رواية زواج في الزنزانة 7 (انا والطبيب) الفصل الأول 1 بقلم سارة أسامية نيل
رواية زواج في الزنزانة 7 (انا والطبيب) الفصل الأول 1 بقلم سارة أسامية نيل
رواية زواج في الزنزانة 7 (انا والطبيب) البارت الأول
رواية زواج في الزنزانة 7 (انا والطبيب) الجزء الأول
رواية زواج في الزنزانة 7 (انا والطبيب) الحلقة الأولى
|تنويه|٠
طاهر وضحى هم ثنائي من قصة (أنا والطبيب) وهذه حلقة إضافية وتوضيحية لما حدث لهم بناءً على طلب القُراء الكِرام، وتستطيع قراءتها منفردة أيضًا..
الحلقة دي مكتوبة من فترة طويلة بعد انتهاء #أنا_والطبيب عالطول.
=====================
– يا حاج عبد الفتاح، النيابة وافقت على طلب كتب كتاب طاهر قبل خروجه.
كان الشيخ رضوان هو من زفّ الخبر السعيد المنتظر في حين كانت “ضُحى” تقرأ وردها أسفل النافذة، هرعت مستقيمة وأغرورقت أعينها بالدموع وهي لا تُصدق ما سمعت..
رفعت أعينها الغائمة بالدموع نحو السماء وهمست بإمتنان ويقين:-
– كنت واثقة، كنت متأكدة إنك مش مش هترد إيدي فاضيه، كنت متأكدة إنك هتفضل معايا ومش هتسبني أبدًا..
جبرتني يارب بعد صبر طويل..
خرج عبد الفتاح والد ضحى من الشرفة هارعًا وهو غير مصدق هذا الخبر العجيب نحو جاره الشيخ رضوان..
صاح متعجبًا بفرح:-
– صح الكلام ده يا شيخ رضوان، كرمك يارب..
هتف الشيخ رضوان وهو يقف أمام منزله:-
– ربنا كريم يا حاج عبد الفتاح، إن شاء الله هنجيلكم الليلة علشان نتفق على كل حاجة؛ لأن بعد بُكرا النيابة أذنت لطاهر يخرج علشان كتب الكتاب داخل قسم الشرطة..
إدارة السجن هتحتفل بعقد القِران وقيادات مديرية الأمن ومسؤولين السجن هيكونوا حاضرين…
نعم يعلم عبد الفتاح أنها مجازفة، لكن الجميع يستحق فرصة ثانية، إن كان ربّ العِباد بسط له يده واستقبله بحفاوة وتاب عليه، فمن هو حتى يعترض، التائبون العائدون إلى الرحمن يجب أن يساندهم الجميع للمضي قدمًا بدلًا من زجرهم ونبذهم .. لقد نادهُ الله وهو قد لبى النداء وآب إليه وهجر ذنبه تائبًا إلى الله فتاب الله عليه..
أردف عبد الفتاح بهدوء ووجه مشرق فرغم رحيل طاهر قديمًا إلا أنه بقى حبه ومكانته بقلب والد ضحى فقد كان له ابن رغم إعراض طاهر عن الجميع حينها..
– أنا هنتظركم يا شيخ رضوان أنا وام ضحى، تشرفونا وتنورونا..
بينما في الداخل أخذت ضحى تدور حول نفسها وهي تحتضن فستان رقيق أبيض قد أهدته لها والدة طاهر الخالة رحيمة..
تبتسم بجبر وهي تغمض أعينها بشدة قائلة والسعادة تنبض من بين حروفها:-
– شكرًا يارب .. الحمد لله الحمد لله، أنا بحبك أووي يارب .. بحبك أوي يا رحمن..
وأخيرًا قد ثكلت ضُحى أحزانها وغرب الألم والحزن من فوق ملامحها الجميلة…
***************
ليلًا بداخل الزنزانة ذات الرقم سابعة “٧”..
كانت تعجُّ بأصوات السعادة والضحكات المرتفعة الصاخبة وهكذا الزنزانات المجاورة والممر المكتظُّ بالعساكر الذي يبدو عليهم التشويق لهذا الحدث العجيب الذي يحدث للمرة الأولى بهذا السجن..
