رواية يناديها عائش الفصل السادس والثمانون 86 بقلم نرمينا راضي
رواية يناديها عائش الفصل السادس والثمانون 86 بقلم نرمينا راضي
رواية يناديها عائش البارت السادس والثمانون
رواية يناديها عائش الجزء السادس والثمانون

رواية يناديها عائش الحلقة السادسة والثمانون
اللهم انصر المستضعفين من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم فرج عنهم وفك أسراهم ومكن لهم في أرضك وأعلِ بهم كلمتك.
________________
” بعض الإساءات لا تُنسى حتى وإن غفرناها. ”
~~~~~~~~~~~~~~
حفنة من المشاعر القاسية و الصارمة تجول في أوردته و تسقيه مُرًّا مريرًا أمر من أي ألمٍ قد مرّ عليه يومًا، لم يتوقع أبدًا أن تصل به الأمور لتلك
المُعْضِلة التي تجعله تائه يشعر بالضياع و الحيرة،
بعدما فعل والده فعلته و دفن معها أسراره، تعود الخبايا لتنكشف من جديد و تفضح صاحبها..
و ها هو يقود سيارته بغضبٍ و انتقامٍ تلفح نارهما قلبه فتزيده بُغضًا و قهرًا، فبعد ما قام بتوصيل (فراشته الرقيقة) عود أدراجه لمواجهة والده المستبد و الأناني؛ الذي فرق بينه و بين شقيقه لأكثر من ثلاثون عامًا مضوا و لم يعرف كلاهما أنهما إخوة من رجل واحد وهو اللواء المتقاعد
” رياض الكردي “.
تحدث مع أخيه ” رحيم ” عبر الهاتف المحمول و طلب منه احضار التقارير التي تثبت صحة النسب، و يقابله أمام الفيلا، و بعد مُضيّ نصف ساعة يصل ” رحيم ” بسيارته ليترجل منها و يجد ” كريم ” يستند بظهره على سيارته و ينفث دخان سيجارته الالكترونية بشراهةٍ و شراسةٍ و غضبٍ سيطروا عليه؛ لتُصبح تعابير وجهه بركان هائل من الغضب و الغيظ قد ينفجر في أي لحظة.
تقدم نحوه ” رحيم ” و بيده التقارير و قبل أن ينطق لتهدئه أخوه، هتف الآخر:
” من ساعة أنت ما جيت و عرفتني الحقيقة و وعيت عيني للمستخبي، و أنا كاظم غيظي و كاتم جوايا و ساكت لحد ما الشغل اللي كان على دماغي خف، كنت بحاول استوعب إنك ابن رياض زي ما أنا ابنه، كنت بحاول استوعب إنك أخويا مش مجرد صاحب ليا، كنت تايه و حاسس إن بدأت أفقد اتزاني من كُتر التفكير، كُنت بدأت أضيع خلاص، لحد ما عملنا التحاليل و اللي كنت خايف منه طلع مظبوط ”
” أنا عارف و فاهم و مقدر إن الحقيقة وجعتك و كانت صعبة عليك و لا زلت بتحاول تستوعبها، بس أنا موجوع أكتر منك يا كريم، أنا اتحرمت من أبويا الحقيقي و من اخواتي من أول يوم جيت فيه للدنيا، و ده مش ذنبي و لا ذنبك عارف، بس لو حاسس إن وجودي في حياتكم كأخ ليك و كابن لرياض بيه، فأنا هرجع صاحبك و بس، و ننسى أي حاجة و لا كأن حاجة حصلت، و اوعدك بحق الصحوبية و العيش و الملح اللي بينا إني مفتحش سيرة الموضوع ده تاني ”
قالها ” رحيم ” بنَفَسٍ مقطوعٍ من الحُزن و الألم على حالهما، خاف أن تفقد علاقة صداقتهما القوية رونقها و تضعف جذورها؛ لذا لم يجد مفر من الحقيقة سوى إخفائها و كأنها لم تكن، و لكن
” كريم ” لم يكن يفكر في ذلك من الأساس، فكل تفكيره الآن في كيفية رد الحقوق لأصحابها..
أحاط وجه أخيه الحزين و قال بنبرته الصارمة:
” اوعى تقول الكلام ده تاني، أنا كنت الوحيد على اتنين بنات، دلوقت بقى ليا ضهر و سند اتسند عليه وقت إما اقع، بس طالما أنت موجود فأنا عمري ما هقع، أنت ضهري و سندي يا رحيم، أخويا اللي الدنيا جايه تكافئني بيه متأخر بعد اللي عملته فيا، بس و ماله محصلش حاجة اللي فات مش بتاعنا، لكن اللي جاي كله بتاعنا ”
قال جملته الأخيرة بعد ما أنزل كفيه اللذان يحتويان وجه ” رحيم ” و أخذت عينيه الكهرمانية تنظر للفراغ أمامها بشرودٍ جعل الخوف يدب في قلب ” رحيم ” فتساءل بقلقٍ:
” ناوي على إيه يا كريم ؟ ”
” ناوي أهد كيان رياض باشا يا رحيم، هـَدمره ”
أخذ تقارير اثبات النسب يعبث فيها بقسوة، و أصابعه تتسلل لجيبه تخرج السيجارة الإلكترونية ثانيةً، و قبل أن يضعها في فمه؛ أخذها منه
” رحيم ” قائلًا في هدوء:
” خِف سجاير، صدرك هيروح منك و أنت داخل على جواز ”
رمقه بنظرة ثاقبة باردة جعلته يعيد له سيجارته تلقائيًا، ليقول ” كريم ” بنبرة جافة:
” حاولت ابطلها معرفتش ”
صمت لبُرهةٍ من الزمن، ثُم استرسل حديثه بتيهٍ تلك المرة.. شاردًا في عالمه الخاص مع فراشته:
” وعدت فراشتي إن ابطلها بس لأول مرة انقض وعد في حياتي ”
” فراشتك ؟ ”
همس بها رحيم بعدم فهم، فنظر له كريم مُنتبهًا لما قاله، ليردف بجمودٍ يصحبها نظرة تحذير:
” الاسم ده يخصني، يخصني أنا و بس ”
ابتسم رحيم بخفةٍ و فهم على الفور أنه يقصد زوجته و حرمه المصون، في حين أن كريم ركب سيارته ضاغطًا على البوق ليفتح حارس الفيلا تلك البوابة الضخمة، فتدخل السيارتان و يترجل ” كريم ” في صلابة يمشي مشيته الواثقة كعادته تنفي كل مشاعر الاضطراب التي يشعر بها في تلك اللحظة، فالعقلُ في تفكيرٍ مضطرب و القلب ممتلئ بالأحزان و الآلام.
أثناء صعوده الدرج الرخامي سمع همهمات تأتِ من غرفة الاجتماعات الخاصة بوالده و التي يستقبل فيها ضيوفه فقط، استدار ليقترب أكثر و قبل أن يفتح الباب؛ انتبهت عيناه لوجود أكثر فتاةٍ يبغضها قلبه، تقف أمامه و بيدها كأس البيرة تنظر له في سخريةٍ لاذعة لتقول:
” هاي كريم ”
استبد به الغضب فور رؤيته ” نداء ” ابنة عمه و حبيبته السابقة تقف أمامه بكل برودٍ تقابل نظرات عينيه الحادة بنظراتٍ غير مباليةً منها له..
هتف في ضجرٍ:
” أنتِ مش كُنتِ سافرتِ ؟ إيه اللي رجعك تاني ؟ جاية عاوز إيه ؟! ”
ارتشفت القليل من كأس البيرة، ثُم وضعته في رقةٍ مصطنعة و اقتربت منه ترجع خصلات شعرها للوراء، قائلة بفتور:
” اجي و قت ما أحب، و بعدين أنا جاية عند عمي مش جاية عشانك ”
عقبت قولها بالقاء نظرة تفحصية على ” رحيم ” الذي بدوره كان يناظرها بجفاءٍ رغم عدم معرفته بها..
تساءلت في استفسار:
” مين الأستاذ ؟ ”
لم يجيب رحيم، أما كريم رمقها بنظرة اشمئزاز دون ردٍ أيضًا، ثُم فتح الباب على والده بابتسامة ساخرة لتقع عينيه على عمه والد نداء، يجلس مع والده يتحدثان فيما بينهما بصوتٍ خافت..
ظهر ” رحيم ” من خلف قامة ” كريم ” الطويلة يصوب نظراته الحزينة تجاه ” رياض ” الذي ما إن رآه أحس بأن العالم انهار فوق عاتقه..
اتسعت عينيه في صدمةٍ لم تكن متوقعة، و أخذت يديه ترتجف في محاولة فاشلة منه لإخفاء توتره البالغ.
ليست تلك أول مرة يشاهد رياض الأخوان معًا، و لكن نظرات الاثنان تجاهه و تلك الأوراق بحوزة كريم، جعلت عقله يترجم الأحداث سريعًا، و سرعان ما أدرك خطر المأزق الذي وضع نفسه فيه.
وزع ” كريم ” نظراته النارية على والده المرتبك و عمه الذي بدا عليه أيضًا التوتر، ثُم ألقى بالتحاليل على مكتب ” رياض ” و أشار لرحيم من خلفه ساخرًا بغضبٍ:
” ابنك يا رياض بيه، رحيم يبقى أخويا اللي أنت حرمتني منه أكتر من تلاتين سنة ”
تبادل رياض و شقيقه النظرات بتوتر فيما بينهما، و يبدو أن الأخير على علم بالأمر أيضًا، مما لاحظ كريم تلك النظرات المرتبكة و هتف في اِحتداد مصحوب بالتهكم:
” اوعى تكون يا عمي كنت عارف و مخبي ! لا ده أنا أزعل أوي والله ”
نهض عمه يحاول تهدئته..
” اهدى يا كريم و نتفاهم ”
صاح ” كريم ” في قسوة:
” نتفــاهم ؟ أنتم إيــه.. ! شياطيــن ؟ ”
” اتكلم باحترام، نسيت نفسك ولا إيه ! ”
هتف بها رياض هو الآخر بغضب، مما ثارت ثائرة ” كريم ” و جن جنون غضبه و راح يصيح:
” الواضح أنت اللي نسيت نفسك، أنت استحالة تكون أب سوي، أنت مريـض.. مريــض.. ”
قاطعه رياض بحدة أكبر:
” أنت قليل الأدب، و المريض ده يبقى أنت.. أقول لك بأمارة إيه ! بأمارة البنت المنقبة اللي وهمتها بحُبك عشان بس تفرض سيطرتك المريضة عليها، عشان عارف إنها لسه عيلة و مش مدركة للي بيحصل حواليها ولا تعرف شخصيتك الحقيقية لسه، روحت اتداريت فيها عشان تنسى حُبك الحقيقي.. نداء بنت عمك اللي سافرت و سابتك بسبب مرضك الغبي يا غبي.. ”
” ما تخلنيش أفقد السيطرة على أعصابي أكتر من كده و اتغابى عليك، أنا لسه حاطط في الاعتبار إنك للأسف أبويا، لكن ها تتكلم بالأسلوب ده على مراتي، ها انسى أنت مين أصلًا ”
اتجه ” رحيم ” نحو أخيه يشدّه للخارج و يحاول تهدئته بقوله:
” كريم، اهدى شوية.. لازم نتكلم معاه بالراحة، الزعيق و الخناق مش ها يجيب نتيجة، ما تنساش إنه رياض بيه اللي ما بيرحمش لا كبير ولا صغير ”
تجاهل ” كريم ” حديثه و اتجه بثباتٍ يقف أمام والده ليقول بلهجة صارمة مثله:
” إيه اللي خلاك تقول إني واخد مراتي كوبري عشان أنسى الماضي بتاعي، و مرض إيه اللي بتتكلم عنه ؟ ”
انتهز والده الفرصة لتشتيت عقله أكثر، فقال بسخرية غير مُباليًا لوجه كريم الخالٍ من أي مشاعر سوى مشاعر الغضب:
” قبل ما تيجي تحاسبني على غلطاتي يا بيه، حاسب نفسك.. أنا حاولت كذا مرة أبعد مراتك عنك، كنت بحميها منك و من جنون السيطرة اللي عندك، لكن أنت غبي فكرتني عاوز أفرقكم عن بعض و خلاص، ذنبها إيه تستحمل مرض الاستحواذ اللي عندك…
قبل أن يستكمل هذيانه، أوقفه كريم هازئًا:
” ده على أساس إن أنا بقى واحد بريالة و أهبل و هصدق كلامك.. صح ؟! فُوق يا رياض بيه و شوف أنت بتكلم مين، أنا مبقتش كريم الصغير بتاع زمان اللي كنت بتطلع غِلك فيه و هو زي العبيط يصدق إنك بتضربه و تعنفه عشان مصلحته، اللي واقف قدامك ده، الدراع اليمين للريس، أنا ضابط مخابرات.. المركز اللي أنت قعدت سنين معرفتش توصله، و في الآخر طلعوك بدري عن ميعادك عشان لا مؤاخذة مش بتفهم، أنا أضحك على بلد و لا إنه ينضحك عليا أو يتلعب بيا الكرة، أنا زي الحيّة عشان تخلص من سُّمها لازم تسمح لها بالعضّ، و أنا اللي يقرب مني أو يفكر بس يتعدى على ممتلكاتي الخاصة؛ أنهش لحمه و اخلي سُّمي يجري في دمه.. ”
صمت سيطر عليهم للحظات بما فيهم والده، الذي قابل كلامه المهين له بسخرية يخفي وراءها خوفه و ارتباكه من القادم..
