر جانبي هامسًا بغضب :
_ يا بني توقف عن الحركة لقد ارهقتني، ثم تقاتل من ؟! الرجال بضعف…بل ضعفين حجمك، اصمت و….
توقف الرجل عن الركض حين أبصر أمامه العديد من الجنون الذين أحاطوا به، ليشعر أن ضربات قلبه كادت تتوقف، نظر للطفل بين يديه يهمس بصوت منخفض :
_ حين اتركك اركض يا أرسلان حسنًا ؟!
نظر له أرسلان باعتراض شديد، ثم تململ يشعر بالغضب يتمكن منه صارخًا بصوت مرتفع :
_ أبي يقول أن الرجال لا يهربون من ساحة المعركة، الجبناء فقط يفعلون كهؤلاء الأوساخ .
اتسعت عين الرجل بصدمة يرى الرجال وقد بدأت أعينهم تشتد غضبًا يتقدم أحدهم منهم مرددًا بنبرة مرعبة محركًا سيفه في الهواء :
_ ما الذي تقوله أيها الصغير ؟! هيا عد ما قلته، لا اسمع لك صوتًا، من هؤلاء الأوساخ يا هــــ
لكن أرسلان الصغير أعاد كلماته دون اهتمام بسيف الرجل الذي كان مرفوعًا أمام عيونه يردد بجدية وقوة دون أن تهتز شعرة له :
_ قلت أنني لا أهاب هؤلاء الأوساخ، وهؤلاء الأوساخ هم أنتم.
اتسعت الأعين حتى شعر رائف أن قلبه سيتوقف من الرعب من نظرات الرجال، كمم فم أرسلان يعود للخلف هامسًا :
_ يا فتى اصمت سوف نموت بسبب لسانك السليط هذا .
حاول أرسلان ابعاد يد رائف عنه، لولا أن الأخير تراجع أكثر يستعد لتركه حين يتأكد أنه منحه فرصة جيدة للهروب، فقد أمنه الملك على ولي العهد، وهو وعده أن يحميه بروحه .
وفي ثواني ركض بعيدًا يترك أرسلان ليهرب، لكن الصغير كان عنيدًا كالثور، فحينما أطلقه رائف عاد له مجددًا بتهور يصرخ بوجهه غاضبًا :
_ أخبرتك أنني لا اهرب .
ولم يكد رائف يتحدث بكلمة حتى أبصر سيف أحدهم يهبط بقوة على أرسلان يكاد يشق رأسه، لولا يد رائف التي مدها بسرعة كبيرة يحميه به لتعلو صرخاته في المكان تحت نظرات الصغير المصدومة مما رأى .
_ مولاي ما بك ؟؟
انتفض أرسلان من ذكرياته يحاول إبعاد ما حدث عن عقله مرددًا بصوت خفيض :
_ ماذا قلت ؟!
رفع المعتصم حاجبه ثواني قبل أن يعيد سؤاله على مسامعه مجددًا :
_ أخبرتك من هذا ؟!
شرد أرسلان ثواني ينظر للخطاب مرددًا بصوت هادئ :
_ شخص أدين له بحياتي، بل أكثر…
صمت ثم أكمل :
_ عم رائف مرشد العالم الآخر .
_ مرشد العالم الآخر ؟! حسبت أن مشكى لا تمتلك مرشدي عالم آخر.
_ نحن كذلك بالفعل، منذ سنوات ونحن لا نمتلك واحدًا .
صمت طويلًا قبل أن ينبث بهدوء وعيونه تطالع الخطاب بفضول شديد لمعرفة ما يريده رائف فعله لأجله ولِمَ هو بالتحديد من كتب الوصية باسمه :
_ تحديدًا منذ تخلى عنا مرشدي مشكى واستقروا في عالم المفسدين .
ورغم أنه لم يفهم بشكل كامل ما يقصده أرسلان، إلا أن ذلك لم يمنع المعتصم عن دس رأسه جوار كتف أرسلان كي يتفحص تلك الوصية بفضول جم، يفكر أن ذلك الرجل الذي جاء يوصله الخطاب كان مرشد العالم الآخر قبل أن يتخلى عن عالمهم ويستقر هناك ؟!
_ وما الذي يريده منك ؟؟ وما وصيته ؟!
رفع أرسلان الخطاب أمامه بملامح منقبضة وقد بدأت عيونه تتسع شيئًا فشيء هامسًا باستنكار شديد :
_ ابنته ؟؟ سو…سول ؟؟ ماذا ؟؟؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
_ سول …سول أنا آسف اقسم أنني لم اعلم أن كل هذا سيحدث، لقد ظننت أن الأمر سيكون كأي حفل عادي، وما تخيلت أن يتمادوا لهذه الدرجة .
كان يتحدث صارخًا أمام باب منزلها ينتظر اذنًا منها للدخول أو منحه حتى فرصة التحدث، كارهًا أن تظلمه في هذه المعادلة وهو لم يكن له غرض سوى مساعدتها لتحقيق حلم والدتها .
_ فقط افتحي هذا الباب ودعينا نتحدث بشكل لائق، فلا بد أن السيدة خان تتابع هذه المشاداة من خلف الأبواب الآن، هيا لا تشمتي بنا أحدًا .
انتفضت السيدة خان بعيدًا عن ثقب المراقبة الموجود في باب منزلها، تعود للخلف بصدمة محدقة حولها بشك أن يكون انتبه لها، لتجد أن لا أحد حولها، فعادت بكل بساطة تلتصق بباب المنزل تراقب ذلك الرجل الحقير الذي يحاول سرقة كنتها منها .
تنهد خالد يحاول الحديث لولا الباب الذي فُتح فجأة وقد شعرت سول أنها ستنفجر لو لم تصرخ به :
_ اسمع يا هذا، سمحت لك بالعمل معي، لأنني لم أجد من يكون محل ثقة مثلك وقد اطمئننت أنك مثلي تمتلك بعض القيم والمبادئ التي ستجعلني أأمن جانبك، لكن يبدو أنني اخطئت، تدعوني لحفلة سكارى وحثالة يصفون أنفسهم بصفوة المجتمع كذبًا، يرتشفون الخمر كما المياه، ويفعلون الفاحشة كالمصافحة، إن كان هذا المجتمع هو المجتمع الذي سيحقق لي احلامي، ألا لعنة الله على المجتمع واحلامي .
ولم تكد تختم جملتها حتى رنت تصفيقات حارة من جانب السيدة خان والتي خرجت من منزلها تشجعها بشكل جعل سول تفتح فمها بتعجب .
