روايات

رواية فوق جبال الهوان الفصل الثامن 8 بقلم منال سالم

رواية فوق جبال الهوان الفصل الثامن 8 بقلم منال سالم

رواية فوق جبال الهوان البارت الثامن

رواية فوق جبال الهوان الجزء الثامن

فوق جبال الهوان
فوق جبال الهوان

رواية فوق جبال الهوان الحلقة الثامنة

استغرق ما حدث عدة ثوانٍ، ورغم أنها كانت فترة زمنية قصيرة للغاية وسريعة، إلا أن تأثيرها كان جسيمًا عليها، سواء نفسيًا أو بدنيًا، فقد كانت مرتها الأولى التي تتعرض فيها للســرقة بهذه الفجاجة، وعلى مرأى ومسمع من العامة، دون أن يحرك أحدهم ساكنًا، أو حتى يقوم بمطاردة اللص، ليكتفوا فقط بدور المشاهدة والمتابعة السلبية.
تألمت “إيمان” من ذراعها، شعرت وكأن أحدهم قد انتزعه من موضعه قبل أن تُنتشل الحقيبة منها، لتصبح الفاجعة أكبر، والكارثة أعظم بفقدانها لما تحتويه من مقتنيات شخصية هامة.
لم تنشغل “دليلة” فقط بشقيقتها التي لم تكف عن الصراخ والعويل، بل حاولت رؤية أي شيءٍ مميز بوجه هذا الســـارق حتى تتمكن من التعرف عليه، وحفر تفاصيل وجهه في ذاكرتها .. على ما يبدو لم يتخذ حذره، فبدت ملامحه ظاهرة إليها، خاصة أثناء انحرافه عند المنعطف ليفــر من المكان قبل أن يتطوع أحدهم للإمساك به، وإيقافه.
هتفت “إيمان” بصراخٍ، وقد انخرطت في البكاء:
-أنا في مصيبة دلوقت.
حاولت شقيقتها تهدئة روعها، فربتت على ظهرها برفقٍ، وقالت:
-اهدي يا “إيمان”، إن شاء الله كل حاجة هتتحل.
اتسعت عيناها في محجريها متابعة وصلة بكائها الصارخ:
-ده الشنطة فيها الموبايل، والفلوس، وكمان مفاتيح الشقة.
رد أحدهم من الخلف بشيءٍ من الإشفاق:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، خدي بالك يا بنتي، الحرامية ملو البلد.
بينما أضاف آخر مستنكرًا:
-وهو حد بقى بيحط فلوس ولا موبايل في شنطة؟ دي أول حاجة بتتسرق.
في حين تكلمت امرأة ما بسخطٍ:
-حتى الدهب الصيني بيشدوه من على رقبتنا ولاد الحـــرام!
وأظهرت رابعة تعاطفها معهما:
-يعوض عليكي ربنا.
استمرت “إيمان” في التنديد بما آلم بها:
-إيه الحظ ده؟ كنت أنا ناقصة!!
في التو اقترحت عليها شقيقتها بتصميمٍ:
-احنا نطلع على القسم نعمل محضر حالًا.
فزع بدنها لمجرد تخيلها الدخول إليه، وملاقاة أرباب الإجـــرام بمختلف فئاتهم، شحب وجهها أكثر مما يبدو عليه، وسألتها بنبرة أكثر هلعًا حينما بدأ عقلها يذكرها بتوابع ذلك القرار الخطير:
-ولو “راغب” عرف؟
ضيقت “دليلة” عينيها بانزعاجٍ، فتابعت “إيمان” كلامها وهي تكفكف دمعها المسال:
-ما أنا كده هبقى في مشكلة أكبر.
نظرت إليها بغير تعليقٍ، لتنهي قولها في خوفٍ مضاعف:
-إنتي ناسية إني جاية هنا من وراه؟
زفرت “دليلة” قائلة في تبرمٍ:
-وهو ده وقته؟
صاحت في استهجانٍ وهي تطوح بذراعها:
-شايفة البهدلة اللي بقيت فيها؟
لحظتها زاد إحساسها بالألم، فاشتكت إليها في عجزٍ:
-دراعي بيوجعني أوي.
رغم ما قالته إلا أن “دليلة” ظلت متمسكة برغبتها، وأصرت على المضي قدمًا فيما قصدته قائة:
-معلش لازم نعمل بلاغ، مش هسيب حقك، الناس دي أجبن من إنها تقدر تواجه البوليس.