” ممتلكاتك الخاصة ! و كلامك ده مش بيوحي بحاجة ؟ أنت مش بس مريض بجنون العظمة يا كريم، أنت مريض بالتملك و فرض السيطرة على الحاجات اللي خايف تضيع منك، أنت لما لقيت واحدة ضعيفة زي مراتك تصدقك و تثق فيك؛ خوفت تضيع منك زي ما ضيعت حُبك الحقيقي “نِداء” من ايدك بغبائك، أنت حبيت إنك قادر تتحكم فيها براحتك، حبيت ضعفها لكن محبتهاش هيَ، و الدليل على كده هروب نِداء منك قبل زواجكم لما عرفت إنك مش بس مُتملك، لأ و سادي كمان و كل اللي همك تشبع غرائزك و شهواتك الحيوانية مع حتة عيلة لا راحت ولا جت ”
فور آخر شيء تفوه به والده، أجفل الغيظ و الغضب عينيه الكهرمانية فبدت ظلام حالك دامس بشرارة الانتقام فقط، سُرعان ما احتوى رقبة والده بكفه الصلب يخنقه بقوةٍ تحت صراخ و توسل عمه و رحيم، و نداء التي هرولت تحاول ابعاد يد كريم الجامدة عن رقبة عمها، بينما
” رياض ” بدأ وجهه بالاحمرار و عينيه تمتلئ بالدموع الناتجة عن الاختناق، أما ” كريم ” بدا و كأنه فاقد الوعي العقلي تمامًا، حواسه حاضرة إلا عقله الذي شرد يفكر فيما هذي به والده..
استطاع ” رحيم ” إبعاده أخيرًا عن والده الذي سقط مكانه يسعل بشدة و يحاول أخذ أنفاسه بقوة، دفع رحيم بأخيه خارج الغرفة و هو يصيح عليه:
” أنت اتجننت.. ! إيه اللي بتعمله ده ! كان هيموت في إيدك ”
” كُنت سيبني أخلص عليه يا رحـيـم ”
صرخ بها ” كريم ” و هو يحاول الدخول للغرفة و استكمال فعلته بوالده، في حين أن رحيم سارع باغلاق الباب هاتفًا:
” ها تودي نفسك في داهية، فُوق يا كريـم.. فُوق”
” أنت ما سمعتش بيتهمني بإيه ! بيقول إني سادي.. طلعني مريض بالسادية يا رحيم ! مراتي لو وصل لها الكلام ده؛ استحالة تقبل تكمل معايا.. عاوز يحرمني منها بأي طريقة ليـه ؟ ليـه و هو عارف إني بعشقها و حياتي من غيرها ها ترجع جحيم تاني ؟ سيبني أنهي الراجل ده يا رحيم ”
دفعه رحيم ثانية وهو يوقفه بحدة:
” الراجل ده يبقى أبونا.. أنت مستوعب أنت بتهبب إيـه ! بلاش تخلي كلامه يأثر عليك، أنت كريم باشا اللي الداخلية نفسها بتعملك ألف حساب لحكمتك و ذكائك، بلاش تضيع كل ده في لحظة تهور، بلاش تفقد صبرك يا كريم بسبب الهبل اللي بيتقال ده، فوق لنفسك ”
في تلك اللحظة أقبلت جدة كريم ” جيهان ”
و والدة رياض، تتكئ على عكازها و تمشي ببطءٍ تجاه الغرفة، ثُم ألقت نظرة راضية على ” كريم ” فهو الحفيد الأحب لقلبها، مما تجمعت الدموع في عين الأخير و همس في ضعفٍ:
” قولي لهم الحقيقة يا چيچي، قولي لهم إني مش سادي ”
ابتسمت في وهن و حولت نظرها الضعيف على
” رحيم ” متسائلة:
” أنت ابن فهمي عساف مش كده ؟ ”
أومأ رحيم بنظرة منكسرة:
” الكلام ده كان الأول، دلوقت تقرير ال DNA يثبت إن رياض باشا يبقى أبويا ”
” حقك ها يجي ”
قالتها بثقة، ثم أكملت سيرها بتباطؤ للداخل، لتجد ” رياض ” يرتشف الماء بعد أثار الخنق، جلست في صمتٍ على المقعد تنظر لولديها نظرات صارمة غاضبة، ثُم قالت بصوت عالٍ نسبيًا يسمعه الجميع:
” روحت تزوجت على مراتك في السر و خبيت الموضوع عشان خال مراتك كان وزير الداخلية، بس خالها مات من سنين و ده كان السبب الوحيد اللي مخليك كاتم عملتك و خايف تقولنا، إيه اللي سكتك كل ده يا رياض طالما اللي كنت خايف منه مات ! مش ها أسألك فين خوفك من ربنا؛ لأن اللي زيك يا ابني ضميره ميت لا بيفرق بين حلال و حرام، بس ها أسألك سؤال واحد و ياريت تكون الاجابة واضحة و صريحة يا إما أنت عارف أنا هعمل إيه كويس ”
توتر ” رياض ” و بدا الخوف من أمه العجوز التي ترك لها ” منصور الكردي” والده جميع الأملاك الخاصة بالعائلة في عهدتها هيَ، و الذي قصدته من وراء قولها، أنها ستنقل كل تلك الاملاك باسم
” كريم” فقط، و بذلك يصبح هو الواصي عليها و يديرها كيفما يشاء، و يخرج رياض فارغ الجيوب من تلك الغنيمة الثمينة، وهو يعشق المال أكثر من أي شخص آخر، لذا ستكون خسارته خسارة فادحة؛ إذا لم يقم بتصليح الأمور الآن.
استطردت ” جيهان ” حديثها الجديّ:
” بس قبل ما تتكلم، لازم الكل يكونوا حاضرين و سامعين ”
قامت باستدعاء والدة كريم و أشقائه الفتيات، واحدة متزوجة و لديها طفلين و الثانية توفي زوجها في سيناء ولديها ثلاث أطفال و “كريم” هو الحفيد الأكبر، و من بين المدعوين لتلك الملحمة ” والدة رحيم ” فقد أخبر كريم جدته بالأمر منذ معرفته به من ” رحيم ” و طلبت الجدة الجلوس مع السيدة لتفهم منها الأمر بالكامل، و قد دبر ” كريم ” مع جدته هذا الجمع لمواجهة ابنها غليظ الطبع.
وعلى رأس الحضور كان محامي العائلة موجود و قد جاء للتو..
قالت الجدة بصرامة عكس ملامحها الطيبة:
” سؤالي لك يا رياض، لحد امتى كنت هتفضل كاتم و مخبي الحقيقة ؟
دلوقت جه الوقت اللي ترجع فيه الحقوق لأصحابها ”
و التفتت للمحامي بلهجة آمرة:
” شوف شغلك يا ربيع ”
أخرج المحامي الخاص بالعائلة ” ربيع ” الورق العائد للأملاك و الأموال التي خلفها
” منصور الكردي ” وراءه بعد مماته، و ورق آخر ليمضي عليه ” رياض ” و يقر فيه بأن ” رحيم ” ابن شرعي وله حق الميراث من تلك الثروة الهائلة.
و أشارت ” جيهان ” بعينيها لرياض قائلة:
” امضي ”
” و بالنسبة للإهانة اللي حفيدك البيه المحترم كريم وجهها لي، مين ها يحاسبه عليها ؟ ”
قالها رياض في غيظٍ و تردد من الامضاء، فردت
” جيهان ” بنبرة هادئة:
” الحساب وقت الحساب يا رياض، و أنا بتكلم عن حقوق مش حسابات، امضي ”
صاح هوَ في إِنْفِعَالٍ يريد تشتيت ذهن الجميع:
” ازاي توافقيه على التخلف اللي بيعمله ده ! سمعة العيلة هتروح تحت الرجلين لو زواجه من المنقبة دي كمل، ده نسب ما يشرفش، إحنا أحفاد الكردي باشا نناسب ناس زي دول ! الخراب دق على البلد لسنوات من تحت راسهم، و أنتم جايين ببساطة كده تهدوا اسم عيلتنا و توافقوا على الجوازة الشوم دي ؟! ”
هتف ” كريم” تلك المرة في جمودٍ:
” أظن بعد كلامك ده اتضح مين فينا المريض ! ”
” كـريم ”
صاحت بها ” جيهان ” مما سكت كريم تأدُبًـا لها، فتابعت موجهة حديثها المتشدد لابنها:
” الكلمة كلمتي هنا، أنا اللي أقول إيه اللي يتم و إيه اللي ما يتمش، و جواز كريم ها يتم بأمر الله و سكة السلامة لأي حد ها اسمع نَفَسه فيكم.. ”
لم يستطيع أحد مجاراتها في الحديث، فتابعت توزع نظراتها عليهم بالتحديد ” نداء ” التي وقفت تنظر لها في ارتباكٍ:
” أما بالنسبة لاتهامك لابنك إنه مريض سادية، فالحقيقة يا رياض إن نداء سابت كريم عشان واحد تاني، و لما عرف و كشفها خافت من اللي ها يحصل فانتهزت فرصة إنه بيحبها من كل قلبه و طلعت اشاعة عليه إنه مريض بالسادية، عشان كان طول الوقت يتخانق معاها بسبب لبسها الغير محتشم بالمرة، حتى أبوها كسل يقولها عيب.. احترمي نفسك، لكن ها نقول إيه..
لما كريم شاف نداء مع الواد اللي اتجوزته بعد كده و طلع نصاب وغدر بيها، مقدرش يستحمل و ضربها، و من هنا جه موضوع إن كريم سادي و كان بيعذبها عشان رفضته في الحرام.. و أنت يا رياض بدل ما تقف جنب ابنك و تشيل التهمة الحقيرة المتلفقة ليه، كملت عليه أكتر و طلعت عليه إنه ما بيعرفش يحافظ على الحاجة اللي معاه، و كل حاجة حلوة بتضيع من ايده، و كريم لقى السبيل الوحيد إنه يتلاشى ضياع الحاجة اللي بيعوزها منه هو محافظته عليها بأي ثمن، و من هنا اتولد عنده شعور بالتملك و الرغبة في امتلاك أي حاجة قلبه حبها، عشان بس خايف تضيع منه مش عشان هو متملك أو سادي، السادي بيتلذذ بعذاب غيره، زيك كده يا رياض.. بتبقى مبسوط و عيالك بيعانوا مِن غيرك.. بتبقى في قمة سعادتك و أنت بتطيح في ده و تعذب في ده، الحقيقة أنت اللي عندك مرض السادية، مش حفيدي كريم أبدًا.. و اياك اسمعك تقوله كده تاني ”
صمتت تتنفس بهدوء، ثُم استدارت لحفيدتها “نداء” و قالت بتعصب:
” أنتِ و كريم انتهيتم من زمان، أنتِ روحتِ و خدتِ الماضي معاكِ، و ما بقتيش في حساباته خلاص، هو دلوقت قلبه مِلك واحدة تانية، واحدة بتحبه بجد و بيحبها بجد مش حُب مبني على المصالح و الشروط، البلد اللي كُنتِ فيها ارجعي لها تاني و سيبي كريم في حاله، فاهمة يا نداء؟ ”
أومأت رغمًا عنها وهي تنظر لهم بعدم رضا في غضب، و حملت نفسها تاركة الغرفة لهم.
بينما والدها كاد أن يتكلم، فأسكتته أمه مكملة لحديثها:
” امضي يا رياض، مفيش مفر من الحقيقة، رحيم ابنك زي باقي عيالك ”
لم يجد ” رياض ” مجالًا للهروب، و أحس بأن الموقف بدأ يضيق عليه و العيون تقيد حركته، فجلس يمضي الأوراق في تردد وهو ينظر لرحيم نظرات مختلسة، ليقول الأخير بنبرة متألمة أخيرًا:
” ليه حرمتني منك ؟ ليه عيشتني المدة دي كلها يتيم الأب ! كُنت بتحس بإيه و أنا باجي أسلم عليك و أقولك يا عمي ؟ ما صعبتش عليك طيب ؟ للدرجة دي هونت عليك يا… يا رياض باشا ! ده أنا حتى بحاول انطق الكلمة اللي المفروض أنادي لك بيها، مش عارف.. الوجع اللي أنت سيبته في قلبي ده مين ها يعالجه ؟
الله يسامحك بس أنا مش ها اسامحك ”
بعد قوله المُرّ، أخذت الدموع تنساب بتدفق على وجهه، فاتجهت إليه أمه لتمسحها له، مما ابتعد عنها قبل أن تلمس وجهه و قال بانكسار:
” عارف إنك مغلوب على أمرك زيي بالضبط، و هو هددك لو قولت لي الحقيقة أو أي حد عرف بيها، ها يقتلني.. و أنتِ كنتِ خايفة عليا، بس آسف.. أنا مش ها اقدر اتكلم معاكِ دلوقت غير إما أفوق من صدمتي، ده لو قدرت أفوق ”
بينما ” كريم ” أخذ نفسًا عميق و نظر لوالده بكُرهٍ قائلًا:
” بحاول افتكر لك حاجة حلوة عملتها معايا اسامحك عليها، مش لاقي.. أثر حرق السكينة اللي سخنتها و لسعتني بيها في كتفي و أنا عندي عشر سنين لسه معلم فيا، و كان عشان بس مردتش عليك و أنت بتنادي عليا، مع إن حلفت لك كذا مرة إني ما سمعتش، بس أنت عشان مفيش في قلبك رحمة عملت في ابنك ضناك كده، كان ممكن أعمله تجميل و أمحيه، بس سيبته عشان كل إما أشوفه أكرهك أكتر و ما اندمش على أي حاجة عملتها أو ها اعملها معاك لو فكرت بس تدوس لي على طرف تاني، سواء مراتي أو اخويا ”
” طول ما أنت ماشي بدماغك من غير ما ترجع لي، عمرك ما هتصعب عليا، أنت ابن عاق و تستاهل أكتر من كده ”
قالها ” رياض ” بغيظٍ لم يستطع كبحه، مما رد كريم بدموع جاهد في إخفائها أمامهم، فهو في حياته لم يبكي أمام أحد إلا في حضن جدته..
” أنا بعترف إني ابن عاق، بس أنا برضو خصيمك يوم الدين يا رياض باشا، و مش ها سامحك ”
تركهم، و خرج يزفر الهواء بغضب أفقده السيطرة على نفسه، فدفع بباب الدَرَج يفتحه بقدمه، و اتجه لخارج الفيلا، ثُم أسرع بقيادة سيارته ليوازي أخيه في السير، الذي قد خرج منذ دقائق و قاد سيارته هو الأخرى لوجهةٍ يجهلها بعد، تبادل الاثنان النظرات مع بعضهما في جو خيم عليه الحُزن الطاغي، بينما
” كريم ” أسرع بقيادة سيارته يتخطى بها سيارة ” رحيم ” وكأن بكاء العالم عالق في حنجرته؛ فخاف أن ينفجر باكيًا أمامه، و تذهب صلابة رجل المخابرات التي اعتاد عليها رحيم و الجميع من حوله هباءً.
______________
” مُد لِي يدَك ، نُخِيط جِراح الأيَّام معًا”.
~~~~~~~~~~~
لم تكن لدى ” رحيم ” وجهة يتجه نحوها لرمي متاعبه و مشاق حياته بها سوى ” شمس ” الفتاة التي أنارت بأشعتها الحنونة حياته المظلمة، فجعلتها ساطعة هينة.
اتصل بها ليخبرها بقدومه، فأخبرته أنها بالفيلا مما اتجه بسيارته نحو فيلا ” منير الأنصاري ” حماه، يقود سيارته في بُطءٍ و شرود يشعر برُوحه تُؤلمه مِن شِدَّةِ التعب، يود أن يبكي حتى يهدأ قلبه عن نبضات الألم التي ينبض بها، فتؤذي صدره كالسهام الحارقة المخترقة لثنايا القلب.
قام بتشغيل مذياع السيارة لتصدر منه إحدى الكلمات التي اعتاد سماعها، فهذا المذياع يعج بالأغاني الحزينة التي تزيده همًا فوق همه، و برغم أنه شخصية تحب المرح و الفرح، إلا أن بشخصيته تلك يخفي وراءها حزنه المكلوم و قلبه المهموم، فبعد ثلاثون عامًا يكتشف أن الرجل الذي رباه لخمسة عشر عامًا لم يكن والده الحقيقي، و والده الحقيقي لا زال على قيد الحياة، بل الأسوأ من ذلك أن رفيق عمره هو أخوه و والده الذي لطالما ناداه بعمي، يكون والده أيضًا.
« خايف لمن كتر الهموم.. أنام في يوم ماعرفش أقوم، صعب حال على طول يدوم، يا هم دايم جوايا ليه.. كنت ماشي زمان في حالي بس ماعجبش الليالي، يا زمن مالك ومالي شوف بقى غيري ترازيه »
لم يستطيع الصمود أكثر من ذلك، و ترك العنان لدموعه تلفح سخونتها وجنتيه فتزيده احمرارًا مصحوبة بخنقة و غصة في الحلق لا تضاهي ألف آهٍ و ألف ألم.
وصل أخيرًا لفيلا حبيبته، فمسح دموعه بوهنٍ و هبط من سيارته بعد أن فتح له الحارس الباب، ثُم اتجه يمشي بتباطؤ ولا زال باله مشغول بالتفكير فيما حدث منذ قليل في فيلا ” رياض ” و تردُد الأخير في الاعتراف به، حتى أنه لم يكلف نفسه و يضمه لحضنه يعتذر عن بُعده عنه طيلة السنون الماضية.
استقبلته ” شمس ” تلك الفاتنة الشبيهة بجسد الدُمى مثل أختها القصيرة، بابتسامة جميلة وهي تنزل من الدَرَج الداخلي للفيلا، ففتح ذراعيه ليأخذها بينهما و بدأ يبكي بصوتٍ رغمًا عنه يقول من بينه:
” روحي اتقهرت يا شمس، قلبي اتكسر ”
دُهشت من بكائه الشديد هكذا و من حاله المبعثر، فابتعدت عنه بهدوء و عينيها تتساءل بقلقٍ كبير:
” في إيه يا رحيم ؟ وجعت قلبي بعياطك.. في إيه ؟! ”
لم يرد بشيء و ظل ينتحب بحسرة و قهره، حتى أخذته من يده و أجلسته برفقٍ و اعادت سؤالها في خوفٍ، فما كان منه إلا أن يحكي لها كل شيء.
انتفضت تضع يدها على فمها و تشهق بشدة غير مصدقة:
” أنا.. أنا مش عارفة استوعب ! ”
” حقك، إذا كان أنا اللي عارف من فترة لسه مش قادر استوعب ”
قالها بانكسار وهو يمسح على شعره يحاول تهدئه جرحه، و لكن جرح الروح ليس له دواء !
أحاطت ” شمس ” وجهه بيديها تمسح له دموعه بإبهامها، ثُم أراحت رأسه على كتفها و ظلت تربت على ظهره بلينٍ قائلة:
” أنا حبيتك يا رحيم، أنت جيت داويت وجع قلبي اللي تسبب فيه البراء، و دلوقت جه دوري عشان أداوي وجعك اللي تسبب فيه أبوك الحقيقي ”
ابعدها عنه قليلًا، لينظر في عينيها بثباتٍ مصحوب بالضعف و أردف بنبرة توسل:
” تعالي نقدم ميعاد الفرح و نتجوز بدري و نسافر شهر برا مصر، عاوز أرتاح و أنسى يا شمس، عارف إن اللي حصل صعب و مستحيل يتنسي، بس على الأقل روحي المبتورة ترتاح.. ”
وضعت قُبلة رقيقة في كفه، ثُم وضعته على قلبها و قالت بصدقٍ:
” وعد من قلبي اللي حبك أساعدك تنسى و ما اتخلاش عنك أبدًا ”
” يعني أطلب من والدك نقدم الفرح ؟ ”
” موافقة يا رحيم، المهم أكون معاك في كل وقت ”
في تلك اللحظة آتاهم صوت عذب في نبراته الطرب، يصدح من الغرفة المواجهة لهما، نظر لها رحيم باستفسار، فتبسمت و قالت:
” ده صوت ” منة ” لما بتروح غرفة الموسيقى و تبدأ تعزف و تغني، بعرف على طول إن في حاجة كبيرة شاغلة بالها و تفكيرها فبتغني و تعزف عشان تهرب من التفكير، بس المرة دي الحاجة اللي شغلاها مش بتروح من بالها أو يمكن من قلبها، لأنها كل يوم بتغني و تعزف ناي حزين ”
ابتسم ” رحيم ” بخفة قائلًا:
” بس صوت عزفها جميل رغم إن العزف مُبكي ”
” منة مليانة مفاجآت بس للي يكتشفها صح ”
…
في غرفة الموسيقى الشاسعة بالفيلا، و التي امتلأت بالمعازف الكثيرة مثل ( البيانو و العود و الكمان، و الجيتار و غيره..)
تجلس على أحد المقاعد الأنيقة بالغرفة، و تعزف ناي حزين باحترافية بدموعٍ تنساب تملأ وجهها الصغير، و عقلها شارد التفكير تمامًا في صاحب العيون الجميلة.
كان آخر همها الوقوع في الغرام، و ها هي تعيش شعور هذا الهم الآن، نعم.. فتلك المشاعر بالنسبة لها هي هَمٍ و غَمٍ، و تجول و تتجول الأسئلة بذهنها ذهابًا و إيابًا..
( لماذا يا غبية ؟ لماذا تركتِ قلبك الأحمق يقع في الحُب ؟ كُنتِ تكرهين الرجال ماذا حدث لكِ ؟ هل أزرق العينين هذا هو السبب ؟!
ألم يجد قلبك غير ” قُصي ” الفتى التي كنتِ تبغضينه و يقع في حُبه ؟ ماذا دهاكِ لتسمحي لنفسك بحُب هذا الأبلة الذي يعتبرك مثل أخته ؟)
يتطابق صوت الناي الحزين مع دموعها المنكسرة، فتتركه على جانب و تجهش بالبُكاء، بُكاءٍ يمزق القلوب..
بالكاد استطاعت التوقف عن البُكاء، و أخذت تحدث نفسها بتأنيب و لوم:
” أنتِ مكنتيش كده يا منة، رغم كل اللي مريتِ بيه، بس عمرك ما كُنتِ ضعيفة زي دلوقت ! معقول حُبك السري ليه يخليكِ ضعيفة بالشكل ده ! ”
سحبت شهيقًا عميق، و اتجهت تجلس على المقعد الخاص بالبيانو، لتبدأ عزفها الجميل بصوتها الأجمل الذي تعمدت إخفائه و الغناء لنفسها فقط، كأنها اتخذت من ذاتها رفيقةً لها.
بدأت تضغط على أصابع البيانو البيضاء ثُم السوداء ثُم الاثنان معًا، لتُضرب السلاسل في البيانو بواسطة المطارق من الخلف؛ مُنتجة باستخدام لوحة المفاتيح التي تلعب عليها أصابعها بسهولة، صوتًا حزينًا مصحوب بلمسة طرب، أما شفتيها راحت تتحركان بكلماتٍ لطالما داهمت قلبها مُعلنةً لها، أنها مُهداةً خصيصًا لرثاء معاناتها.
« مش كل اللي بنحبهم ها يكونوا لينا
ولا كل اللي بنحيهم لايقين علينا
ممكن نلاقي اللي ياما حلمنا بيهم
و يلاقونا ما نلاقيش الحب فيهم »
توقفت أصابعها عن العزف، و أخرجت هاتفها لتفتح تطبيق الصور و تحضر صورته التي أخذتها في الخفاء من صفحته على الانستغرام، ابتسمت بدموعٍ وهي تتأمل تلك الصورة التي يرتدي فيها « هُودي أسود» يبرز جمال ملامحه و يضع أصابعه في شعره الناعم يرجع خصلاته للوراء مع ابتسامة صغيرة وواثقة أصابت قلبها في مرماه.
تنهدت بعمقٍ، و همست تحدثه:
” عملت في قلبي إيه ؟ ليه عقلي رافضك و قلبي مش عاوز غيرك، ليه ليالي بفكر فيك ؟ ليه صورتك دايمًا في بالي ؟ ليه مش قادر تسيب خيالي ؟ ليه يا قُصي ؟! ”
وضعت الهاتف مفتوح على صورته أمامها أعلى البيانو، و راحت تعزف و تكمل بدموعٍ لم تفارق عينيها..
« و ساعات بنشوف الحب و هو ما يشوفناش
و ساعات يقابلنا الحب و يمشى و ما عرفناش
و ساعات بيجينا الحب و يمشى كأنه ماجاش
و كتير بيسيبنا الحب و جرحه ما بيسبناش»
.
. في الخارج برَدْهة الفيلا، استعد ” منير” للخروج تجاه شركته، و أثناء نزوله من الدَرَج الفخم الداخلي للفيلا؛ وقعت عيناه على خطيب ابنته الضابط ” رحيم ” فاتجه يرحب به..
” أهلًا رحيم بيه ”
صافحه ” رحيم ” بابتسامة صغيرة يخفي وراءها شجنه الذي خلفه ” رياض ” في قلبه..
” ازيك يا منير باشا، أخبار سعادتك إيه ؟ ”
” تمام، أنت كويس ؟ ”
تساءل وهو يتفحص وجهه، ثُم ألقى نظرة على ابنته التي تبتسم بحزن و تابع استفساره:
” خير يا ولاد ؟ أنتم كويسين ؟ ”
أومأت ” شمس ” وهي تقترب من والدها و تعبث في أطراف شعرها بتوتر قائلة:
” بابي، رحيم محتاج يتكلم مع حضرتك في موضوع يخصه على انفراد ”
أشار له ناحية مكتبه الجَزُل الموجود في تلك الغرفة المُرفَّهة:
” اتفضل يا رحيم ”
اتجه معه “رحيم” بقلبٍ مهزوم يتبع الرجل الثابت في خطواته ناحية مكتبه الخاص، فجلس في توتر قبل أن يحكي له كل شيء ليكون الأب على علم بحقيقة من سيتزوج ابنته، في حين أن
” منير ” بدأ يشعل السِيْجار ذو الماركة العالية، و مد يده بواحدة يعرضها على رحيم، مما رفض الأخير مُعللًا:
” مش بدخن ”
” كاس فودكا ؟ ”
” مش بشرب عشان الصلاة ”
أومأ الرجل بتفهم و أشار له بالتحدث، فأردف
” رحيم ” بعد استنشاقه للهواء بعمق:
” منير باشا، قبل كل شيء أحب حضرتك تتأكد إن بحب شمس و مش هينفع استغنى عنها أو أسيبها تحت أي سبب كان، أتمنى حضرتك تفهمني في اللي هقوله ”
… في غرفة الموسيقى الشاسعة، دلفت ” شمس ”
تقف على عتبة الباب الذي فتحته بهدوء، كيلا تشتت انتباه أختها، وقفت للحظاتٍ تتابعها وهي تغني و تعزف ببكاءٍ مصحوب بالضياع و الشرود، انتبهت عيناها لهاتف ” منة ” المفتوح على صورة ” قُصي ” تنهّدت بأسى على حال أختها، ثُم أخرجت الايفون الخاص بها خلسةً دون انتباه الأخرى، و قامت بتصويرها فديو ” بالزوم ” وهي تغني و تعزف كأنها تُناشد قُصي بغنائها الممتلئ بالحُرْقَة.
أردفت ” شمس ” بأسفٍ عليها:
” أنا آسفة يا منة، بس قُصي لازم يعرف ”
توقفت ” منة ” عن عزف البيانو، و أخذت هاتفها لتبتسم لصورته بألمٍ مصحوب بالسخرية من نفسها، و راحت تُردد بدموع تأبى أن تتوقف:
« وكان مفروض ما أحبكشِ
ولو حبيت ما أبينشِ
و دلوقتي خلاص همشي
أنا وقلبي اللي دايب فيك»
” كفاية بقى ”
قالتها ” شمس ” بنفاذ صبرٍ على حالتها، فشهقت
” منة ” بصدمة و توتر من وجودها، و أغلقت الهاتف في الحال، ثُم مسحت دموعها و نهضت لتخرج، فأمسكت ” شمس ” بذراعها بلُطفٍ، و قالت في توسل:
” خلينا نتكلم شوية، لو ليا خاطر عندك ”
” حُزني أكبر مِن أن يُشفيهِ الكلام ”
قالتها بنبرةٍ تعيسة و حملت نفسها خارج الغرفة، فاستوقفتها ” شمس ” هاتفة:
” لازم يعرف يا منة بمشاعرك تجاهه ”
استدارت لأختها ترمقها بنظراتٍ نارية:
” لأ، لأ يا شمس.. مستحيل أقوله ”
” خلاص، هقوله أنا ”
تأملت أختها للحظات في دهشة، و تحولت ملامحها للغضب وهي تهتف:
” تبقي خسرتيني يا شمس ”
اتجهت إليها الأخرى بنظرات ترجي و توسل قائلة:
” مينفعش اللي بتعمليه في نفسك ده، يا منة الحُب من طرف واحد عذاب، كأنه نار بتحرق قلبك، قلبك اللي كل ذنبه إنه حَب ”
” أنتِ عندك حق، هو ذنبه فعلًا إنه حَب، و عشان ده قلبي يبقى ده ذنبي لوحدي، و الذنب ده هيفضل معايا لحد ما أموت ”
سكتت ” شمس ” هُنَيْهة تتأملها بشفقةٍ ممتلئة بالحُنوّ و العَطْف، و قالت بهدوء وهي تقترب و تحتوي وجه أختها الصغير بين كفيها
” منة، اسمعي مِني.. أنا متأكدة إن لو قُصي عرف بمشاعرك تجاهه، الأمور ها تتغير ”
” للأسوأ، ها تتغير للأسوأ يا شمس ”
” ليه بتقولي كده ؟ ”
تساءلت في تَحَيُّر، فأجابت ” منة ” بصوتٍ تَقَطَّعَ في ارْتِعَاشٍ:
” عشان، عشان قُصي بيعتبرني زي أخته ”
نظرت لها بعدم فهم، و سحبتها من يدها تجاه الغرفة لتتحدث معها برفقٍ و تفهم الأمر أكثر..
” طيب اقعدي و فهميني كده بالراحة، أنتم اتكلمتوا ؟! ”
مسحت دموعها بضعفٍ و عجزٍ منها، و قالت مبتسمة بنظراتٍ حالمة مكسورة:
” شوفته و أنا راجعة من القاهرة، كان سايق العربية، مش عارفة حصل لي إيه لما عيني وقعت عليه، حسيت.. حسيت لوهلة إن الدنيا فردت لي دراعها و بدأت تضحك لي، مقدرتش أبعد عيوني عنه، سرحت و توهت و سألت قلبي الولهان، اشمعنا ده ؟! ليه أول إما جيت تنبض نبضات الحُب، نبضك كان بإسمه ! مَـلقيتش رد على سؤالي، حبيته.. حبيته و خلاص، امتى و ازاي و ليه.. معرفش، و لما صورته مبقتش تفارق خيالي، عرفت وقتها إني قلبي مش ها يرحمني من الحُب ده، و لأنه حُب من طرف واحد، فهو هيفضل مكتوم في قلبي؛ لحد ما أموت و يختفي معايا ”
تَنهّد ثقيل و مُعبأ بالمآسي و الآلام خرج مع زفيرٍ قوي من ” شمس ” التي ما إن سمعت اعترافات “منة” لأول مرة، أخذت تبكي في صمتٍ بغير حولٍ منها ولا قوة.
أما ” منة ” تابعت بشهقةٍ مُتألمةٍ:
” قالي إني زي أخته يا شمس، لتاني مرة يقولها لي، أول مرة لما كُنا في المهمة سوا، و التانية و أنا راجعة من القاهرة، كأنه.. كأنه بـِيؤكد على كلامه، زي ما يكون حاسس بمشاعري تجاهه و عشان ما يحرجنيش، قالي إن زي أخته.. قُصي ذكي و بيعرف يقرأ اللي قدامه، أكيد حس من نظراتي، عشان كده قالي إنه بيعتبرني أخته، أخته يا شمس.. أخته ”
قالت آخر كلماتها و انفجرت باكية بقوةٍ، مما خفق قلب ” شمس ” عليها في ذَعَرٍ، و ضمتها لصدرها بحنانٍ، هامسة:
” هو ممكن يكون ذكي في الحياة العملية، بس في مشاعر الحُب لأ، هو أكيد قالك كده بحُسن نية و مكنش يقصد، عشان خاطري ما تعمليش في نفسك كده، بتعذبي نفسك و أنتِ لسه متعرفيش رد فعله لو عرف إنك بتحبيه، مش احتمال لو عرف، هو كمان يحبك ! بلاش تشاؤم يا منة ”
” و الاحتمال في حالتي إجابته صفر يا شمس ”
قالتها و ابتعدت تتنفس بعمقٍ، ثُم أكملت:
” ما تنسيش إن أنا ليا ماضي ما يتنسيش، مفيش أي واحد في الدنيا ها يقبل بواحدة زيي، و أنا قلبي ما حبش أي واحد، ده حَب قُصي يا شمس، الشاب اللي كل العيون عليه، ها يسيب البنات الحلوة دي كلها و يبص لي أنا ! طب على إيه؟ ”
نهرتها ” شمس ” بُلطفٍ قائلة:
” ممكن متقوليش كده تاني ! أنتِ مش عارفة قيمة نفسك و لا إيه ؟ هو اللي حصل لك ده حصل بمزاجك ! مش كان غصب عنك ! ليه تحملي نفسك فوق طاقتها ؟ و بعدين.. و بعدين إيه اللي مش ها يسيب البنات الحلوة دي كلها و يبص لك ! منة.. الحُب عمره ما كان بالشكل، الحُب أسمى و أنقى من كده بكتير، الحُب اللي حبتيه لقُصى، حُب ملوش شروط؛ عشان لما سألتِ نفسك حبتيه ليه، مكنش فيه إجابة.. أنتِ حبيتي قُصي لشخصه مش جماله و ماله و ذكائه و الشكليات دي، كل دي شكليات بتروح مع الزمن و تفضل الروح، أنتِ حبيتي روحه، و ده أسمى حاجة في الحُب، و هو كمان ها يحبك عشانك أنتِ.. عشان أنتِ منة، ها يحب روحك؛ لأنها تستاهل تتحب ”
برغم أن ” منة ” شخصية تبدو صلبة و جادة من الخارج، إلا أن لها قلب مرهف و رقيق و نقي للغاية، و كانت بالفعل بحاجة للحديث مع أي أحد، و بما أن ” شمس ” هي أقرب شخص لها، فَحكت لها المُكمن بداخلها و اعترفت لأول مرة بمشاعرها.
أخرجتها ” شمس ” من شرودها وهي تُمسد على شعرها « الكاريه» الحريري و الذي يتميز بتساوي أطراف الشعر بشكل مثالي حول الرأس و منسدل على أكتافها يخفي ذلك « التاتو» خلف عنقها الأبيض، و الذي تشكل على قلبٍ مكسور، أزاحت لها ” شمس ” خصلات الغُرَّة بابتسامة حنونة قائلة:
” ربنا وهبك الجمال الرقيق و أنتِ خفتيه ورا لبس الصبيان اللي مش قادرة تستغني عنه ده، الراجل مش بيحب الست المسترجلة ”
بعدت يد أختها عنها برفقٍ، و قالت بنبرة حادة بعض الشيء:
” أنا ما يهمنيش الراجل يحب إيه ولا يكره إيه، أنا برتاح في البلوزة الواسعة و البنطلون، و أنا أهم حاجة راحتي ”
ردت الأخرى في مداعبة منها:
” طيب لو كان الراجل ده قُصي و طلب منك تغيري استايل لبسك ؟ ”
نظرت لها لوهلة، ثُم أجابت بلا مبالاةٍ مزيفة:
” أنا ما بغيرش رأيي ولا نفسي عشان أعجب حد، حتى لو بحبه ”
” لازم تدي أنوثتك حقها، أنتِ جسمك رياضي و متناسق، بلاش تداريه ورا لبس الشباب ”
” ألبس يعني محزق و ملزق ؟ ”
” أنا مقولتش كده، أنا بقول تلبسي لبس البنات الطبيعي ”
زفرت بضيقٍ معترضة:
” شمس، غيري الموضوع ”
تنهّدت الأخرى في استسلام:
” أنا ها اسيبك براحتك، بس يوم فرحي إن شاء الله لازم تلبسي دريس و من اختياري كمان، و ها اخلي الميك اب ارتست تعملك حاجة سمبل كده، انتهزي الفرصة دي و اعترفي له بِحُبك ”
رمقتها بعدم فهم:
” فرصة ! فرصة إيه ؟ ”
” متنسيش إن اونكل مُجاهد من المدعوين، ده صاحب بابي من زمان، و أكيد مش ها يجي لوحده ”
هبت ” منة ” واقفة على حين غِرَّة من ” شمس ” و هتفت ساخرة وهي تترك الغرفة برمتها:
” مستحيل اللي في دماغك يحصل، لا أنا هقوله حاجة ولا هتكلم معاه أصلًا ولا ها اغير من شكلي عشانه، أنا الحاجة الوحيدة اللي بسعي ليها دلوقت، إن ألاقي أبويا و أخد تاري منه، أما بالنسبة لحُبي؛ فهو ها يندفن معايا ”
بعد تركها لغرفة الموسيقى و صعودها للطابق العلوي، قابلتها والدتها بابتسامة واسعة:
” محبتش أزعجك و أنتِ بتعزفي، حضري نفسك يلا عشان حفلة الأوبرا اللي اتفقنا نحضرها مع بعض ”
استدارت لوالدتها تضع يدها في جيب سروالها بطريقة صبيانية، و قالت بمللٍ:
” ماما بليز.. روحي أنتِ، مليش مزاج ”
” رحمة حبيبتي إحنا اتفقنا نروح الحفلة دي من كام أسبوع، و بُناءً على كده جبت التذاكر ”
” سوري ماما، مش في المود، (Go alone) ”
قالتها و اتجهت لغرفتها تاركة والدتها الحسناء تكلم نفسها في غرابة من تحول ” منة ” المفاجئ، رغم أنها صاحبة فكرة الذهاب لحفل الأوبرا.
________________
” بين اختلاف طبقاتٍ و طبقات، يعلو صوت القرآن من تقي القلب يملأ الآفاق ” لـنرمينا.
~~~~~~~~~~
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ
رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ .
﴿٨ آل عمران﴾
خرجت تلك الآيات تُتلى من حبال ” هاجر ” الصوتية التي تميزت بعذوبة و جمال يجعل بدنك يقشعر عند سماعها من قوة الخشوع أثناء قراءتها للقرآن الكريم.
جلست منذ ساعة على الأريكة بالصالة متوسطة الاتساع، تقرأ وِردها اليومي في تأنَّى و تروّى لنطق الأحرف، و عقلها منعزل تمامًا عن العالم من حولها، تتفحص الآيات بدقةٍ و تقرأ بعذوبة و انسجام ترتله ترتيل و تتدبره بتركيز كأنها تقرأه لأول مرة، رغم حفظها لكتاب الله مثل شقيقها الأكبر، و لكن في كل مرة تقرأ القرآن تشعر و كأنها المرة الأولى؛ من شدة جمال و دقة الألفاظ و المعاني القوية التي لم ولن يأتِ بمثلها أحد.
أنهى ” زياد ” تفحص بعض الأوراق الخاصة بعمله على مكتبه، ثُم خرج مبتسمًا بقشعريرة انتابت جسده من قوة الخشوع التي تغلف قلب وردته الحمراء، فجلس على المقعد المقابل لها يتأملها بحُبٍ بريء، يتمنى لو أنه يصل لتلك العلاقة القوية التي بين هاجر و ربها، فبرغم آلام الحمل و ضغط الجامعة و المشاريع الخاصة بها و المطلوب تنفيذها لأجل امتحانات العملي، لكنها ظلت محافظة على تلك العلاقة القوية، بل لم يمر يومًا عليها؛ إلا و قرأت وِردها اليومي، تختم القرآن تلاوة و تدبر كل شهر، و أحيانًا مرتين أو أكثر إذا استطاعت، المهم أن تقرأه بتدبر و تفهُم لمعانيه.
انتهت من القراءة، و وضعت المصحف على المنضدة؛ ثُم ابتسمت لزوجها بـِحُبٍ، و قالت:
” في إيه ؟ بتبُص لي كده ليه ؟ ”
نهض من مكانه و جلس أمامها، ثُم أحاط يديها بـِرّقةٍ و لثم قبلاتٍ دافئةٍ فيهما، قائلًا:
” ربنا يبارك لي فيكِ و في ذريتي منك ”
” و يبارك لي فيك يا حبيبي ”
” رغم إني بسمعك أحيانًا و أنتِ بتقرئي القرآن، بس كل مرة بسمعك فيها؛ جسمي بيقشعر.. عارفة.. ساعات بقول لنفسي أنا ليه مش قادر أوصل لمرحلة الخشوع في الصلاة زي بدر و زيك، مع إني بصلي صح، لحد ما شفت بدر أخوكِ في صلاة العشاء النهاردة، كمية خشوع في الصلاة رهيبة يا هاجر، لدرجة بكيت.. بيصلي بكل تأني و هدوء، زي ما يكون رامي العالم كله ورا ضهره و مش همه أي حاجة، ولما سمعتك دلوقت بتقرئي باندماج كده، حسيت إني محتاج أتعلم دين من جديد، بتعملوا إيه عشان علاقتكم بربنا تبقى قوية كده ؟”
ابتسمت بدورها و قالت:
” التجارة مع الله رابحة يا زياد ”
اعتدل مكانه و تساءل بفضول:
” ممكن شرح أكتر ؟ ”
تنهّدت بارتياح و تابعت:
” من أطاع الله و اجتنب معاصيه يا زياد فقد ربحت تجارته، وإن كان لا يملك بضاعة..
قال لقمان لابنه يوصيه
«يا بني اتخذ طاعة الله تجارة تأتِك الأرباح من غير بضاعة.»
قال الله عز وجل: { إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور * ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور }
[فاطر:29]
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله..
«يرجون بفعلهم هذا تجارة لن تفسُد ولن تَهلِك ولن تكسُد.»
وقال الله سبحانه وتعالى : { في بُيُوتٍ أذن اللهُ أن تُرفعَ ويُذكَرَ فيها اسمُهُ يُسبحُ لهُ فيها بالغُدُو والأصال * رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذِكِر الله وإقامِ الصلاة وإيتاءِ الزكاة يخافون يوماً تتقلبُ فيه القلوب والأبصار * ليجزيهم اللهُ أحسَنَ ما عملوا ويزيدهم من فضلِهِ واللهُ يرزقُ من يشاءُ بغير حساب }
[النور/36-38] ”
تنفست بهدوء تضع يدها على بطنها الكبيرة بألمٍ شعرت به للتو، فهتف ” زياد ” بلهفةٍ:
” في إيه ؟ حاسة بإيه ؟ هما تاعبينك صح ؟ طيب.. أنا آسف ”
ابتسمت بتعبٍ و ردت:
” شكلهم ها يطلعوا أشقياء، خصوصًا إني في السادس و الحركة بتبدأ تزيد كل مرة، بس الدكتورة قالت.. تقلقي لو مفيش حركة خالص، بس الحمدلله عيالي شكلهم ناويين ليا نية حلوة ”
قالت آخر جملة ضاحكة، فتحسس هو شعره بغرور مصطنع، و أردف:
” أشقياء زي أبوهم ”
” آه اومال، أنت ها تقولي ”
قالتها بنبرة تهكم، مما رفع حاجب و أخفض الآخر بهيئةٍ مُضحكةٍ، و قال في احتجاج:
” المرة دي اتنين، المرة الجاية تلاتة إن شاء الله، و اللي بعدها أربعة، و كل مرة نزود ”
نهرته باعتراض و نظرةٍ قاتلة أضحكته:
” ايوه.. ما أنت تخلف و أنا أربي، لاقية صحتي أنا ولا إيه ؟ لا يا حبيبي.. أنا إن شاء الله أولد و نؤجل الخِلفة لحد ما العيال تكبر و تشد حيلها كده، و بعدين أبقى أفكر بقى أجيب تاني ولا لأ ”
” أنا عارف إن الحمل تاعبك و ده مخليكِ تخرفي كتير، خرفي يا حبيبتي ولا يهمك ”
زفرت في ضيقٍ من عناده، و تابعت بهدوء وهي تمسد على بطنها بحنان، كأنها تمد أطفالها بالاطمئنان و الحُب:
” أكملك أحسن يعني إيه تجارة رابحة مع الله سبحانه و تعالى.. التجارة العادية معروفة بتبقى فيها مكسب و خسارة و أحيانًا غش عشان التاجر يكسب، أما التجارة مع المولى -سبحانه- مفيهاش الكلام ده يا زياد، هي تجارة رابحة مما لا شك فيه، طيب تبقى رابحة ازاي ؟
في التجارة العادية مع الحياة و البشر عمومًا، بتكسب بأرقام محددة، أمام مع الله -عز وجل- يكافئ و يعطي على فعل الخير الأجر المضاعف، و التجارة مع الله -سبحانه وتعالى- لا يمكن أن يدخلها الغش أو النصب أو الاحتيال فهي خالصة لوجه الله، غير كده يا حبيبي.. الربح في التجارة مع ربنا مرتفع جدًا و أجره عظيم، و ما يدل على ذلك قول الله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ)
و التجارة مع الله بقى بتكون بطرق كتيرة و مختلفة، زي مثلًا مداومتك على ذكره سبحانه وتعالى، فإن لك بكل تسبيحة صدقة، وبكل تحميدة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة، وبكل تهليلة صدقة، وكل كلمة طيبة صدقة، و بالتقرب إلى الله بالاحسان إلى خلق الله بأي أمر يكون فيه الاحسان إلى الخلق مهما قل، فإن في التسليم على الناس صدقة، وإن في معاونتك للضعيف صدقة، وإنك بأخذك بيد الاعمى ليجتاز الطريق صدقة، وإن في صناعتك للأخرق الذي لا يستطيع أن يصنع صنعته صدقة، وإن في كل معروف صدقة.. من الآخر يا زياد إن التجارة مع الله ليست كالتجارة مع الخلق، إن لكل شعرة حسنة، ويضاعف الله لم يشاء.”
عقب انتهاء حديثها، أعاد بث قبلاته الدافئة في كفيها، و قال في نظرة امتنان:
” أنا بحمد ربنا في كل صلاة عليكِ، أنتِ ها تبقي أم صالحة لعيالنا إن شاء الله ”
” و أنت كمان يا زياد زي ما أنت زوج صالح ليا، واثقة بإذن الله إنك هتبقى خير الأب لأولادنا ”
قالتها و نهضت تتكئ على فخذه مستعينة به في النهوض، فساعدها بـِلينٍ متسائلًا عن وجهتها، قالت:
” ها اسرح شعري، استحميت و كسلت اسرحه بصراحة ”
رد متغزلًا في شعرها الأحمر الجميل وهو يربت عليه:
” الشعر الأحمريكا ده مش محتاج يتسرح، هو جميل لوحده ”
ضحكت في رقةٍ دون ردٍ، ثُم جلست تمشط شعرها أمام المرآة، فأخذ منها المشط يُهندمه بدلًا منها، مما ابتسمت لانعكاس صورته في المرآة، و قالت ضاحكةً:
” تخيل كده لو العيال طلعوا شعرهم أحمر زيي ”
نظر لصورتها في المرآة و شاركها الضحك قائلًا:
” ها نعيد نشر فيلم كرتون الأميرة ميريدا بس فرع الخياط ”
ضحكت حتى اهتزت من كثرة الضحك، و أنهى زياد تمشيط شعرها الذي ظهر عليه الكثافة و الطول عن ذي قبل؛ لكثرة الفيتامينات التي تتناولها في الحمل.. قال وهو يجلسها على فراشهما:
” ياريت يطلعوا شبهك، ها ابقى خدت حقي في الدنيا و بزيادة كمان ”
” و لو خدوا لون عيونك الرصاصي، ها يبقوا في حتة تانية خالص ”
” والله حاسس إنهم هيطلعوا شبه خيلانهم أو عمامهم، و إحنا يبقى اسمنا الأم و الأب بس ”
وضعت يدها على فمها بشهقة مضحكة، عقبت قولها:
” تخيل لو الولد طلع شبه سيف لعيب كرة و البنت فنانة زيي كده ! يا سلام، مواهب مدفونة في العيلة دي، بس سيف راح الأهلي و أنا قاعدة مع أهلي ”
ضحك من جملتها الأخيرة، و هتف بعفوية:
” ولا لو خدوا جمال الواد قُصي ! ”
ردت هاجر بعدم استيعاب ساخر:
” شبه قُصي ! ده أنا أحبسهم في البيت و اخليهم ما يشوفوا الشارع خالص ”
” اشمعنا ؟ ”
” أخاف عليهم من الحسد طبعًا، أنت مش شايف قُصي ابن عمنا رغم جماله بس تافه، و ده تلاقيه من الحسد يا عيني ”
رد زوجها ضاحكًا بنبرة صادقة:
” لا بس دماغه عجباني، مخه حلو.. عارفة يا هاجر، الواد قُصي ده لما بشوفه لساني تلقائيًا بيردد اسم الله، بقول في بالي.. يعني واحد بالجمال ده.. جمال غير عادي، ربنا يحميه مفيهوش عيب، هو كل خلق الله جميل و مفيهوش عيب، بس أقصد إنه ربنا رزقه التناسق في كل حاجة.. جسمه و طوله و ملامحه، تحسيه هربان من فيلم انمي، والله ساعات بستغرب مع نفسي كده، و الله يعني سبحان الله جماله يخطف الأبصار، فكيف بجمال سيدنا يوسف الصديق عليه السلام ! أو جمال خير خلق الله حبيبنا النبي عليه أفضل الصلاة و السلام ! ”
” عليه أفضل الصلاة والسلام، بس محدش بياخد كل حاجة يا زياد، يعني أنا بوافقك إن قُصي ابن عمنا ما شاء الله عليه رغم إني لما بشوفه بغض بصري عشان اتقاء الفتنة، بس أنا فاكرة ملامحه و إحنا صغيرين، فعلًا هو جماله سبحان الله في خلقه، بس بحسه غبي و أهبل.. و كفاية كلام عليه بقى عشان بدأت ادخل في الغيبة أو أنا دخلتها أصلًا، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك اللهم و أتوب إليك، اللهم اغفر لهم، اللهم اعف عنهم ”
” إيه الدعاء ده؟ ”
” كفارة المجلس، و الدعاء للي ذكرته بالغيبة ”
” أنا مش قصدي حاجة والله، و مينفعش أتكلم عن راجل كده قدام مراتي، بس أنتِ أكيد عارفة نيتي، أنا كان قصدي أقول إن الله البديع خالق الأشياء بلا مثال سابق، ولا نظير له في ذاته وصفاته، سبحان ربي الأعلى ”
أومأت بتفهم مبتسمة وهي تحتوي وجهه الذي تقلص في عبوسٍ:
” يا كتكوتي والله فاهمة.. متضايقش نفسك ”
” كتكوتك ! طب بقولك، بما إننا لسه محتارين نسمي التوأم إيه، فأنا عندي اقتراح ”
” ها ! ”
” بصي يا ستي إحنا نكتب الأسماء اللي في بالنا في ورق و كل ورقة فيها اسمين نطبقها و نحطهم في برطمان، و بعدين نرجه عشان يتلخبطوا و اختاري أنتِ، و الورقة اللي تطلع يبقى ده اسم عيالنا إن شاء الله، إيه رأيك ؟ ”
” قُرعة يعني ! قشطة يا أبو الصحاب ”
” أبو الصحاب ! أنا لو أعرف إن الحمل هيقلب الهرمونات كده، كنت..
” كنت إيه ؟ ”
تساءلت بها في استخفافٍ، فنهض بهروبٍ ليحضر الورق و القلم و برطمان صغير..
” ولا أكنك سمعتي حاجة ”
أحضر الأغراض المستخدمة في القُرعة، و أخذا يكتبان الاسماء التي يحبونها، و قاما بثني الورق، ثُم وضعه ” زياد ” في البرطمان و قام بـِرَجَهُ، و سحبت ” هاجر ” ورقة منه و فتحته لتتسع عينيها بابتسامة واسعة:
” الله.. كِنان و كَيان.. حلوين أوي ”
بادلها زياد الابتسامة الواسعة بأخرى حالمة وهو يقول بشرود:
” كِنان و كيان زياد مصطفى رشدي الخياط.. إيه الفخامة دي يا ولاد ”
ردت هاجر بنفس نظرتهُ:
” و الدلع كوكي و كوكو، إيه رأيك يا أبو الصحاب ؟ ”
” أبو الصحاب تاني ! طب نام يا معلم عطوة عشان وراك امتحان بكرة ”
قالها و استعد للنوم، فنظرت له باستعطاف مصطنع تستعطفه بنظراتها ليفرد لها ذراعه ككل ليلةٍ، فعل ما أمرته به عيناها و أفسح لها مكانًا بين ذراعيه، فأراحت رأسها عليه و قالت مبتسمة و فمها يعلن عن التثاؤب:
” حضنك هو بيتي و مسكني الآمن، ما تحرمنيش منه ولا ليلة، تصبح على خير يا أبو الصحاب ”
” الله المستعان، مش هرد ”
لحظاتٍ و كانت نائمة بعمقٍ في عالم الأحلام، أما هو ظل يردد بفرحةٍ عارمة متذكر كل لحظاتهما معًا من أول يوم علمت بحُبه لها..
” كِنان و كَيان، يارب بارك لي في ذريتي، و في روحي اللي نايمة على دراعي زي القتيل دي ”
نظر لها فوجدها تبتسم في نومٍ عميق، مما تبسم هو الآخر، و أغمض عينيه ذاكرًا الله قبل غفوته.
قال عاشقًا يومًا ما عن حبيبته
( تبتسم فتصبح فجرًا يَخيط لي بركات اليوم، تبتَسم ويصبح حينها الأمل حقيقيًا بطُرقات ودَلالة، تبتَسم هي ويتحول الجماد إلى انصهار وتبتَسم ليُصبح من بين وجنَتيها رحيقٌ وشَهدٌ وشِفاء ).
____________________
“كُل شيءَ بجَوارها أحَّن وأخَف وألطُف .” لقائلها.
~~~~~~~~~~~~~
انتهى ” بدر” من صلاة العشاء بالناس في المسجد، فمن حُسن حظه أنه خرج من المصحة التي بها ” عصام ” بعد تأديته لفريضة المغرب في المسجد المجاور قبل الذهاب للمصحة، ثُم انهى الزيارة بعد الاستفسار عن أحواله و شعوره الشديد بالأسف و الحُزن عليه داعيًا من كل قلبه على من تسبب في أذية الشباب و ضياع مستقبلهم، و اتجه لمنطقة العائلة ليلحق صلاة العشاء قبل الموعد بخمس دقائق، فأذن للصلاة و صلى بالناس، ثُم جلس يعطي الدرس للصبية عوضًا عن يوم الجمعة، الذي سيبيته في الشركة لانجاز المشروع، فموعد تسليمه بعد ثمانِ أيام.
اجتمع الصبية و الأطفال حوله، لتسميع ما عليهم من آياتٍ، و بعدها يبدأ ” بدر” في اعطاء درسٍ جديدٍ لهم، مُتعمدًا الحديث باللغة العربية الفصحى، لتنمية اللغة عندهم لما لها من أهمية بالغة للعاقل الواعٍ.
وزع ابتسامته الهادئة و المحببة للنفس، ثُم تنهد بهدوءٍ، و شرع يقول في تَمَهُل:
” النهاردة يا حبايب بدر هنتكلم بمشيئة الله عن فضل قيام الليل، و بما إننا خلاص كام شهر و يجي شهر رمضان الحبيب و ده شهر كله طاعة و عبادة أهمها قيام الليل، فلازم نركز في الدرس ”
هزوا رؤوسهم بابتسامة راضية مستعدين لالقاء أستاذهم المحبب لقلوبهم الدرس..
تحدث ” بدر ” بنبرة يشوبها الحنان مع الصبية:
” لازم نعرف الأول يا حبايب بدر، إن صلاة قيام الليل من أعظم أسباب دخول الجنة، وقد جاء في الحديث الشريف قوله -عليه الصلاة والسلام-: (أَيُّها الناسُ أَفْشُوا السلامَ، وأَطْعِمُوا الطعامَ، وصَلُّوا والناسُ نِيَامٌ، تَدْخُلوا الجنةَ بسَلَامٍ).
«رواه الترمذي ، في سنن الترمذي، عن عبدالله بن سلام ، الصفحة أو الرقم:2485 ، خلاصة حكم المحدث صحيح.»
“طيب المحافظ على قيام الليل ولو ركعتين هل ربنا بيساويه باللي بيصلي الفروض بس ؟”
تساءل بها مبتسمًا، فرد أحد الصبية في أدبٍ:
“ممكن أجاوب يا أستاذ بدر”
” اتفضل يا حبيب بدر ”
اعتاد ” بدر الشباب “على قوله لهم
« بحبايب بدر» ليزيل أثر الرهبة و الاحراج عنهم؛ إذا أراد أحدهم سؤاله شيء، فأجاب الصبي:
” مفيش تساوي، عشان ربنا سبحانه و تعالى قال في القرآن (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ).”
أومأ له ” بدر” و بدأ يُثني عليه وعلى البقية مكملًا حديثه:
” أحسنت، بارك الله فيك و فيكم جميعًا.. إن قيام الليل من أهم أسباب تكفير الذنوب، وهو دأب الصالحين، وسبب من أسباب التقرب إلى الله -تعالى-، وهو أفضل صلاة بعد صلاة الفريضة، ده غير يا ولاد إن الحسنات مضاعفة بإذن الله في الشتاء، و إحنا دلوقت في الشتاء و الليل بيبقى سقعة و برد على الكل، فاللي يقوم في عز البرد ده و الناس نايمة ويصلي ركعتين بس لله، ربنا سبحانه و تعالى بيمدحهم بمنزلة الأبرار، قال تعالى (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا).. فهو سبب رفع الدرجات في الجنة يوم القيامة، فقد جاء في الحديث قوله -صل الله عليه وسلم-:
(إنَّ في الجنةِ غُرَفًا يُرَى ظاهِرُها من باطِنِها، وباطِنُها من ظاهِرِها، أعدَّها اللهُ تعالى لِمَنْ أطعمَ الطعامَ، وألانَ الكلامَ، وتابعَ الصِّيامَ، وصلَّى بِالليلِ والناسُ نِيامٌ).
« رواه السيوطي، في صحيح الجامع، عن أبو مالك الأشعري ، الصفحة أو الرقم:2123 ، وحسنه الألباني.»
و النبي حبيبنا يا ولاد، كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، وكان يجتهد فيه اجتهادًا عظيمًا، فقد ورد في الحديث الشريف:
(أنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فَقالَتْ عَائِشَةُ: لِمَ تَصْنَعُ هذا يا رَسولَ اللَّهِ، وقدْ غَفَرَ اللَّهُ لكَ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ؟ قالَ: أفلا أُحِبُّ أنْ أكُونَ عَبْدًا شَكُورًا فَلَمَّا كَثُرَ لَحْمُهُ صَلَّى جَالِسًا، فَإِذَا أرَادَ أنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ).
«رواه البخاري ، في صحيح البخاري، عن عائشة أم المؤمنين ، الصفحة أو الرقم:4837»
ها احكي لكم قصة “رؤيا ”
عبد الله بن عمر وقيامه الليل ..
رؤيا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وقيامه الليل مدة عمره..
ففي البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان الرجل في حياة النبي صل الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصها على رسول الله صل الله عليه وسلم، فتمنيت أن أرى رؤيا فأقصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان، وإذا فيها أناس قد عرفتهم -يعني: أناس من المشركين والمنافقين- فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار.. أعوذ بالله من النار.. فلقينا ملك آخر، فقال لي:
لن تراع، يعني الملك يا ولاد قاله لن تخاف، عاوز يطمئنه يعني، لأن رؤية جهنم أعوذ بالله حاجة مش هينة أبدًا، فهو اترعب لما شافها و شاف الناس دي بتتعذب فيها، فاستيقظ عبد الله بن عمر، فأراد أن يذهب إلى الرسول صل الله عليه وسلم، و لكنه استحى لصغر سنه، كان صغير في السن يعني من سنكم كده، و اتحرج يروح يحكي رؤيته لسيدنا النبي عليه الصلاة والسلام.. اذكروا الصلاة على النبي يا حبايب بدر..”
ذكروا الصلاة على المصطفى صلوات ربي عليه، فتابع بدر و الصبية في اندماج كامل:
” عبد الله بن عمر لمل اتحرج يحكي لرسول الله، فذهب إلى أخته السيدة حفصة بنت عمر رضي الله عنها وأرضاها، وحكى لها الرؤيا وقال لها: قوليها لرسول الله عليه الصلاة والسلام، فقصت السيدة حفصة رؤيا عبد الله على النبي عليه الصلاة والسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات قليلة جدًا، كان لها أثر عظيم في حياة عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: (نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل)،
فـ (لو) هنا يا حبايبي ليست للشرط، و إنما للتمني كما يقول ابن حجر في الفتح، يعني: أن الرسول صل الله عليه وسلم لم يُعلِّق خيرية عبد الله بن عمر على قيام الليل، بل قال:
(نعم الرجل عبد الله)، فهو يثني و يمدح عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ثم قال:
(لو كان يصلي من الليل)، أي: لو أكمل حسنه بقيام الليل، والتقدير: لو كان يصلي من الليل لارتفعت قيمته، وفيه إشارة واضحة بأن قيام الليل يقي من عذاب النار الذي رآه عبد الله بن عمر في المنام.
يقول نافع المولى بتاع عبد الله بن عمر:
فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلًا..
يعني: ظل بقية عمره يقيم ليله بالعبادة بسبب حديث واحد سمعه من النبي صل الله عليه وسلم، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام مدح عبد الله بن عمر، لكن لم يتكل عبد الله بن عمر على هذا المدح، ولم يعتمد على هذا الثناء من رسول الله صل الله عليه وسلم، لكنه استمر على القيام إلى أن توفي، وكان موته سنة (٧٣) من الهجرة، وله من العمر (٨٦) سنة، فبقي رضي الله عنه مواظبًا على قيام الليل طويلًا، وكان لا ينام من الليل إلا قليلًا.. ”
سكت ” بدر ” ثوانِ يتابع وجوه الصبية المتعطشة لقيام الليل، فأردف بابتسامة ملء فمه:
” و قيام الليل من الأعمال التي يُمتحَن بها إخلاص العبد؛ فلا منافق يقوم الليل، وهذا العمل هو أحد الأعمال التي تميّزت بها الأمّة الإسلاميّة، و تربّى عليها جيل الصحابة الأُوَل؛ فقد فُرِض عليهم قيام الليل بداية الدعوة مدّة سنة كاملة، وعلى الرغم من أنّ الله -تعالى- رفع عنهم وجوبه، إلّا أنّهم استمرّوا يقومونه، و بكده نكون وصلنا لنهاية الدرس، حد عنده أي أسئلة يا حبايبي ؟ ”
تساءل صبي في لهفةٍ:
” أستاذ بدر هو قيام الليل بيحقق الدعوات ؟ ”
رد بدر عليه وهو يومئ بتأكيد:
” صحيح يا حبيب بدر، القيام في الثلث الأخير من الليل أقرب إلى استجابة الدعاء؛ لقوله صل الله عليه وسلم: ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له.”
«متفق عليه، و رواه أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني.»
أنهى ” بدر ” الدرس، و اتجهوا لبيوتهم..
دلف للمنزل ليجد ” عائشة ” عكف وجهها على الكتاب الجامعي و يبدو أنها غفت عليه، و والدته قد ذهبت أيضًا في نومٍ عميق على الأريكة، نظر للساعة في يده فوجد العقرب قد شارف على الثامنة مساءً، مما ضحك بخفةٍ و قال:
” مفكرين نفسكم فراخ بيضة ! نايمين من تمانية ! ”
اتجه يوقظ ” عائشة ” برفقٍ، مما وقعت عيناه على تلك القلوب التي رسمتها في صفحات الكتاب و بداخلها أول حرف من أحرف اسميهما، لم يستطع منع نفسه من الضحك بصوتٍ عالٍ، فنهضت هي في فزعٍ هاتفة:
” استنى متاخدش الورقة لسه باقي لي سؤال ”
ازدادت ضحكاته القمرية، و جلس بجانبها يُبعد شعرها الغجري عن نصف وجهها هامسًا في مداعبة:
” بتحلمِ يا قمري ! قومي فوقي كده، أنا طول النهار في الشغل و أنتِ وحشاني، عاوز أقعد معاكِ ”
” ذاكر لي يا بدر أبوس إيدك ”
قالتها بدموعٍ مصطنعة، مما ضحك مردفًا:
” الحال بقى من بعضه يا حلوة، منا رايح امتحن معاكِ بعد بكرة إن شاء الله ”
” آه صح نسيت، بس أنت لسه في أولى و أنا في تانية، و الامتحانات مختلفة.. هنغش ازاي من بعض؟ ”
ضربها بخفةٍ على رأسها قائلًا:
” غش ! إحنا بتوع كده برضو ”
” إحنا بتوع برشام ”
” فعلًا، قومي يا بت اغسلي وشك و اعملي لي كوباية شاي بالنعناع و تعالِ اذاكر لك ”
رمشت بأهدابها الكثيفة تتصنع النوم، مما نهضت الحجة أم بدر في تلك اللحظة هاتفةً على غفلة منهما:
” ودوني على بيت حبيبي نعيش مع بعض فيه.. دا بقالنا مدة طوبة طوبة من الحب بنبنيه ”
” بسم الله الرحمن الرحيم ”
هتف بها الاثنان في ذعر بصوتٍ واحد، و قفزت عائشة على حجر بدر تتعلق برقبته في مشهد هزلي بمعني الكلمة، و قالت بعدم استيعاب بعد ذهاب ” مفيدة ” لتغط في النوم ثانيةً، و كأنها لم تفعل شيء البتة:
” هي أمك بتتكلم وهي نايمة ؟! ”
تبادلت النظرات المندهشة مع بدر، ليضحك الأخير بعجزٍ قائلًا:
” أحيانًا بتجيلها النوبة دي، بتقوم نص الليل تعمل أي حاجة و تنام تاني، مرة أبويا الله يرحمه قام لقاها بتكنس وهي نايمة، فخاف وفكرها ملبوسة قعد يقرأ عليها قرآن، راحت ضرباه بالمقشة و كملت نوم ”
لم تستطع ” عائشة ” كتمان ضحكتها، فأخذت تضحك ضحكاتها التي تشبه الجرس الموسيقي تطرب سماع بدر و أوتار قلبه، فيهتز لها هُيامًا و ولهًا، ضاقت عينيه وهو يتفحصها عن قربٍ شديدٍ؛ تجلس على فخذيه و تنظر لوالدته ضاحكةً باهتزاز.. قال وهو يداعب شعرها:
” عيناكِ مُلهِمتان تغرق فيهما عيناي، و شفتاكِ الْمُكْتَنِزِةٍ تُثير عِشقي و اللذة، و رائحة شعرك الغجري يُعلن حربًا على مباهج مُقلتي، أنتِ مُهجة قلب البدر و لُبابة فؤاده يا عائش ”
توقفت عن الضحك، و التفتت له باسمةً لا تدرِ ماذا تقول، فهمست بعفوية:
” إلهي ربنا يسترك دنيا و آخرة ”
” آمين يارب، بس والله ما معايا فكة يا حجة ”
” طب أقوم أعملك أنا شاي بقى، بما إن مش رايحة الكُلية بكرة، فنخلي السهرة صباحي و نقعد نذاكر ”
رد في امتعاضٍ لم يصلها:
” آه نقعد نذاكر، امم ”
……
نهضت ” مفيدة ” أخيرًا في تثاءب قائلة:
” أنت جيت يابني، حمدالله على السلامة ”
استند بدر على يده بنظرة مضحكة و قال:
” مين حبيبك ده بقى يا أمي اللي عاوزه تروحي على بيته ؟ ”
” والله يا بدر نفسي أحج بيت الله و أزور سيدنا النبي ”
قالتها في براءة، فرد هوَ:
” اللهم آمين، عليه أفضل الصلاة والسلام، طيب ماشي ”
” هي عائشة فين ؟ كانت بتذاكر جنبي ”
” بتعمل شاي ”
صاحت حماتها وهي تعتدل بجانب ابنها:
” اعملي لي معاكِ كوباية يا شوشو ”
جاءت عائشة تحمل صينية الشاي، لتقول في حماسٍ و كأنها تذكرت شيئًا مهم:
” آه صحيح، الماتش اللي هيلعب فيه سيف زمانه بدأ ”
رد بدر وهو يأخذ جهاز التحكم الخاص بالتلفاز:
” هيبدأ تسعة إن شاء الله ”
قالت ” مفيدة ” بفخرٍ:
” بإذن الله الأهلي يكسب، ابني بيبرموا بيه المثل في الكرة من صغره ”
” بيـ إيه ؟! ”
هتفت بها عائشة، فغمز لها بدر ضاحكًا:
” أنا حاسس إن الواد هو اللي ها يتبرم في الماتش ده ”
نظرت لهما مفيدة بسخرية وهي تأخذ كوب الشاي..
” اتريقوا اتريقوا، طب الأهلي ها يكسب إن شاء الله، إيه قولك بقى يا بدر ”
” و الله أنا عن نفسي لو الأهلي خسر، هبقى حزين جدًا و هقوم أضرب عائش”
” الله ! و أنا مالي يا لمبي ؟ ”
رمقها بضيقٍ مزيف قائلًا:
” عشان وصلي أخبار إنك مبطلتيش رقص في كتب كتاب نورا و أُبَيِّ، و أنا منشفة ريقي.. ماشي، الحساب يجمع ”
نظرت عائشة لحماتها في تفحص، فوجدتها تحتسي الشاي رشفة تليها الأخرى، ثُم أعادت النظر لبدر و قالت ببراءة:
” أمك اللي غصبت عليا والله يا بدر ”
وضعت مفيدة كوب الشاي، و هتفت باقتراح:
” أنا عندي حل، بما إنكم ها تعملوا فرح إن شاء الله، فأنا بقول نبدأ الزيطة و الزمبليطة من دلوقت، و تقومي تفرفشينا شوية يا شوشو، يلا خدي الطرحة دي اتحزمي بيها و أنا هجيب الدُف ”
ضحك بدر وهو يضع قدم فوق الأخرى في تحدٍ مع عائشة، ليقول:
” و أنا موافق ”
” هو أنا الغزية بتاعتكم ؟ ”
قالتها في ضجرٍ منهما، ثُم اتجهت بتوعد لذلك الذي ظل يضحك عليها في صمتٍ قاصدًا استفزازها، و جذبته من يده قائلة بنبرة آمرة:
” و أنت من واجبك كزوج ليا تبسطني، يلا ارقص معايا، أنا هنبسط لما ترقص معايا ”
ابعدها عنه بتحذيرٍ لطيف:
” رقص إيه ! أنا مش بتاع الكلام ده ”
” ولا حتى سلو ؟ ”
قالتها بنبرة استعطاف، فتنهد باستسلام و شدها اليه يراقصها تحت أنظار والدته المشجعة لهما:
” و أنتم بتكلموا بعض بالراحة علو صوتكم عشان عاوزه أعرف العريس و العروسة بيقولوا لبعض إيه وهما بيرقصوا سلو في الفرح ”
هتف بدر بصوتٍ عالٍ بتلك الأغنية التي كانت تغنيها أمامه ” عائشة ” بصوتها النشاز فعرف بعض الكلمات منها:
” بدوخ من طولي و أنا شايلك، و ده اللي قدرت عليه، و عمري ما هقدر اوصف لك ضهري بيوجعني قد إيه ”
ابتعدت عنه وراحت ترمقه في دهشة، بينما مفيدة تعالَ صوتها في الضحك، و قالت عائشة بزمجرة وهي تبتعد عنه:
” أنت ملكش في الرومانسية ”
” أنا برضو ! تمام ”
قالها ضاحكًا قاصدًا استفزازها، ثم شدها نحوه يُجلسها بجانبه، ليتابعوا المباراة الخاصة بالأهلي.
___________
كان ” سيف الاسلام ” يلعب في إحدى فرق الدوري الدرجة الثانية في المنصورة، ثُم لفت انتباه مسؤولي النادي الأهلي أثناء حضورهم لمشاهدة مباراة لفريق المنصورة، و سرعان ما تم التعاقد معه و شراءه من نادي المنصورة بدعم و تشجيع من شقيقه الأكبر.
ففي السابق تَعنت و تردد فريق المنصورة سابقًا في بيع ” سيف ” أو كما يقال باللغة الدارجة
” حطوا العقدة في المنشار ” لأنه لم يكن هناك مقابل مادي كبير مثلما عرضه النادي الأهلي؛
إلى أن جاءت فرصة النادي الأهلي التي لا تعوض، و تم بيع ” سيف ” للأهلي، و سرعان ما تحقق حلم سيف، فا بمجرد بيعه للنادي الأهلي و تم التعاقد قد حصل على مبلغ؛ جعله يفوز بسمرائه التي اعتاد لسانه بذكر اسمها في كل صلاةٍ راجيًا من الله أن يجمعهما في الحلال على سنة الله و رسوله.
و لكنه ينتظر خوض تلك المباراة، ثُم سيذهب لوالدها لأخذ موافقته في كتب الكتاب وليس خطبتها، فما الحاجة للخِطبة و كل شيء صار جاهزًا !
هذا هو رأي سيف و ما يجول بخاطره و يفكر فيه الآن، فقد اشتاق أيمّا اشتياق لضمها لقلبه و لمعانقة طويلة حارة تُشبع ذلك الفراغ الذي تركه أثر غيابها و بُعدهما.
و من حُسن حظ “سيف” أو لنقل كان القدر في صالحه أن أول مباراة له مع الأهلي كانت مباراة
« الدِربي» أمام نادي « الزمالك» ليُسجل الفتى أولىٰ أهدافه مع الأهلي في شِباك الزمالك؛ ليدخل قلوب الملايين من عشاق النادي الأهلي من
« الباب الكبير » و يفوز الأهلي بالمباراة، و لأن القدر لا زال بجانب فتانا؛ فإن المباراة القادمة في نهائي الكأس أمام « الوداد المغربي» في ملعب
« هزاع بن زايد» بالامارات، و سوف يلعب
” سيف ” هذه المباراة اليوم.
و ها هو ” سيف ” يستعد لخوض المباراة الحاسمة بعد سفره مع الفريق و تدريبه الشاق في الأيام الماضية، فبعد حضوره ذكرى ميلاد رفيقه، اتجه للسفر معهم، و قد دخل أرضية الملعب مع الفريق، و ها هم الآن يستمعون للنشيد الوطني و الملعب يعج بالمشجعين قلبًا و قالبًا مع الفرقتين،
” بلادي بلادي بلادي، لكِ حبي و فؤادي ”
و تأتي صافرة الحكم لبدء المباراة، ليصول
” سيف ” و يجول في كل أرجاء الملعب، فهو اللاعب الذي عليه آمال الجماهير مجتمعة، ليُسجل أولىٰ الأهداف بعد عشر دقائق من بداية المباراة، و أخذ يردد جملته المشهورة
” سيف واحد بس، و الباقي هُس هُس ”
و يعلو صوت مُعلقنا التونسي
« عصام الشوالي» قائلًا:
” يا كاتب التاريخ لا تغلق صفحاتك فا سيف الاسلام عاد من جديد، اضرب ولا تبالي يا سيف لا خوف عليكم، فا سيف الاسلام لديكم”
و ها هي الدقيقة خمسة و ثلاثون ليُسجل الهدف الثاني من تمريره حاسمة من
” وسام أبو علي ” ليأخذها
« دبل كيك» مُعلنًا عن أجمل الأهداف، و يعلو صوت مُعلقنا مرةً أخرى:
” هاكي خوفو هاكي خفرع هاكي منقرع هاكي سيف الاسلام ”
و انتهي الشوط الأول بهدفيّ ” سيف الاسلام ”
..
و ينطلق الآن شوط المباراة الثاني، و سيف مراقب من لاعبي الوداد رقابة لصيقة بعد إحرازه هدفيّ عليهم، و في الدقيقة سبعون يُسجل الوداد الهدف الأول برأسية
« خالد المترجي» ليلعب المدير الفني للأهلي بطريقة هجومية بحتة بالخطة التي وضعها، و يبدأ سيف بتمريرة سحرية ( اسيست) إلى
« مروان عطية»
ليقوم بتسجيل الهدف الثالث القاتل، و في الدقيقة ثمانية و ثمانون يخرج ” سيف ” في التبديل، و ينزل بدلًا منه
” كهربا ” و ما أن يخرج خارج الملعب حتى بدأ الجمهور يهيج و ينادون عليه في تشجيع قوي
” سيف واحد بس ”
مما ذهب إليهم ” سيف ” مُلبيًا هتاف و نداء مشجعيه، فوضع يده فوق رأسه مُعبرًا لهم عن حبه و امتنانه لدعمه و أنهم فوق رأسه..
و انتهت المباراة و فاز الأهلي بكأس أفريقيا و فاز ” سيف ” بجائزة رجل المباراة، و بدأوا يهتفون:
” عمري ما أحب غير الأهلي ولا في غيره يفرحني، دايمًا معاه و في كل وقت عمري ما أحب غير الأهلي ”
و تجمعت الأنظار على ” سيف ” و تعلقت بفخرٍ على أخضر العينين، الذي بدوره وزع ابتسامته الجميلة عليهم و هو يلقي لهم بالقُبلات، بينما هُم تابعوا الهتاف و الترحيب به تلك المرة:
” هُو هُو ابن الأهلي أهو ”
_____
قفز ” بدر ” يهتف بضجيج غير مصدق:
” الله أكبر، الله عليك يا سيف ”
و انطلقت أمه بالزغاريد تهتف مثل الجمهور، أما عائشة أخذت تنظر نظرات بلهاءٍ للتلفاز قائلة:
” يعني سيف ها ياخد بالدولار و بالمصري ! ”
ردت مفيدة قبل أن تطلق وابل هائل من الزغاريد
” مش مهم بالمصري ولا بالدولار، المهم ياخد ”
” إيـه ؟ ”
” إيه ! ”
_____________
لمَاذا هِي.. ؟!
لا أعرِف؛ ولكنَّها تُساهِم مُساهمة فعَّالة في شفائي، أستطيع أن أصفَ قلبي بشكلٍ دقيق عندما أنغمس في الحديث معها؛ أنَّه يُضيء ! لقائلها.
~~~~~~~
لم يجد ” كريم ” وجهة يذهب إليها و يفجر فيها غضبه، سوى المسجد الذي انتبهت عيناه له مفتوح في غير أوانه، فأدرك أنه المكان الصحيح الذي فيه يسقط كامل تعبه و ضجيج رأسه.
جلس محطم القلب دون بكاء، فقط ينظر للفراغ بشرود و لسانه يردد:
” يارب أنا تَعبان ”
كلام والده لا زال يرن في أذنيه، هو ليس مريض بالسادية كما يظن هو، ولا حتى مريض بالتملك، هو فقط خائف، خائف من فقدان الأشياء التي تعلق بها قلبه و أحبها، و أحب الأشياء لقلبه الآن هي فراشته الصغيرة، ليست شيء؛ بل هي كل شيءٍ بالنسبة له.
هناك دراسة سيكولوجية تقول:
” إنَّ الأمراض النفسية أو العقلية أنّما تنشأ من العلاقات العائلية في السنوات الأربع أو الخمس الأولى من أعمارنا، أي كيف عاملنا أبوانا و أخواننا و الخدم و ماذا كانت أحساساتنا و أنفعالاتنا نحوهم، و هل وجدنا عندهم الحب أو الكراهية، العناية أو الإهمال و الطمأنينة أو الخوف فأن كل هذه العواطف سوف يتردد صداها بعد عشرين أو ثلاثين سنة أو أكثر ..”
كريم ليس بمريض نفسي أو عقلي، بل متعب بسبب أفعال والده، و تحول تعبه لحبه الشديد لامتلاك الأشياء التي يخاف فقدانها، و لكن الأسوأ من ذلك و الذي لا يعرفه أحد بعد، أن لا يستطيع تفريغ شحنة غضبه و بركانه الثائر إلا عن طريق العنف الجسدي الذي لم يصل لتعذيب الأشخاص، بل تعذيب الجماد، يظل يكسر و يضرب المقاعد و الأرائك من حوله قبل لقائه بالعالم الخارجي، فهو لا يحب أن يتعذب أحد من وراءه انفعالاته و عصبيته الشديدة.. يولد كل طفل سوي بريء بالفطرة، و البيئة خاصة الأسرة هي من تشكل و تبني شخصية هذا الطفل، و والد كريم هو وحده المتسبب في ذلك.
دلف شيخ كبير للمسجد و جلس بجانب ” كريم ” الشارد مع نفسه، ثُم ربت على ظهره بقولٍ لينٍ:
” لكل داء دواء.. أحيانا يكون العلاج أمامنا و نغفل عنه ”
نظر للعجوز للحظاتٍ، ليخطر بباله فورًا ” فراشته”
خرج من المسجد بخطواتٍ ثابتة يستقل سيارته الجيب، و انطلق بها تجاه منزل حبيبته الصغيرة.
رن الجرس وفتح له والدها ينظر لها بدهشة غير متفهم سبب قدومه المفاجئ، قال بابتسامة قلقة:
” اتفضل يا كريم، خير ؟ ”
تجاهله كريم بغير وعيي منه، و عينيه تبدأ بتجميع الدموع رغمًا عنه حينما وقعت على
” رُميساء ” تخرج من غرفتها على صوت والدها..
هتفت بدهشة لوجوده:
” كريم ! ”
اندفع تجاهها بقلبٍ منفطر يعانقها بكل ما أوتي من قوةٍ تحت أعين والديها و أشقائها الفتيات اللواتي خرجن على صوته يتابعون المشهد بتعجب و استغراب، في حين أن ” كريم ” همس بنبرة متألمة على وشك البُكاء:
” أنتِ علاجي، عالجيني يا رُميساء، داوي جروحي يا فراشتي ”
قرأت ذات يومٍ عبارة تقول..
« والله للنساء تأثيرٌ عجيبٌ على أعتى الرجال، وما تفعله البنات من تغييرٍ في طبائع الرجال أمرٌ لا يُصدّق.»
تناسى وجود جسدها اللين بين ذراعيه، و ظل يفكر في الانتقام من والده بأي ثمن، بينما عينيه فضحت قوته و أبدت ضعفه في جسدٍ ضعيف مقارنةً به، بدأت تشعر بأن عظامها تتفتت من قوة عناقه العفوي.. أصدرت همسًا بسيطًا بنبرة متألمة، ففتح عينيه باستيعاب بطيء لما فعله بها وبنفسه، لم يكن يقصد فعل ذلك ! لم يقصد بتاتًا ضمها إليه بتلك القوة و البكاء بين ذراعيها ! لم يكن يتوقع أبدًا أن تصل به الأمور لاعلان ضعفه الكامن في جوفه أمام تلك الفراشة الصغيرة !
يا إلهي، ماذا فعلت ؟
مسح وجهه و دموعه بكفيه ثُم على شعره، و قال أخيرًا بزفيرٍ ثقيل:
” آسف، اعتبري مفيش حاجة حصلت.. أنا آسف ”
___________
شاهد حافظ والد روان مباراة سيف رغم عشقه لنادي الزمالك، و لكنه أحب سيف من قلبه و أعرب عن مهاراته في كرة القدم، لذا تابع المباراة مع
” روان ” التي بعد الجول الأول الذي أحرزه
” سيف الاسلام ” نهضت تقفز على مقعدها بتلقائية تحت دهشة والدها و زوجة والدها، هاتفةً مثلما يقول لاعبها الماهر:
” سيف واحد بس و الباقي هُس هُس ”
رفع والدها حاجب و أخفض الآخر متمتمًا:
” هو مفعول السحر اشتغل؟”
أفاقت مما كانت عليه، و جلست في احراجٍ هامسة:
” رغم إني زملكاوية بس نشجع منتج بلدنا برضو ”
” ابقي شجعيه في بيتك إما تتزوجوا إن شاء الله، إنما إحنا هنا بنشجع مدرسة الفن و الهندسة، إحنا قلوبنا للفارس الأبيض و بس، مع النادي الملكي مفيش غيره ”
قالها في مزحٍ مصحوب بالجدية، مما غمغم لسانها:
” طب سيف واحد بس و الباقي هُس هُس ”
____________
أثناء عودة ” قُصي ” من امتحانه بالسفارة، مرّ على أخيه بشركته ليتحدث معه في أمرٍ هام يخصه، ثم اتجه للبنك ليفعل عدة أمور، و بعدها اتجه لشركة بيع سيارات أحدث إصدار، و ها هو يدخل للمنطقة بسيارة والده تتبعه سيارة جديدة فريدة من نوعها، يقودها رجل يعمل بالشركة الخاصة بتلك السيارة، و أخذ ” قُصي ” يضرب على بوق السيارة يصدر صوتًا عاليًا كأنه في
” زفة فرح ” مما خرج والده و والدته ينظران للسيارة الجديدة بعدم فهم.. ترجل ” قُصي ” من سيارة والده و أشار للسيارة الجديدة، قائلًا بابتسامة جذابة:
” بعت الأسهم اللي أنت حطيتها لي في شركة أُبَيِّ، و جبت بيها عربية ليا؛ عشان متبقاش تقولي تاني اشتغل مع أخوك بالأسهم بتاعتك، أنا عامل دماغ في دماغي و مش دماغكم اللي تمشي دماغي ”
هتف والده بأعين مصدومة تكاد تخرج من مكانهما:
” يا نهارك مش فايت ! “
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية يناديها عائش)