وخالد يمسح وجهه بضيق ينظر لها في محاولة أخيرة للتحدث :
_ سول أنا لست …
ولم يكد يكمل حديثه حتى صدح صوت اغلاق الباب في وجهه بقوة جعلت بسمة السيدة خان تتسع وهي تردد :
_ هذه هي كنتي العزيزة، محظوظ راجيش حاز امرأة جميلة ذات كلمة كالسيف في وجه كل الحثالة امثالك ايها السمين .
نظر لها خالد بصدمة كبيرة ولم يكد يتحدث بكلمة واحدة حتى وجد الباب يُغلق في وجهه بقوة جعلت ينتفض، في النهاية ختم يوم بسبات متتالية من امرأتين وغلق باب في وجهه و….ماذا ؟؟ هل قالت سمين للتو ؟؟
في الداخل كانت تجلس على الأريكة تحاول التنفس والهدوء سعيدة بانتهاء اليوم واخيرًا لتتفرغ إلى محاولة إيجاد تفسير لتلك الكلمة التي نطق بها والدها في التسجيل الصوتي الخاص به .
” مشكى ”
فتحت سول أولى صفحات الكتاب والذي لا تعلم عنه شيئًا لتبصر لغة فارسية أمامها تكوّن العديد من الجمل استطاعت تمييز بعضها وجهلت معنى البعض الآخر، لتبدأ ليلة طويلة لسول في محاولة لترجمة كل ما تراه، وكلها شوق لتدرك مقصد والدها، لكن كل ما فهمته حتى الآن من هذا الكتاب كان تقريبًا لا شيء ..
_ خيال علمي، رواية خيالية ؟؟
قلبت الكتاب بين أناملها تتساءل بجدية :
_ ترى ما الذي كان يقصده والدي حين ذكر هذا الاسم العجيب ؟!
مشكى ما السر وراء هذه الكلمة الغريبة ؟ تكاد تقسم انها مـألوفة على مسامعها اكثر من وقع اسمها، لكن اين سمعتها وعلى لسان من ؟؟ تنفست يصوت مرتفع وهي تقلب صفحات الكتاب بين اناملها تبصر اسم تردد أكثر من غيره (بيجان ) ؟؟ يا له من اسم عجيب ترى من هذا بيجان الذي يتغنى به الكاتب في خمس صفحات و….اوه مهلا هو بطل هذه الرواية الخيالية إذن؟؟ قلبت الصفحات بين اناملها تبحث في أحد اركان الكتاب عن صورة مختبئة لذلك البطل، لكن لا شيء إذن ما عليها سوى تخيله اندمجت سول في القراءة والتي ورغم صعوبتها لعدم تمكنها بشكل كامل من إتقان تلك اللغة الغريبة والتي كانت حسب معلوماتها المحدودة عن والدها هي لغته الأم جوار العربية التي ت ما اتقنها أكثر.
ساعات مرت وهي جالسة تطالع روايتها الخيالية الجديدة بكل حماس، حروب ومؤامرات وغيرها من الاحداث الخاطفة للانفاس، حتى وصلت واخيرًا لأحد فصول الكتاب تحت عنوان ( ارسلان بيجان) ..
اسم موسيقي استحسنته مسامع الفتاة التي اندمجت دون علم في قراءة تاريخ أمة ظنًا أنها تطالع رواية خيالية تاريخية.
وإن كان اسم وأعمال بيجان أثارت فضولها في لحظة من اللحظات، فقد فجرت طفولة ذلك الطفل المريب فضول وتعجب سول، رفعت صفحات الكتاب امام عيونها بصدمة :
_ ما هذا الكاتب المختل ؟ أي نوع من الاشخاص يضع مثل تلك الصفات بطفل لم يبلغ السادسة بعد؟ هذا تحريض صريح على العنف مع الأطفال في طفولتهم.
ألقت الكتاب بحنق شديد رافضة تقبل كل تلك الصفات العنيفة في طفل صغير :
_ المسكين كل ذنبه للطفل أنه سقط في يد كاتب مختل لا يدرك الفرق بين الطفولة والإجرام، بدلًا من اللعب بالوحل يقاتل بالسيوف.
نفخت تحدق بالكتاب تفكر في عقلها بفضول شديد استطاع ذلك الكاتب الماهر زرعه داخل صدرها، تفكر بلا توقف إن كان ذلك الطفل الصغير المختل حقيقيًا ترى كيف سيكون حين ينضج ؟؟ هل ستتغلب عليه طبيعته العنيفة ويصبح شخصًا مريعًا أم ربما يفوز الجانب الإنساني ويصبح شخصًا مسالمًا جيًدا وكم تمنت أن ان يكون الاختيار الثاني من اعماق قلبها، تتخيل ذلك الطفل المختل كشاب هادئ مسالم حنون يمنح الجميع ما فقده هو، لبتسمت لهذه الفكرة وقد ارضتها هذه النهاية :
– نعم هذه النهايات المثالية سينضج ذلك الطفل المسكين ليقرر أن يصبح حنونًا مسالمًا يمنح العالم ما فقده هو على يد كاتب مختل ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صرخة انطلقت من فم الجندي هزت الجدران حوله من قوتها، ولولا رحمة الله به ما خرجت صرخته تلك ولا خرج له صوت مرة أخرى بعدما كاد سيف أرسلان يجز عنقه أثناء التدريب .
ابتلع الجندي ريقه يتراجع للخلف زاحفًا والرعب ملئ صدره، بينما عيون أرسلان مثبتة عليه بنظرات غامضة وكأن الجندي خيب أمله حين نجى من ضربته .
راقب المعتصم ما يحدث بأعين جاحظة وقد أوقف ما حدث قلبه لثواني معدودة قبل أن يعود النبض مجددًا حين أبصر الرجل برأسه دون أن تُمس ..
_ رحمتك بعبادك يا الله .
مال أرسلان برأسه يراقب الجندي بعدم رضى، قبل أن يعتدل زافرًا بحنق شديد :
_ كان من المفترض أن تصد ضربتي لا أن تركض منها خوفًا يا بني .
ابتلع الرجل ريقه لا يستطيع التحدث وذكرى اللحظات التي كاد يفقد بها حياته تُعاد أمامه:
_ هو….هو أنا لم …لقد …لم اتمكن من مجاراتك ولم … أنت لم تمنحني فرصة التجهز .
رفع أرسلان حاجبه بعدم فهم مرددًا بسخرية لاذعة :
_ لا اعتقد أن الأعداء قد يستأذنوك قبل مهاجمتك في المعركة يا أخي.
