رواية يناديها عائش الفصل الحادي والثمانون 81 بقلم نرمينا راضي
رواية يناديها عائش الفصل الحادي والثمانون 81 بقلم نرمينا راضي
رواية يناديها عائش البارت الحادي والثمانون
رواية يناديها عائش الجزء الحادي والثمانون
رواية يناديها عائش الحلقة الحادية والثمانون
اللَّهُمَّ لا تَرْفَعْ لليهُودِ فِي القُدْسِ رَايَةً
ولَا تُحَقِّقْ لَهُم في غَزَّةَ غَايَةً .
_____________
يَكفِي في شَرفِ الذِّكرِ أنَّ الله يُباهِي مَلائكتَهُ بأهلِه.
– ابن القيّم.
~~~~~~~~~~~
قوة الإيمان بالله، هي أكبر قوة يمتلكها الشخص و راحة القلب في التسليم بأقدار الله مهما كانت، فإذا عزمت الأمر و توكلت على الله؛ كانت المكافأة كبيرة و غسل الله قلبك بالجبر و شُفيت كل ندوب جراحك، لقد تعلم ” سيف الاسلام ” الدرس جيدًا، و أيقن أن لا قوة في العالم تضاهي قوة الإيمان بالله..
رفع رأسه للسماء يفرد ذراعيه كطائر طليق يُحلق في الأفق، يستقبل بمرح قطرات المطر التي نزلت في غير أوانها، تُداعب برّقة أنفه فيبتسم بعفوية ثم يركض مُحلقًا بذراعيه على الأرض كما يُحلق طائر النورس في السماء وهو يصيح بنبرة مرحة أضحكت بدر الذي كان يتابعه في سعادة
” شُكــرًا يـــارب.. لك الحمدُ يا حبيبي ”
لقد تمت العملية بنجاح، و ها هو يركض على قدميه تحت المطر كالأطفال بسعادة في اليوم الرابع لهما في بلاد الغرب.. لم تطل مدة بقائهما في الفندق الذي حجز فيه ” بدر” فعندما وصلوا و أجريت التحاليل لسيف، أدخلوه غرفة العمليات في اليوم الثاني و بعد نجاح العملية، أخبر الأطباء “بدر” بضرورة بقاء سيف ليوم آخر تحت المراقبة لتدريبه على بعض الحركات التي تحسن من عضلات القدم عنده، و في اليوم الرابع أخذ بدر شقيقه للمشي لتقوية العضلات عنده، و كانت استجابة سيف رائعة بفضل الله، بل في اليوم الرابع استطاع الركض و السير لمسافات أطول و ها هو يحرز تقدمًا في التمارين الرياضية و العلاج الطبيعي الخاص بالقدم..
رفع بدر كفيه للسماء و همس بفرحة صادقة لامست قلبه، وهو يتابع لعب أخيه تحت المطر و عودته لشقاوته المعتادة
” اللهم إني أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له السموات والأرض أن تجعل عائلتي في حرزك و حفظك و جوارك وتحت كنفك يا الله”
أقبل ” سيف” على بدر راكضًا و قد انساب كامل شعره على نصف وجهه بفعل المطر، فرفعه له بدر في حركة حنونةً ليكشف عن عيناه الخضراوان قائلًا..
” مرحبًا بعودتك يا أخضر العينان ”
قال سيف ضاحكًا وهو يعانق بدر
” مش مصدق إن أنا بقيت أمشي و أجري و أتحرك براحتي ”
” هذا وعد الله يا سيف، وتظن أنها النهاية وفجأة
يُصلح الله كل شيءٍ ”
قالها بدر باسمًا، ثم رَبَّتَ على ظهر سيف بلُطف و أردف..
” باقي على صلاة الجمعة ساعة و نصف، تعالى ناخد الطريق مشي للمسجد.. أهو نكسب حسنات و بالمرة تحرك رجلك أكتر ”
أومأ سيف وهو يرجع شعره للوراء، الذى بدا طويلًا مؤخرًا عن عادته، ثم نظر خلسة لشعر بدر الذي قام بقصه أمس و عاودَ التحسس على خصلات شعره، هاتفًا في حزن مصطنع
” يعني أنا شعري يطول و أنت تقص شعرك !
أنا كنت عاوز نبقى شبه بعض ”
” يا حبيبي أنت الشعر الطويل لايق عليك أكتر مني، لكن أنا زهقت منه خلاص و طول عن المعتاد، فكان لازم أقصره.. ”
” طيب و عائشة ؟! ”
” مالها عائش ! ”
تساءل بدر في استغراب، فرد سيف ضاحكًا
” هتعملك مناحة.. دي كانت بتحب شعرك أوي ”
شاركه بدر الضحك عندما تذكر قولها في ذلك اليوم الذي أوصلها فيه للامتحانات..
” تقص مين ؟؟؟ والله ما اقعدلك فيها.. صلّ على النبي كده.. هو في حد ربنا رازقه شعر زي شعرك كده ويروح يقصه ! بتتبتر على النعمة ليه يا مسلم.. بسم الله ما شاء الله يعني.. احنا كبنات بنيجي بعد مرحلة الثانوية و شعرنا بيبتدي يقع لحد ما هنقرع على أول التلاتينات وأنت داخل في التلاتة و تلاتين أهو وشعرك أجمل من حياتي.. شيل الفكرة دي من دماغك يا بدر عشان ما نزعلش من بعض ”
تساءل سيف عن سر ضحكة بدر الصامتة، فقال بنبرة متحمسة
” متحمس أوي أشوف ردة فعلها.. عارف إنها ها تتعصب عليا بس متأكد إنه هيعجبها شكلي الجديد، خصوصًا إني بقيت وسيم زيادة ”
ضحك سيف على آخر جملة قالها شقيقه، و أردف بتأكيد
” الصراحة أنا شايفك كده أحلى.. بس اللي أنا متأكد منه إن مرات أخويا مش هتعديها على خير.. ”
ظل الأخوان يتحدثان في مختلف الأمور وهما في طريقهما للمسجد الذي سأل عنه ” بدر” بعض الأشخاص في الفندق و أخبروه بمكانه، و منذ وصولهما لأراضي الولايات المتحدة وهو يلزم الصلاة في ذلك المسجد حتى تعرف على الإمام به، و كان رجل بريطاني الجنسية قد أسلم على يد أحد علماء الإسلام منذ خمسة عشر عامًا، و أصبح إمام ذلك المسجد و الكثيرون ممن يريدون اعتناق الاسلام يأتون إليه..
لقد أحب الرجل و الذي يُدعى ” صالح ” بدر كثيرًا، و عرض عليه أن يزوجه إحدى بناته فضحك بدر بلُطف و أخبره أنه متزوج من الفتاة الوحيدة التي أحبها قلبه، مما تبسم الرجل حبورًا و دعا لهما بالبركة و الذرية الصالحة..
تنهّد سيف بسعادة وهو يتأمل التنسيق الرائع في شوارع أمريكا، ثم وقعت عيناه على رجل طاعن في السن يستند على ولده قائلًا له بلهجته
” أعتذر يا بني، فقد ضيعت عملك بسببي ”
رد الابن باسمًا
” لا تقل هذا يا أبي، وجودك معي أهم من أي شيء آخر ”
وصل الحوار القصير لمسامع بدر و سيف، فقد مَر الرجل و ابنه من جانبهما..
أدمعت عين سيف برّقة الأطفال و قال
” الله يرحمك يا بابا.. مات قبل ما أكون معاه ذكريات كتير ”
طوق بدر كتف شقيقه بحنان و أردف
” ممكن أحكي لك عنه لو حابب ”
” أكيد طبعًا.. أنت عيشت معاه أكتر مني أنا و هاجر.. و عرفته كويس و كنت بتقضي معاه وقت طويل في الكلام.. أنا فاكر له حاجات كتير جميلة بس كنت أتمنى لو قضيت معاه أطول وقت ممكن.. ”
تنهّد بدر بحزن عندما تذكر والده ليقول
” أنت عارف إن أبونا الله يرحمه كان أزهري.. بس مش مجرد خريج أزهر، هو حبيبي كان أزهري فقيه عنده لباقة قوية في الحديث بالفصحى، كان حافظ للقرآن و حافظ للأحاديث النبوية الشريفة، ما فيش مرة سألته عن حاجة في الدين و قالي معرفش أو مثلًا هبقى أسأل و أقولك.. لأ، بابا كان دايمًا إجاباته بتكون حاضرة.. كان دايمًا يقولي من نعم ربنا عليا إنه رزقني التعليم في الأزهر الشريف، قالي إنها مسؤولية كبيرة و مش أي حد يتعلم في الأزهر يبقى يستحق لقب أزهري؛ لأن الأزهري لازم يكون شرب من تعاليم الأزهر كلها.. بابا يا سيف كان مُتدبر للقرآن، لما كنت أقف جنبه في الورشة عشان اتعلم منه كنت أسمعه يتلو آيات القرآن بصوت يُذيب الحجر، صوته كان جميل أوي عشان كده كان مؤذن المسجد..