انهالت عليه التهاني والمباركات وجميع السُجناء يحتضونه بحب أخوي..
ابتسم طاهر بهدوء ورزانة وقال بودّ حقيقي لهم:-
– الله يبارك فيكم يا رجالة، فرحتكم دي وكأنكم فرحانين لنفسكم مش هنساها أبدًا، ودعمكم ووقفكم ده مش هنساه..
نعم ما بينهم ودّ وحب أخوي لكن لم يصلوا إليه إلا بعد مرورهم بالكثير من المشاحنات والمصائب والكُره أيضًا…
اقترب أحدهم مِمَن كانوا يفتعلون المشاكل مع طاهر، ربت فوق كتفه بدعم واحتضنه بأخوة:-
– مُبارك يا طاهر، إحنا فرحانين كلنا ليك وعقبال خروجك يارب وخلاص هانت مش باقي كتير..
ربنا يتمملك بخير يارب وتكون بداية خير لحياة جديدة إن شاء الله…
وتنهد هذا الشاب والذي لم يكن سوى “خليل” أحد السُجناء من الذين ظلموا أنفسهم وأكمل بأعين دامعة وغصة عالقة بحلقه وخجل لكن لم يكن خجل مِمَن حوله ولا خجل من نفسه وإنما خجلٌ من الله:-
– أنت كنت دخلة خير علينا كلنا، إحنا ربنا بيحبنا كلنا أوي يا طاهر، أنا مكونتش أتخيل إن هو بيحبني أوي كدا، ومستحيل كنت أتخيل إن دخلة السجن خير ليا وإن ممكن يكون في خير في الشر، أنا شوفت حاجات مكونتش أتخيل أشوفها وعرفت قد أيه أنا كنت أعمى، وعرفت المعنى الحقيقي للعمى، العمى عَمى القلب مش العيون..
ترتيبات ربنا حلوة أوي يا طاهر وتدبيره كله رحمة ولُطف .. أنا عمري ما كنت كدا، عمري ما كنت بالسكينة وراحة البال دي وكمان وأنا فين .. جوا السجن، أنا لما بفكر ببقا حاسس إن هتجنن، بقيت مش شايل همّ حاجة ومش بزعل على حاجة..
تعرفوا يا رجاله أنا كل يوم في كل ركعة بحمد ربنا على نعمة دخولي السجن، ولو خيروني إن أخرج برا وأرجع زي ما كنت أو أفضل هنا زي ما أنا كدا .. هختار السجن…
الحمد لله بشكر ربنا وبشكرك يا طاهر لأنك السبب بعد الله في إللي إحنا فيه دلوقتي..
إحنا كنا كلنا هنا من قبلك بس كنا كل يوم عايشين في اللعن والمعاصي مغرقنا.
دخلنا كلنا هنا وإحنا مليانين بالسواد وعُمي، وهنخرج إن شاء الله كلنا نور وقلوبنا نضيفه، وربنا يثبتنا يارب..
متزعلش مني يا طاهر علشان كنت وحش معاك في الأول أو بلطجي بالمعنى الصحيح..
كان طاهر يستمع له بإصغاء، هو أيضًا مثلهم، هو أيضًا قد ولج لهذا المكان وهو مليء بالظلام لكن الله ….. يخجل وتتحشرج كلماته وتنهمر دموعه وتنخفض رأسه منكسرًا حين يستدرك لُطف الله ورحمته..
الله .. الحبيب .. الرفيق .. الرحيم .. القريب الذي هو أقرب إلينا من حبل الوريد..
الملجأ .. السكن .. الهناء .. النور .. الصلاح .. السداد .. الفلاح .. كل هذا وأكثر بقربه ستجده..
الله وكفى .. الله سيكفيك..
جذب طاهر خليل يحتضنه ويربت على ظهره بقوة ويُشدد عليه بينما قال:-
– أنا ولا حاجة يا خليل … ولا حاجة، أنا السيء هنا .. كله لُطف ربنا ورحمته .. أنا ولا حاجة..
فضل الله وكرم الله وعطاء الله..
وإن شاء الله نخرج كلنا من هنا على خير..
كلنا هنا أخوة وأنا أشهد الله إن مش زعلان من حد هنا وأتمنى محدش يكون زعلان مني..