صمت الجميع حول أرسلان بخوف منه، بينما المعتصم يخفي وجهه خلف قبضته يشعر برغبة عارمة في الصراخ وصوت همساته الحانقة يخرج منه بضيق :
_ كادت روحي تُزهق لاقنعهم بالمجئ والانضمام للجيش ممنينًا إياهم بحياة رغدة هانئة، تالله يبدو أنهم لن يبصروا الهناء ولا الرغد إلا في جنات الخلد بإذن الرحمن .
انتفض جسد المعتصم حين سمع صوت أرسلان يهتف بهم بهدوء رغم صرامة نبرته التي جعلت أجسادهم تتحفز :
_ أدرك أن نصفكم لا يدري شيئًا عن القتال أو حمل السيوف، واعلم جيدًا أن البعض منكم يعتقد أنني خشن بعض الشيء في التدريبات اليومية .
تمتم المعتصم ببسمة مستنكرة ساخرة :
_ لا لا استغفر الله .
اكمل أرسلان وهو يتحرك أمام صفوف الجنود الذين تطوعوا في جيشه الذي يحاول النهوض بعد نكبتهم السابقة :
_ لكن في الواقع هذا ليس اعتقادًا، بل حقيقة عليكم التأكد منها، وهذا ليس لأجلي يا رجال، بل لأجل أن أصنع منكم جنود لا يخشون إلا الله فقط .
مسح المعتصم وجهه يهمس بصوت حانق :
_ لا إله إلا الله .
ابتسم أرسلان يحاول صبغ حديثه ببعض اللين يربت على كتف أحد الرجال بمؤازرة يكمل حديثه بصدق وقد أبصر اليأس والتردد في أعين البعض، بل والتراجع كذلك :
_ انظروا حولكم في كل شارع وكل عين وكل جسد ستجدون وطن يقاوم، كلٌ يقاوم بطريقته، كلٌ يحاول لملمة شتاته ورأب صدوعه، اعطوهم فرصة الانهيار دون خوف من لحظة السقوط، أروهم أنهم حتى وإن انهاروا فسيكون هناك من يحمي ظهورهم لحين يتماسكون وينهضون مجددًا .
صمت يبصر انحناء رؤوس البعض منهم، منهم من فقد الكثير، ومنهم من يقاوم الفقد .
_ أنتم أيضًا يحق لكم الإنهيار، يحق لكم لملمة شتات أنفسكم، لكن نحن رجال، يمكننا التحمل لحين نصل لشاطئ الأمان وحينها نمنح أنفسنا إشارة الانهيار، حينما نصل لليابسة، حينها فقط يمكننا أن نخر ارضًا ونتنفس الصعداء ونعطي لأرواحنا إشارة الانهيار .
ربت على كتف البعض منهم مبتسمًا بسمة مشجعة جعلت بسمة بعضهم ترتسم تلقائيًا :
أنتم الآن لستم مجرد رجال تحيون لأجل قوت يومكم واسرتكم، بل أنتم رجال اصطفاكم الله لحماية ذويكم وأهالي مشكى، صغار وكبار ونساء، مسؤولية شعب بأكمله تقع على عاتقنا، تعبك وكل قطرة عرق تبذلها في سبيل حفظ روح مسلم، سيُكتب لك الله بها اجرًا، ربما اقسو عليكم في التدريبات وقد ييأس أحدكم من طريقتي في التعامل، لكن في المستقبل ستشكرونني على كل هذا .
ابتسم لهم بلطف، ثم تنهد يقول :
_ يمكنكم أخذ راحة لتناول الطعام وتنفس الصعداء، ثم نعود لنكمل .
ختم حديثه يشير بكفه صوب مبنى الحراس ليهرول الجميع له بسرعة، تحت نظرات المعتصم المشفقة عليهم، يتمتم ببعض الكلمات الغير مفهومة .
استدار له أرسلان يتحرك بعيدًا صوب القصر :
_ إذا كنت انهيت وردك اليومي من الاستغفار ألحق بي يا المعتصم .
ركض خلفه المعتصم بسرعة كبيرة يردد بجدية يتلو عليه كل ما جهزه حسب أوامره الأخيرة :
_ لقد ارسلت لسفيد خطاب طلبت به على لسانك الاستعانة بمرشدي العالم الآخر الخاصين بهم .
توقف أرسلان يعظم فهم يستدير صوب المعتصم وكأنه غفل عن الأمر تمامًا :
_ نستعين بهم لماذا ؟!
حدق بهم المعتصم ثواني بتعجب :
_ لإحضار الفتاة، ألم تقل أنك لن تستطيع الذهاب بنفسك لتحضر فتاة فاسدة لتكون كالشوكة في خاصرك، وأنك تفضل قضاء يوم بأكمله في غرفة مغلقة مع الملك إيفان على أن تقطع كل تلك المسافة لأجل امرأة ؟؟
رفع أرسلان حاجبه :
_ إذن ؟؟؟
ابتسم له المعتصم بكل فخر مرددًا :
_ وإذن أرسلت لمن يستطيع أن يحضرها دون أن تتكبد عناء ذلك بنفسك .
_ أنا لم اطلب منك إحضارها.
_ لكن هذه وصية الرجل لك مولاي، لا يمكنك أن تخلفها، اوصاك بابنته وأنا سأرسل في إحضارها .
رفع أرسلان حاجبه مستنكرًا كل ما يحدث حوله، هو ليس في مزاج يسمح له ليصبح مسؤولًا عن امرأة لا تجمعه به علاقة، ليس مستعدًا ليحيا بدور المسؤول خاصة في هذا الوقت :
_ وكيف ستحضروها لهنا ؟!
_ الرجل الذي احضر الوصية سيصطحب صامد وصمود لها وهما سيتوليان مسؤولية إحضارها حتى بداية الغابة وحينها نرسل أحدهم ليحضرها لمشكى .
تشنجت ملامح أرسلان بقوة من كل ما يحدث حوله، يشعر بأن حياته تتعقد أكثر واكثر، ووجود هذه المرأة التي لا يعلم عنها سوى أنها ابنة رائف الذي يدين بحياته، يعكر ما تبقى من حياته الصافية .
مسح وجهه يهتف بضيق شديد :
_ يا الله وكأن حياتي ينقصها مصائب، لنحضر لها واحدة إضافية .
_ وما ادراك أنها مصيبة ؟؟ لربما كانت امرأة صالحة هادئة مسالمة كما زوجة القائد سالار، اعتقد أن زوجة القائد غيرت فكرتنا عن شعب العالم الآخر، اثق أنها ستكون امرأة جيدة لن تحتاج منك للكثير من المجهود لتأمين حياتها بمشكى .