و الناس كانت تحب تصلي وراه من جمال صوته، و عينيه كانت خضرا و جميلة زيك كده و كان عنده على خده نمش خفيف زي البت هاجر، أما شعره و سماره كانوا من نصيبي.. أبويا حبيبي رحمة الله عليه كان جميل الخَلق و الخُلق.. ”
قاطعه سيف وهو يمسح دموعه..
” أنا فاكر شكله كويس و لسه صوته في ودني، بس لما حكيت لي عنه حسيت كأن أول مرة أعرفه.. أنا كان عندي أب جميل و صالح و مكنتش هعرف إني هفتقده أوي كده غير لما كبرت.. ”
تابع بدر باسمًا بدموع و باشتياق كبير لوالده
” رفض إنه يدخلنا أزهر.. خاف تبقى المسؤولية كبيرة علينا و نفشل.. عيبه الوحيد إنه كان يخاف علينا من الهوا الطاير، كان يرفض يحطنا تحت تجربة أي حاجة.. حفظت القرآن منه و اتعلمت منه أمور في الدين و الشريعة لا بأس بها، حتى لما جيت اتعلم شغل الورشة رفض.. رفض جدًا و خاف عليا من الأذى، بس كنت أروح من وراه و اتعلم من العُمال اللي كانوا شغالين في الورشة و كنت أعمل نفسي رايح اقعد معاه و أروح عشان اتعلم شغل الميكانيكا، كان عنده أمل إن أبقى مهندس ميكانيكا شاطر، بس قدر الله و ما شاء فعل.. مات قبل حتى ما أخلص الثانوية.. ”
” بس ربنا عوضك و بقيت تشتغل في أحسن شركة سيارات في مصر، و من أول يوم أثبت جدارة فيها ”
قالها سيف في ابتسامة مواساة لأخيه، فهز بدر رأسه مؤكدًا..
” الحمدلله.. هذا من فضل ربي.. أنعم عليّ و أكرمني.. الحمدلله ”
صمت خيم عليهما للحظات قليلة، كان بدر يسبح و يذكر فيها الله، قاطعه سيف بأدب..
” بدر.. ممكن أسألك عن آيات في القرآن قرأتها أكتر من كذا مرة بس مش فاهمها ؟ ”
” طبعًا يا حبيبي اسأل.. و إن شاء الله يكون عندي الجواب ”
” لما غضب الله تعالى على قوم صالح اللي عصوا أمر الله ورسوله و عقروا الناقة ربنا قال في سورة
الشمس فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا، و هنا اتكررت حروف (فَدَمْ – دَمَ) و في سورة كمان ربنا سبحانه و تعالى اتكلم عن حدث مهم هيحصل يوم القيامة في سورة الفجر في الآية اللي بتقول
﴿ كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ﴾ برضو حروف لفظ دكا دكا اتكررت.. و كمان في سورة فاكرها ربنا اتكلم عن شدة ظلمة الليل و وصفه في سورة التكوير قال ( وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ) حروف لفظ عسعس، فأنا عاوز افهم الحروف اللي بتتكرر دي اسمها ايه في القرآن و ليه بتتكرر في الكلمة الواحدة.. فاهمني صح ؟! ”
تبسم بدر ثم ضحك و قال
” فاهمك والله.. و على فكرة فيه آيات كتير كده زي سورة يوسف ذُكر فيها آية (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ)
حص حص يعني ظهر الحق و تبين للناس، الكلمة يا حبيبي اللي فيها تكرار للحروف بنسميها..
(الألفاظ الإهتزازية) و دي بتدل على قوة و روعة بلاغة القرآن الكريم، الألفاظ الرائعة دي لما تيجي تقرأها بتخليك تحس بإهتزازها و شدتها و أهميتها، يعني الكلمات اللي بيتكرر فيها حرفين متتاليين أو تقرأ كلمة كاملة قوية إهتزازية؛ بتبقى الألفاظ الإهتزازية دي موجودة عشان تبين حدث في غاية الأهمية أو بيكون للتعبير عن شيء قوي و عظيم، و لله العظمة و الجلالة.. فهمت يا حبيبي؟ ”
اتسعت ابتسامة سيف و هو يومئ بتفهم
” جزاك الله خيرًا، كنت محتاج أفهمها جدًا.. يعني سبحان الله جمال القرآن و جمال اللغة العربية يخليك مذهول لما تفهمه أكتر ”
” عشان كده ربنا سبحانه بيقول في سورة النساء
( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) تدبر القرآن الكريم و فهم معانيه عبادة عظيمة ربنا حثنا عليها ”
تبسم سيف بحسرة و أردف
” ده أنا بلعن الأيام اللي كنت فيها بعيد عن ربنا”
هتف بدر سريعًا بحُب أخوي بدا في عينيه
” استغفر الله.. يلا.. ”
” أنا قلت حاجة غلط ؟ ”
” حبيبي يمكن أنت مش قاصد و قولتها بشكل عفوي، لكن أنت كمسلم لازم تبقي عارف إيه الحرام و إيه الحلال.. ربنا قال في حديث قدسي
قال رسولُ اللهِ صلَّ اللهُ عليه وسلَّم قال اللهُ تبارَك وتعالى: (يُؤْذِينِي ابنُ آدَمَ، يَسُبُّ الدَّهْرَ وأنا الدَّهْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ والنَّهارَ). رواه مسلم، في صحيح مسلم.. ”
عقد سيف حاجبه في تساؤل
” يعني إيه ؟ بس أنا ما كنتش أقصد ”
” ها قول لك يعني إيه عشان تاخد بالك بعد كده..
يعني عندك مثلًا في سورة هود
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ.
وهنا بيقصدوا إن اليوم ده كان شديد بلاؤه عليهم و ده مش سب لأنك وصفت اليوم بأنه صعب أو مش محتمل لكن يا حبيبى السب المقصود في الحديث القدسي إنك تلعن اليوم أو الشهر أو الساعة أو السنة، زي إنه يحصل لك حاجة أنت فاكرها مش خير لك فتقوم تزعل و تقول الله يلعن ده كذا..
و بما إن الدهر يعني الزمن يعني يا إما ساعة أو شهر أو سنة أو يوم فأنت عليك إثم و ذنب لو سبيته لأن ربنا سبحانه و تعالى هو المتصرف في الدهر.. الدهر ملوش ذنب إن يومك مثلًا مكنش حلو.. ربك هو اللي كتب اليوم ده يبقى كذا، فإنك تسب الدهر كده استغفر الله أنت بتسب ربنا، ممكن أنت تكون على جهل بهذا الشيء بس من الوقت اللي تعرف فيه الصح و إنه حرام تسب الدهر، لو سبيته و أنت على علم بأنه حرام فأنت كده تتحاسب بما يقره الله عليك و تشيل إثم كبير، لأن دي مش حاجة هينة أبدًا و مينفعش نكبر دماغنا منها.. فهمت يا سيف ؟ ”
” فهمت.. استغفر الله العظيم.. بس يا بدر لو وصفته بالشدة ده مش ها يضر صح ؟ ”
” صح يا حبيب بدر، زي مثلًا تقول اليوم ده كان صعب أوي، امبارح كان حر، لكن سب بمعنى لعن ده مُحرم ”
” أنت بجد و نعم الأخ، ربنا ما يحرمنيش منك ”
قالها سيف وهو يضع كفه في كف شقيقه الخشن بفعل كثرة العمل الشاق مقارنةً به، فأطبق بدر عليها في حنو و قال
” و لا يحرمني منك يا حبيب أخوك ”
تابع بعد لحظات في جدية..