اقترب أحد الرجال يضربه فوق كتفه وقال بمرحه المعتاد:-
– إزاي يا أبو الطُهر كله نزعل منك وفي مائدة بعد بكرا ممدودة فيها ما لذ وطاب على شرفك يا غالي … إحنا هناكل لغاية ما نتنفخ يا أخي..
وصحيح قولنا هتلبس أيه بكرا، وأيه يا أبو الطُهر إللي دخلت بيه بعد الزيارة والعسكري سلمهولك..
تذكر تلك الزيارة والتي لم يكن صاحبها إلا قيس الذي زفّ إليه البشارة وبيده ملابس جديدة قد ابتاعها خصيصًا له لأجل عقد القِران..
أخرجهم يُريهم إياها وهو يقول:-
– دي هدوم اشتراها قيس..
وصمت قليلًا وأكمل بإبتسامة:-
– أخويا… علشان كتب الكتاب..
هجموا يرونها وهم يتشدقون بإعجاب ومرح في جو مليء بالأُلفة…
آناء الليل … وقت السعادة خاصتهم، لقاءهم الخاص جدًا، الزنزانة مُضيئة بمصباح أصفر لكن عندما تنظر إليها لا تحسبها ذلك أبدًا، تحسبها شمسٌ وهاجة…
كانوا يصطفون بجانب بعضهم البعض ويتقدمهم خليل لإمامة صلاة قيام الليل..
فحسب جدولهم، اليوم هو يوم خليل للإمامة..
فلأجل التحفيز وتثبيت ما يحفظونه يوميًا من كتاب الله في مسابقة بينهم كل واحدٍ منهم يتقدم يوم للإمامة..
خاشعين عندما يسجدون تسمع نحيبهم الخافت..
تائبين وقد عزموا عدم العودة مرةً أخرى…
وفور انتهاءهم يأخذ كُل منهم رُكن خاص به، يذكر الله، يُسبح، يستغفر، ويدعو..
وكالمعتاد أخذ طاهر ركنه الحصين وجلس لكن ليلته تلك كانت عامرة بالحمد والشكر وقلبه مغمور بالسعادة وأخيرًا ستكون ضُحاه حلاله..
ضحى بداية الخير ومرتبطة هي بالضياء الذي بدد الظُلمة..
ابتسم وغامت عيناه بالذكرى … ذكرى بعيدة جدًا، حينما كان بالخامسة عشر من عمره وحينها كان قد نبغ فسوقه وطُمس على قلبه لكن هذا الضحى الذي كان يُطارده في كل مكان، طفلة صغيرة تجهل جميع الأثام الذي غرق هو بها..
وقت الضحى بفناء المنزل الخاص بالشيخ رضوان الخلفي والذي كان يُربى به الدواجن..
بالمنزل المجاور الخاص بجارهم عبد الفتاح خرجت فتاة في الخامسة من عمرها تحمل مصحفها الصغير الذي يحوي جزء عم فقط، وفور أن رأته جالس هرولت نحوه وهي تهتف باسمه وحينها كان يدخن غير آبهٍ بأحد، لكن عندما لاحظها ألقى ما بيده مسرعًا..
وقفت أمامه فرفع أعينه تجاهها وفجأة غرق في ضحكه على هيئتها، فقد كانت عاقدة وشاح خاص بوالدتها فوق رأسها بصورة خاصة بالسيدات معقود على رأسها والعقدة كالكعكة من الأمام بينما عنقها فغير مغطى..
هيئة لا تناسب الصغار…
هدرت هي بعصبية حين رأت ضحكه:-
– أنت بتضحك عليا يا طاهر .. ما ممكن دلوقتي أضحك على شعرك المنعكش ده..
قال من بين ضحكاته الساخرة بينما يجذب طرف الوشاح:-
– أيه ده يا صُبح .. عامله زي الناس العواجيز كدا ليه..
ضربت يده بقوتها الصغيرة وضربت بقدميها الأرض وصاحت بوجه مُلبد بالبكاء:-
– اسمي ضحى مش صُبح .. وأنا عامله شبه ماما ولما أكبر هلبس حجابات وطرحات زيها علشان أبقى حلوة يا بطاطا.
ردد باستنكار:-
– بطاطا … متقوليش كدا تاني..