نظر له أرسلان ثواني قبل أن يبتسم بسمة واسعة ساخرة يتحرك صوب غرفة العرش ليجتمع بمستشاري البلاد :
_ لا اعتقد أن حظي بمثل هذه المثالية يا المعتصم …….
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
_ صدقني الحياة ابسط مما تفعله، تقضي يومك بين جدران السجون فقط لأن زوجتك خانتك، فقررت التخلص منها وأصبحت سفاحًا عالميًا، بالله عليك ألم تمل هذه النمطية السائدة في سفاحي هذه الأيام، أعني أنت لم تأت بشيء جديد في عالم الإجرام.
تحرك الرجل بقوة لتزفر هي بضيق تسجل بعض الملحوظات أمامها مكملة حديثها وقد ابتعدت بالقدر الكافي لتتجنب مشكلة المرة السابقة :
_ اسمع يا رجل أنا هنا لمساعدتك وسأفعل، فلست أنا من يستعصى عليّ مختل مثلك، لكل مختل طريقته المثلى في التعامل .
رفع الرجل نظراته لها لتبتسم له سول بلطف شديد مرددة :
_ صدقني الحياة ابسط مما تتخيل، ماذا كان سيحدث لو أنك بصقت في وجه زوجتك، وأخذت ابنتك وهاجرت لريف ايطاليا بكل بساطة ؟! على الاقل ما كنا نجلس الآن نضيع وقتي ووقتك في هراء نعلم أنا وأنت أنه لن يفيد كلينا .
زفر الرجل بصوت مسموع، ثم نطق بنبرة خشنة بسبب كثرة شربه الكحوليات والتدخين :
_ اغربي عن وجهي .
أعادت سول خصلات شعرها للخلف متنفسه بعنف، ثم رفعت عيونها له تقول بجدية :
_ إذن ألا تشتاق لابنتك ؟؟ ألا تستحق صغيرتك أن تجاهد نفسك الامارة بالسوء وتصحح من حياتك المليئة بالقاذورات لأجلها ؟؟
أخرج الرجل صوتًا عاليًا هز المكان حوله جاعلًا من سول تتراجع للخلف تضم المدونة لصدرها بخوف شديد، بينما الاخير يحاول الإفلات من قيوده ليحطم عظامها .
_ اغربـــــــــي عــــــــن وجـــــــــــهــــــي .
_ صدقني هذا لن يفيد، نحن لن نصل لحلقة وصل بهذه الطريقة .
ضرب الرجل الطاولة بعنف جعلها تتحرك حتى كادت تسقط على سول التي لوت شفتيها ثواني تراقب غضبه الذي أخذ يطيح بكل ما حوله صارخًا بها أن ترحل وتتركه .
ألقت المدونة امامه بعنف، ثم تنفست بصوت مرتفع وهي تستند على الطاولة، قبل أن تنتفض عن مقعدها بعنف تسبب في سقوطه تنبطح بجسدها على الطاولة تجذب جسد الرجل لها بشر تهمس من بين أسنانها له وقد اتسعت عين الرجل بصدمة كبيرة وهي فقط نبست بفحيح :
_ إذن لنبدأ من جديد، أنا سأجلس هنا كأي اخصائي تأهيل بارع، وأنت ستجلس على مقعدك كأي سجين حقير تستمع لكلماتي وتهز رأسك لي وكأنك اقتنعت بحديثي وقررت فجأة التوبة والعودة لرشدك، كأن كلماتي كانت كالسحر على مسامعك، اتفقنا .
ابتسم الرجل بسمة مختلة يهمس لها بصوت يقطر سمًا وقد أعجبه ما يحدث واعجبته سول وبشدة :
_ وإلا…
ابتسمت سول ثواني تطيل النظر في عيونه بشكل خطير قبل أن يقتحم أحد الرجال المكان مرددًا :
_ انتهى وقتك دكتور سول …
تركته سول بقوة وقد ارتد جسده للخلف تعدل من وضعية ثيابها باهتمام، تهتف بكذب وداخلها تحمد ربها على حضور الشرطي في هذا الوقت :
_ لتحمد ربك أن خلصك الشرطي مني .
حملت حقيبتها بسرعة كبيرة تركض للخارج دون كلمة تحت نظرات الجميع، وهي تشعر بأن الحياة دبت بجسدها مرة أخرى وقد خرجت حية من هذا المكان المرعب، مرحى يوم آخر تقضيه في هذه الحياة وحيدة .
جلست بالسيارة تتنفس بصوت مرتفع تستكين برأسها على المقود تفكر في العودة للمنزل اليوم وقضاء مسائها على الفراش تتناول الطعام وتلاعب موزي و……
توقفت عن التفكير حين أبصرت الرواية الخيالية التي ألقتها داخل السيارة كي تمرر بها وقتها في محل الزهور .
_ أوه، مرحبًا أرسلان بيجان، هل اشتقت لي ؟؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يسير بين الجميع في أسواق العاصمة، يخفي نصف وجهه بالغطاء الذي اعتاد قديمًا التحرك به وقت وجود المنبوذين، يحرك رأسه مرحبًا بالجميع وعيونه تبتسم لهم من خلف اللثام، يبحث بعيونه عما جاء لأجله، يحاول إيجاد رجال يصلحون للانضمام إلى الجيش وإقناعهم بذلك.
وما بين جولاته في الأسواق بحثًا عما جاء لأجله، سمع اصواتًا عالية بعض الشيء جذبت انتباهه وانتباه الجميع، تحرك صوب الصوت ليبصر بعض الأطفال الذين يعرضون بضاعتهم بطريقة جذابة جعلت الجميع ينتبه لهم، ابتسم المعتصم وقد انبهر بطريقتهم في عرض البضاعة، تقف جوارهم والدتهم تراقبهم بسعادة .
ليقرر أن يكون هو أول زبون لهم يتحرك داخل الدائر يخرج بعض العملات الذهبية يضعها في الإناء أمامهم مرددًا بهدوء ونبرة حنونة :
_ ضع لي بعضًا منها يا صغير .
ابتسم الطفل ببهجة حقيقية ينظر صوب والدته التي بدأت تعبأ بعض الحلوى المنزلية للرجل الكريم الذي دفع لأجلهم أكثر من ثمنها بكثير .
حمل المعتصم حقيبة الحلوى يتحرك بها بعيدًا بعدما أبصر البعض تقدم ليشتري كذلك من الصغار .
تحرك بعيدًا عنهم ينظر داخل حقيبة الحلوى التي يحملها، قبل أن يغلقها ويرفع عيونه للطريق مجددًا، لكن فجأة سقطت عيونه على جسد صغير يقف في إحدى الزوايا يراقبه بانبهار شديد، أو ربما هذا ما ظنه هو، فأعين الفتاة الواسعة ذات الرموش الكثيفة جعلته ينظر حوله بحثًا عن ذلك الشيء الذي أثار انتباهها لدرجة مراقبته بهذا الاهتمام .