قبل أن تهم بالاعتراض عليها، أوضحت لها:
-وعلشان تطمني، أنا هقول إنه سرقني أنا!
بدا حلها إلى حدٍ ما مريحًا رغم توجسها من مخاطر الأمر، إلا أنها استسلمت أمام إلحاح شقيقتها، فسحبتها “دليلة” معها نحو الطريق المؤدي إلى قسم الشرطة وهي تخاطبها:
-يالا أوام، خلينا مانضيعش وقت.
واصلت “إيمان” تبرمها المهموم مرددة:
-كان مستخبيلي ده فين؟
………………………………..
بمجرد أن أصبح بعيدًا عن محيط الخطر، أوقف دراجته النــــارية أسفل إحدى اللافتات المعدنية الضخمة، ثم راح يتفحص محتويات غنيمته التي اقتنصها بخفةٍ قبل قليل. أفرغ الحقيبة من كل ما فيها، وألقى ما لا يلزمه أرضًا، ليحتفظ بالنقود، والهاتف، وميدالية المفاتيح. تأمل “سِنجة” بطاقة الهوية الخاصة بها، وقرأ الاسم ببطءٍ، كأنما يتهجى الحروف، لينتقل إلى العنوان، فاستدل بسهولة على موقع سكنها المميز معلقًا في سخطٍ:
-ده إنتي من العالم اللي واكلينها والعة.
للحظةٍ أصابته الحيرة، فتساءل مع نفسه:
-بس جاية الحتة عندنا ليه؟
طوى بطاقة هويتها البلاستيكية بقوةٍ، لتتكسر إلى عدة أجزاءٍ، ثم ألقاها عند قدميه مكملًا حديث نفسه المنتشية:
-حظك أخد اللي فيه النصيب منك.
بعدما انتقى ما يلزمه، طوح بالحقيبة، وحافظة النقود الفارغة بعيدًا ناحية مكب النفايات، لينتظر وصول صديقه الذي يمتلك متجرًا لبيع الهواتف المحمولة المستعملة في نطاق هذا الحي.
جاءه الأخير بعد برهةٍ، فأخذ خلسة منه الهاتف ليتفقده بتركيزٍ ودقة، في حين استطرد “سِنجة” معلقًا باهتمام:
-حتة حلوة أوي، ومش متبهدلة.
سأله صديقه بلهجةٍ شبه محققة:
-منين العدة دي يا “سِنجة”؟
أجابه، كالعادة، بالمراوغة:
-رزق جالي على الطاير…
ثم غمز له بطرف عينه متابعًا بابتسامةٍ ماكرة:
-وعايزك تروقني فيه.
أتى رده سمجًا:
-إنت جاي تبعهولي، ده إنت سارقه!
لم تكن جملته مزحة سخيفة يمكن تمريرها، بل كان الأمر مسيئًا إليه، فحذره “سِنجة” مهددًا:
-وطي صوتك، ولا عايز اللي حواليك يعرفوا إنك شغال في الشمال؟!
رد عليه بعبوسٍ، وقد انعقد ما بين حاجبيه:
-يمين ولا شمال مش فارقة، طالما بنطلع بالمصلحة في الآخر.
هز رأسه متمتمًا:
-مظبوط الكلام، ها، يستاهل نتراضى؟
وضعه في جيبه وهو يدور بعينيه حوله ليتأكد من عدم مراقبة أحدهم لهما مكملًا بإيجازٍ:
-أيوه.
فرك “سِنجة” كفيه معًا، وعلق بنبرةٍ أقرب للتهليل رغم خفوتها:
-أهوو ده الكلام!
……………………………..
نظرًا لكون قسم الشرطة يقع في نفس دائرة وقوع حادثة السـرقة، وصلت الشقيقتان إليه بعد بضعة دقائق، لتنتاب “إيمان” رجفة خفيفة في أطرافها حينما أصبح في مرمى بصرها، تعلقت بذراع “دليلة” هامسة في صوتٍ مترددٍ، وأمارات الخوف تتجسد بشكلٍ جلي على قسمات وجهها المبهوت:
-مش كنا استنينا لحد ما نعرف ماما ولا بابا؟
ردت عليها بتصميمٍ معاند وهي تسحبها معها في الممر المستطيل المؤدي إلى الداخل:
-ونضيع وقت؟ حلاوتها في حموتها، وزي ما أنا قولتلك هقدم البلاغ باسمي.