قالت مساومة:-
– وأنت مش تقول صُبح تاني .. أنا اسمي ضحى واسمي موجود في القرآن واسم سورة كمان..
ومدت يدها له بالمصحف الصغير الخاص بها وقالت بصوت خفيض وكأنها تُخبره سرًا:-
– أنا عندي سورة الضُحى في الكُتاب .. يلا خُد حفظني علشان أطلع حافظه عند الشيخ..
أصل أنا بسابق صحابي في الحفظ وعاوزه أطلع حافظه..
نظر للمصحف الذي بيدها بأعين ضيقة وقال بضيق:-
– روحي خلي أمك أو أبوكِ يحفظوكي أنا مليش دعوة..
أمسكت يده برجاء ونظرت له بأعينها الطفولية المليئة بالبراءة قبل أن تجلس بجانبه وهي تقول:-
– ماما بتغسل الهدوم وبابا في الشغل، يلا يا طاهر علشان هتاخد حسنات كتير وكمان ضحى تحبك..
أمسك مصحفها ولم يستطيع الرفص أمام رجاءها البريء وردد بأعين غائمة:-
– تحبيني .. أنا مفيش حد بيحبني ولا هيحبني..
طالعته بدهشة وقالت بتعجب وحاجبيّ معقودان:-
– لا … أنا بحبك يا طاهر وبابا كمان بيحبك وبيقول أنك كنت بتروح الكُتاب تحفظ قرآن .. هو أنت مش بقيت تروح ليه وتسابق صحابك علشان تاخد حسنات وتبقى شاطر وحلو وتدخل الجنة مع ضحى … أنا هدخل الجنة وعايزاك تبقى هناك علشان نلعب سوا وتجيبلي موز من الشجر إللي هناك …. أنت ليه بتقول إن مفيش حد بيحبك..
كيف يُخبرها أن الموزة التي يُحضرها لها كل يوم هي بالأساس يسرقها من شجر المزارعين من أطراف البلدة..
استمع لحديثها وحفظه عن ظهر قلب فقد كانت تسرد له تلك الأمور كل مرة وتخبره بحكايتها الطفولية .. وصلاة الضحى التي تلتزم بصلاتها رغم صغر سنها حين أخبرها والدها عنها فأحبتها لأن لها نفس اسمها..
ورغم حفظه لهذا الحديث إلا أنه لم يؤثر بقلب المطموس عليه وعقله الغائب مع الشيطان…
وأردف طاهر بغلّ وهو يتذكر تحكمات والده وإرشاده الذي يسميه قيود وحياتهم الناقم عليها:-
– هما مش بيحبوني، مش شايفين ألا نفسهم وبس، مش بيحبوني علشان أنا وحش يا ضحى، ولسه هبقى وحش كمان وكمان وهبقى قوي وعندي كل حاجة وهبقى قادر أعمل أي حاجة في الدنيا…
كان تتطلع إليه بعدم فهم وحديثه بالنسبة لها طلاسم لا تفقهها لكن لم يلتقط عقلها سوى كلمة “وحش” فقالت وهي تُطبطب على ذراعه:-
– لا .. لا يا طاهر .. أنت مش وحش .. أنت حلو … حتى وأنت شعرك منعكش كدا حلو بردوه..
مفيش حد بيقول عليك وحش خالص .. عمو رضوان … وماما حُوما ومامتي وبابا….
وأنت بتجيب لضحى كل يوم موز وبتحفظها القرآن وبتلعب معاها..
علشان كدا ضحى بتحبك وهتفضل تحبك عالطول طالما بتجيب لها موز وبتحفظها سورة الضحى..
ونظرت له بترقب وأكملت ببراءة:-
– أنت كمان بتحب ضحى صح..
ابتسم لها بحنان، فحقًا هو يُحب تلك الصغير لبراءتها ونقاءها وقد تعلق بها وأصبحت جزء دائم من يومه، مع بُغضه لهذا المكان ونقمه على الجميع لم يرضخ قلبه لبغض نقاءها..