ليكتشف المعتصم أنه كان هو هذا الشيء .
رفع حاجبه يعود ببصره مجددًا صوب الفتاة التي كانت تخفي جسدها خلف الحائط وتخفي وجهها خلف لثام اسود اللون رث بعض الشيء، يشير لنفسه متحدثًا بعدم فهم :
_ هل تحدقين بي ؟؟
رمشت الفتاة بسرعة كبيرة وهي ما تزال تنظر له، قبل أن تتحرك عيونها ببطء بعيدًا عن عيونه، تثبتها على حقيبة الحلوى، ليدرك المعتصم ما ترمي إليه، ابتسم بسمة لطيفة لها يرفع حقيبة الحلوى مرددًا بهدوء :
_ تريدين القليل ؟!
اطالت النظر به ثواني قبل أن تقرر هز رأسها في إشارة لنعم، فاتسعت ابتسامة المعتصم يشير لها بالتقدم :
_ هيا يا صغيرة تعالي وخذي البعض لاجلك ..
نظرت له الفتاة بخجل شديد، ثم حركت عيونها حولها وكأنها تبحث عن شيء ضائع، ليقرر المعتصم أن يتقدم هو ويكسر خجلها ذلك، وبالفعل تحرك صوبها يراقبها بحنان وما كاد يمد لها الحقيبة :
_ هيا خــ …
وقبل إتمام جملته اختطفت الفتاة الحقيبة منه وركضت بسرعة كبيرة وكأنها تبخرت تحت أعين المعتصم الذي استدار ينظر حوله بصدمة كبيرة يحاول فهم ما حدث منذ ثواني، نظر ليده الممتدة في الهواء وكأنه يبحث عن حقيبة الحلوى، يقسم أنها كانت بين أنامله منذ ثواني .
مهلًا هل كان يحمل حقيبة حلوى من الأساس أم أن كثرة مصاحبته لارسلان تسببت في تدهور حالته العقلية ؟!
ما الذي حدث للتو؟؟ سرق بواسطة طفلة صغيرة ؟؟ تحركت اقدام المعتصم بسرعة كبيرة جهة الطريق الذي سلكته الصغيرة :
_ مرحى فتاة صغيرة تسرقني، في مثل هذا العمر وبعد كل تلك الاعوام من التعامل مع أخطر الرجال دون أن أخرج بخدش واحد، أتلقى صفعة كهذه ؟؟
زاد من سرعة اقدامه خلفها يبحث عن ذلك الشبح الذي حمل حلواه واختفى بين الطرقات، دار حول نفسه دقائق عديدة لا يدري أين يتحرك أو أين يبحث ؟ فجأة توقفت أقدامه حين سمع صوتًا رقيقًا يتحدث بنبرة منخفضة، ضيق ما بين حاجبيه يتحرك صوب الصوت، الصوت يقترب كلما ضاقت الطرقات، حتى وصل المعتصم لأحد الأزقة الضيقة يبصر جسدًا صغيرًا في أحد الاركن يجلس ارضًا أمام هرة صغيرة تقدم لها حلواه مرددة بنبرة حنونة :
_ انظري بوبي أحضرت لكِ ولصغاركِ بعض الحلوى، فأنتِ من البارحة لم تتناولي طعامك وهذا سيئ للغاية أنتِ في فترة نفاس يا امرأة عليكِ الاهتمام بصحتك اكثر .
تشنجت ملامح المعتصم يردد بإستنكار وهو ينظر حوله بعدم فهم :
_ فترة نفاس ؟؟
بينما يبدو أن الصغيرة لم تكن تهتم بكل ما يدور حولها بقدر اهتمامها بلعب دورها كممرضة ماهرة لبوبي التي خرجت من ولادة متعسرة فجر اليوم السابق، لكن يبدو أن تلك الحالة الإنسانية اللطيفة لم تلق صداها لدي المعتصم الذي تحرك صوبها يميل برأسه يناظرها باستنكار شديد ينتظر أن تنتبه ربما له وتستحي مما فعلته به، لكن يبدو أن حالة بوبي كانت شديدة الخطورة لدرجة أنها لم تنتبه لذلك الرجل الذي جلس ارضًا جوارها يرمقها بإستنكار وترقب لذرة اهتمام تعطيه قدره ومكانته التي تنافسه عليها قطة خرجت من عملية ولادة متعسرة .
ثواني انتهت بها فاطمة من حديثها مع القطة وهي تتنفس بحرية تنزع عنها غطاء الوجه، تجفف قطرات عرقها تستدير ببطء مبتسمة بسمة صافية واسعة :
_ صغارك في غاية ال……
ولم تكمل جملتها بسبب الصرخة التي صدحت في المكان متراجعة للخلف بسرعة كبيرة زاحفة، بينما المعتصم والذي كان يجلس القرفصاء بالقرب منها دون انتباه يحدق بها بنظرات مخيفة جعلتها تزحف برعب أكثر تحاول التحكم في ضربات قلبها، ابتلعت ريقها تمد يدها بسرعة صوب القطة تنتزع حقيبة الحلوى تمدها له مجددا :
– أنا اسفة .
نظر المعتصم صوب يدها قبل أن يتحرك مجددا لوجهها يطيل النظر به ثواني معدودة، ثواني قليلة تاه في ملامحها الصغيرة يحدق بها بنظرات غريبة جعلتها ترتجف وهي تعود للخلف تحاول التحكم في تنفسها، أما عنه هو فبمجرد إدراكه ما يفعل ابعد عيونه عنها بسرعة مستنكرًا أن تخرج هذه التصرفات من مجرد فتاة بملامح بريئة كمربية القطط هذه، تحركت نظراته صوب القطط يتحدث بصوت هادئ لا يشي بإنفعالاته الداخلية :
_ألأ تشفقين على بوبي أن تطعم صغارها حلوى مسروقة ؟؟
نظرت فاطمة حولها تحاول إيجاد مخرج لها من بين قيده الذي فرضه، وبمجرد أن ان ابصرت ضوء أمل ومنفذ للنجاة منه، زحفت ببطء إليه وهي ما تزال تحدق بعيونه وكأنها تحاول تشتيته بنظراتها، تستغل انشغاله بالنظر صوب القطط، تزحف بشكل مضحك صوب الجزء الفارغ جواره تركض خارج الزقاق .