استوقفتها في منتصف الرواق لتسألها في توجسٍ متزايد:
-ولو “راغب” سأل؟
أجابتها بثباتٍ:
-مش هنعرفه التفاصيل بالظبط.
نظرت إليها باسترابةٍ متسائلة:
-يعني إيه؟
لفظت دفعة كبيرة من الهواء من رئتيها، وأجابتها بعبارات مرتبة تبدو مقنعة لمن يسمعها من المرة الأولى:
-هقوله أنا فوت عليكي بعد الكلية، وإنتي كنت راجعة البيت بعد ما جبتي طلباتك من السوبر ماركت، واتقابلت معاكي، وكنت شايلة عنك شنطتك، وجه الحرامي، وشدها مني، فاتسرقتي ساعتها.
بدا سردها منطقيًا ومقبولًا، فقالت وهي تومئ برأسها:
-ماشي، وربنا يستر.
استوقفهما أحد معاونين القسم متسائلًا في جديةٍ:
-خير يا هوانم؟
في التو حادثته “دليلة” بنبرة ثابتة:
-أنا عايزة أعمل بلاغ سرقة.
نظر إليها بإمعانٍ، قبل أن يأمرها:
-طب تعالي ورايا.
من الناحية الأخرى، لمحها أحد هؤلاء الذين يعملون سرًا مع أتباع “الهجام”، ممن ينقلون آخر الأخبار الأمنية المتعلقة بهم إلى كبيرهم. كانت ذاكرته جيدة، فاستطاع أن يألف ملامحها بسهولة، وتحدث مع نفسه في شكٍ سرعان ما تحول إلى يقينٍ:
-مش دي نفس البت! آه هي! هو أنا هتوه عنها؟
ظلت عيناه كالصقر تتابعان تحركاتها وهو لا يزال يسأل نفسه:
-بس يا ترى جاية هنا ليه المرادي؟
…………………………………….
التقت بأحد الضباط المكلفين بمتابعة جرائم السرقة، وراحت تسرد له تفاصيل حادثتهما، وكأنها الشخص المنوط الذي تعرض للأمر، وليست شقيقتها المفزوعة، كذلك أعطت وصفًا إلى حدٍ ما دقيقًا عنه، ليحضر الضابط ألبومًا ضخمًا يحوي في صفحاته صورًا فوتوغرافية لكل من ألقي القبض عليه في هذه النوعية من الجرائم.
بعد فحصٍ، وتمحيص، وتدقيق لما يقرب من ربع ساعة، استطاعت “دليلة” التعرف إليه، فأشارت إلى صورته صائحة بحماسٍ:
-ده يا حضرت الظابط.
أخذ الألبوم منها، وتأمل صورته مُكررًا سؤاله عليها:
-إنتي متأكدة إن هو ده اللي سرقك؟
العلامات المميزة بوجهه والمتمثلة في الندوب والجروح القديمة جعلتها قادرة على تمييزه والتعرف عليه، لذا بما لا يدع مجالًا للشك ردت:
-أيوه، متأكدة مليون في الـ 100 .. أنا عرفته من وشه، مستحيل أتوه عنه.
استدعى الضابط معاونه ليأمره في الحال:
-خدها يا صول “صادق” وكمل الإجراءات.
أدى له التحية العسكرية قائلًا:
-حاضر معاليك يا باشا.
انصرفت بعدها “دليلة” وهي تشعر بالارتياح لأنها تمكنت من الإمساك بهذا اللص اللعين، وسارت خلف الصول الذي سألها بشكلٍ فضولي:
-وإيه اللي جابكم النواحي دي؟
أجابته بتلقائيةٍ:
-أنا ساكنة في المنطقة، وأختي فاتت علينا، وكنت بوصلها لأول الشارع علشان تركب تروح بيتها.
هز رأسه مرددًا بطريقة غامضة:
-قولتيلي…
استشعرت في نبرته الغريبة شيئًا غير مريح، وصدق حدسها عندما توقف عن المسير ليستطرد بصوتٍ خفيض، ومملوء بالتحذير الخفي:
-في حاجة لازمًا أنبه عليكي قبل ما تعملي المحضر بشكل رسمي.