” باقي نص ساعة و نوصل للمسجد إن شاء الله.. تعالى نذكر فيها الله.. ”
لأن الطريق كان طويلًا عليهما، و قررا أن يسيران دون اللجوء لمواصلة، فقد وصلا أخيرًا قبل الآذان بعشر دقائق..
أقبل عليهما الإمام ” صالح” مُبتسمًا في ودٍ و مد يده يصافح بدر ثم سيف قائلًا
” السلام عليكم أخواني في الله ”
تبسم الأخوان و ردا التحية، ثم انصرف سيف للوضوء و قبل أن يتبعه بدر أوقفه صالح ليقول في حياء بالفصحى
” ما رأيك لو أنك قلت خطبة اليوم؟ ”
رفع بدر حاجبه في دهشة و أردف
” بجد ؟! ”
أومأ صالح ضاحكًا
” ما بك ! أليس لديك شيء لتَقُله ؟ ”
” أنا ابن أزهري، لدي الكثير لأقوله ”
قالها بدر مفتخرًا بما علمه له والده، و كان الاتفاق بينهما أن تكون خطبة الجمعة من نصيب بدر و التي سيتحدث فيها عن النبي محمد صل الله عليهم و سلم و كيف جاء رحمةً للعالمين، منتهزًا فرصة أن معظم الحاضرون اعتنقوا الإسلام من فترة قصيرة كما أخبره صالحا و سيتكلم عن كيفية السير على نهج رسول الله و أخذه قدوة في كل مجريات حياتنا و كيف تحملوا بالصبر توصيل الرسالة للعالم، و ستكون الخطبة بالإنجليزية ليفهمها الجميع، فهي اللغة الأم في الولايات المتحدة رغم اختلاف الجنسيات، و لكن عند الاستشهاد بآيات من القرآن الكريم بالطبع سيتلوها بالعربية الفصحى لغة القرآن و لغة أهل الجنة..
بدا على أعين بدر الفرحة العارمة وهو يستعد لإلقاء خطبة الجمعة في واحد من أشهر مساجد أمريكا، أخذ نفسًا عميق و بدأ الخطبة بالإنجليزية
بعد أن حمد الله تعالى ثُمّ الصّلاة على النبيّ عليه الصّلاةُ والسّلام بصيغة الصلاة، ثم الموعظة؛ و هيَ المقصود من الخطبة..
أنهى الخطبة الأولى بقوله..
“الإسلام دين يخاطب الإنسان، مهما كان موقعه و مسؤوليته، أو لونه، أو جنسه..
فالمسلم المهتدي مسالم يدعو إلى دار السلام والطمأنينة والسعادة والفلاح، داعية إلى الله سبحانه بالكلمة الطيبة، والحكمة والموعظة الحسنة، مبلغًا مبينًا لآيات الله سبحانه وفق الحجة والبرهان، داعيًا إلى الخير والصلاح، لما فيه خير الإنسان في الدنيا والآخرة، فمن شاء توقف وتفكر ودرس، ومن لم يشأ، فلا إكراه في الدين، فما على الرسول إلا البلاغ المبين، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فعليها..
خذوا بحظكم، ولا تفرّطوا في جنب الله، فقد علّمكم الله كتابه، ونهج لكم سبيله، ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، فأحسنوا كما أحسن الله اليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا في الله حقّ جهاده، هو إجتباكم وسمّاكم المسلمين، ليهلك من هلك عن بيّنة، ويحيى من حيّ عن بينة، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله.. ”
ارتسمت أمارات الابتسامة المشتاقة لرؤية رسول الله على وجوه الحضور، و لمعت أعينهم فرحةً بدخولهم الدين الإسلامي شاكرين أنعم الله عليهم.. صمت ” بدر الشباب ” بُرهةً ليفتتح الخطبة الثانية بحمد الله و التي استكمل فيها عن
فضل الصبر و جزاء الصابرين، فتحدث بالانجليزية..
” الحمد لله على إحسانه، و الشُّكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلَّ الله عليه وعلى آله وصحابته وسلَّم تسليمًا كثيرًا..
أما بعدُ، فيا عباد الله…
إن عشاق الله لا ينفذ صبرهم مطلقًا؛ لأنهم يعرفون أنه لكي يصبح الهلال بدرًا، فهو يحتاج إلى وقت..
ثم تلا قوله تعالى في سورة هود: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}..
تحدث قليلًا عن فضل الصبر و جزاء الصابرين و كيف يكون الصبر عند وقوع البلاء و ماذا نفعل لنستطيع الصبر، ثم أنهى الخطبة بتلك القصة التي حكاها له والده و لم تفارق ذهنه أبدًا..
شيخ بيحكي و بيقول:
كنت قاعد في المسجد لقيت راجل في عمر الخمسينات داخل بيبص حواليه و إيده بترتعش من الخوف، شوية و روحت قعدت جنبه لاقيته بيصلي ويعيط بشكل مش طبيعي لدرجة إني بدأت أقلق عليه..
فضلت قاعد جنبه والفضول بيقولي:
” متسيبهوش غير لما تعرف حكايته ”
خلص الصلاة وقام مسك المصحف وقرب ناحيتي، بصيتله باستغراب وفضلت مترقب حركاته و ملامحه و مستنيه يتكلم عشان أعرف ماله.. لاقيته فتح المصحف على خواتيم سورة البقرة و قالي:
” هي الآيات دي بتعمل إيه للإنسان ! ”
بصيتله بتعجب وقولت: ” اشمعنا الآيات دي؟! ”
رد وقالي: ” أنا هحكيلك بس متستغربش ”
أنا كان عندي بنتي كانت مريضة سكر من وهي عمرها سنة واحدة ده غير إن مامتها ماتت بحُمّى الولادة.
ولما كملت ست سنين جالها الضغط.. كبرت وكانت صبورة بشكل مش طبيعي، كنت ساعات بخاف تكون كاتمة جواها حزن يأثر على نفسيتها وتموت من السكوت فكنت بقرب منها و أقولها:
” طيب عيطي، أو أصرخي، قولي أي حاجة ”
كانت تمسح على شعري و كأني ابنها وترد تقولي:
” بس أنا كويسة ومفيش أي حاجة تعباني ”
كنت وقتها ببصلها وعيوني مليانة دموع وأقولها لا انتي بتكدبي..
كانت تضحك بصوت عالي وتقولي: ” ايوه بكدب بس مخبيش عليك أنا صابرة عشان الجنة تستاهل..
في مرة كنت سهرانة و بعيط يابابا فلاقيت شيخ بيقول في محاضرة جزاء أهل البلاء و وقتها ذكر حديث للنبي صل الله عليه وسلم وكان الحديث بيقول:
” يوَدُّ أهلُ العافيةِ يومَ القيامةِ حينَ يُعطَى أهلُ البلاءِ الثَّوابَ لو أنَّ جُلودَهم كانت قُرِضَت في الدُّنيا بمقاريضَ”.
وفي الحديثِ: فضلُ البلاءِ وأثَرُه في تكفيرِ الذُّنوبِ، وبيانُ أنَّه مِن شأنِ الصَّالحين ”
يعني يوم القيامة لما الناس اللي كانت صحتها كويسة في الدنيا تشوف جزاء أهل المرض والبلاء يوم القيامة و تشوف جمال مكانتهم في الجنة هيتمنوا لو جلدهم كان يتقطع بمقص في الدنيا مقابل إنهم ينالوا الجزاء ده !!
و عاوزني انا بضعفي وغبائي أقول لربنا لا على قضائه ؟
يمكن بلائي يبقى سبب نعيمي بعد كدا الحكاية كلها في الصبر بس.. ”
والله ياشيخ من بعدها عمري ما شوفتها بتعيط على حاجة.
هتصدقني لو قولتلك إنها اتجوزت وحصلها جرح في رجليها كان سبب في بترها وزوجها طلقها وكانت برضو بتقول الحمد لله !
وكنت كل إما بفوت على غرفتها أسمعها بتقرأ خواتيم سورة البقرة وتنام.. أنا سخرت حياتي ليها، ودفنتها بإيدي بعد ما المرض هلك جسمها أنا مكنتش زعلان إني بخدمها.. ياريتها كانت دامت.