يُعجبه أنها لا ترى به السوء والأفضل من ذلك أنها تراه بطل مغوار…
ستكبرين يا ضُحى وستُصبحين فتاة يافعة جميلة وحينها ستُدركين حقيقة الأمر، وحقيقة طاهر، ستكبُرين وحينها لن تجديني وسيخشون عليكِ من ذكر اسمي الملوث بالأثام كي لا يلوث عالمكِ النقي، ستكبُرين وسيسردون لكِ مثالِب ومساوِئ طاهر..
ستكبُرين وستنسينَ فتى فِناء الدواجن، حتى ستنسين بطاطا..
ستكبُرين وستنسينَ ثمار الموز وتكرار سورة الضُحى حين الضُحى..
قال بصدق:-
– أيوا طبعًا بحب ضُحى .. ضُحى بنوتة جميلة وحلوة..
يلا أحفظك سورة الضحى..
قالت بحماس وسعادة وهي تحتضن ذراعه:-
– أيوا … يلا يلا يا بطاطا..
وأخذ يُردد سورة الضحى وهي تُردد من خلفه بتركيز شديد ومن حولهم الدواجن التي تجلس منكمشة بالبقع المشمسة وكأنها تنصت لما يقولون..
خرج طاهر من شروده ليتنهد بحسرة بينما بيده المصحف وأصابعه تتحسسه بشرود وهدوء، تلك الذكريات تمور بذاكرته لا تهدأ، صوت والده الشيخ رضوان وهو يحثه على حفظ القرآن والذهاب للكُتاب في حين كان يهرب هو ولم تكتمل ختمته..
خُلع قلبه وحنّ لكتاب الله حين سمع في إذاعة القرآن الكريم بالمذياع فعندما أتى إلى هنا فكان المذياع رفيقه وعلم أنه بآخر الزمان سيُرفع القرآن ويُمسح من المصاحف حتى أنه سيُرفع من صدور الرجال عندنا يلتهون عن القرآن ويهجرونه..
وقتها ارتعش قلبه وهو يستمع لشرح الشيخ عبر المذياع يقول..
عبد الله بن مسعود قال: إن هذا القرآن الذي بين أظهركم يوشك أن ينزع منكم، فقيل له: كيف ينزع منا وقد أثبته الله في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا؟ قال: يسري عليه في ليلة فينزع ما في القلوب ويذهب بما في المصاحف ويصبح الناس منه فقراء، ثم قرأ قول الله تعالى: “وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا”
وقتها هرع يُخبر والده أنه يُريد مصحف بأقرب زيارة لم ينسى كيف أخذه بأحضانه وأخذ يبكي وهو يتذكر هروبه منه منذ صغره…
وعزم على المراجعة وإتمام الحفظ وكان والده بالزيارات يدعمه ويُرشده..
لم ينسى كيف ترقرق الدمع بأعين والده وخرّ ساجدًا لله يحمده..
نظر للمصحف بين يديه يحمد الله أن كُتب له العودة وتذوق هذا الشعور، فتحه وأخذ يتلو حتى الفجر كما اعتاد..
ثم يؤدي صلاة الفجر ويواصل يذكر الله ويقرأ بكتاب الله حتى صلاة الضحى..
**************
أمام المرآة وجهها الذي يضخ بالسعادة مبتسمًا بعدما ارتدت فستانها الأبيض الرقيق ويزينها حجابها الطويل…
تنهدت براحة وهي تنظر لإشراق وجهها وقالت وهي تخرج من غرفتها:-
– سبحان من خلقك يا بت يا ضُحى .. شمس يا بنتي…
في الخارج كان ينتظرها والديها والشيخ رضوان وزوجته رحيمة..
اتجهت نحوها رحيمة التي لا تسع الأرض سعادتها ثم قبلتها من جبينها وقالت بأعين دامعة:-
– اللهم بارك .. ربي يحفظك يا عيوني..
ابتسمت ضحى وقبلت يدها وهي تقول بسعادة:-
– عيونك دي الحلوة يا ماما حُوما..
التفت رضوان لعبد الفتاح والد ضحى وقال بإمتنان وهو لا يُصدق الحال الذي هم به من السعادة، كان متيقن أن الله سيُجبرهم..
– موقفك ده مش هنساه أبدًا يا حاج عبد الفتاح، وقفتك وثقتك في طاهر الجديد وقبوله لبنتك وفرحتك بيه كأنه ابنك ربنا يجازيك خير عليهم واتأكد إنك ليك الأجر لأنك كنت واحد من إللي أخدت بإيده..