كل هذا والمعتصم فقط يحدق بالقطط متلاشيًا النظر لوجهها مجددا تكفيه نظرة واحدة دون إرادة منه، ابتسم بسخرية يبصر محاولتها الغبية للهرب بعيدًا :
_ حقًا؟ هل تمزحين معي يا فتاة ؟؟
استدار ببطء صوبها يرفع عيونه صوبها مجددًا مع نظرة مرعبة زاجزة جعلتها تتراجع مكانها تجلس كطفل مذنب تضم يديها بين قدميها وقد امتلئت عيونها بدموع الخوف تهمس بصوت منخفض :
_ كنت فقط أود اطعام بوبي .
_ بالسرقة ؟؟
_ لم افعل .
_ بلى فعلتي .
خرجت جملته الاخيرة حادة قوية بشكل جعلها تنتفض باكية تدافع عن نفسها :
_ أنت من أتيت لي واعطيتني الحــ…..
_ اياكِ والكذب يا فتاة لا ينقصك حمل ذنب اخر، يكفيك السرقة .
بُهتت ملامح فاطمة تفتح فمها بصدمة تحدق في وجهه والذي كان لا يظهر منه سوى أعين تردد ببلاهة :
_ ذنب ؟؟
_ وماذا تسمين السرقة يا ترى إن لم تكن ذنب ؟؟
_ أنا … أنا لم ….انت لست ……
تابعها المعتصم بشفقة على ملامحها التي شحبت رغم كل الاوساخ التي تحيط ملامحها وتخفي ملامحها، لكن كانت دموعها وارتجاف شفتيها كافيًا، تنهد يتحدث بلين دون أن ينظر لها يجلس القرفصاء، بينما هي تضم نفسها في أحد أركان الجدران :
_ اسمعي يا فتاة رغبتك في عمل الخير لا يجب أن تقترن بسوء كي لا يضيع اجرك، فلا يمكنك السرقة لإطعام القطط، حسنا؟؟
هزت رأسها بسرعة ليبتسم هو ويتحرك بعيدًا عن الطريق يفتح أمام عيونها أبواب الحرية لتخرج من مصيدة ذلك الرجل ذو الجسد الطويل، لكن وقبل التحرك منحت فاطمة نفسها إشارة خضراء لتتأمله، ثواني قبل أن تبعد بعيونها عنه تتحرك بعيدًا تمسح دموعها تهرول، لكن اوقفها هو بسرعة كبيرة :
_ انتظري
توقفت بقلق دون أن تستدير مخافة أن يرمقها بنفس النظرة المخيفة مجددًا وهو فقط أقترب منها يمد يده لها بحقيبة الحلوى مرددا بلين وشفقة من خوفها ذاك :
_ تفضلي هذه حلواكِ لا اعتقد أن بوبي احبتها .
رفعت عيونها الدامعة لوجهه فابعد هو عيونه عن خاصتها يتنحنح بصوت خشن :
_ هي لكِ آنستي ….
_ فاطمة .
تعجب المعتصم كلمتها لتسحب هي الحلوى من بين أنامله مرددة بصوت خافت ضعيف :
_ اسمي فاطمة نادني به لأنني أحبه .
ختمت حديثها تلقي له نظرة أخيرة تتساءل بفضول كبير :
_ ما اسمك ؟؟
تعجب المعتصم حديثها، مسح جوار عيونه وكأنه يخفي الشيء الوحيد الظاهر منه عنها يردد بصوت خرج خافتًا :
_ المعتصم بالله، اسمى المعتصم بالله .
منحته بسمة صغيرة جعلته يحدق بها طويلًا دون شعور :
_ شكرا يا المعتصم، أنت حقًا لطيف .
تعجب المعتصم كلماتها ولم يكد يستفسر عما تقصد، إذ وجدها تخرج من حقيبة حلواه قطعة تمنحه إياها ببسمة صغيرة ليفتح هو يده دون شعور منها يتلقى عطياها وكرمها بطيب خاطر وهي فقط ابتسمت له .
تلك الصغيرة لا تدرك أنها كانت المرأة الوحيدة بعد والدته التي تقرر منحه شيئًا ما أو تحدثه هكذا بكل بساطة، بل تبتسم له بلطف كما كانت تفعل مع قططها منذ ثواني، مهلًا هل تفعل ذلك مع الجميع ؟؟
وهي لم تكن تدري عن تلك الافكار أو الصراعات التي تدور برأسه، هي فقط منحته حلوى وتحركت .
وهكذا بكل بساطة أخذت المتبقي من حلواه وتعقله ورحلت ………
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
_ أخبروني أنكِ طلبتي لقائي عزيزتي .
ختم كلماته يتحرك صوبها يميل عليها ليضع قبلته على وجنتها وهي فقط جامدة دون أن تأتي بحركة واحدة، ابتعد يتجاهل جمودها ذلك فهو في العادة لا يهتم لكل هذا .
_ كيف حال الملك بارق اليوم ؟!
رمته بنظرة هادئة، قبل أن تبتسم بسمة لطيفة رقيقة تقترب منه بخطوات مدروسة جعلت عيونه تشتعل ينتظر قربها بلهفة، وقد كان .
مدت توبة يدها تستقر بها على كتفه تتحسسها برفق، ثم تحركت يدها تضم وجهه مرددة بصوت هامس خرج كسيمفونية عذبة لعازف محترف مخضرم :
_ منذ متى وأصبحت ملكًا لسبز أنمار ؟؟
اتسعت عيون أنمار من كلماتها، يحدق في وجهها وملامحها الهادئة بشكل غريب وهو يدرك أن زوجته التي يعلمها تمام العلم ليست بمثل هذه الوداعة وهذا الهدوء عادة :
_ عزيزتي أنا….
_ أنت ماذا عزيزي ؟!
ابتلع ريقه يحاول إيجاد مبرر يدرك أن الخبر وصل لها عن طريق أرسلان لا غيره، وعلى ذكر أرسلان اتسعت عيونه فجأة وكأنه أدرك الموضع الذي سيقلب به الطاولة :
_ من أخبرك هذا الهراء ؟! نفسه أرسلان صحيح ؟!
تراجعت للخلف ترمقه بنظرات مشتعلة:
_ هل نتحدث هنا عمن اخبرني، أو عما أخبرني به ؟؟ هل أخبرت الجميع في القصر أنك ملك سبز الجديد ووالدي ما يزال حي يرزق ؟؟ هل جننت أنمار ؟!
كانت صرخات توبة ترتفع شيئًا فشيء حتى بدأت ترن في الأرجاء بشكل مرعب وقد اشتد احمرار وجهها وعيونها، لكن سيكون ملعونًا إن سمح لها بقيادة الجدال :
_ هل اغضبك أنني اتولى أمر البلاد واتحمل هذه المسؤولية الكبيرة بدلًا عن والدك المريض، أم ….