سألته بعينين ضيقتين:
-إيه؟
مال ناحيتها ليتابع بنفس الصوت الهامس:
-الحــرامي ده مش سهل، مسنود.
لم تفهم ما الذي يرمي إليه بكلماته تلك، زادت ملامحها تعقيدًا وهي تسأله:
-يعني إيه الكلام ده؟
نظرة عابرة ألقاها حوله، قبل أن يخبرها مطلقًا تحذيره الجاد لها:
-يعني اللي واقف وراه ناس بلطجية تقـــال أوي، مش أي حد يقدر يتعامل معاهم.
ظنت أنه يحاول إرهـــابها بعباراته تلك لتتراجع عن موقفها، خاصة بعدما تعرفت إليه، لم تقبل بفرض ذلك عليها وعاندته بتحدٍ:
-وأنا مش هتنازل عن حقنا، ده احنا المجني عليه مش الجاني.
رد بإيجازٍ:
-براحتك.
غمغمت بعدها في تبرمٍ ساخط، وقد ساد وجهها تكشيرة كبيرة:
-بقينا في زمن العجايب، اللي يتسرق هو اللي يخاف ويكش!
كانت “إيمان” صامتة غالبية الوقت، تتابع كل ما يدور بخوفٍ وتوتر، فتشبثت من جديد بذراع أختها لتهمس لها:
-“دليلة”، أنا قلقت، والصراحة خايفة.
أخبرتها كنوعٍ من بث الطمأنينة لها:
-ما تقلقيش يا “إيمان”، أنا هتصرف.
انشغل تفكيرها مجددًا بزوجها، فتمتمت في نبرة منزعجة ومشوبة بالخوف:
-زمان “راغب” بيتصل دلوقت.
سمعتها شقيقتها، فاقترحت عليها:
-لما نخلص ابقي خدي كلميه من عندي وعرفيه.
شعرت بجفافٍ شديد يجتاح حلقها، وتمتمت في توترٍ آخذ في التزايد:
-ربنا يستر، أنا مرعوبة من ردة فعله أكتر من أي حاجة تانية.
استنكرت “دليلة” ارتعابها منه، وعلقت ساخرة بفمٍ ملتوٍ:
-والله تلاقيه ولا فايقلك أصلًا!
………………………………
اشتدت عروق وجهه، وازداد تجهمًا وعبوسًا لأنها لم تعاود مهاتفته مثلما أخبرته قبل قليل، لم يستطع “راغب” التركيز في المحاضرات التي يتلقاها، وشرد في أمرها محاولًا تفسير سبب غيابها غير المبرر، فلو كانت لا تزال مقيمة عند والدته، لوصلت إليه كل أخبارها وكأنه متواجد مع العائلة. كز على أسنانه مدمدمًا في غير صبرٍ:
-ده اللي 10 دقايق وهتكلمني!
لم يتوقف عن الاتصال بها، وفي كل مرة كان يأتيه الرد بأن هاتفها مغلق، ويتعذر الوصول إليها، ليتضاعف حنقه وهواجسه، ضغط بقبضته على حواف هاتفه مخاطبًا نفسه:
-كمان قافلة موبايلها؟ أكيد في حاجة بتحصل من ورايا!
توعدها بعدما حرر زفرة معبأة بدفقاتٍ من الحنق:
-طيب يا “إيمان”، لولا ظروف سفر ماما مكونتش سبتلك الحبل على الغارب كده!
فرك طرف ذقنه مكملًا وعيده:
-أما أرجع بس ونتحاسب.
التفت خلفه دفعة واحدة حينما ناداه أحدهم من بعيد مشيرًا بيده إليه:
-يالا يا “راغب” احنا بدأنا.
هز رأسه معقبًا:
-تمام، جاي وراك!
همَّ بالتحرك تجاه باب القاعة، وهو يجري آخر محاولاته للاتصــال بزوجته، على أمل أن يجدها تجيبه؛ لكن لا جدوى!
………………………………
القيام بأعمال المنزل البسيطة لم يكن من هواياته، ومع ذلك كان مضطرًا للاهتمام بما يخصهما، وخصوصًا ما يتعلق بنظافة ثيابهما القديمة. وقف “حمص” عند حافة سور السطح، حيث علق الحبل الذي تتدلى عليه ملابسهما، لمح من عُلياه مركبات الشرطة وهي تخترق الزقاق الضيق، فاستطرد متحدثًا إلى رفيقه المقرب باسترابةٍ:
-هي الدبابير جاية عندنا ليه؟
سأله “شيكاغو” وهو يطفئ سيجارة غير بريئة كان قد انتهى من لفها وبرمها توًا:
-مين قالك؟
ظل مراقبًا للوضع الغريب، وأشار له بيده للأسفل مؤكدًا:
-راكنين تحت البيت.