ابني بيبدأ حياة جديدة طبيعية .. ضحى بنتنا واتأكد إنها هتبقى في عنينا وطاهر مش هيخيب ظنك..
وضع والد ضحى يده فوق ذراع الشيخ رضوان وقال:-
– أنت عارف إن من زمان طاهر كان زي ابني وإحنا واحد … ومحبتي ليك يا شيخ رضوان كبيرة، طاهر بذرة طيبة ورجع لأصله، هو يستحق فرصة تانية..
– الله يبارك يا حاج ويتمم بخير على عيالنا، خلاص هانت كلها خمس شهور وطاهر يخرج وساعتها يبقى الجواز عالطول إن شاء الله..
هناخد المأذون معانا وكل حاجة جاهزه..
يلا بينا توكلنا على الله..
وقبل خروجهم تفاجأوا بقيس وقدر يقفان أمام الباب، ابتسم رضوان وقال بسعادة:-
– قيس ابني .. نورت يا حبيبي، إزيك يا قدر عامله أيه يا بنتي..
رددت قدر بلطف بينما تذهب لأحضان رحيمة الحانية:-
– الحمد لله بخير يا بابا رضوان، أنت عامل أيه وأخبارك..
وأنتِ يا ماما عاملة أيه وأخبارك وحشاني كتير..
– أنا بخير يا قدر، الله يرضى عنك يا بنتي، طمنيني صحتك عامله أيه وحشاني والله يا قدر..
– حقك عليا يا ماما عارفه أنا مقصرة معاكِ بس والله الحمل تاعبني ومخليني وخمانة وبقوم من النوم أنام..
ابتسمت رحيمة وربتت على ظهرها وهي تُردد بحنان:-
– الله يعينك يا بنتي، مقدرة يا حبيبتي الحمل في أوله بيبقى كدا، تقومي بألف خير وربنا يرضى عنك يا قدر ويسعد قلبك ويرزقك الذرية الصالحة..
أمنت قدر والجميع خلفها، قدر التي استطاعت وكانت أكثر قوة على المسامحة وترك الماضي خلفها والمضي قدمًا..
سمعت ما أصبح طاهر عليه ففرحت لعودته لله وتوبة تائب، فإن كان الله يسامح ويعفو وهو الملك الخالق رب العالمين فمن نحن حتى لا نسامح ونعفو، نحن أيضًا نريد السماح والعفو من الله على هفواتنا وسقطاتنا، الكره والحقد يثقلان القلب ويغيشان السعادة ويعكران صفو الحياة..
سامحت لتحيا بقلبٍ سليم لتُرزق راحة البال..
سامحته على ما كان منه لله ولأجل الله، قالت له اذهب فأنت طليق من ذنبي وما اقترفته في حقي، سامحت وعفت متأسية بقدوتها الحسنة رسول الله حينما قال اذهبوا فأنتم الطُلقاء…
اتجهت قدر نحو ضحى تحتضنها وقال بود:-
– مُبارك يا ضحى، ربنا يهنيكِ ويسعدك يا حبيبتي..
بادلتها ضحى العناق وهي تُقدرها وتقدر صنعيها معهم وودها وتسامحها بعدما علمت جميع ما حدث وما كان عليه طاهر وهو بثوب عزيز…
– وحشاني يا قدر ..الله يبارك فيكِ يا حبيبتي مبسوطة إنك جيتي..
قال قيس وهم يتجهون للأسفل:-
– يلا يا أبويا نروح بقى تلاقي طاهر على نار..
اتجهت رحيمة وبصحبتها والدة ضحى وقدر نحو منزلها وقالت لضحى قبل أن تغادر بصحبة والدها والشيخ رضوان وقيس:-
– سلميلي على طاهر كتير يا ضحى وقوليله أمك بتقولك ألف مبروك، لو كان ينفع كنا روحنا كلنا، بس إن شاء الله تتعوض، وهانت ويخرج ونعملكم فرح ونفرح بيكم..
وأكملت وهي تنظر لقيس:-
– وأنت يا قيس تصور لنا كل حاجة وكتب الكتاب..
– حاضر يا أمي رحيمة من عنيا..