الراجل كان بيحكي وجسمه كله بيتهز قبل قلبه، بياخد النفس بسرعة رهيبة، ودموعه كانت نازلة زي الشلال وقال:
” انا جاي أعرف منك فضل سورة البقرة ياشيخ عشان من يوم ما بنتي ماتت وانا بشوفها كل يوم على السرير بتقرأها وكأنها عايشة وكل يوم بشوفها في الحلم لابسة تاج ورد أبيض وجنبها أنهار مية وبتقولي إنها مسبوطة ”
محسيتش بنفسي غير وانا بحضن الراجل وبقوله:
حديث عبد الله بن عباس وفيه: أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم:
أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته.
وفي الوقت ده حسيت إن الدنيا دي أقل من إن حد يزعل عليها.
و أحقر من إن حد يستنى منها صحة أو فلوس أو سعادة.
أصل السعادة الحقيقية هناك.. هنا مش مكاننا.. ”
ختم الخطبة الثانية و الأخيرة بقوله..
“إذا تأخر عليك شيء تتمناه، فإعلم أن الله يختبر صبرك، فأصبر وإثبت.. ”
ثم أخذ يدعوا و الجميع يؤمن الدعاء..
” اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، وانصُر عبادك الموحِّدين.. اللهم اخذل اليهودَ وجميع المُلحِدين ومَن تابعَهُم و والاهم.. اللهمَّ انصُر المجاهدين الذين يُقاتِلون لتكونَ كلمة الله هي العُليَا.. اللهم انصُرهم في كل مكان، اللهم سدِّد سِهامهم وآراءهم، وثبِّت أقدامهم.. اللهم ثبِّتنا على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخِرة.. و ارزقنا حسن الخاتمة، و الصلاة و السلام على الحبيب المصطفى و آله و صحبه أجمعين.. أقم الصلاة”
نهضوا جميعًا لتأدية فريضة الجمعة خلف الشيخ صالح، أما سيف تابع أخيه وهو ينزل من المنبر بنظرات فخر داعيًا في صمت و لا زال يبتسم
” يارب بارك لي في أخي و لا تريني فيه بأسًا و لا سوءًا.. آمين ”
بعد الانتهاء من الصلاة، سأل المعظم الشيخ صالح عن خطيب تلك الجمعة منهم من أعرب عن إعجابه بطريقة إلقائه، و منهم من طلب من صالح أن يجعله يخطب الجمعة القادمة، و منهم من أراد أن يأخذ بعض الدروس عن الإسلام عنده، و لكن صالح تبسم لهم و قال في أدب
” اعذروني احبائي في الله، و لكن هذا الضيف العزيز من مصر الحبيبة جاء لأمرٍ خاص به و بشقيقه و سيغادر أمريكا في خلال يومين، أدعو لأخيكم أن يصل لأهله بسلام ”
أراد صالح من بدر أن يستضيفه في منزله للغداء، و لكن بدر رفض بحياء، مُعللًا أنه سيذهب للفندق ليرتاح قبل السفر، ثم صافحه بعناق حار كأنه يعرفه منذ سنوات و صافح سيف قائلًا له في مزاح لطيف
” من لا يعرف جنسيتك يظن أنك أعجمي، ملامحك تشبهنا كثيرًا ”
ضحك سيف و نظر لأخيه ثم قال لصالح في مزاح متبادل
” بس الملامح العربية هي اللي تكسب في الآخر ”
” صدقت ”
قالها صالح وهو يتبادل الضحك معهما، ثم استأذن بدر و غادر مع أخيه للفندق..
كانا قد تعبا من المشي، فاستقل بدر تاكسي يقلهما للفندق…
ألقى بدر بجسده على الفراش هامسًا في تعب
” عيني بتقفل، عاوز اطمن على عائشة و ماما قبل ما أنام ”
فتح ” الواي فاي ” المتصل بالفندق، لتأتيه رسائل كثيرة على تطبيق الواتساب..
كانت من هاجر و زياد، و عمه مصطفى و أخيرًا عائشة، شعر بألم في بطنه نتيجة الخوف الذي انتاب جسده قبل أن يفتح الرسائل، ليجد محتواها أن جدة عائشة توفيت قبل فجر الجمعة، و قد وصلت له رسالة أخرى عندما فتح التطبيق من زياد يقول فيها..
” فينك من الصبح ؟ جدة عائشة اتدفنت بعد صلاة الجمعة.. عائشة محتاجة لك يا بدر.. حالتها وحشة أوي و مش راضية تبطل عياط.. ”
نظرًا، لفرق التوقيت بين الولايات المتحدة الأمريكية و مصر، فإن جدة عائشة تم دفنها صباحًا بالنسبة لبدر و مكان تواجده..
نهض بدر من الفراش بصدمة فور أن علم بالأمر، و تغضنت جبهته بالخوف و عدم الاستيعاب ليقول بعد لحظات..
” إنا لله و إن إليه راجعون، الله يرحمها و يغفر لها و يسكنها فسيح جناته، كانت ست طيبة أوي و محترمة ”
” مين اللي مات ؟ ”
تساءل سيف وهو يخرج من المرحاض بعد أن استحم، يجفف شعره و يمشطه..
” جدة عائشة توفت ”
استدار سيف له يهتف بدهشة
” ماتت ! إنا لله و إنا إليه راجعون.. زمان عائشة مش مبطلة عياط.. كانت بتحبها أوي ”
” أنا قلقان عليها، لازم أكون موجود جنبها.. هنسافر في أول طيار لمصر الصبح بإذن الله يا سيف ”
” طيب ارتاح أنت شكلك تعبان و أنا هظبط الشنط و اخلص اجراءات الحجز بتاع الفندق و الطيارة ”
_________________
“تُوفي فأنتزع مني شيئًا، و يبقى ذاك الشيء معه للأبد فظل الفقد يوجعني و ظلت الذكرى تؤلمني ”
~~~~~~~~~~~~
لقد كان يومًا ثقيلًا على قلب الحفيدان ” زين و عائشة ” منذ أن استوعب عقلهما فراق الجدة..
حين ماتت والدة عائشة كانت طفلة صغيرة لا تدرك شيئًا في الحياة و لم تشعر برحيل أمها، و عندما مات والدها تأثرت قليلًا، أما الفاجعة الأكبر كانت في رحيل الجدة التي على الرغم من مكوث عائشة معها لأشهر قليلة، و لكنها أحبتها أكثر من والدها و كانت هي كل عائلتها و كل إرث من أسرة والدتها متبقي تمثل في جدتها، تلك المرأة الحنونة التي فتحت لها أذرع الحياة و عوضتها في تلك الأشهر القليلة عن فقدان والديها..
أما ” زين ” كان الألم الأكبر من نصيبه، شاب في منتصف السادسة و العشرون من عمره، تركته والدته وهو في الخامسة لتغوص في ملذات الحياة كما تشاء، كان مثله كمثل باقي الأطفال في أشد الحاجة لصدر أم حنون يحتويه، و يدان تربت على ظهره لتبث فيه الدفء، عندما سافر مع والده للسعودية و هناك نشأ و تعلم، أصبح ذو شخصية جادة في العمل متناسيًا حق نفسه عليه، فنتج عن ذلك خجله الشديد عند التعامل مع الجنس الآخر و صعوبة التعبير عن مشاعره سواء أكانت حُب أو حُزن، لم يجد عائلة تحتويه مثلما فعل بدر و عائلته مع أخته عائشة، بل كان يعمل مثل الروبوت الخالي من أي مشاعر بشرية..
تلك الفترة القصيرة التي عاشها مع جدته علمته حُب الحياة و التفاؤل للمستقبل، الذي لطالما كرهه و تمنى أن يرحل من الحياة باكرًا، قائلًا لنفسه أنه لا حاجة له بالعيش و بقائه في الدنيا وهو وحيد، حتى أنه يعجز عن تكوين صداقات..
هكذا الحال عند معظم الناس، فالكثير منا يتمنّى الموت في لحظات الانكسار؛ ظنًا منه أن الموت هو الحل الوحيد، والنهاية السعيدة لسلسلة العذاب، لكن هل سأل أحدنا نفسه يومًا ماذا بعد الموت.. ؟
الآن ماتت جدته و أصبح وحيدًا ثانيةً، حاول مرارًا البُكاء مثل عائشة، و لكنه عجز..