ترك كلماته معلقة قبل أن يبتسم بشكل خبيث مرددًا بخفوت وهو يقترب منها يضم وجهها له :
_ أم يغضبك رؤية حبيب قلبك بعد كل هذه السنوات دون قدرتك على الارتماء بين أحضانه والتعبير عن اشتياقــ
صمت رهيب حل بعد هذه الكلمات الغير مكتملة، صمت بدأه صفعة حطت على وجهه ونهاه صرخة انفجرت وصوت توبة رنّ في المكان بأكمله وقد جنّ جنونها تتحدث بملامح مشمئزة محتقرة :
_ أصــــــــــــــــمــــت.
اتسعت أعين انمار بصدمة كبيرة وقد كانت هذه المرة الأولى التي يصدر عن زوجته الرقيقة الراقية تصرف كهذا، بينما توبة كانت كمن تلبسها شيطان تصرخ في وجهه بجنون وصوت مرتفع لم تهتم حتى لو وصل لغيرهم خارج جدران الجناح الخاص بهم :
_ لا تجرئن على رميي بالباطل كي لا انسى مكانتك هنا واحرقك حيًا يا عديم الرجولة، تتجرأ وتقذفني بمثل هذه الصفات وأنا زوجتك؟؟ أنا الأميرة توبة أميرة سبز، يتجرأ عليها رجل ….
صمتت ولم تخرج السبة التي وقفت على أطراف شفتيها تصارع للخروج، ابتلعت ريقها تحت نظرات أنمار التي ما تزال مصعوقة مما يحدث، لا يسمع من حديثها شيئًا وصوت الصفعة ما يزال يتردد في أذنه .
_ إن كنت تنظر لي بهذه الطريقة فلا يشرفني البقاء على اسمك ليوم واحد أنمار، ستطلقني إن كنت ترمقني بمثل تلك النظرات، أنا امرأة شريفة لم يسبق وأن خنت نفسي قبل خيانتك وليشهد الله أنه وطوال أعوام زواجي بك لم أحط من قدري وافكر برجل آخر غيرك، أنت….
صمتت تتنفس بعنف شديد، ثم رفعت عيونها له تقول بغضب وقد كانت نفسها مشحونة بالاستياء وكل شيء يضغط على أعصابها في تلك اللحظة :
_أبي حي يرزق، ملك سبز ما يزال حيًا لتعلن نفسك ملكًا أنمار، إياك والتجرأ على مكانة أبي، وإلا لن تجد أمامك غيري ليقف في وجهك، التزم بحدود مكانتك المحدودة كنائب عنه و…عني .
ختمت حديثه تراقبه بصمت وهو ما يزال صامتًا بشكل خطير لا شيء يتحرك به سوى صدره الذي كان يصعد ويهبط بقوة دليلًا على شدة غضبه .
تراجعت توبة تتحرك صوب خزانتها تخرج منها ثيابها، ثم نبست بصوت خافت دون أن تكلف نفسها عناء الاستدارة صوبه :
_ أنت لن تلغي شيئًا سبق واعطى والدي كلمته بها، اعتقد أنك تدرك ما أعني أنمار..
ختمت حديثها تدخل المرحاض، تاركة خلفها مراجل تغلي بالغضب والحقد، يضغط على قبضته بجنون حتى كاد يحطمها يراقب المرحاض بأعين مرعبة، ولم تصدر عنه ردة فعل على ما حدث سوى بسمة صغيرة لا معنى لها…..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صباح جديد بعد مرور ثلاثة اسابيع لها مع الصغير أرسلان بيجان بطل الرواية الخيالية التي تركها لها والدها كي تؤنس وحدتها .
فترة طويلة تقضيها في قراءة مغامرات طفل، طفل مريب غريب و…عجيب .
تركت سول الكتاب من بين أناملها ناقمة حين وصل لنهايته ولم تُستكمل القصة، أين باقيتها؟؟ ما الذي حدث لارسلان وما مصيره حينما ينضج، لما توقف القصة عند عمر ست سنوات فقط ؟؟
_ ربما هناك جزء ثاني منها ؟!
وعند هذه الفكرة اندفعت سول بسرعة تجذب حاسوبها المحمول تضعه على قدمها تبحث به بسرعة كبيرة عن اسم الكتاب الذي كانت تقرأه، تبحث عن كاتبه وعن اجزاءه، لكن النتيجة كانت …
_ لا شيء ؟! حقًا ؟؟ لا بد أن هناك انسان ما كتب هذه الرواية، كيف يعقل أن لا اخبار عنها ؟؟
زفرت بضيق ولم تكد تستكمل بحثها، حتى سمعت صوت موزي يصدر ضجيجًا في الخارج، نفخت بصوت عالٍ تصرخ بنبرة مسموعة :
_ موزي توقف عن كل هذا، أنا لست في …..
ثواني فقط حتى اتسعت عيونها بقوة تنتفض عن الفراش راكضة للخارج بشكل جنوني جعلها تسقط مرات عديدة في طريقها، بحثت دون هداية عن ذلك القرد حتى ابصرته يجلس على نافذة البهو يراقب المارة وهو يحمل بعض الفاكهة يتناول قضمة، ثم يلقي باقيتها على المارة لترتفع اصوات السبات والصراخ في الاسفل، وقد زاد هذا حماس موزي ليسارع ويحضر باقية الفاكهة ويكمل استمتاعه اليومي .
كل ذلك تحت أنظار سول المتشنجة :
_ وأنا من كنت أتعجب نظرات الجيران الكارهة لي كل يوم ؟!
صرخت بصوت مرتفع باسمه تندفع صوبه تجذبه من سترته الصغيرة التي يرتديها طوال الوقت ترفعه منها صارخة :
_ أنت أيها القرد الحقير، ما الذي تفعله ؟؟ هل تحاول أن تدفعني لحافة الإفلاس ؟؟
أصدر موزي اصواتًا مزعجة وهو يحاول الإفلات من قبضته أو خلع سترته حتى، لتجذبه هي أكثر مرددا بجنون :
_ احضرتك من الملجأ وآويتك في منزلي أيها المتشرد واحضرت لك من الفواكه ما تشتهي الأنفس .
دارت بعيونها عليه تقول بصوت خافت حاد :
_ حتى أنني دفعت كل ما املك في جيبي ذات شهر فقط لاشتري لك سترة القرد عبود عسى أن تسر قلبي وتصبح مثله، لكن لا أنت مصر أن تكون حقيرًا كبغباء جعفر، خيبت ظني يا سيد .