وانصرفوا نحو اللقاء المرتقب وقلوب تتهافت للقاء ولاسيما إن كان لقاءٌ في الحلال..
**************
بداخل الزنزانة ذات الرقم سابعة “٧”..
كانت الصيحات الفرِحة والتصفير والتصفيق يعمها..
وقف طاهر الذي يرتدي بنطال أسود وقميص أبيض ناصع وقد صفف شعره الذي نبت به بعض الشيب وهذب لحيته وقد عمل على تخفيفها فأصبح أكثر وسامة وقد تكاثرت بسبب هذا النور الذي أصبح يسطع من وجهه..
– ألف مبروك يا عريس .. عقبالنا يارب
– مبروك يا طاهر .. ربنا يتمملك بخير يارب..
– ألف مليون مبروك لأبو الطُهر كله، صبرت ونولت يا باشا البشوات كلهم وعقبال خروجك يارب..
كان وجهه مبتسمًا فقال بمحبة حقيقية:-
– الله يبارك فيكم يا رجاله، وعقبالكم وعقبال خروجنا كلنا يارب..
اقترب خليل يُهندم ملابس طاهر وياقة قميصه ثم نظر بتقييم وقال:-
– باشا .. باشا يعني .. أحلى عريس..
احتضنه طاهر وقال بتمني:-
– عقبالك يا أبو الخِلّ .. وعقبال خروجك يارب..
كان وجه خليل دائمًا جديّ عبوس بطبيعته رغم محبته وطيب قلبه لكن ما لاقاه برحلات عمره لم يكن بالهين حتى ألقت به الحياة هنا خلف القضبان..
بعد قليل أتى مدير السجن وقيادات المديرية والكثير من الضباط والجميع في حالة سعادة لهذا الحدث النادر الوقوع..
خرج الجميع في قاعة انتظار خاصة بالسجن ومشددة الأمن..
كان قلب طاهر يُحلق في سماء السعادة ونبض قلبه الشديد يكاد أن يخرق ضلوعه ويُحطمها..
من يراه الآن لا يتعرف عليه…
أهذا ذاته عزيز؟!
نعم … نعم .. حقًا وصدقًا “لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا”
دلفت ضحى بصحبة والدها مطرقة رأسها بحياء ولم ترفع رأسها تجاه طاهر التي لا تعلم أين يقف!!
جلس المأذون وجلس اللواء مدير المديرية والقادة وقسم الشرطة..
وبدأت مراسم الزواج تحت نبضات قلب ضحى الصارخة تخشى أن تخترق أذان الجالسون..
أغمضت أعينها وهي تستمع للشيخ يختم المراسم بالجملة المعهود..
بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير..
ووضعوا أمامها الدفتر وأخذت توقع بقلب مرتجف سعيد…
التزمت جانب والدها فاقترب طاهر منهم وانحنى يُقبل يد والده الشيخ رضوان الذي كان ينظر لوجه طاهر ولده دون تصديق وسعادة ولم يكف عن ترديد الحمد..
انحنى طاهر يُقبل يد والد ضحى الذي ربت على رأسه وقال بسعادة:-
– الله يرضى عنك يا طاهر، مبارك يا ابني وعقبال خروجك يارب..
– الله يبارك فيك يا عم عبد الفتاح، اللهم آمين يارب..
رفع رأسه تجاه ضُحى والتقت الأعين لقاء حُر بعد أكثر من عشرون عامًا..
كانت أعينه الملهوفه تتأمل ملامحها الرقيقة النقية بلهفة واشتياق..
وأعينها الخجلة تتأمل ملامح حبيبها طاهر التي عادت كما عهدتها..
انهالت المباركات وقُطع وصال الأعين لكن القلوب مازالت بتعلق وتلهف..
وبعد مرور القليل سمح المسؤولين بلقاء قصير على انفراد الأزواج فقال اللواء صابر بوقار:-
– طاهر .. قاعة الزيارات التانية فاضية تقدر تقابل مراتك على انفراد وتباركلها يا ابني..
أردف طاهر بإمتنان:-
– ربنا يباركلك يا صابر باشا، شكرًا لذوقك ولسعيك في موضوعي، ربنا يجعل الرحمة دايمًا في قلبك..