لم يستطيع ذرف الدموع بسبب خجله الشديد من الحضور، ففي حياته لم يبكي أمام أحد و بسبب بطء الاستيعاب عنده و عقله الذي ما زال يرفض موت جدته و بعده عنه و ذهابها لدار الحق دون حتى أن تودعه، لقد سرقها الموت منه و سرق الدمع من عينيه أيضًا، لكنه يظل يتمنى بحزنٍ خافت، لو أن له وجهة واحدة يمضي إليها، أو شخصًا واحدًا يركض نحوه يبكي في أحضانه دون سؤاله عن سبب البكاء، يبكي على أشياء كثيرة ود البكاء عليها سابقًا و ليس على جدته فقط..
الحزن، القلق، الخوف، الوحدة.. كل تلك المفردات و المشاعر بدأت تخنقه و كأنّها مسامِير صدِئة في رئتَه، و لا شيء يُعذب الإنسان مثل كتمان حُزنه..
تحدث زين بنبرةً كلها ألمٍ و حُزن..
” رجعت وحيد تاني ”
كانت عائشة تجلس على أريكة جدتهما بجانبه، بعد أن دفنت في التراب و انصرف كُلٍ لبيته، رفضت أن تذهب مع أبناء أعمامها و ظلت في بيت جدتها مع أخيها، و لم تتركها حماتها مفيدة ولا والدة رحيم..
ردت على أخيها تربت على يده بحنان بعد أن وصل لمسامعها ما قاله..
” و أنا روحت فين ! أنا جنبك دايمًا ”
” أنتِ ربنا يبارك لك في زوجك و عائلته، مينفعش تبقي بعيدة عنهم ”
” ومين قالك إني هبعد عنهم.. أنت ها تيجي تعيش جنبي في بيت بابا ”
تأملها للحظات بتفكير، ثم قال في نفي و خجل
” لأ.. مش هينفع أسيب بيت تيته.. بيت تيته هيفضل مفتوح لولاد القرية اللي كانوا بيتعلموا فيه قرآن و ها جيب شيخ يعلمهم و تبقى صدقة جارية لتيته.. إيه رأيك ؟ ”
تبسمت في دموع و قالت
” إحنا لازم نعمل كده فعلًا يا زين.. تعرف أنا كنت بفكر بعد وفاة بابا أخلي بيته دار تحفيظ و تعليم القرآن برضو ”
قالت حماتها مفيدة معجبة بالفكرة
” فكرة حلوة أوي يا عائشة و يبقى لكِ و ليه الثواب ”
التفت عائشة لأخيها بقلق شعرت به تجاهه، فوجدته يحبس الدموع عنوة في عينيه.. نهضت و سحبته بلُطف قائلة
” تعالى معايا يا زين.. ”
دخلت به غرفة جدتهما ثم نظرت للفراش و قالت بصبرٍ..
” ده سرير تيته الله يرحمها.. اللي ماتت عليه قبل الفجر.. تيته راحت للأحسن مني و منك.. الدنيا فانية يا زين و بتوجعنا أوي لما تاخد مننا حد عزيز علينا.. لازم نعبر عن مشاعرنا في أي موقف.. ده موقف يستدعى فيه البكاء يبقى لازم نعيط و نخرج اللي جوانا.. العياط مش هيرجع اللي فات بس أحسن من الكتمان، على الأقل بتعبر عن مشاعرك بطريقة صحيحة.. زين يا حبيبي الرسول عليه أفضل الصلاة و السلام بكى، بكى عند فراق عمه و عند فراق زوجته خديجة رضي الله عنه و عند فراق أبنائه و عند فراق أحبابه.. النبي بكى يا زين.. البُكاء مش ضعف أبدًا، البُكاء مطلوب و مُستحب ”
عندما سمع زين منها هذا الكلام الذي أثر في قلبه كثيرًا، ما كان منه إلا أن يرتمي في حضن عائشة و يعانقها بشدة كطفلٍ فقد أعز لُعبة عنده، ثم أجهش باكيًا و أخذ جسده يرتعد من شدة البكاء و أخته تمسد على ظهره بحنان و تهمس له أنها ستبقى معه دائمًا و بجانبه، حتى ابتعد وهو يمسح آخر قطرات دموع تعلقت في أهدابه الكثيفة المشابهة لرموش عائشة، و قد انتفخت أوداجه و تخضبت وجنتيه بحُمرة البُكاء، فتبسمت عائشة بدموعٍ و تساءلت في لُطف
” حاسس أنك ارتحت شوية ؟ ”
أومأ في تأثر شديد و همس
” ايوه.. بس تيته وحشتني أوي ”
” و هتفضل توحشنا دايمًا يا زين، لأنها حبيتنا بجد و لاقينا معاها اللي معرفناش نلاقيه مع أهلنا، الله يرحمهم جميعًا و يغفر لهم و لنا ”
” آمين ”
___________________
“بين كلّ تجعيدة و تجعيدة من وجه أبي قصة نعيم عشته أنا وأخواتي. ” لقائلها.
~~~~~~~~~~
You will not get away with this, Mujahid.
جُملة قيلت بكل عصبية من هذا الرجل المدعو بالزعيم و الذي يدعي أن ” قُصي ” ابنه..
رد مُجاهد بعد أن استطاع الوصول لابنه رغمًا عنهم..
” و لا أنت هتفلت من اللي عملته في ابني ده يا يوسف ”
مُنذ أن دلف ” مُجاهد” للغرفة التي اختطف بها قُصي، و الأخير يشعر و أن العالم لا يسع أجنحته..
ارتسمت على وجهه ابتسامة نصرٍ و أملّ وهو يضحك بشقاوة و يهتف من بين ضحكاته
” بابا جه يا شوية دوجز بابا جه يا ولاد كوم شكاير الملحدين.. ”
ضحك والده على كلامه و نظر له باشتياق وهو يتجه ليفك وثاقه، و لكن دخول الزعيم عليهما باسمًا بسخرية أوقفه.. ليقول الرجل بثقة
” مكنش عندي شك إنك هتعرف مكانه، بس أنا كنت مستنيك يا مجاهد.. مستنيك عشان تقول لابني الحقيقة و تخليه يصدق إني أبوه الحقيقي و أنت واحد مخادع.. ”
ابتسم مجاهد بسخرية متبادلة و هو يستدير له بكامل جسده، و يرفع حاجبه استهزاءًا مُردفًا..
” لا يا راجل ! أنت فعلًا أبوه الحقيقي ؟ أنت هتكدب الكدبة و تصدق نفسك ولا إيه !! ”
تساءل قُصي بارتباك وهو ينظر لهما
” هي الصلة بينكم ؟ ”
عندما طرح قُصي هذا السؤال، اتسعت ابتسامة
” يوسف” وهو يرمق مجاهد بحقدٍ و يقول
” قوله.. قوله إيه الصلة بينا ”
ابتلع مُجاهد ريقه بتوتر، ثم غير مجرى الحديث سريعًا..
” مهما تحاول تعمل مش هتاخد ابني مني.. ألاعيبك الـ**** دي مش معايا أنا يا يوسف، لأن أنا حافظك كويس ”
” حافظه كويس ! مين ده يا بابا ؟! ”
تساءل قُصي و قد وصل به الغضب أعلى مراحله، فهتف يوسف هازئًا..
” متحاولش تسأله كتير عشان مش ها يجاوب.. ده مُجاهد.. طول عمره بيحب اللف و الدوران.. و برضو مش ها يقول لك الحقيقة، لأن ببساطة الحقيقية هي إنك رافائيل ابني.. و اللي واقف ده يبقى اللي خطفك من حضني و حرمني منك السنين دي كلها.. ياريت بقى تصدق و تشيل الغشاوة من على عينيك ”
” يوسف يبقى خالك.. مش أبوك ”
قالها مُجاهد بحزن، بعد أن فشل في مداراة الحقيقة عن قُصي..
نظر له يوسف بغضب و صاح
” دي مش الحقيقة ”
صاح مُجاهد هو الآخر بغضبٍ و تعصب سيطر عليه..