تململ موزي بين قبضتها وهي فقط تنفست تتذكر ما خرجت لأجله :
_ على كلٍ ليست وقت محاسبتك الآن فأنا سألقي بك في الطرقات على أية حال، أخبرني قبل تشريدك اولًا موزي أين وجدت تلك الرواية ومن اخبرك عن مكان المقطع المسجل لأبي ؟؟
رمقها القرد دون فهم، كان يحاول فقط الإفلات منها، لكنها سحبته معها داخل الغرفة تشير صوب الكتاب الذي أعطاه لها :
_ هذا أين وجدته ؟!
أصدر القرد أصواتًا مزعجة يحاول الفرار منها، لكن هيهات، رفعته أمام عيونها بإصرار، تأبى البقاء وحيدة بعدما اعتادت الحياة بين صفحات هذا الكتاب، لم تكتفي بعد مما قرأت، لم ترضي فصولها تجاه ذلك الإرسلان المريب .
_ تحدث أين وجدته، هل تعلم أين هو الجزء الثاني منه ؟؟ هل تعلم عن أرسلان ذاكة؟! اعترف أيها الاجرب.
نظر لها القرد ببلاهة لتشعر هي بغباء شديد، كثرة تعاملها مع المختلفين سيجعلها واحدة منهم .
ألقت القرد على الفراش بحنق تحاول أن تخرج من تلك الحالة التي تلبستها، والشكر لله أن هناك انسان على هذه الأرض تذكرها ليأتي ويرن جرس منزلها في هذه اللحظة التي كانت في أمس الحاجة لمشاركتها مع بشري يصرف انتباهها عن التفكير في كل ما يحدث حولها .
تحركت صوب الباب بسرعة تفتحه بلهفة تبصر خالد يتوسطه، ادعت الحنق وهي تردد :
_ ما الذي تريده خالد ألم اخبرك قبلًا ألا تأتي، فأنا لم اسامحك بعد على ما فعلته معي و…..
توقفت عن الحديث حين أبصرت أمامها صديق والدها المقرب ووالد خالد يتقدم منها ببسمة واسعة حنونة :
_ مرحبًا يا ابنتي، كيف حالك ؟!
ابتسمت سول بسعادة كبيرة تتلمس طيف والدها في ملامح الرجل مرددة بسعادة :
_ عم جلال ؟!
ابتسمت تتنحى عن باب منزلها ترحب به بسعادة كبيرة تدعوه للدخول، لكن فجأة توقفت عن الحديث حين أبصرت رجلين غريبي المظهر مريبي الهيئة يقفان جواره يرمقانها بفضول و….علياء وكأنهما ملكان يتفقدان أحوال الرعية .
رفعت سول حاجبها تشير صوبهما مرددة باستنكار :
_ من هذين الغريبين عمي ؟!
استدار جلال يرمق الضيفين ثواني بنظرة غامضة قبل أن يعود لها مبتسمًا بسمة صغيرة لم ترحها كثيرًا وقد كانت محقة في شعورها هذا إذ نطق العم جلال بنبرة خافتة يشير لهما :
_ هذان؟؟ هذان صامد وصمود، سيكونان مرافقينك في رحلتك القادمة لموطنك يا ابنتي ……
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منذ الصباح وهواء سبز تغير فجأة وكأن رياح عاصفة على وشك زيارتها لتلك المملكة الهادئة، أو ربما ستقتلع المملكة من جذورها .
حالة التحفز بين أروقة المملكة وانتشار جنود المملكة في الطرقات كان مثيرًا للريبة والقلق، لتعم حالة من الهرج والمرج في الأسواق .
الأسابيع السابقة العديد من القرارات المريبة تم تطبيقها في المملكة، قرارات لم ترضي البعض، وأثارت حنق الآخر، لكن لا أحد تجرأ على التحدث بكلمة، ليس بعد أعوام من الرغد يقنطون من بعض الأيام العجاف .
لكن ما لم يدركه شعب تلك المملكة المسالمة أن الحرب في الأسابيع المنصرمة كانت تطبخ على نار هادئة، وأن عصور السلام التي غرقوا بها، على وشك الجفاف، وأن الهدوء الذي ساد سماء سبز دائمًا آن له أن ينقشع .
ثواني هي فقط قبل أن تعم الفوضى بين طرقات سبز بشكل غير معهود، حين سمعوا أبواق الحرب تنطلق وبعنف شديد، أبواق ما سمعوا مثلها منذ فنى المنبوذين، هل يعقل أنهم عادوا ؟!
بدأ الجميع يجمع أغراضه ويهرولون صوب منازلهم يحتمون بجدرانها من المجهول، حتى أصبحت المملكة وخاصة العاصمة كمدينة الاشباح ..
وهناك على أطراف البلاد كان يقف قائد جيوش سبز يراقب بقلق ذلك الجيش المتحرك صوبهم بشكل أثار رغبه يردد :
_ يارب سلم، مالنا والحروب نحن ؟!
ردد أحدهم جواره بخوف من عصور الظلام التي بدأت تبتلع سبز :
_ بل مالنا وارسلان نحن ؟؟ ما كان لنا أن نستمع لأوامر أنمار، لقد علقنا مع اسوئهم، ما كان لنا أن ندخل حرب ليست بحربنا .
نظر له القائد وقد علت نظراته ما أبى النطق به، ليتنهد بصوت ميت وقد ارتجف صدره، ليس خوفًا من أرسلان أو غيره، بل خوف من دخول سبز حربٍ لا تعنيها مع من لا يرحم .
لو كان أنمار قد عكر صفو سفيد لكان اهون عليهم، فهو على دراية أن ملكها حكيم متريث اغلب الاوقات، لا يتسرع في إتخاذ ردة فعل .
عكس مشكى وآبى، إذ أن ملوك هذه الممالك وكأنهم جالسين على جمر في انتظار، أن يسعل أحدهم جوار حدوده، كي يعلنها حربًا …
وأنمار لم يكتفي بالسعال جوار حدود مشكى التي تعاني ما يكفيها في الآونة الأخيرة بالفعل.
بل هو تجرأ عليهم وعلى حدودهم، والسبب ؟؟
ما يزال مجهولًا ..
_ أطلق أبواق الحرب، ليستتر كلٌ بمنزله حتى تمر هذه الغيمة، و أرسلوا لسفيد بخطابٍ، اعتقد أننا سنكون في أمس الحاجة لمن يمنع أسد مشكى عنا . ….
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحرب لم تنتهي هي فقط كانت تتوارى أسفل رماد الهدنة، تنتظر نفخة غدر لتشتعل مجددًا …..
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية أسد مشكى)