بعد مرور القليل كانت ضابطة تصطحب ضحى الذي عبس وجهها معتقدة أنها ستُخرجها للخارج وهي لم ترى طاهر بعد ولم تتحدث معه..
وقفت الضابطة أمام أحد الغرف وابتسمت لضحى بودّ وقالت بلطف:-
– ألف مبروك .. اتفضلي جوا..
حركت ضحى رأسها بحزن وابتسمت لها بفتور قائلة:-
– الله يبارك فيكِ .. تسلميلي..
ودلفت ضحى للداخل بحزن لكن فور أن وقعت أعينها على هذا الذي يقف مترقبها بأعين مثبتة فوق الباب بتلهف ابتسمت باتساع..
همست بشوق وبدون تصديق:-
– طاهر…
قطع المسافة التي تفصلهم بخطوتين ومدّ يده يتلمس كفيها برقة وحنان ليرتعش قلبها وينبض بجنون ورفع طاهر كفيها يقبل باطنهم كل واحدٍ على حدة فطفق الشفق فوق وجنتيها وابتسمت بخجل بينما همس لها بعشق:-
– يا عيون طاهر يا ضُحايا وصُبحي، مُبارك علينا يا حبيبتي.. أخيرًا يا ضُحى وصلت لبر الأمان..
أخيرًا الصبح أشرق ووصلت للضحى..
ابتسمت له وهي لا تصدق ما تسمعه، تأملت ملامحه الغائبة التي تبدلت لكن مازال هو طاهر بداخلها لم تتغير مكانته..
رفعت كفيها تُمسك كفيه فأخرج هو من جيبه حلقة ذهبية ووضعها بحب باصبعها وقال:-
– كلها كام شهر بس يا ضُحى وتبقى في بيتي، أنتِ رزقي الواسع وعوض جميل يا ضحى، أنا معملتش أي حاجة حلوة في حياتي علشان استحقك..
لما حياتي كانت كلها سواد، كنتِ أنتِ نقطة النور الوحيدة فيها، كان مجرد لما تيجي في بالي كنت بفزع وأحرك راسي علشان تخرجي منه بأسرع وقت ممكن علشان مش من حقي أفكر فيك ولا أحتفظ بالذكريات البسيطة، مكونتش عايز ألوثك حتى بمجرد إنك تيجي في مخيلتي وبالي..
ضحى أطهر وأنقى من إن هي تيجي في بال واحد قذر زيكء كنت دايمًا أقول لنفسي كدا..
اتحملتيني يا ضحى وضحيتي بدون مقابل، سامحيني يا نور عيني .. سامحيني يا ضحى..
وضعت يدها فوق فمه وقالت بأعين دامعة:-
– انتهى يا طاهر .. أنت وقتها مكونتش طاهر إللي أنا أعرفه .. إللي مريح قلبي إن وقتها كنت عزيز، أنت دلوقتي طاهر حبيبي وجوزي، الحياة الحلوة والعوض مستنينا يا طاهر، وأخيرًا الضلمة انتهت وأشرقت الشمس..
ورفعت يدها وضحكت وهي تُبعثر خصلاته بعشوائية وقالت بمرح:-
– أنت البطاطا بتاعة ضحى وبس .. قولتلك حتى لو منعكش هتبقى حلو بردوه..
ضحك بسعادة لتذكرها ذكرياتهم معًا وكوّب وجهها ثم لثم جبينها بعمق بينما يسند جبينه فوقها ووضع بيدها شيئًا ما ابتسمت حين علمت ماهيته دون أن تنظر .. ثمرة …موز..
همس لها بحنان متسائلًا:-
– لسه بتحبي الموز..
ابتسمت وهمست له بعشق:
– عمري ما بطلت أحبه..
همس طاهر:-
– وأنا الموز واخد عقلي..
تبسمت بخجل ليهمس لها ولن تكون آخر الهمسات:-
– كان ليلي طويل، كان به ظلمات شديدة بعضها فوق بعض، لكني كنت أعلم أن الصُبح بقريب..
وأشرق الإصباح … حتى أصبح الإشراق يحاوط الظلام … وعُلِم دائمًا أن الإشراق هو أول الضُحى.
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية زواج في الزنزانة 7 (انا والطبيب))