انتفض واقفًا من على الأريكة المتهالكة، وهرول نحو حافة السور ملقيًا بما معه هاتفًا في شيءٍ من الجزع:
-طب لو في حاجة كده ولا كده، تاويها أوام.
أجابه بغير خوفٍ:
-اللي حدفتها كانت آخر حتة معانا، غير كده احنا في الأمان، على الحميد المجيد.
استحسن عدم وجود ما يُدينهما هاتفًا:
-زي الفل.
اقتحم أفراد الشرطة السطح دون استئذان، ليصيح الضابط المسئول عن هذه المهمة بصوته الآمر والصادح:
-مكانك إنت وهو.
بشكلٍ تلقائي ومعتاد، رفع كلاهما أياديهما للأعلى، ليتولى “حمص” دفة الكلام مؤكدًا:
-احنا يا باشا في السليم.
تجاهله محدجًا إياه بنظرة احتقارية قبل أن يوجه أمره لرجاله، وهذا التعبير المزدري يكسو وجهه:
-فتش المكان ده كله؟
في شيءٍ من الجراءة سأله “حمص” مستفهمًا:
-قولي في إيه يا باشا واحنا نساعدك؟
تقدم تجاهه بثباتٍ إلى أن وقف قبالته، أشار له بعينيه ليخفض ذراعيه، ثم سأله مباشرة دون مقدماتٍ:
-فين “سِنجة”؟
جاوبه بسؤالٍ آخر:
-هو عمل إيه؟
رمقه بهذه النظرة الجامدة قبل أن يصيح بخشونةٍ:
-ملكش فيه، إنت ترد على أد السؤال.
رد عليه بحذرٍ:
-هو مجاش هنا.
وجَّه إليه سؤاله التالي بنفس الأسلوب الصارم الآمر:
-بيقعد فين؟
أجابه بهدوءٍ:
-يا على القهوة، يا إما عند أي حد من معارفه.
كان تأثير ما تعاطاه “شيكاغو” قد بدأ في الاستحواذ عليه، فلمح من موضع وقوفه “سِنجة” وهو يسير بدراجته في الزقاق، فاستطرد بشكلٍ عفوي:
-مش ده “سِنجة”؟
تحرك الضابط تجاه السور ليتأكد مما يقول، فأمر أحد رجاله في التو عبر جهاز اللاسلكي:
-المجرم قريب منكم، امسكوه…
ثم استدار مخاطبًا البقية:
-وإنتو انزلوا على تحتن وحصلوه أوام!
لحسن الحظ كان أفراد قوة الشرطة منقسمين إلى فرقتين، واحدة مكلفة بالصعود إلى الأعلى، للاقتحام والتفتيش وإلقاء القبض على المجرم في حالة تواجده، وفرقة أخرى مرابضة بالأسفل للإمساك به في حالة تواجده على مقربة من المكان.
تحرك عدة أفراد من القوة تجاهه لإلقاء القبض عليه، فصاح “سِنجة” مستنكرًا محاصرته، والإمساك به:
-في إيه يا بهوات؟ أنا معملتش حاجة؟
لحق بهم الضابط، ومد يده لينقض عليه من تلابيبه هاتفًا:
-اتمسكت يا حرامي!
صاح مستنكرًا وقوعه في قبضة رجال الشرطة هكذا ببساطة:
-أنا؟ وسرقت مين بقى؟
صفعه الضابط على منحنى عنقه بضعة مراتٍ بقوةٍ ألمته قبل أن يخبره:
-هتعرف في القسم يا خفيف…
ثم أمر رجال قوته باتباع أوامره:
-هاتوه على البوكس.
اقتادوه تجاه سيارة الشرطة المصفحة، ليدفعه دفعًا داخلها، وهو يقاوم قدر استطاعته عملية القبض عليه التي تمت هكذا بغرابةٍ وبسرعة غير متوقعة.