” لا يا يوسف.. هي دي الحقيقة اللي أنت بتحاول متصدقهاش بعد ما رافائيل ابنك الحقيقي مات ”
صمت خيم عليهم الثلاثة، كُلٍ في وادٍ خاص به يكابد الآلام التي شعر بها في تلك اللحظة بطريقته..
مُجاهد يغمض عينيه بضيقٍ ليستقبل ردة فعلهما، بينما يوسف يحاول استيعاب ما قيل و استذكار ما حدث قبل عشرون سنة رافضًا تصديق ما قاله مُجاهد، أما ” قُصي ” في تلك اللحظة شعر بألمٍ ينخر في قلبه مثل الأناكوندا التي لا تقضي على فريستها بسم قاتل، ولكن بضمة مميتة لا اعتناق بعدها ولا أكسجين يحيط بها..
أحس ” يوسف” بالخطر يدنو من مملكته بعد تصريح مُجاهد بأن ذلك الفتى خارق الذكاء ليس ابن اليهود، و لكنه ينتمي للمسلمون دمًا و لحمًا، فازدادت ضربات قلبه تخفق خوفًا و وجلًا، وهو يرفض تمامًا تصديق ذلك، بعد شعوره بل و تيقن بأنه أصبح مُحاصرًا في ملتقى طرق خطير ينتهي به المطاف على شكل لقمة سائغة في ثغر مُجاهد المبتسم الذي لن يكتفي حينها بالمضغ وحسب، بل و التلذذ بطراوة شرائح اللحم مثل راعي الغنم الذي يذبح خرافه عند الحاجة، بعد أن كان ذات يوم يطبطب عليها فوق صوفٍ مُشَعَّثٌ.. !
هتف قُصي يسأل والده بقلبٍ وجل
” يعني أنا نسبي بيمتد لليهود ! ”
أومأ والده في حسرةٍ، و أردف يقصّ له الحقيقة كاملة..
” والدة اللواء عزمي الست ” راحيل ” كانت من يهود مصر و تزوجت من اللواء الراحل
” طه باشا” قبل ما يتزوجها أعلنت اسلامها و أخلصت للاسلام ليومنا هذا.. أنجبت ثلاثة..
اللواء عزمي و اللي اتسمى على اسم جده لأبوه و يوسف اللي معروف عند اليهود يهوشوع، و الأخيرة كانت بنت و سميتها ” لين ” لين والدتك يا قُصي.. ”
كان قُصي يستمع بفم مفتوح على مصراعيه من هول المفاجأة و الصدمة، أما يوسف تجمع الحزن و الغضب في عينيه.. تابع مُجاهد بقلة حيلة..
” يوسف كان ميال لعائلة أمه اللي فضلوا زي ما هما يهود، و معظمهم يا إما عايشين في أمريكا يا إما في فلسطين المحتلة.. بالرغم إنه ولد مسلم بالفطرة زي كل أطفال العالم بيتولدوا بالفطرة على الدين الصحيح وهو الاسلام، لكن الأذية و الغدر كانوا بيجروا في دمه و ده طبع اليهود..
أنا حبيت أمك يا قُصي، لين كانت بنت في قمة الأدب و الجمال و كانت متحفظة جدًا، وقتها كنت أنا شغال في الموساد..
عقد قُصي حاجبه في تعجب، فلأول مرة يعرف حقيقة عمل والده منذ بداية حياته، بينما يوسف رمقه في حقد و كُره و هتف
” أنت خاين.. خنت الناس اللي وهبوك الايمان و الثقة.. ”
لاحت ابتسامة ماكرة جانب شفتيه و قال
” ما تتكلمش عن الخيانة، لأنها طبع فيكم ”
” كمل يا بابا ”
قالها قُصي ناظرًا لوالده بغضب، فتابع مُجاهد..
” بالبلدي كده يا قُصي عملت نفسي إني يهودي و اشتغلت معاهم سنين طويلة بجانب شغلي في الانتربول الدولي.. بس كنت بشتغل لصالح بلدي
” مصر ” علاقتي في الوقت ده بيوسف كانت زي الفل برغم إنه تمرد على الاسلام و اعتنق اليهودية و كان كل ولائه لإسرائـيل.. يوسف قعد كتير ما يخلفش ولما عرف إنه هيبقى أب كان شوية و ها يطير من الفرحة.. في نفس السنة اللي لين ولدتك فيه يا قُصي، مراته خلفت رافائيل.. كنتم من سن بعض و دايمًا كنتم تحبوا تلعبوا مع بعض و مش هنكر إن يوسف كان بيحبك زي ابنه بالضبط وهو أول واحد لاحظ قدرة الذكاء الفائقة اللي عندك اللي كان بيتمناها في رافائيل ابنه..
رافائيل عربية ضربته وهو عنده تلت سنين، يوسف خالك المفترض كان بيجي ياخدك مني كل يوم عشان يشبع الفراغ اللي ابنه سابه، و أنا للأسف مكنتش برضى اكسر بخاطره، لحد ما اتعلق بيك بشكل جنوني و بقى ينادي لك رافائيل.. أنا خفت عليك و أخدت أمك و أُبَيِّ و خدتك و سافرنا مكان محدش يعرفه.. لحد ما ربنا رزقني بشهد و ملك.. و انقطعت العلاقات بيني و بين يوسف و أهل أمك كلهم، عشان كده إحنا قولنا لكم أنت و اخواتك إن أهلك أمك ماتوا في زلزال..
يوسف يسكت.. ! لأ.. كون امبراطورية من المافيا اللي بتشمل كل حاجة **** ممكن تتعمل و حاول يدور عليك كتير عشان يستفاد من مخك لكنه فشل، خالك يوسف شارك في كل الحروب على فلسطين و كان جزء كبير من اللي حصل في سوريا ولحد الآن بيخطط إنه يدمر الشرق الأوسط و يدفن عروبتنا، و كان نفسه يبقى له ذرية تخلفه في كل الكوارث دي، عشان كده عينه كانت عليك أنت.. ”
ابتسم قُصي بفم ممتلئ بالدهشة، و ظل يتأمل والده و خاله بعدم استيعاب لدقائق كانت بالنسبة له سنوات..
شُعور مُتناقض ما بين الصدمة و الخوف و الحزن و الغضب انتاب قلبه و وجهه و عقله الذي أحس بتنميل فيه من شدة الدهشة التي حلت به..
دخان يحترق في قلبه، ردود فعله كانت ثورة و بركان هز رأسه، شعر بأن الخراب الذي حدث بداخله أكبر من أن يصلحه اعتذار..
قطع يوسف شرود قُصي و قال بعدم استيعاب هو الآخر
” هذا محض هراء، هذا كله هراء لعين ”
قال قُصي مُحدثًا والده
” يعني اللواء عزمي كمان خالي ! ”
أومأ مجاهد بصدق و تابع..
” اخفاء الحقيقة عنك يا قُصي كان الحل الأمثل اللي اتفقنا عليه أنا و والدتك و عزمي و.. و أُبَيِّ ”
” أُبَيِّ كمان كان عارف ! ”
” بس وعدني إنه مش ها يعرفك.. و الواعد لازم يوفي بوعده يا ابني ”
ابتلع قُصي بضعة قطرات الريق الذي جف ثلثه في حلقه، من شدة ما يصارعه من حقائق..
” طب و عرفت مكاني ازاي ؟ ”
” ده المكان المفضل عند يوسف و كنت عارفه لأني اشتغلت معاه لما كنت جاسوس، كنت متأكد إنك هنا.. ”
صاح يوسف و قد ضاق ذرعًا بهما..
” و مش ها تعرف تخرج من هنا يا مجاهد.. أما قُصي هيبقى رافائيل غصب عنك ”
قالها ثم نظر لقُصي بغضب مختلط بالحُب و الحنين لأيام عاشها معه، و أغلق عليهما الباب قبل أن يردف بانتقام..
” خد بالك يا مجاهد.. ما تحاولش تفكه عشان الكرسي اللي قاعد عليه مزود بالكهرباء.. أنا عاوزك تموت بالبطيء مش تموت بسرعة.. ”
التفت له مجاهد و قال بلا مبالاة..