………………………………………
وردها اتصالًا هاتفيًا من معشوقها “عباس”، ذاك الذي يحتل عرش قلبها، ويتربع وحده بداخله، ليخبرها بقدومه مع صاحب الكلمة العليا هنا، لتمضية بعض الوقت في منزلها، فابتهجت أساريرها، وسرت على الأخير. في التو قامت “توحيدة” بتبديل ثيابها إلى أخرى جديدة، زاهية ومزركشة، وهي تلقي أوامرها على من تعملن تحت إمرتها:
-أوام يا بنات، روقوا المطرح، الكوبارة جاي على هنا.
من خلفها جاءت “خضرة” لتسألها بتوجسٍ:
-والبت “وِزة”؟
وكأنها قد تناست نوبة الصراخ والعويل الهيسترية التي مرت بها بعدما عرفت بالحقيقة المفجعة .. التوى ثغرها مرددة في تأففٍ:
-كان الواحد ناقصها!
ألحت عليها “خضرة” في سؤالها الحائر:
-ها يا أبلتي، أتصرف معاها إزاي؟ دي مبهدلة الدنيا على الآخر.
لوحت لها بيدها قائلة بوجومٍ:
-اديها أي حاجة تبلبعها، وتخليها تتهد عننا شوية لحد ما أشوفلها تصريفة.
لم تعارضها، وأذعنت ملبية رغبتها في الحال:
-حاضر يا أبلتي.
لم تكن قد سارت عدة خطوات بعد قبل أن يأتيها الأمر النافذ التالي:
-وخلي البت “مروة” تبقى جاهزة، ما هو الكبير أكيد جاي مخصوص علشانها.
ارتسمت ابتسامة عريضة على وجه “خضرة”، وهتفت وهي تتغنج في خطواتها المائعة:
-عينيا يا سِتنا.
قرصت “توحيدة” وجنتيها لتزيد من إشعال الحمرة بهما، وهمست لنفسها في تحمسٍ:
-أيوه كده، الواحد عايز يشوف أيام العز والهنا تاني.
…………………………………
تناقلت الأخبار هنا وهناك عن المشاجرة التي دارت بين “وِزة” و”سِنجة” في وقتٍ سابق بسبب معرفتها بحقيقة وقوفه وراء اختفاء رضيعها والتخلص منه. استمع “عباس” لهذه الأخبار المستجدة من أحد عيونه المندسة في منزل “توحيدة”، بعدما ترجل من السيارة التي سبقت وصول رب عمله وشقيقه، وقف بالقرب من المدخل، وأشعل سيجارته، ليصغي إليه بانتباه، فقد عرف كل شيء دون الحاجة للاستعلام منها شخصيًا عن هذا. ابتسم ساخرًا عندما نما إلى مسامعه تعرض تابعه الأرعن للإيذاء في وجهه جراء تشاحنهما، وعلق وهو ينفث دخان سيجارته محلية الصنع:
-بقى حُرمة تعلم عليه، أما واد خرع بصحيح!
رد عليه مبررًا:
-اتاخد غدر يا معلم “عباس”!
لم يبدُ مكترثًا لأمره، وقال:
-علشانه دني وطفس!
رأى من موضع وقوفه “حمص” وهو يركض تجاههما، وكأنه على علمٍ مسبق بمكانه، فهتف بصوتٍ لاهث ليخبره دون استهلالٍ:
-إلحق يا معلم، الحكومة مسكت الواد “سِنجة”، وشكل الليلة مش فايتة.
جزع للأنباء المزعجة، وأمره وهو يربت على كتفه بقوةٍ:
-طير من هنا أوام.
استجاب له، وغادر محيط العمارة، ليهرع “عباس” متجهًا إلى بداية الطريق حيث من المفترض أن تمر سيارة “الهجام” من هنا، استوقفه عند المنعطف فتباطأت السرعة بالتدريج، خفض “كرم” الزجاج الملاصق لنافذته، ليميل عليه تابعه المخلص مستطردًا بصوتٍ منزعج:
-يا كبيرنا، خليك مطرحك، في عوأ في الحتة.
بتعبيرٍ جامد على ملامحه، تكلم “كرم” قائلًا بغير مبالاةٍ:
-واحنا من إمتى بيهمنا؟!
في حين تساءل “زهير” مهتمًا:
-الليلة إيه؟
التفت “عباس” ناحيته، وخاطبه:
-شكله حوار مع الواد “سِنجة”.
بنفس الهدوء المسيطر عليه أمره “زهير” وهو يشير إليه:
-إفهم في إيه وعرفنا.