” ألاعيبك كلها حافظها.. أنت و اللي زيك مكانهم في حفرة هتلر.. خبت و خسرت دُنياك و آخرتك يا يوسف ”
خرج يوسف و أغلق الباب بقوة، ثم أمر رجاله بالحراسة المشددة عليهما، أما قُصي لمعت الدموع في عينيه و قال ساخرًا من نفسه..
” حظي عامل زي أم جرجس اللي كسبت عمره ”
ضحك والده و اقترب منه يقول بثبات
” طول ما أنا عايش مش عاوزك تحمل هم يا ابني ”
” ابنك ايه بقى.. ده أنا طلع خالي يهودي ”
” ما خلاص ياض.. أنت هتفضل تندب زي النسوان كده ! ”
أردف بحزن حقيقي خيم على ملامحه
” أنا زعلان منك أوي يا بابا بجد ”
” حقك تزعل.. بس أنا خبيت الحقيقة عنك عشان أحميك و أحمي عائلتنا.. أنت فضولي و كنت هتفضل تنخور لحد ما توصل ليوسف و ساعتها كانت هتتقلب الدنيا على راسنا كلنا، و يوسف مش سهل أبدًا.. أنا من كتر شغلي معاه فهمت دماغه، لكن دماغه كتلة سم صعب على الشخص العادي يفهمها.. ”
” الحقيقة مهمة، بس مُرة أوي يا بابا، مُرة و بتحرق القلب.. أنا مش عارف استوعب أصلًا ”
” لازم تستوعب عشان تساعدني و نعرف نخرج منها ”
قالها مُجاهد وهو يحفر بطرف البندقية أرضية الغرفة التي نصبت من الخشب..
تساءل قُصي في استغراب مما يفعله والده
” إحنا دلوقت تحت الأرض.. هنهرب بقى من تحت تحت الأرض و لا إيه ! ”
” نقطني بسكاتك دلوقت ”
قالها مجاهد وهو يستكمل ما يفعله بدقة، فقد أراد أن يفك قيد قُصي دون المساس بالكهرباء، فأخذ بندقية من الأسلحة الكثيرة في الغرفة و التي تعمل فقط بالبصمة الخاصة بيوسف أو رجالة، ظل مُجاهد يحفر في الأرض بعد أن حطم كاميرات المراقبة و التي نسي يوسف أن يقوم بتشغيلها من الاساس؛ ظنًا أنه لا حاجة له بذلك وهما أسرى لديه لا يستطيعون انقاذ أنفسهم، و لكنه تجاهل تمامًا الشيء الأهم، وهو أن مجاهد يمتلك عقل مخيف يشبه تمامًا عقل ابنه قُصي..
استطاع مجاهد بعد مدة من الوقت الحصول على قطعة خشبية لا بأس بها، ثم اقترب من مقعد قُصي الموصل بالكهرباء و فصل الكهرباء بالخشبة عن الكرسي، ثم فك قيد ابنه و سحبه بين ذراعيه يعانقه بشدة و بدموع سيطرت عليه وهو يهمس..
” كنت واحشني يا واد.. كنت واحشني أوي يا قُصي.. أنا آسف يا ابني.. سامحني على اللي حصل لك.. ”
عانقه قُصي هو الآخر بشدة، و كأنه كان بحاجة لذلك العناق ليقول ببكاء نال منه
” أنا كنت خايف أوي يا بابا.. بس.. بس داريت الخوف ده جوايا عشان مبقاش ضعيف قدامه.. أنا من غيرك ولا حاجة يا بابا ”
ابتعد مُجاهد وهو يحتوي وجه ابنه و يمسح دموعه قائلا بفخر
” أنا فخور بيك يا قُصي، فخور باللي وصلت له.. أنت مثال للشاب القوي يابني.. ايوه كده لازم السفهاء دول يعرفوا إن الإسلام دين قوة و عزة، و إن شباب الاسلام اتربوا على القوة مش الضعف ”
” طيب هنطلع من هنا ازاي ؟ ”
ابتسم مجاهد بخبث و أشار لعينه..
” مش أنت لوحدك اللي ذكي.. أبوك قديم في الشغلانة برضو ”
لقد ارتدى مجاهد عدسة تقوم بتصوير كل شيء، و تنقله للمخابرات المصرية التي فور أن علمت أجهزة الدولة بمقر مُجاهد و ابنه عن طريق السِنة المزيفة في فم مُجاهد و التي تقوم أيضًا بتحديد الأماكن، تحركوا لإخبار أجهزة الدولة التي بها يوسف، ليساعدوهم في ارجاع أبناء بلدهم بناء على نصوص و اتفاقيات بينهم..
و بالفعل تحركت الدولتان لاجراء مناقشة سريعة، انتهت باستسلام يوسف و الافراج عن مُجاهد و قُصي، بعد أسبوع كامل قضى منهم قُصي ثلاث ليال وحده في النفق، و أربعة مع والده حتى أجريت الاتفاقات بين الدول بشأن قُصي، و رفض يوسف في بادئ الأمر تسليمه لموطنه الأصلي؛ لأنه يعد له ثروة هائلة انتظرها منذ سنوات طويلة..
فتى واحد حرك عدة دول للنظر في قضيته، مجرد فتى وسيم فعل كل هذا وهو مقيد في مقعد رثّ و بقميص مُهْتَرِئ !
أم أن ذكائه له الدور الأكبر في تلك الملحمة ؟
أيعقل أن يكون ذكاء الفرد هو محور تقاتل الدول الكبرى ؟!
~~~~~~~~~~
عندما وصل الضابط كريم مصر، جاءه الخبر بما فعله والده؛ فذهب لمقر زنزانته و وقف أمامه يتأمله بغضبٍ ثم قال..
” أنا مكسوف أنك أبويا ”
صاح رياض بجنون
” أنا ما عملتش حاجة.. الزفتة اللي جبتها لنا على العيلة زي الوباء هي السبب ”
أعمى الغضب بصيرة كريم و سحب والده من ملابسه هامسًا بنبرة أصمت أذنيه..
” اسمها رُميساء كريم الكُردي، حرم ضابط المخابرات المصرية كريم الكُردي.. شفت اسمك اتشال ازاي ! أنا زهقت منك و من عمايلك، ليهم حق يطلعوك على المعاش قبل ميعادك.. مراتي و شغلي خط أحمر، اللي بتعمله ده يهين اسمي و مركزي.. شيلني من دماغك أحسن لك يا بابا عشان متزعلش.. المرة دي قرصة ودن.. سمعت ! ”
نظر له والده بدهشة و بخوف من طريقته القاسية في الحديث معه، ثم همس بتعجب
” ازاي تكلم أبوك كده ؟! ”
” أنا اللي ها تحاسب ملكش دعوة ”
قالها كريم بصرامة، ثم تركه بعد أن فتح الزنزانة فانساق والده خلفه بخوف وهو يردف بينه و بين نفسه بوعيد
” ماشي يا كريم.. بتبيع أبوك.. ماشي ”
عندما ذهب كريم لزيارة رُميساء، لم يكن قد وصله بعد خبر عن قُصي و أنه لا زال على قيد الحياة..
فتحت له الباب، فتبسم بشوق و توق ثم ضمها اليه في حركة حانيةً و قال..
” وحشتيني يا فراشتي ”
تبسمت بخجل، و لكن نظراتها كانت كلها حنين وشوق إليه.. أخبرته عن القلادة فتعجب و فسر ذلك أن يكون بسبب فقدان صانعها، أو ربما بسبب قلة التواصل و الظروف القاسية التي مرّ بها في المهمة..
اتفق والد رُميساء مع كريم على أن يكون حفل زواجهما في نهاية العام عندما تنهي رُميساء السنة الدراسية الأولى من كلية الصيدلة، فلم يكن لدى كريم مانع عندما رأى الموافقة في عين رُميساء..
~~~~~~
تم ادخال إيناس زوجة والد روان غرفة العمليات، فالولادة كانت مبكرة و أنجبت ولدًا اسماه والده إبراهيم على اسم جده، و لكن الطفل أدخله الأطباء ” الحضّانة ” لمتابعة حالته الصحية..
و بعد مرور عدة أيام على إبراهيم في الحضّانة، تذكرت إيناس ما حدث في تلك الليلة التي ولدت فيها ابنها، فسألت روان عن مهارتها في القيادة و أجابت روان بأنها كانت تركب مع سيف سيارات كان يستأجرها و تعلمت منه القيادة..
~~~~~~
بعد وصول قُصي و والده مصر، تم تكريم قُصي كواحد من أبناء الدولة الشجعان و عندما وصل خبر رجوعه لزملائه من أفراد الكتيبة، ذهبوا جميعًا لاستقباله في المطار عدا الطبيبة شمس بسبب عملها في المشفى الخاص بها، و أيضًا أختها “منة” بسبب بطولة التنس التي ستخوضها اليوم..
ركض ” إبراهيم ” تجاه قُصي عندما رآه، وهو يصدح بفرحة تشبه فرحة الصغار بالعيد
” يكتشف الغامض والمثير.. يستنتج بالعقل الكثير (قُصي) الذكي الوسيم، يسعى دائمًا.. لا لا لا لا لاه
لا لا لا لا ”
ضحك مُجاهد و كذلك البقية، أما قُصي انفجر ضحكًا وهو يهتف
” فضحتنا يا موكوس.. ”
قفز إبراهيم يعانق قُصي، فبادله الأخير العناق وهو يقول بسعادة حقيقية..
” عملناها يا صاحبي.. الزعيم انتهى ”
لقد قام قُصي بتسميم زجاجة النبيذ المفضلة عند ” يوسف ” بطريقة لم تخطر على عقل بشر، فاستخدم من جميع عناصر المادة الموجودة في الغرفة التي تم خطفه فيها، بعض فتات النخر الذي فعله بالكرسي و الجير في الحائط و فتات الخشب و غيره، ثم قام بإذابتهم في زجاجة النبيذ لتشكل مادة مسممة تخترق الجسد ثم بعد أن يموت المرء تتبخر و تصبح جريمة القتل لا أثر لها..
لقد تجرع يوسف زجاجة النبيذ كاملة وهو في أوج غضبه من مُجاهد دون أن يشعر بتغير طعمها الطفيف، و بعد ساعات فقد الوعي و مات..
لم يجد الأطباء أي دليل على أنها جريمة قتل، و صنفت أنها موتة بسبب شدة الغضب و ارتفاع الادرينالين في الدم..
~~~~~~~~
وقفت بشكل ثابت و قوي أمام الخصم، تصد الضربات و تخفق أكثر مما تصد، بداخلها موج هائج من الأفكار جميعها متضاربة تنتج عن تشتيت كبير في عقلها، لأول مرة تخفق في لعبة التنس.. اللعبة التي تعلن فوزها على الخصم فور الامساك بالمضرب، و لكن بسبب ذلك الأمر الذي يأكل عقلها تفكيرًا أصبحت ترى كرة التنس ضرب من الأفكار عليها الهروب منها أو تخطيها..
صوت الجمهور في الملعب الواسع اللذين حضروا لمشاهدة بطولة مباراة التنس بين مصر و اليابان و التي تمثلها من جهة مصر ” منة” لحصولها على البطولة ثلاث سنوات متوالية..
لا أحد يصدق أن تلك التي تخفق في صد الضربات هي بطلة مصر للعبة التنس !
هتف المعلق..
” خسرت منة بطلة مصر الجولة الأولى، و إذا لم تتقدم خمسة نقط على خصمها ستذهب بطولة هذا العام لليابان ”
جاء وقت الاستراحة و نزعت منة الكاب الأبيض الذي ترتديه ثم ألقت به بتعصب وجلست تشرب الماء بأنفاس متقطعة، حتى جاء المدرب و أملى عليها بعض التعليمات..
قبل بدء الجولة الثانية بخمس دقائق جاءها اتصال هاتفي من شمس، أرادت ألا تجيب في البداية و لكن شيء ما همس في قلبها بالرد على أختها..
صاحت شمس بنبرة سارّة قبل أن تنتظر من منة القاء التحية
” منة.. قُصي لسه عايش.. رحيم كلمني و أكد لي إنه نزل مصر و كويس ”
تنهيدة طويلة خرجت من “منة” و ابتسامة واسعة لاحت على شفتيها و أردفت في همس
” الحمدلله ”
ثم عاد وجهها للجمود ثانيةً بعد أن انتبهت أنها كانت على وشك بالتصريح عن مشاعرها، فأغلقت المكالمة وهي تقول بفتور
” و أنا مالي ! عامةً حمد الله على سلامته.. يلا هقفل سلام ”
نظرت شمس في استغراب للهاتف على رد فعل أختها ثم قالت ضاحكة
” لحد امتى هتفضلي تداري في مشاعرك تجاهه يا منة ! ”
بدأت الجولة الثانية من مباراة التنس، و تعجب الجميع من قوة منة التي تضاعفت و روح الحماس التي أضفت عليها فانقلبت المباراة من الخسارة للفوز لصالح منة، وهي تحرز نقطة تليها الأخرى تحت صياح المشجعين اللذين زادوا انبهارًا بأدائها، لتنتهي المبارة بذهاب لقب البطولة للمرة الرابعة لدولة مصر العربية و التي تمثلها
” منة “.
بعد استلامها للميدالية و الكأس، أخذت منشفة لتجفف العرق المتصبب منها، ثم وضعتها على كتفيها و أخذت زجاجة مياه لتصبها على شعرها و رأسها، لتقوم بحركة عفوية بارجاع الغُرّة للوراء و لكن على الفور تذكرت تلك الندبة في جبهتها و التي لازمتها منذ أن كانت بعمر الحادية عشر، بسبب ما فعله والدها بها فأنزلتها على الفور و استدارت لتأخذ حقيبتها و تتجه لغرفة تبديل الملابس، فتفاجئت بـ ” آسر” ذلك الشاب الذي يكبرها بخمس سنوات و يقوم باللحاق بها باستمرار مُدعيًا أنه يحبها و يريد الزواج بها..
ابتسم في ود وهو يقول
” مبروك يا كابتن.. تستاهليها ”
ابتسمت في برود دون رد و مضت في خطواتها تجاه الغرفة، فأوقفها قائلًا في جدية
” أنا عارف أبوكِ فين ”
نزلت تلك الجملة على رأسها وقوع الصاعقة، و بدأت المشاهد المأسوية التي تعايشت معها و حدثت لها بسبب والدها تحوم أمام عينيها..
تابع آسر دون انتظار رد منها
” أنا كنت عارف إنك بتدوري عليه عشان تاخدي حقك منه بعد ما هرب من السجن.. و أنا قدرت أوصل لمكانه بمساعدة رجالة بابا.. أنتِ عارفة إن بابا صاحب شركة حراسات و ليه معارف كتير فأنا حكيت له على الموضوع و قدر يوصل لمكانه ”
التفتت له بأعين يملؤها غضب العالم و هتفت بنبرة غيظ و انتقام
” أنت بأي حق تدخل في حاجة متخصكش.. أنت مالك أصلًا ؟؟ ”
رد في خوف من نظراتها
” متنسيش إني ابن خالتك و يهمني سعادتك.. أنا.. أنا كنت فاكر إنك هتفرحي لما تعرفي مكانه ”
” أنت واحد غبي و مبتفهمش.. مين سمح لك تعمل كده ؟! ”
قالتها وهي على وشك أن تضربه، فتراجع للوراء هاتفًا في دفاع عن نفسه
” عشان بحبك و عاوز أعمل أي حاجة عشانك.. عشان تحبيني يا منة.. أنا مش عاوز غير سعادتك على فكرة ”
صاحت في غضب أصم أذنيه
” و أنا من سعادتي إنك تسيبني في حالي.. أنا بكره الحُب و بكرهك و بكره اللي اسمه أبويا ده و بكره نفسي و بكره الدنيا باللي فيها.. تعرف بقى تسيبني في حالي ! ”
أومأ في حزن، فتركته و ذهبت، بينما هي عادت للبيت تحاول مرارًا نفض ذلك الشعور الذي يأتيها بشأن قُصي، و لكنها في كل مرة تحاول ردع مشاعرها.. تفشل !
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية يناديها عائش)
من أروع الروايات اللي قرأتها
تحفه
روعه
باردين
نزلوا ام الروايه بقي
بليز نزلو الروايه🥺
الهي تنستروا نزلوهااا