هز رأسه في طاعة قبل أن يرد:
-وجب الكلام.
استدار “زهير” برأسه نحو شقيقه يكلمه:
-اطلع على التَبَّة أحسن.
سأله في استغرابٍ:
-مش هتجي معايا فوق عند البت “سمارة”؟
دون أن تتبدل تعابيره الهادئة قال:
-إنت عارف إني ماليش في جو “توحيدة” واللي منها.
انطلق “كرم” بالسيارة نحو الأمام متابعًا في نبرة لهفى:
-خلاص هطلع أجيبها ونرجع سوا.
أومأ برأسه مرددًا بإيجاز:
-ماشي، مطولش.
……………………………
مضى كل شيء سلسًا في قسم الشرطة إلى أن زيلت “دليلة” الأوراق الرسمية بتوقيعها، فانقضت الإجراءات واستعادت بطاقة هويتها، لتغادر مع شقيقتها المكان. وقفت الاثنتان على الناصية، فأعطت هاتفها إلى “إيمان” حتى تتمكن من الاتصال بزوجها، وإخباره كذبًا بتعرض شقيقتها الصغرى للسرقة، واضطرارهما للإبلاغ عن هذا حتى يتم الإمساك بالجاني على الفور ليتلقى الجزاء المناسب على فعلته النكراء.
صوتها خرج مرتعشًا حينما اختتمت كلامها هاتفيًا معه:
-ده اللي حصل يا “راغب”.
تقلص كتفاها في خوفٍ، وهو يصرخ بها عبر الهاتف بغضبٍ، استطاعت الشعور به رغم بعده عنها لمئات الكيلومترات:
-ما أنا قايلك تطلعي البيت على طول، وإنتي غاوية لف ودوران في الشوارع.
ردت عليه محاولة الدفاع عن نفسها؛ لكن صوتها ما زال على اهتزازته المذعورة:
-أنا كنت بجيب طلبات البيت، و”دليلة” يدوب لسه كانت واقفة مستنياني.
أمرها في لهجةٍ حانقة:
-بعد ما تخلصي حوارها ده تخلي أبوكي يجيب حد بتاع مفاتيح يغير كالون الباب، وتأمنيه كويس، وشغلي الموبايل القديم، علشان أعرف أكلمك، لحد ما أرجع ونتحاسب.
ارتعبت أكثر من التفكير في عواقب صدامهما الأكيد، خاصة إن اكتشف الحقيقة وعلم أنها تعرضت للسرقة عندما كانت تقوم بزيارة عائلتها، حاولت التماسك وردت بصوتٍ مختنق:
-ماشي حاضر، بالراحة عليا، أنا أعصابي مش مستحملة، كفاية تأنيب فيا.
لم يأتِ رده، فقد أنهى المكالمة فجـأة لتشعر بالمزيد من الضيق والحزن، ناولت بعدها الهاتف إلى شقيقتها التي كانت تتطلع إليها باستنكارٍ ولوم، سألتها الأخيرة باقتضابٍ متجهم:
-قفل السكة؟
هزت رأسها بالإيجاب وهي ترد:
-أيوه.
لم تتمكن من منع نفسها من إلقاء اللوم عليه ومعاتبته لموقفه المتخاذل معها بترديدها:
-ده بدل ما يطمن عليكي؟ أعوذ بالله منه!
كادت “إيمان” تبكي عجزًا على قلة حيلتها، ورأت شقيقتها سحب الدموع وهي تزحف زحفًا إلى مقلتيها، فهونت عليها قائلة:
-متضايقيش، كل حاجة هتتحل.
رغمًا عنها انسابت الدموع من طرفيها، فحاولت مسح ما بلل وجهها بظهر كفها وهي تتكلم باستياءٍ:
-أنا مش عارفة أعمل إيه دلوقت.
أخبرتها “دليلة” بهدوءٍ:
-هترجعي معايا عند ماما، ولو بابا رجع نروح بيتك نظبط الدنيا فيه، ونفهم ماما تظبط معانا الحوار بحيث يبقى كلامنا واحد، الموضوع بسيط، وأنا كده كده في وش المــدفع، يعني مافيش عليكي أي قلق!
لم يكن بيدها أي حيلة، فقبلت بما هو متاح متمتمة:
-ماشي.
سارت كلاهما في طريق العودة إلى حيث تتواجد عمارة أبويهما، وهذا الصوت اللائم يتردد صداه في فضاءات عقل “إيمان” ليعنفها بشدة:
-يا ريتني ما خرجت النهاردة!
………………………………………
المال يفعل الكثير بنفوس البشر الضعيفة، خاصة الطامعين لاكتنازه، فهناك من يتحين الفرص، بل ويبحث عنها لاصطيادها والاستفادة منها على قدر استطاعته، وكان هو أحد هؤلاء الذين استباحوا أي شيء في سبيل نيل فائدة مالية زائدة، ولو على حساب التضحية بمصائر الأبرياء.
تحرك ذلك المخبر البغيض خارج قسم الشرطة، بعدما استسقى من المعلومات الأساسية ما يحتاج لينقلها إلى من يطعم فمه ويملأ معدته بما يشتهيه، حادث “عباس” هاتفيًا، وملأ أذنه بما يرغب في سماعه، ليعقب الأخير بما يشبه الوعد:
-ماشي، تمام، كده احنا هنتصرف بطريقتنا، نخدمك في أي مصلحة تحتاجها، وحلاوتك هتوصلك من حبايبنا لحد عندك.
أنهى المكالمة الغامضة ليعود إلى “زهير” الذي ما زال قابعًا بداخل السيارة المصفوفة عند مدخل بيت “توحيدة”، وصله مقتطفات متفرقة من المكالمة؛ لكنه لم يفهم ماهيتها، فتساءل بمجرد أن أطل عليه من زاويته:
-في إيه؟
استرسل “عباس” موضحًا:
-ده راجلنا اللي في القسم، عرف مين اللي بيبلغ عننا الدبابير أول بأول.
تحفز في جلسته، وتجعد جبينه متسائلًا باهتمامٍ:
-مين؟
أخبره وهو يحك طرف أنفه بإصبعه:
-بت مستقوية نفسها، ومجمدة قلبها…
استرعى الأمر كامل انتباهه، فأكمل “عباس” باقي كلامه المنقوص:
-وهي اللي مبلغة عن الواد “سِنجة” كمان.
صمت للحظةٍ يفكر في الأمر بشكلٍ تحليلي أكثر عمقًا، قبل أن يستطرد مستفهمًا:
-احتمال يكون في تـــار بايت بينها وبينه؟ خلا بيها مثلًا بعد ما خد اللي عايزه منها؟!!
فرضيته كانت منطقية إلى حدٍ ما، فعلق عليه “عباس” مبديًا ترجيحه لتخمينه الصائب:
-جايز يا ريس “زهير”، وهو سيد من يلبس النسوان في الحيط.
……………………………
في تلك الأثناء، مــرت الشقيقتان بمحاذاة السيارة وهما تتأبطان ذراعي إحداهما بالأخرى، وصوت محادثتهما المنزعج يبدو مسموعًا لكل من يعرجان عليه، فالتفت “زهير” بشكل عفوي برأسه للأمام لينظر نحوهما، خاصة ومن تسير جهة اليمين تهتف بنبرة أقرب للصياح:
-اقسم بالله ما يستاهلك، ده عايز واحدة شبه أمه كده، تمشيه على الخط المستقيم، ولو خالف أوامره تكدره.
في التو تعرف إليهما، إنهما نفس الشابتان اللاتين تطاولتا عليه قبل عدة ساعات قبل أن تندلع المشاجرة!
انشغل بالتطلع إليهما، حتى لم يعد منتبهًا إلى “عباس” الذي كان يحادثه باستفاضةٍ وثرثرة ليشكو إليه عن اندفاع “سِنجة” الأهوج، وتصرفه برعونة في بعض الأمور التافهة، مما يتسبب في العديد من المشاكل الجمة التي تعيق عملهم، خاصة مع صنف النساء.
تنبه إليه على مضضٍ عندما سأله “عباس” في شيءٍ من الاستخبار:
-معايا يا ريس “زهير” في ده؟ ولا ليك رأي تاني؟
قبل أن يفكر فيما يخبره به كنوعٍ من الرد على ما لم يسمعه من الأساس، انطلق بعينيه ناظرًا إلى الأعلى عندما صدح فجـــأة في الأرجاء ذلك الصــراخ الأنثوي المفزع، ليغطي على أي شيء آخر سواه ……………………………………!!!
……………………………………….

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية فوق جبال الهوان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *