روايات

رواية يناديها عائش الفصل التسعون 90 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الفصل التسعون 90 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش البارت التسعون

رواية يناديها عائش الجزء التسعون

يناديها عائش

رواية يناديها عائش الحلقة التسعون

“اللهم اخزهم، وحلل عليهم ما حل على الأمم الأولين، إنها سنة من سننك إذا حلت لا ساعة تتقدم ولا تتأخر، وإنهم لا يعجزونك ولا حتى كجناح بعوضة، صدق وعدك ونصرت نبيك و هزمت الأحزاب وحدك.”
__________________________.
في القدسِ عَزمِي وَجسمِي فِي دِمَشقَ
بِلَا قَلْبٍ، وَقَلْبِي مَعَ الأَحبَابِ فِي حَلَبِ
– موفق الدين بن أبي الحديد.
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
في منطقة «بيوغلو » و التي تعد واحدة من أرقى مناطق إسطنبول للسكن، حيث تتمركز إحدى الشركات العالمية المعروفة، و التي يديرها رجل الأعمال ” إيمير إبراهيم “.. يقف الابن الأصغر له أمام باب مكتب والده، ينتظر السماح له بالدخول..
مرّت الدقائق عليه وهو ينتظر بالخارج متثاقلة كأنها الساعات، و الدم يغلي في عروقه يكاد ينفجر من عينيه المحمرّتين كأنها البُركان، و أخذ منه الغيظ كُل ما أخذ، ليلقي بسؤال على
«سكرتيرة والده» محفوف بالنبرة الصارمة:
” أخبريه أنني مللت من الانتظار، و إذا لم يغادر هذا الوغد اليهودي الشركة برمتها حالًا، سأضطر لإخراجه بنفسي ”
ردت السكرتيرة بابتسامة رسمية:
” حسنًا لا تقلق، و لكن أولًا تفضل بالجلوس، ماذا تحُب أن تشرب ؟ ”
رمقها ببرودٍ يليه عاصفة من فقدان السيطرة على الأعصاب:
” سأشرب من دمك إن لم تذهبي و تفعلي ما أمرتك به.. لا تقفي هكذا ! الله الله !
الام تنظرين ؟ هيا.. أخبريه أنني هنا، و إلا كسرت هذا الباب على رأسك و دخلت ”
فعلت بخوف ما أمرها به، فلأول مرةٍ تراه بتلك الصرامة، رغم تردده على شركة والده طوال الثلاثة أشهر الماضية، منذ أن عاد معهم بعد حضورهم حفل زفاف الأَخَوَانِ..
لم تكن لديه نية البقاء في مصر بعد زواج صديقه؛ لذا عاد مع عائلته، فهو أيضًا لديه الكثير من الأعمال للقيام بها، فقد كلفه والده بإدارة فرع من أفرع الشركة الكبيرة في « تركيا»، و عندما أنجز بعض الأعمال التي كُلف بها، أراد مقابلة والده بنفسه لعرضها عليه، و لكن كانت المفاجأة الصادمة في انتظاره، حينما وصل للمكتب ولم يجد موظفة الاستقبال مكانها، فرفع سماعة الهاتف يخبر والده بقدومه، ليُصيب الأخير بموجة حادة من التوتر عندما علم بوجود ابنه الأصغر في الخارج، فقط يُفصل بينهما باب الغرفة..
رد عليه والده بنبرة ارتباك، و أخبره أن ينتظر قليلًا بالخارج لوجود ضيف مهم معه، و عندما أنهى معه المكالمة؛ تعثرت يده و لم تضع السماعة في مكانها الصحيح، و سمع ” إبراهيم ” الحوار الذي رجّ جمجمته و صدم رأسه بين والده و الضيف الذي اتضح فيما بعد، أنه جندي مهم في الجيش الإسرائيلي.. !
فُتح الباب، ليخرج الضيف بخطوات منتصرة، راميًا ببصره على ” إبراهيم ” يتفحصه بنظرة كبرياء، بينما الأخير بادله النظرات بكراهيةٍ و بغضٍ، ثُم دلف يرمق والده بعتابٍ و لومٍ يسبقه الغضب، و قبل أن ينطق بحرفٍ، تفاجئ بوجود أشقائه الثلاثة يجلسون في اعتدالٍ يُسيطر عليه الغموض و التفكير.
صاح ” إبراهيم ” بدون سابق إنذار، و بغضبٍ كبّل و قيد طبعه الهادئ المعهود به:
” أخبروني حالًا، ما الذي أتى بهذا الخنزير هُنا؟! ”
رد والده بهدوءٍ:
” اِهْدَأْ، و ستعرف كل شيء في الوقت المناسب ”
” لا يا أبي، لا.. لن يهدأ لي بال و أنا على علم بأن والدي على صلة بهؤلاء الانجاس ! ”
تدخل ” أوزان ” يقول بنبرة بدت حادة بعض الشيء بالنسبة لإبراهيم، فهم دائمًا يعاملونه برفقٍ و لينٍ:
” هل ستستمر بتلك الثرثرة كثيرًا ؟! ”
رمق شقيقه بضحكة استخفافٍ، و هتف بعدم تصديق لما يحدث:
” ثرثرة ! أوزان.. أخبرني منذ متى و شركاتنا تتعامل مع الصهاينة ؟ منذ متى و نحن نسمح بولوج أقدامهم القذرة عندنا ؟! ”
التزموا الصمت جميعهم، فكلٍ منهم يفكر في طريقة لتبرير وجود أحد الجنود الصهاينة معهم، قال شقيقه الثاني ” بوراك ” بابتسامة حنونة:
” إبراهيم، أنت ما زلت صغيرًا على فهم الأوضاع، اعتني بالعمل الذي كلفك به أبي، و لا تشغل نفسك بما لا يعنيك ”
تأملهم للحظاتٍ غير مُصدق إطلاقًا ما يقولونه، لم يستطِع التحكم في أعصابه أكثر من ذلك، انتابته عاصفة من الانفعالِ و الهيجانِ، فضرب بيده بقوةٍ على مكتب والده، و أَرْغَى ” إبراهيم” و أَزْبَدَ، حتى اِنْفَجَرَ غضبًا عليهم جميعًا، فَتَهَدَّدَ و تَوَعَّدَ:
” نحن على دين سيدنا مُحمد يا أبي، بالله عليكم ماذا تفعلون ؟! توقعون عهودًا مع أعداءنا ؟ ماذا دهاك إيمير بك ! لقد ربيت في قلبي كُره هؤلاء، و الآن أراك بكل سهولة تستضيف جند منهم في مكتبك !
و هذا الوغد الخنزير ينظر لي بكل سرور، كأنه يقوم بإثارة غيظي ! أنا مصدوم يا أبي، لقد تسببت لي بصدمة أنت و أخواني لن أغفرها لكم، و لن أسكت عن ذلك، سأصل له و أقتله بيدي مثلما فعلت في زملائه في آخر مهمةٍ لي، أقسم بالله لن اصمت ”
هتف صالح بنفاذ صبرٍ منه تلك المرة:
” إبراهيــم ! هل جُننت ؟! بماذا تتهمُنا ! هل تصدق ما يمليه عليك عقلك الصغير ؟! ”
التفت له بضيقٍ هو الآخر، و انطلق لسانه يصيح:
” عقلي الصغير ! عقلي الصغير أنظف من عقولكم السوداء بكثير، أنا لم أخون أخواني مثلكم..
تلك الأسلحة اللعينة التي تقومون بتصديرها ضمن صفقة خاسرة مع الخنازير الضالة، يستخدمونها في قتل أهلنا، و تدمير و تخريب أرضهم، إذا لم تعني لك فلسطين شيئًا، فهي تعني لي الكثير، و لن أسمح باتمام تلك الصفقة اللعينة ”
نهض شقيقه يجذبه من ملابسه ليصرخ عليه:
” أنت لا تفهم.. اصمت ولا تجلب لنا الكلام الفارغ ”
دفعه ” إبراهيم ” و خرج عن زمام الأمور، فَوجّه لكمة قوية في رأس ” صالح ” ليتراجع الأخير واقعًا على الأريكة خلفه، فاتسعت أعين البقية في صدمةٍ، بينما هو اِسْتَبَدَّتْ به سَوْرَةُ الغضبِ، و ثارت ثورته الثائرة بسَوْرَةِ الضَبَّ الكامن في جوفه، لتُصبح في وجههم أشبه بِنارٍ تَلَظَّى:
” ألم تأخذكم رحمة بالأطفال الذين يموتون بين أيادي أهلهم كل دقيقة ! ألم تكتفوا بعد من تدمير كل شبرٍ في غزة ! تريدون أيضًا تدمير سوريا الجديدة قبل إقامتها ؟! أين كانت عقولكم و أنتم تساعدونهم في إراقة الدماء في كل شبرٍ من الأراضي العربية ! هل الرئيس على علم بخيانتك يا أبي ؟! بالطبع لا.. أنتم و أمثالكم يجوز قتلهم عمدًا، أنا حزين جدًا عليكم، قلبي يحترق يا أبي بسببك.. لم أتوقع يومًا أن يصل بكم الأمر لمصادقة أعداءنا.. الله لن يرحمكم ”
” اخرس يا إبراهيـم ! لا تتعدى حدودك في الحديث، تحدث بأدب أو تحمل نفسك و تذهب من أمامي حالًا ”
هتف بها والده بغضبٍ هو الآخر، فاستدار له
” إبراهيم ” الذي تغيرت ملامحه الطفولية كُليًا، لأخرى ذات طابع فتاكٍ و شرسٍ، ليقول ساخرًا:
” هل قمت بجرح مشاعرك إيمير بك ! حسنًا، أعتذر، و لكن.. من سيعتذر لأخواننا ؟! ”
تنهّد والده بِحُزنٍ، و استعاد رباطة جأشه بقوله:
” هناك أمور يُصعب عليك فهمها، و يُصعب عليّ شرحها.. ما تتهمني به غير صائب يا بني، لم أوقع أي صفقات مع الصهاينة، لم نفعل ذلك.. لقد فهمت الموضوع كله بشكلٍ آخر، ما تتهمني به كبيرٌ عليّ و على إخوانك فعله ”
” وضح لي إذًا ما الذي سمعته أُذني ! لقد سمعتك ” أبي” و أنت تخبره بموافقتك على مساعدتهم في هدم سوريا الجديدة، سمعتك و أنت تخبره بإرسال أسلحة جديدة لهم، أخبرني
” أبي” هل شركاتنا تقوم بتصنيع الأسلحة لمساعدة إسرائيل في خطتها على بلاد العرب ؟
هل تؤيدهم في إقامة دول إسرائيلية كُبرى من النيل إلى الفرات ؟! ”
أغمض والده عينيه يسترد أنفاسه بهدوءٍ، ثُم فتحها ببطءٍ ليقرر إجابته، و قبل أن يُصَرّح بالأمر، تبادل شقيقه ” أوزان ” و ” بوراك” النظرات المعلومة بينهما، و انقض الأخير يُقيد ذراعيّ
” إبراهيم ” و تقدم ” صالح ” يدس حُقنة مخدر في جسده، بينما ” أوزان ” وضع غمامة سوداء يحجب بها الرؤية عنه، ليفقد بعدها الوعي و يغيب عن الواقع.. !
____________________
“لَم يَكُن فِي نِيَّتي أن أحبَّ
‏كُلُّ مَا فِي الأمْر أنَّ قَلبِي خطف” لقائلها.
~~~~~~~~~~~
انحنى ” زين ” على المكتب الواسع الخاص به في شركة ” منير الأنصاري ” يقوم برسم مُخططاتٍ تخص عمله في بُناية استثمارية جديدة تُشرف عليها شركتهم، و بعد لحظاتٍ من تركيزه الشديد في العمل بمشاركة اثنان آخران من المهندسين؛ يأتيه اتصال هاتفي من مديره
” منير” يطلب منه المجيء حالًا..
ترك ” زين ” ما بيده، و اتجه لمكتب مديره وهو يفرك عينيه بتعبٍ اتضح جَليًا عليه؛ بسبب مداومة الأعمال الشاقة التي وقعت على عاتقه كحبات المطر بلا توقف منذ أسبوع، بالإضافة إلى إشرافه بنفسه على ترميم منزل ” بدر” بطوابقه الثلاثة فوق ما يقارب الأربعة أشهر..
و لم يتبقَ سوى بضعة أسابيع على موعد العرس، الذي من المفترض إقامته في منتصف شهر
« يونيو»
..
فور أن دلف للمكتب، أشار له منير بالجلوس، ليقول بابتسامة واسعة:
” في مشوار مهم لشركتنا جدًا، و أنت اللي لازم تشرف عليه بنفسك.. أنت عارف إني بثق في شُغلك، و عارف إنك مُخلص فيه.. عشان كده هَبعتك لمدرسة لغات ثانوي من أنضف و أحسن المدارس على مستوى المحافظة، كلموني و طالبين مهندس شاطر ياخد ورق التعاقد و يروح يعمل معاهم شغل على مستوى عالي في المدرسة، طالبين يعملوا شغل جديد فيها، فأنا اخترتك أنت و اخترت المهندس بسيوني معاك تكون واجهة للشركة بتاعتنا، هتشوف طالبين إيه بالضبط و تشرف على الدنيا هناك، و تمضي معاهم العقود.. قلت إيه ؟ ”
تنهّد ” زين ” و مسح على وجهه مع شعره بتعبٍ، ثُم قال وهو يهز رأسه بابتسامة صغيرة:
” مقدرش أرفض طبعًا، أنا بحب شغلي و أقدر أعمله في أي مكان، و شكرًا لحضرتك على ثقتك الكبيرة فيا، أوعدك إن هكون قدها إن شاء الله ”
” تمام يا هندسة، توكل على الله.. هتكون متواجد عندهم بكرة الصبح من تسعة كده عشان تخلص بدري و تيجي هنا تكمل باقي الشغل، و عاوزك تروح ببدله شيك كده لأنك بتمثل شركات منير الأنصاري، و أنا يا سيدي عفيتك من باقي اليوم النهاردة، روح ارتاح شكلك خلصان ”
أومأ باسمًا بجفونٍ تُجاهد في عدم الارتخاء، فقد هرول له النُعاس يغتصب نشاطه، و يجعل رأسه تَخرَّ على صدره بفعل تعبه الشديد، فنهض بحِمْلهِ مُثْقَلًا في جَهْدٍ و مشقّةٍ، ليغادر الشركة بسيارته، و حالما وصل للبُناية التي يقطن في إحدى طوابقها؛ دلف لشقته و اتجه لغرفة نومه يلقي بجسده في إهمالٍ، و يغوص في نومٍ عميقٍ كان بحاجةٍ شديدةٍ له منذ أيام.
و في اليوم التالي، استيقظ بصعوبة قبل الموعد بساعة، و أقام فريضة الفجر التي فاتته بسبب ارهاق بدنه الخارج عن إرادته و نسيان صلاته، ثُم تناول طعام الافطار سريعًا، و توجه نحو خزانة ملابسه يخرج بِذْلة سوداءٍ تلائم وجهه الرجولي و نثر عطره، ليقود سيارته بعد ذلك نحو المكان المقصود، و الذي ينتظره بأحداثٍ لم يتوقعها هو.
تقابل مع زميله في العمل عند مفترق طريق، و توجه كلاهما لمدرسة اللغات الخاصة بطلاب الثانوية العامة.
يتم حضور طلاب الصف الثالث الثانوي في مدارس اللغات مثلهم مثل طلاب الصف الأول و الثاني، على النقيض في المدارس الحكومية نجد أن طلاب المرحلة الثالثة لا يهتمون بالحضور من أساسه.
رحبت مديرة المدرسة بهما، و تأملت ” زين ” للحظاتٍ شَعر هو بالتوتر فيهم، لتقول باستيعابٍ:
” لولا إنك مصري، كُنت قولت إنك هو ”
” هو مين ؟! ”
تساءل بها في تعجب، و بعدما فهم تلميحاتها.. قال بخجلٍ بدأ يكسو ملامحه:
” يخلق من الشبه أربعين بقى، بس أنا أحلى منه”
ضحك صديقه و كذلك المديرة، ثُم أملت عليهما ما سيتوجب فعله، و توجها الاثنان لمباشرة عملهما، و أثناء تدوين ” زين ” بعض الملاحظات في الدفتر الخاص به و بعد مرور عدة ساعات، رنّ جرس الفسحة المدرسية و حان موعد استراحة الطلاب، ليمرّ فوج من الطالبات و تعلو الهمسات بينهن من خلفه ممزوجة بالضحكات الخفيفة !
فَبدأت الهمهماتِ و الهمساتِ تصل لأذنيه، يسمعهن
يَقُلْنَ، أنه يشبه ذلك المدعو ( بارون) !
استاء و عبس وجهه و تساءل في نفسه:
هل لذلك كَثُر المعجبون به ؟
إذًا من الأفضل أن يرتدي قناع ليحبه أحدًا لشخصيته، ليس لأنه شبيه أحد الممثلين، بل لأنه ( زين).
زفر بضيقٍ و تمتم دون النظر إليهن:
” امشي بعد كده بكمامة يعني ؟ ولا أعمل إيه ؟!.. و يا ترى بقى شهد هي كمان بتفكر نفس تفكيرهم ده ؟ ”
صمت لدقائق ينظر في دفتره بشرودٍ يُفكر بعمقٍ فيها..
لم يأتِ لقلبه جواب بعد ! لم يخبره والدها برأيها فيه، و لم يعرف بعد هل هي أيضًا تبادله نفس مشاعره، أم لا ؟
أو هو لم يدخل حسابات قلبها و ما زال على الحافة يلوح براية الحُب !
حدث نفسه بخوفٍ سري سار في جسده سريان الدم في الشرايين:
” يا ترى أنتِ بتحبيني يا شهد زي منا بحبك كده ؟ أو حتى معجبة بيا ؟ و لا عمي مجاهد ما عرفكيش حاجة أصلًا ! بس ازاي متعرفيش..
أنا لما ببص لك بتتكسفي و وشك بيحمر على طول، و ده معناه إنك حاسة بمشاعري تجاهك ! ”
” زين ! ”
” قلب زين من جوا، حتى صوتك مش بيفارق سمعي.. قولي زين تاني كده ”
“زين أنت بتعمل إيه هنا ؟!! ”
عندما نادته أول مرة لم يصدق أنها تقف خلفه، و ذلك الصوت الأنثوي يعود لها بالفعل و ليس صوتًا ينبع من مُخيلته !؛ لذلك رد عليها و كأنه يحدث نفسه، فما كان منها إلا أن تعلو بصوتها و تسأله عن سبب تواجده في مدرستها..
رمش بأهدابه عدة مرات دلالة على عدم التركيز و عدم الاستيعاب، و استدار ببطءٍ خلفه، ليجدها تقف أمامه بالزيّ المدرسي، و عينيها الشبيهة بأعين القطط تنضج منها الكثير من التساؤلات..
” شهد ! ”
هتف بها في دهشةٍ شديدةٍ، ثُم تحولت دهشته لعاصفة من التوتر انتابت قلبه، فجعلته يقرع قرع
النَوَاقِيسُ بأصواتٍ موسيقيةٍ شاعريةٍ؛ تضفي عليهما أجواءٍ لا نهاية لها من الرومانسية المصحوبة بعاطفة العشق المخلص القوي.
في البداية عندما وقعت عينيها عليه يقف شارد الذهن، لم يكن في بالها سوى السؤال عن سبب مجيئه، و عندما استدار و غاصت عينيه في ملامحها الهادئة، زارها زوار كثُر من المشاعر المضطربة، و التي تنوعت ما بين الخجل و الارتباك و الاعجاب، فأخفضت رأسها تهمس بابتسامة متوترة:
” واضح أنك جيت عشان شغل، ربنا يعينك.. همشي أنا بقى ”
” استني ”
قالها، وهو يقطع خطواتها خارج الممر اللذان يقفان فيه، و وقف أمامها بكامل جسده بعد أن استطاع بمهارة ضبط أعصابه التي اهتزت كأوتار الجيتار عند العزف عليها بفعل مشاعره المختلطة، و أردف يتحدث في هدوء:
” بصي.. أنا عمري ما وقفت مع بنت و اتكلمت معاها في اللي هقوله لك ده..
تنهّد ليقف باتزان و تابع:
” أنا عمري ما حبيت يا شهد، و معنديش أي علاقات في الماضي، و مش بعرف اتعامل مع البنات..
صمت للدقيقة يحاول فيها لملمة شتاته، ليضيف:
” بس أنتِ بكل البنات ”
تأملته للحظات، و خفضت عينيها ليديها اللتان تفركهما ببعضهما في توترٍ مُتوّج بالسعادة، بينما هو تابع بث اعترافاته:
” والله العظيم أنتِ جيتي خطفتِ قلبي، قلبي اللي كان فاضي من مشاعر الحُب و جاف من الحُب نفسه، أنا.. أنا مينفعش أبوح بمشاعري دي دلوقت إلا لما يكون فيه رابط رسمي بيننا، بس أنا يا شهد بقالي شهور في حيرة بسبب إنك ممكن مَتكونيش عارفة بحُبي ليكِ، أو مَتكونيش عاوزاني أصلًا، الإنسان مش صبور بطبعه و أنا صبري نفد و مبقتش قادر أعد الليالي اللي المفروض استنى فيها عشان اجي اتقدم لك، آه بس لو مكنتش الثانوية العامية دي..
ضحكت من قوله الأخير، فتبسم وهو يعبث في شعره ليقول:
” هي عامية فعلًا، عشان بتعمي العيون الحلوة إنها تشوف الجمال من حواليها.. ”
صمت لدقائق يتأمل وجنتيها اللتان كساهما الخجل منه، فتحركت هي و كادت أن تذهب من أمامه، لولا أن قطع خطواتها ثانيةً بقوله:
” مش ها تمشي غير إما أسمعها منك ”
” هي إيه ؟ ”
” الإجابة.. تتجوزيني يا شهد ؟ ”
كان التحدث من نصيبها تلك المرة، فقالت:
” على فكرة بابا قالي، و قبل ما بابا يقولي.. عائشة قالت لي إنك بتحبني و عاوز تتزوجني ”
اتسعت عينيه هاتفًا:
” عائشة قالت لك ! مقالتش حاجة والله، لسه أول مرة أعرف الكلام ده منك ! هي هتشتغل خاطبة من ورانا ولا إيه ؟ ناوية توفق راسين في الحلال و تاخد على كل راس مبلغ و قدره ! ”
صدرت ضحكة خفيفة منها، فاتسعت ابتسامته يقول بحُبٍ:
” يحفظ لي ضحكتك الحلوة دي ”
” لازم امشي، صحابي بدأوا ياخدوا بالهم ”
” مجاوبتنيش.. تتجوزيني ؟ ”
رفعت عينيها تناظره بمشاعر تنبض بصدق له لمرتها الأولى، و همست:
” باقي أسبوعين على الامتحانات إن شاء الله، لما يخلصوا هقولك الإجابة، أما دلوقتي أنا مركزة في المذاكرة و مش عاوزه حاجة تاخد تفكيري و تشتت ذهني، حتى لو الحاجة دي هي حُبي ليك”
قالت جملتها الأخيرة، أو باحت باعترافها دون سابق، و عندما أدركت ما تفوهت به؛ اشتعلت وجنتيها خجلًا أكثر و اختفت من أمامه فورًا، بينما هو تسمرّ مكانه لدقائق يحاول فيهم استيعاب تصريحها..
« حتى لو الحاجة دي هي حُبي ليك» !
” بتحبني ! هي كمان بتحبني !! ”
همس بها، ثُم في حركة عفوية أطبق بأصابعه على كفيه و شدّ ساعديه لتُبرز عروق ذراعيه تزامُنًا مع ابتسامته المرحة وهو يهزّ رأسه و يقفز بخفةٍ قفزات صغيرة، و بفرحةٍ سيطرت عليه بالكامل:
” يس يس يس.. الحمدلله طلعت هي كمان بتحبني.. ”
جاءه زميله يقول:
” بقولك إيه يا هندسة، هي الزاوية دي عرفت مقاسها ولا أشوفها أنا ؟ ”
تجاهله ” زين ” و اتجه يبحث عنها كالمجنون، فصعد الدرج الذي صعدت منه، ليصل لمسامعه صوت الفتيات يتحدثن بتلميحات مؤذية:
” شوفتوا المهندس اللي شبه الممثل اياه ده و شهد واقفة معاه ! تلاقيها ماشية معاه في السر ”
و ترد فتاة أخرى ضاحكة في استهزاء:
” شهد أصلًا بت سوسة و مبتعرفش حد حاجة عنها، يعني لو عارفاه مش هتقولنا ”
تصلب ” زين ” مكانه، و تملك منه الغضب و الغيظ منهن، فأراد رد كرامتها أمامهن عندما وجدها تقترب منهن بحُزنٍ، فيبدو أنها سمعت ما يَقُلْنَ عنها..
انتهز فرصة تواجدها معهن، و اقترب منهن يقول لها بصوتٍ مسموعٍ انتبه لهن الفتيات:
” شهد.. والدك لسه قافل معايا و وافق على خطوبتنا بعد الامتحانات على طول إن شاء الله، الحمدلله إن أبوكِ هو عمي أخو أبويا في نفس الوقت، و عارف كويس إني بحبك من زمان و عمري ما هحب غيرك، عشان أنتِ ضوفرك بالبنات كلها ”
ثُم تركهن في أوج صدمتهن، و أدار ظهره لهن يبتسم بانتصارٍ بعد أن رأى بسمة الرضا على وجهها، هذا هو ” زين ” لا يترك حقه مهما كلفه الأمر، و ” شهد ” أصبحت ضمن حقوقه مؤخرًا، حتى يتزوج منها و تصبح حقه الفعلي، فعندما كان في ” السعودية ” كانوا المصريون المقربون منه يلقبونه بـ « الكياد»؛ لكثرة أعداد الأشخاص اللذين كادوا أن يصابوا بجلطة بسبب استخدامه الكيد في أخذ حقه.
أنهى عمله في المدرسة، و غادر مع زميله.
__________________
” لكنني تخطيت معك مرحلة البدايات
و الاعجاب، الأمر أكثر تعقيدًا.. شيء يفوق الحب بكثير، شيء يشبه الإدمان ”
~~~~~~~~~~
رائحة شهية تنبعث من المطبخ الشبيه بالبار، تملأ أرجاء الشقة الفارهة الخاصة بضابط المخابرات..
يقف بحماسٍ أمام «البوتاجاز» يقوم بتحضير الافطار لفراشته الرقيقة وهو يدندن في سعادةٍ لا يستوعبها أحدًا ممن يعرفونه بحق، فالمعهود عنه أنه ذو طبعٍ عابس صارم مُقطّب، لا يبتسم بسهولة و كأن الحياة سوداء في وجهه، خالية من أي بهجة، و لكن بدخول ” رُميساء ” حياته؛ تنقلب الموازين رأسًا على عقب، و كأنها دخلت و جلبت معها قوس قزح الرائع بألوانه، لتظهر شخصية أخرى خلف شخصية الضابط الحازم، شخصية مرحة تُحب الحياة و تعشق الحُب، و تلك الشخصية لم تظهر إلا مع « فراشته»، فمعها تجرّد من طبعه الخشن، و أصبح ودودًا لطيفًا في معاملته لها، لا يحتمل رؤية قطرة دمعة في عينيها، و لا يقدر على مسها بأي أذى، ففي الأشهر الماضية بعد زواجهما، كان يستيقظ معظم الأيام باكرًا، يَعُد لها طعام الافطار و يفاجئ بريق عينيها به، فيتوهج و يبرز لمعانه المسرور، و برغم عشقه الشديد لها و جنونه بها، لكنه في النهاية لم يستطِع ترك شخصيته العاشقة للتملُك..!
انتهى من إعداد الطعام، و وضعه على صينية بطريقة مرتبة و أنيقة، ثُم حمله و دلف به تجاه فراشهما، ليضعه على جانب و يقترب منها يزيح عنها الغطاء الذي أخفت به كامل جسدها ووجهها، رغم اقتراب الأجواء من دخول فصل الصيف، و لكنها لا تستطيع النوم دون أن تغطي جسدها..
أزاحه عنها برفقٍ و قبل أن يوقظها، أصابت الصدمة عينيه ليجد وسادة كبيرة عوضًا عنها..!
نهض و تبسم بتوعدٍ لها في داخله، فقد أدرك في الحال أنها تلعب معه لعبة القط و الفأر، و التي لم تمل من لعبها يوميًا، رغم كشفه لها كل مرة و اخفاقها أمامه، لكنها لم تتوقف عن خداعه بتلك الطريقة؛ ظنًا منها أنها ستنتصر عليه يومًا..
همس و ابتسامته تتسع تدريجيًا، عندما عبقت رائحة عطرها الغرفة وهي تتسلل من خلفه و تخطو خطواتها بحذرٍ تجاهه، قاصدة بأن تتسبب في فزعه، فاستدار هو بغتةٍ و في حركةٍ سريعةٍ أصبحت متعلقة في الهواء على ذراعيه، فأخذت تضحك بشدة هاتفة من بين ضحكاتها المسترسلة:
” سيبني في مرة أخُضك ! يعني مش كل مرة تقفشني كده ! ”
داعب مقدمة أنفها ضاحكًا:
” أنتِ مفيش حل في هبلك ده أبدًا ؟! و بعدين البرفيوم بتاعك ده عامل زي المخدر بالنسبة لي، يعني مجرد ما بتقربي مني.. بتأثر بيه في ثواني و بعرف إنك ورايا ”
مدت بعينيها نحو صينية الافطار، و تساءلت في لهفة:
” عامل لنا إيه بقى فطار النهاردة ؟ ”
” أكلة حلوة ها تعجبك ”
أنزلها برفقٍ، و أشار نحو الطبق الكبير يقول:
” ده توست فرنسي محشي بالجبنة الكريمي و البلوبيري.. ”
نظرت للطبق، ثُم له و أعادت الكرّة في تساؤل مضحك:
” إيه البلوبلو ده ؟! ”
لم يستطِع منع نفسه من الضحك، فهتف بضحكة عالية:
” مش مهم اسمه، المهم طعمه ”
” نبدأ و نقول بسم الله ”
تناولت قطعة منه، و أخذت تمضغ في بطء لتتذوق طعمه، فوجدته لذيذ للغاية مما استدعاها ذلك، بتناوله بالكامل دون التعليق على مهارته في اعداد الطبق، في حين أنه ظل يتأملها بنظراتٍ حالمةٍ عاشقةٍ دون مشاركة الطعام، فتوقفت عن المضغ و تساءلت في براءةٍ أفقدته المتبقي من اِتزانه، فأخذ يضحك بقوة:
” أنت مش بتاكل معايا عشان حاطط لي سم في الأكل ؟! ”
” كل مرة بتسألي السؤال ده، و برد عليكِ بإن عيوني بتستمتع لما تشوفك بتاكلي، يمكن دي حاجة غريبة بالنسبة لك، بس مع الوقت ها تتعودي أبص لك كتير و أنتِ بتاكلي بالذات، بحب أمتع بصري بالنظر ليكِ”
ابتلعت آخر قطعة، و عدلت من جلستها لتلقي عليه بسؤال آخر، و قبل أن تنطق به.. لاحظ أثار الطعام جانب شفتيها، فَمدّ بإبهامه يزيله لها، ثُم عاد به نحو فمه يتذوق بغمزةٍ مداعبةٍ:
” طعمه زاد حلاوة لم لمس شفايفك، و كأنها منبع خلية نحل ”
همست وهي تشيح بعينيها في خجلٍ:
” بس بقى عشان بتكسف ”
ثُم نهضت لتخرج، فتمسك بذراعها و أجلسها أمامه ثانيةً ليقول:
” الكسوف ده كان زمان، أما إحنا دلوقت بقالنا تلات شهور متزوجين، يعني فكك و متعملهمش عليا ”
أرادت تغيير مجرى الحديث، فهي بالفعل ما زالت تشعر بالاحراج و الخجل عند القرب منه أو عند مغازلته لها.. تساءلت وهي تحاول اخفاء كتفيها بشعرها عن عينيه التي لا تبرح مكانهما من النظر إليها:
” ليه بتقول أمتع بصري مش نظري ؟ ”
كانت تعرف الإجابة، و لكنها أرادت فقط معرفة هل هو حقًا يفهم ما يقوله أو ما يجيء على لسانه يبوح به دون إدراك ؟
ابتسم بمكرٍ، فقد وصل له ما ترمي إليه قبل حتى الاقرار به.. قال بثقة و بنظرة واثقة:
” لأن البصر أعمق و أشمل من النظر، و أنا لما ببص لك، ببُص بعُمق مش مجرد نظرة و السلام، والسلام لقلبي المهووس بيكِ ”
تلاشت ابتسامتها سريعًا، و حلّ محلها الجمود للحظات، فعند ذِكر هوسه بها؛ يَتَأَتَّى لها ما سيفعله.. حملت نفسها و نهضت بخفةٍ في محاولة للاختفاء من عينيّ الصقر خاصته، قائلة في توتر:
” هدخل الصينية المطبخ ”
أخذ الصينية منها، و وضعها على الكومود، ليقف بطوله أمامها قائلًا بهدوء بعدما احتوى وجهها:
” أنا عارف أنتِ بتفكري في إيه.. من ساعة ما تزوجنا و أنتِ مروحتيش عند أهلك، و بتروحي الجامعة و تيجي بالسواق الخصوصي، عارف كل اللي بتفكري فيه و فاهمهُ كويس.. أنتِ بتقولي دلوقتي هو هيفضل حابسني لحد امتى، و ليه قاعد طول الوقت معايا و مطنش شغله.. بس أنتِ عارفة الإجابة يا رُميساء، و قولت لك قبل كده و إحنا مكتوب كتابنا، إني مش هعرف اتخلص من طريقة حُبي ليكِ، و مش هعرف و مش عاوز أتغير.. أنا ما صدقت لقيتك، أنتِ جنتي على الأرض، و مفيش عاقل يطلع من الجنة بعد ما شاف وعاش و داق نعيمها، ما بالك بقى بإن اللي دخل جنتك واحد مجنون بيكِ ! هل عمرك سمعتي أو شفتي واحد مجنون بيسمع الكلام و بيمشي على هوا الناس ؟ المجنون ليه عيشته الخاصة اللي ميقدرش ينسلخ عنها، و أنتِ عيشتي و حياتي و دنيتي الخاصة بيا، و أنا بعيد عنك برجع لعقلي و لشخصيتي القاسية، أما و أنا معاكِ بنسى إن ليا عقل، معاكِ الموضوع مختلف.. ببقى عاوز أفضل معاكِ دايمًا، قُريب منك لدرجة إني أتنفس نفس الهوا اللي أنتِ بتتنفسيه من نفس المكان.. أنا وعدتك إني اطمنك و بحاول قدر الإمكان أخليكِ تحسي بالأمان معايا، بس آسف.. سامحيني، مش هقدر أبطل أحبك بجنون.. هوسي بيكِ ملوش نهاية يا رُميساء ”
في خلال الأشهر الماضية، استطاعت فهم ربع شخصيته، و تلك النتيجة ليست سيئة، فهو في الحقيقة يُصعب فهم ما يدور في رأسه، و معنى أنها فهمت ولو جزء صغير من شخصيته، أنها تسير في الطريق الصحيح نحو قلبه..
تعلم جيدًا أنها الوحيدة التي تستطيع التأثير على شخصيته القوية و تجعله يرتكز بركبتيه أمامها، واضعًا قلبه بين يديه يُقدمه لها على طبقٍ من ذهب بمحض إرادته، هذا الصقر الجارح الذي تهابه و تخشاه الأعين في منطقة عمله، يرضخ أمام أنوثتها بكل سهولة، ضحكتها الرقيقة تجعل صلابته تستكين في الحال، شعرها بالذات إذا ما تركت له العنان أمامه؛ لَبَّى نداء قلبه في الحال و إِمْتَثَلَ لأوامره.. أمامها يسقط عنه الستار الذي يحجب جبروته، و يظهر ضعفه و استجابته لها.
لم تُعلق بشيء فقط اكتفت بابتسامة راضية، ليقول هو:
” الشهر اللي جاي و اللي بعده، هيبقى عندي شغل تقيل و محتاج تركيز، و أنتِ هيكون عندك امتحانات، هسيبك تروح تقعدي عند والدك، و في آخر امتحان ليكِ، هاجي اخدك عشان تبقي جنبي في القاهرة ”
هتفت بعدم تصديق:
” ها تسيبني لوحدي يا كريم ! ها تبعد عني شهر كامل لحد اما اخلص ! ها يهون عليك فراشتك تسيبها لوحدها ؟! ”
ظل لدقيقة يتأملها بدهشة لا يعرف ماذا يقول، فقد تهيئ له أن دهشتها تلك بسبب سماحه لها بالمكوث عند والدها، و لم يعتقد أنها ستحزن لبُعده عنها..
زاد من احتواء وجهها برفقٍ، ليقول بعدم تصديق هو الآخر:
” بجد مش عاوزاني أبعد عنك ؟ بجد يا فراشتي عاوزة كريم جنبك ؟! ”
تَرَقْرُقُ الدُّمُوعِ تجلى في عينيها الجميلة، و دارَ الدَّمعُ في باطنها؛ مُهددة بالهطول.. هامسةً:
” أنا اتعلقت بيك أوي، خلاص مبقاش ينفع أتخيل يوم واحد من غيرك، مبقاش ينفع تبعد عني يا كريم.. مش هنكر إني لسه بخاف منك، بس مش زي الأول.. يعني.. يعني دلوقت حتى و أنا خايفة منك عاوزاك جنبي برضو، متبعدش عشان خاطري ”
كاد أن يجيبها، و لكن في تلك اللحظة أتاه اتصال من اللواء عزمي، فتأفف بضجرٍ و ابتعد عنها بابتسامة صغيرة، ثُم وضع الهاتف على أذنه و قبل أن يجيب، هتف اللواء بنبرة غاضبة:
” في إيه يا كريم ! بقالي تلات أيام برن عليك ياعم و أنت ولا هنا ! و إيه اللي أنت بعته ليا على الواتس ده ؟! يعني إيه مش عاوز تحضر الاجتماع الخاص بالعملية الجاية ؟ ازاي و أنت قائد العملية دي ؟ ”
تنهّد ” كريم ” بصبرٍ، و قال:
” عزمي باشا.. في غيري يقدر يقوم بالمهمة، الدولة فيها رجالة كتير يا باشا.. أنا عريس جديد سيبوني ارتاح شوية ”
صاح اللواء باستشاطة منه:
” أنت بتهزر يا حضرة الضابط ؟! عريس إيه اللي داخل في أربع شهور متجوز ! كريم بيه ارجع لعقلك، أنت مفيش اجتماع يخص أمن و سلامة البلد و غيبت عنه، جواز إيه ده اللي يخليك تنسى بلدك ؟! ”
أثناء مكالمته مع اللواء، لاحظ توتر رُميساء و خوفها من صراخ ” عزمي “، فأغلق كريم الهاتف في وجهه، و عاد إليها ليضُمها لصدره هامسًا وهو يربت على ظهرها في حنوٍ:
” صه.. اوعي تعيطي متخافيش.. أنا جنبك و مش هسيبك، كل واحد ليه الحق يخاف على بلده و ميسبهاش مهما حصل، و أنتِ بلدي و مش هسيبك لو إيه بالذي، يا حلو يا بلدي أنتَ”
استطاع اضحاكها بغزله السوقي الأخير، فوكزته في كتفه بدلالٍ، مما أخذ كفيها و طبع فيهما قُبلة دافئة، ليتركها و يعاود الاتصال باللواء:
” ايوه يا عزمي باشا.. معلش الخط فصل فجأة، أصل الشبكة هنا مش حلوة ”
” الريس لو شم خبر إنك مش بتحضر الاجتماعات يا كريم، هتبقى كارثة ”
” الريس حبيبي متقولش كده ”
” يابني أنت بتستعبط ! أنت بقيت بارد كده ليه من ساعة ما تزوجت ؟! ”
” أعوذ بالله، قروا علينا بقى ”
تمتم بها في استخفاف، بينما اللواء رد باستسلام:
” أنت عارف إنك زي ابني و بخاف عليك، حاول تتلحلح كده و تشيل ايدك من الميه الباردة اللي حاطيتها فيها من ساعة ما دخلت عش الزوجية، و تيجي تشوف شغلك ”
بينما يتحدث اللواء، اتجه هو ناحية الثلاجة ليصب لنفسه كوب عصير، ثُم أردف ضاحكًا:
” أنا شايف شغلي كويس أوي ”
” شايفه ازاي و أنت قاعد جنب مراتك يعني ؟ و اوعى تقولي بالتليفون، أنت عارف إن شغلنا مش بيمشي بالتليفون ”
صمت ” كريم ” يشرب العصير و يبتسم في خُبثٍ، أما اللواء شهق بسبة له بعدما فهم مقصده الوقح، مصحوبة بقوله:
” يلا يا قليل الأدب اقفل، بعدين هكلمك إما أخلص الهم اللي ورايا ده ”
اغلق الهاتف، و استدار ليجد ” رُميساء ” تنظر له باستفسار محفوف بالدموع:
” ها تمشي ؟ ”
” ايوه.. بس مش عشان الشغل ”
” اومال عشان إيه ؟! ”
” عشان أقدم استقالتي ”
قالها وهو يتجه نحو بثباتٍ، ثُم سحبها من يدها و أجلسها بجانبه ليضيف:
” أنا عندي فلوس مش بتخلص، ورثي من جدي ملوش آخر، و مش هعرف أركز في شغلي طول منا بعيد عنك، فملوش لازمة الشغل.. في غيري ألف واحد، أنا عاوز أقضي عمري كله جنبك، أفضل باصص لك كده.. ده كفاية عليا، ده عندي بالدنيا والله ”
مالت برأسها على كتفه، فضمها إليه.. و تساءلت هي بابتسامتها الرقيقة:
” أحيانًا بسأل نفسي، أنا ليه اتعلقت بيك أوي كده رغم إني في بداية علاقتنا مكنتش بحبك زي ما بحبك دلوقت، بس مش بلاقي إجابة.. كل الموضوع و ما فيه، إني بحبك يا كريم ”
انفرجت ابتسامته السعيدة، و لثم قُبلة رقيقة على يدها مُردفًا:
” ما تسبيش نَفسك لنَفسك تاخدي و تدي مع نَفسك، خدي نَفَسك و قولي لي اللي في نِفسك عشان أنتِ نَفْسي و أنا نَفسك ”
تنهّدت بارتياحٍ، لتعود له بسؤال آخر قفز في رأسها:
” كريم، هو.. هو أنا لو.. أنا بقول لو يعني هه.. لو حصلت في مرة مشكلة كبيرة بينا، و قولت لك إني مش عاوزه أكمل، يعني.. أقصد.. نـ.. نطـ..
رمقها بنظرة نارية جعلتها تبتلع المتبقي من أحرف الكلمة، التي بالكاد لو كانت أكملتها؛ لكانت رأت وجهًا أقسى من هذا بكثير، وجهًا لن تستطيع تصديق أنه يعود لهذا الضابط الحاسم
” كريم”..!
قال في همسٍ بدا حاد كشفرات السكين في كل حرفٍ يخرج منه:
” قاموسك اللغوي ذِكر الكلمة دي فيه ( ممنوع) قال أحرفها ضاغطًا على كل حرفٍ مصحوب بنظرات أجفلها ظليم عينيه، ثُم تابع همسه الحاد، و هو يحيط كتفيها و يشدّ عليهما:
” أيوه أنا المهووس بيكِ، اللي عشقتك بامتلاك و تملُك، و أنتِ مِلكي و كُل ما أملُك، و انتهى. ”
____________________
في الملعب الشاسع.. يركض ” سيف الاسلام ” نحو الكرة، و لا زال يسجل الأهداف تلو الأهداف مع النادي الأهلي، و إدخال البسمة و السرور على وجه المشجعين، فها هي مباراة
« المصري البورسعيدي و الأهلي» في مواجهة حاسمة في بطولة الدوري العام قبل انقضاء مهلته بأسابيعٍ قليلة، يُسجل « هُس هُس» هدف الفوز القاتل للأهلي، ليرتفع رصيد النادي الأهلي إلى اثنان و سبعون نقطة، و بفارق ثلاث نقاط عن «الزمالك» صاحب المركز الثاني..
و تأتي المباراة القادمة أمام «الاسماعيلي» في الاسماعيلية، حيث أعداد الجماهير الكثيفة للاسماعيلي، و الصخب الاعلامي الكبير، و حالة عدم وضوح الرؤية قبل المباراة و حالة الشد و الجذب، ليأتي بطلنا ” سيف ” و يسجل
« هاتريك » ثلاثة أهداف، ليصل بذلك فريق الأهلي إلى النقطة الخامسة و السبعين، مما تبقى له نقطة واحدة لحسم اللقب في انتظار المباراة القادمة و الأخيرة أمام فريق « طنطا» الهابط إلى القسم الثاني، وهي مباراة سهلة تمامًا.. حيث فاز فيها الأهلي بخمسة أهداف نظيفة، سجل منها
” سيف ” هدفين و صنع هدفين، ليختم أول دوري له مع الأهلي، بدوري بلا هزيمة مع استحقاقه جائزة « أفضل لاعب في الموسم»، و ينتهي الدوري بحصول الأهلي عليه، و بانضمام
” سيف” إلى منتخب مصر، و دخوله المعسكر المغلق للمنتخب؛ استعدادًا للتصفيات المؤهلة لكأس العالم، و من هنا حصل جميع اللاعبون على راحة لمدة شهر، عاد سيف خلالها لمنزله، و بعد انتهاء الاجازة يعود إلى معسكر المنتخب لخوض مرحلة التصفيات.
_____________
“أدرك أن لا أحد يمكنه أن يتسبب بهزيمتي إلا أنا”
~~~~~~~~~
خلال الأشهر المنصرمة التي مضت على الجميع بأحداث تتنوع ما بين الحُلو و المُرّ، تمكنت ” منة”
بقلبها الطيب الذي يجهله الكثيرون، تكوين صداقة و علاقة قوية مع الصغيرة ” ملك ” التي أتاها البلوغ منذ شهر، و أصبح التعامل معها صعب عن ذي قبل، فبعد مغادرة ” إبراهيم ” مصر و العودة لبلاده، أصابتها نوبة من الفزع و البكاء المستمر، و لم يستطع أحد التخفيف عنها، غير ” منة” التي سايرتها بالحديث و نزلت لمستوى عقلها تُحدثها بنفس طريقتها الطفولية، و تضمها لصدرها تغني لها بصوتها الجميل مقتبسة من أغاني الطفولة التي تهواها ” ملك “..
و كانت تجلس معها في أغلب الأوقات، التي تحادث فيها ” إبراهيم ” عبر مكالمات الفديو، تخبره عن كل صغيرة و كبيرة، فأصبح تعلقها به تعلق مَرضي يُصعب علاجه، و برغم علاقة منة القوية بها، إلا أنها فشلت في جعلها تنسى إبراهيم و تنشغل بنفسها، هو يعاملها كأختٍ له، وهي تعتبره كل حياتها، و حياتها بدونه لا تجوز و لا يصبح لها مستقبل، إما إبراهيم أو العدم..
هكذا أخبرت ” منة” التي بدورها تحدثت مع والدتها ” لين ” في الأمر، و كان رد الأخيرة بحُزنٍ.. “عملنا المستحيل عشان نبعدها عن إبراهيم، بس هي متعلقة بيه بطريقة أصعب مما تتخيلي، و الذنب ذنبنا إحنا، و دلوقت إحنا كلنا عاجزين و مش عارفين نعمل إيه”
” ملك ” تجلس الآن في غرفتها تحاول الاتصال مرارًا به، لكن دون جدوى..
أرسلت لوالده رسالة صوتية تقول بلكنته:
” عمي إيمير، أين إبراهيم ؟ حاولت الاتصال به مرارًا و لم يرد عليّ، أين اختفى فجأةً ؟ أرجوك قم بابلاغه أنني بحاجة ماسة للحديث معه، أرجوك عمي إيمير لا تتأخر ”
أتاها الرد من شقيقه أوزان يقول:
” مرحبًا ملك، كيف حالك ؟ إبراهيم بخير لا تقلقي، هو فقط مشغول بالأعمال الكثيرة، قريبًا سيعاود الاتصال بك ”
شعرت بالارتياح لبعض الوقت، و بعد دقائق غلف الشك قلبها، فأخذت تبكي في صمتٍ كعادتها عندما تستسلم في النهاية لواقع الأمور.
.. أما الطابق الأوسط من منزل ” مُجاهد” يعود لشقة ابنه الأكبر ” أُبَيِّ ” و زوجته ” نورا “، التي أخذها زوجها معه في « باريس» لاتمام صفقة عمل هُناك، و منه يعيشان أجواء رومانسية سويًا.
في آخر طابق من المنزل.. شقة ” قُصي ” التي صممها له والده بدقة و جمال مثل شقة شقيقه، برغم غضبه الشديد منه في بادئ الأمر عندما تزوج من ” منة” بسبب فعلته، و لكنه لم يبخل عليه بأي شيء.
عادت الأمور هادئة بينه و بين عائلته، و لكن ليس كالسابق.. المعاملة أصبحت بحدود و جافة قليلًا، و ذلك بسبب غروره و كبريائه اللذان ملكا قلبه بالكامل.
لم يحاول إرضاء ” منة” بأي شكلٍ كان، رغم اعتياده وجودها معه في نفس المكان، لكن الجفاء كان وليد علاقتهما منذ بدايتها.
أنهت مكالمتها الهاتفية مع أختها الحامل في شهرها الثاني، و توجهت نحو المطبخ بملابسها الشبيهة بالرجال التي لم تحاول استبدالها منذ زواجها، فقط تبدلها عند الاستحمام و ترتدي أخرى شبيهة لها، مكونة من سروال واسع و تيشيرت واسع أيضًا.
أرادت اعداد كوب من القهوة المثلجة لها، بينما كان ” قُصي ” يقضي معظم الوقت في الغرفة على سطح المنزل، لا أحد يعرف ماذا يفعل بالداخل، و لا حتى أنا.. انتهى مما يفعله و تأمل صُنع يده ليقول بغرورٍ حقيقي:
” عظمة ياض يا قُصي، مفيش حد في عبقريتك، دماغك دي تتقال بالدهب.. دهب إيه ! ده ولا كنوز الدنيا تيجي حاجة جنبك نباهتك ”
حالما انتهى، أغلق الغرفة و هبط للأسفل باتجاه شقته، ليأخذ كوب عصير له، فوجدها تعد قهوتها و تُدَندن بصوتها الذي لم يستطِع انكار كم أعجبه منذ ثالث يوم زواجهما؛ عندما سمعها تغني أغانيها الحزينة، فكتم ذلك في قلبه بل و دفنه، حتى لا يسمح لنفسه بالاعتراف أن صوتها جميل..
« لو بص في عيني مرة بس
ها يحس قوام بشوقي ليه
لو بص في عيني مرة بس
ها يحس بإني دايبة فيه
لو قال لي تعالي قلبي دق
أنا أروح له قوام ما قولشي لأ»
ابتسم بسخرية من خلفها، و هتف يستهزئ بها:
” الدبان اتلم ”
” اتلم لما جيت ”
قالتها بنبرة جافة، دون حتى الالتفات له، فأثار ذلك غيظه، مما ساقته قدميه للاقتراب منها و قبل أن يمد يده عليها، استدارت بسرعة رهيبة و في لمح البصر، أخرجت من جيب بنطالها الجانبي
« مطواة قرن غزال» لترفعها باحترافية في الهواء، فتنزل في يدها تلتقطها دون طرف رمش لها، ثُم فتحتها بمهارة و وجهتها نحو رقبة
” قُصي ” مما شهق الأخير بصدمة، و تراجع للخلف هاتفًا:
” بتعملي إيه يا مجنونة أنتِ ؟؟ ”
ردت بصرامة مبالغة، و هي تشده من ياقة التيشيرت تجبره على الانحناء في مستوى قامتها:
” أنا اسمي رحمة، بس مشفتش من الدنيا الرحمة، و اللي ها يجي في سكتي هدوسه بدون رحمة.. فكك مني و ابعد عني ”
كان على علم بأن لها اسم ثاني غير ” منة “، و لكن لم يضع في مخيلته أبدًا، أن تلك
« المفعوصة» كما اعتاد مناداتها عندما يود استفزازها، تحمل معها « مطواة» !
أغلقت المطواة الخاصة بها، و أدخلتها في جيبها، ثُم رمقته بنظرة باردة و همَّت بالخروج من المطبخ تحت نظرات الدهشة و الصدمة منه..
هتف بصوتٍ غاضب بعد أن نجحت في إثارته:
” اظبطي دنيتك معايا يا منة عشان مخليش الكام يوم اللي باقين لك معايا سواد على دماغك، شغل البلطجة ده اعمليه على حد تاني، مش عليا يا شبر و نص أنتِ ”
تجاهلته تمامًا كأنها لم تسمع شيء، و جلست أمام التلفاز تضع قدم فوق الأخرى بلا مبالاةٍ، و تشرب القهوة بطريقة تثير استفزازه و غيظه أكثر، لعلمها مؤخرًا، أنه يكره شيء اسمه ” التجاهل “، فعندما تقوم هي بذلك عمدًا، يجن جنونه و يطلق عليها وابل هائل من التوبيخ..
اتجه نحوها بغيظٍ حاول مداراته ففشل..
أخذ منها كوب القهوة، و ظل ممسك به بيده، ثُم جذبها باليد الأخرى يوقفها رغمًا عنها بغضبٍ:
” بلاش تتحديني أنا بالذات، عشان أنا غشيم و ممكن أعورك، و تعويرتي ملهاش علاج.. اصحي و فوقي لنفسك كده قبل ما عقلك الصغير ده يوزك تعاندي معايا ”
بينما هو يهتف بكلماته القاسية، كانت هي في عالم آخر.. قربه الشديد منها؛ يجعلها في كامل ضعفها و توترها، رائحة عطره تثير حواسها، و تجعلها تضعف أمام شخصيتها التي تكن له الحُب الحقيقي، و التي تخفيها وراء شخصيتها الصلبة..
تملصت من بين ذرايعه، و أردفت بهمسٍ مهزوز وهي تبتعد للوراء في ارتباكٍ كانت نظراته المتصلبة تجاهها السبب فيها:
” لو..لو سمحت سيبني..ابعد عني يا قُصي”
تراجع قدميها بخفةٍ للوراء في سهوٍ وهي تنطق الكلمات و تلفظها بصعوبةٍ، جعل قدميها تنزلق و تتعثر و كادت أن تسقط وراءها، لولا سرعة بديهته المرتكزة عليها؛ فلحق بها فورًا بذراعه اليسرى يضمها لصدره بحركة عفوية، و الذراع الأخرى متروك لها العنان في محاذاة جسده كما هي تحمل كوب القهوة، انتبهت لاقترابها الشديدة منه ثانيةً و لتلك النظرات المرتكزة تعد هدب عيناها مصحوبة بابتسامة خافتة تعني قدرته في التأثير على مشاعرها، فابتعدت في هدوءٍ تلك المرة قائلة بثباتٍ بدا مزيف له:
” اديني القهوة بتاعتي لو سمحت ”
” لو سمحت ! إيه الأدب ده ؟ مش كُنتِ من شوية رافعة عليا قرن الغزال ! إيه اللي حصل؟ ”
قالها بسخرية وهو يبعد القهوة خلف ظهره، بينما هي تحاول أخذها بكل الطرق، فاتجه نحو خزانة الملابس و وضعها فوقها يستخف بقصر قامتها، ثُم التفت لها بمكرٍ يقول:
” طلعي روح المعلم رشدان اللي جواكِ و اطلعي هاتيها ”
” ده أنا هجيب أجلك دلوقت ”
صاحت بها في تعصبٍ أفقدها توازنها، و تهيأت لوضعية الهجوم عليه بحركات سلاحف النينجا، لتوجه له ركلة قوية في ركبته؛ جعلته يرتكز عليها بألمٍ، و قبل أن توجه الركلة الأخرى، نهض هو بغضب سيطر عليه، و رفعها من رقبتها للأعلى لتبقى قدميها معلقة في الهواء، بينما هي أخذت تضرب يده التي تقبض على رقبتها دون إصابتها بالخنق، لتحاول تحرير نفسها منه..
قرب فمه من أذنها ينفث كالثُعبان بهمسٍ يغلفه التهديد:
” لو فكرتي تتحديني تاني، ها تصحي على سؤال الملكين يا منة، و أنا بتكلم بجد المرة دي.. اتقي شري عشان أنا عدواني و شراني و غدر اليهود بيجري في دمي.. اصحي لنفسك ”
ثُم تركها تهبط على الأرض، فوقعت على جنبها مما تسبب لها بالألم، فتجاهلت ألمها و ضمت قدميها في مهارة و خفة لتنهض بسهولة من وضعيتها؛ تركله بقوة في ظهره حينما استدار ليخرج.
استطاع اغاثة نفسه من الوقوع أمامها بالتمسك في مقبض الباب، بينما هي اتسعت ابتسامتها الساخرة لتقول:
” الغدر بيجي من الضهر مش من الوش، يعني و أنت بتديني ضهرك كنت أنا بفكر في مَهرك ”
كور قبضة يده و أغمض عينيه يحاول ضبط أعصابه؛ كيلا يصب غضبه الحقيقي و الأعمى عليها، و هي في نظره ضعيفة بجسدها الأشبه بجسد الدمى..
تأملها للحظات و تأمل وجهها الغاضب..
برغم مهاراتها في القتال، لكنها في النهاية أنثى و كل أنثى لها نقطة ضعف، بل نقاط..
فكر في نفسه كيف يترك تلك الصغيرة تتلاعب به هكذا ! مرة يشعر و كأنه معجب بها، و مرة يود قتلها ! لكن الحُب ! هذا المسمى نفسه لا معنى له في قلبه.. قلبه الذي أصبح اقسى بمراحل، لقد وصل لمرحلة من الاعجاب بالذات و الغرور لا يمكن الانفصال عنها.
قال بعدما استطاع تهدئة نفسه:
” لو بتعملي كل ده عشان تدخلي دماغي و أقع في شباكك، فأنسي.. مش قُصي اللي يخضع لست.. أنا أعظم من إني أفكر في الحُب، المسمى المقرف بتاعكم ده.. أنا دماغي في حتة تانية خالص، غير الحتة اللي دماغك الصغيرة بتفكر فيها، أنتم كلكم ولا حاجة بالنسبة لي، و أنتِ بالذات متهمنيش في أي حاجة، أنتِ مجرد واحدة خدتها كوبري لمصالحي، يعني ساعة ما مصلحتي تتقضي، هتغوري في داهية، لأنك قدامي نكرة،
و لا حاجة ”
أصاب كلامه السام قلبها الهشّ، فأحزنه و جعل عينيها تتجمع الدموع فيهما سىريعًا بدون إرادتها، و رغمًا عنها ظهر ضعفها الكامن، و صاحت:
” أنت شايف نفسك على إيـه ؟! أنت واحد مريض يا قُصي.. مريض بجنون العظمة اللي هيدمرك.. أنت كمان ولا حاجة بالنسبة لي، و عمري ما فكرت فيك ولا عمرك خطرت على بالي أصلًا، أنت مش أحسن مني.. لأ.. أنا كمان زيك كنت عميلة لبلدي، و أنقذت أرواح ناس كتير، و أنقذتك أنت شخصيًا لو ناسي..أنا مش نكرة فــاهم، مش نكرة يا قُصي ”
قالت جملتها الأخيرة و انهارت مكانها تمامًا، باكية بكل قوة، حتى اهتز جسدها و ارتعش بشدة أمامه، فسار الخوف لقلبه عليها و اتجه نحوها يساعدها على النهوض، مما كورت يدها و على غفلة منه لكمته في وجهه لكمة جعلته يتراجع لوراءه بدهشة، و تحولت دهشته للغضب منها بعدما استوعب الأمر، بينما هي صرخت:
” اطلع بــرا.. بــرا، مش عاوزة أشوف وشك هنا ”
رد بانفعالٍ هو الآخر:
” اخرسي بدل ما اتغابى عليكِ ”
نهضت تدفعه لخارج الغرفة وهي لا زالت تبكي بحُرقة، و تسأله من بين بكائها:
” مخليني على ذمتك ليه لحد دلوقت طالما موضوع الفديو اتنسى ؟ هـاه ! إحنا كده كده جوازنا على ورق، طلقني و خليني ارتاح بقى ”
ابعد يدها عنه، و قبض عليهما بقوةٍ منه، يهتف:
” بمزاجي.. أنا أعمل اللي أنا عاوزه في أي وقت و بمزاجي، و إيه رأيك بقى إني مش هطلقك حتى لو سافرت ”
” ليـــه ؟! ”
” عشان محدش يتحرش بيكِ بعدي ”
رفعت كفها تصفعه على وجهه، فأنزله عنه وشدّها نحوه، ليعيد الهمس بجانب أذنها:
” بس متنكريش إنك انبسطتِ من اللي عملته..
ما تيجي نكرره، و لا أنتِ شكلك كُنتِ متعودة بقى فَحبيتِ الموضوع ! ”
بعد قوله المُر، هدأت ثائرتها تمامًا و توقفت عن الحراك، وهي تحاول ببطء استيعاب ما قاله للتو، تأملته لدقائق بدموع تغرق وجهها، كأنها تسأله من خلالها « لماذا ؟»
أما هو اتسعت ابتسامته المنتصرة، وهو يراها ضعيفة أمامه هكذا ترتجف ببكاءٍ يأبى أن يخرج حرف من فمها، ثُم قال بعد أن تركها و دفعها بغلٍ بعيدًا عنه:
” أنا زي رقم واحد في جدول الضرب مابديش حد أكتر من قيمته، و أنتِ ملكيش قيمة عندي ”
” بكرهك.. بكرهك يا قُصي.. بكـرهك ”
صاحت بها في بكاء شديد بعد أن غادر الشقة، ثُم كورت نفسها بجانب الفراش تستند بظهرها عليه و كلام ” قُصي” يتردد على رأسها، و ذاكرتها تعود لليوم العصيب الذي عاشته و ظل مرافقًا لها لوقتها هذا..
«قُدَّام النَّاس بتقول رَغِم الظُّرُوف مَش هتكسر يَا سنيني..
تُقْفَل عَلَيهَا الباب يَسْكُنُهَا خَوْف وتقول يَا حِيطَةٌ داريني..
عَيْنِي يَا بِنْتَ النَّاس دِي الشيلة صَعْبَة عليكِ، وَسَاكِنَة فيكِ الآه..
و كَانَ يَا مَا كَانَ فُلانة فُلَان، وَرَآهَا قُصَّة مِنْ الْمَاضِي
شَبَح مَجْهُولٌ ومش راضِي يسيبها تعِيش وُدَّه الْعَادِي
مِنْ الدُّنْيَا وَمِنْ الْأَيَّامِ.»
______________________♡
” ‏لم يكن أول حُب، كان أول حياة لكِلانا ”
~~~~~~~~~~~
مرت الأسابيع المتبقية على زفاف ” بدر و عائشة”
سريعًا..
الجميع في حالة تأهب و أتم الاستعداد للعرس، لقد انتهى ” زين” من ترميم المنزل بمساعدة العمال المهرة اللذين أحضرهم لانجاز العمل تحت إشرافه، و شاركت ” عائشة ” في وضع تصميمات المنزل الداخلية، و لم يدع ” سيف ” شقيقه يتولى التكلفة وحده، أما ” مفيدة ” كانت تجمع أولاد المنطقة يوميًا لتعلمهم كيفية اطلاق الزغاريد، و تجعلهم يملأون الشارع بأكمله بأصوات الزغاريد، و لم تترك ” هاجر ” ابنة عمها وحدها في الأيام السابقة، فقد أعطى ” بدر ” لعائشة بطاقته البنكية؛ لتتجول برفقة والدته و أخته لشراء مستلزمات شقتهم كأي عروس، و أحيانًا كان يذهب معها و يدعها تختار كل شيء كما تشاء..
أما في شهر رمضان المبارك الذي مر منذ أشهر قليلة، وضعت هاجر طفليها في أول أسبوع في الشهر..
لم يكن يومًا سهلًا عليهم، فقد ظل ” زياد” يجوب طرقة المشفى المؤدية لغرفة الولادة ذهابًا و إيابًا بتوتر و خوف شديد، جعل ” بدر ” يتوتر هو الآخر و يصيح فيه بنفاذ صبر
” يابني اهدى أبوس ايدك وترت لي أعصابي.. ما قولنا لك ادخل معاها، أنت اللي مرضتش ! ”
رد عليه زياد بقلق كبير:
” أنت عاوزني أشوف هاجر و هما بيحطوا المشرط في بطنها ! لأ لأ يا بدر.. لأ دي وردتي دي، ما ينفعش حد يؤذيها.. ابوس ايدك أنا ادخل هاتها، مش عاوزها تولد، خلي العيال في بطنها شوية، و هاتها يلا عشان نروح ”
تدخلت مفيدة تصيح عليه بنفاذ صبر أضحك الواقفين:
” ما تقعد خيلتنا بدل ما أقوم اديك في دماغك ”
فرك أصابعه بتوتر هاتفًا:
” طب هي كويسة دلوقت ؟ هي مش بتنادي عليا ليه ؟ بيعملوا لها إيه جوا ! أنا عاوز مراتي بقول لكم أهو، هاتولي مراتي ”
كانت مفيدة والدتها في كامل خوفها على ابنتها هي الأخرى، فقد غابت بالداخل و هذا ما قلقهم..
بحثت بعينيها على أي شيء تلقيه على زياد، فلم تجد سوى كوب ماء بلاستيكي فارغ، ألقته عليه قائلة:
” امشي ياض من قدامي.. ناقصين قلق ! امشي بقولك ”
كتم بدر ضحكته، و أخذ زياد من يده يتوجه به نحو المسجد، ليجعله يصلي ركعتين يهدئ بهما ذاته، و يدعو لزوجته..
لقد رزقها الله بالأنثى و الذكر في رحم واحد، و الاثنان أخذا الشعر الأحمر عن والدتهما، أما ملامح
الطفل ” كنان” فكانت جميلة كهاجر تمامًا، و الفتاة ” كيان” أخذت مزيج من ملامح زياد و عينيّ خالها ” سيف ” و هما الآن على مشارف اتمام الثلاثة أشهر..

” عائشة” الآن تجلس في « مركز تجميل» شهير خاص بالعرائس و معها بنات أعمامها و صديقاتها، فقد سمحت صاحبة المركز بتواجدهن معها؛ لأن
” بدر” جعل المركز تلك الليلة خاص ” بعائشة” فقط، فقط هي العروس الوحيدة التي يتم تزيينها الآن، و الكل من حولها في اهتمامٍ بها..
هذا اليوم هو يوم البدر و عائش خاصته.. الجميع تواجدوا لأجل هذين الثنائي الجميل..
استطاعت ” منة ” رسم السعادة لأجل عائشة التي أصبحت صديقتها مؤخرًا، و لم تظهر حزنها كيلا يتركوا عائشة و ينشغلون بها..
أما ” رُميساء ” فقد اكتشفت أنها « حامل» بالاختبار الذي أجرته صباح اليوم بمساعدة أختها التي جاءت لزيارتها، و لم تخبر ” كريم ” بعد..
لقد أرادت إخفاء الأمر عنه لاعداد مفاجأة له بطريقتها و بمساعدة شقيقتها التي تصغرها بعام..
و ” روان ” هي الأخرى منشغلة بتجهيز احتياجات شقتها مع ” سيف ” و الذي من المفترض إقامة زفافهما في شهر أغسطس القادم، أي بعد شهرين من زفاف شقيقه..
أما ” نورا ” أتمت الأسبوع الثالث في حملها أمس.
و المفاجأة الأكبر للجميع، و التي أسعدت قلوبهم جميعًا خروج « عصام» من المصحة و تعافيه بشكل كامل، فساعده ” بدر ” على الذهاب لممارسة الرياضة باستمرار و الصلاة في أوقاتها، و علمه كيفية الوضوء و الصلاة و تحفيظه ما تيسر من القرآن ليصلي به و لا زال يقوم بتعليمه، حتى أنه عينه
« سكرتيرة الشخصي» و دربه على طريقة العمل، و كان عصام في استجابة ممتازة لبدر، و اعتبره شقيقه الأكبر بل و أبيه أيضًا لحنان بدر البالغ عليه..
يقف ” بدر ” الآن بكامل طلته و أناقته أمام المرآة في منزله يهندم شعره الذي امتنع عن قصه مؤخرًا برغبة ” عائشة ” فأصبح طوله ملحوظ و لكن ليس كالسابق، بل طول معقول و جذاب للغاية أضفى عليه وسامة ملحوظة..
جلب ” سيف ” العطر الثمين و نثره على شقيقه قائلًا بسعادة:
” نسينا نخلي الحجة فوفه تقرأ عليك شوية قرآن و تبخرك ”
رد ضاحكًا:
” قال يعني ها تحسد ! ”
أومأ ” أُبَيِّ ” الذي كان متواجدًا معهما..
” ايوه يا بدر ما شاء الله عليك، ده أنت طالع أحلى مني في فرحي يا عم ”
ارتدى جاكيت بِذْلته التي تشكلت بأريحية مع عضلات كتفيه و ذراعيه، و ربط له سيف ربطة عنقه، فبدا و كأنما البدر ليلة كماله و تمامه..
دلفت مفيدة غرفة الرجال، و فور رؤيتها لبدر ببذلة العرس، أدمعت عيناها و أخذت تعيذه بكلمات الله التامة، ثُم قالت بدموع:
” و أخيرًا جه اليوم ده يا بدر اللي أشوفك فيه عريس ! ياه يابني.. أنا كنت مستنياه بفارغ الصبر والله.. ربنا يتمم فرحتنا بخير يا حبيبي و يجعلها زيجة مباركة عليكم يارب ”
انحنى بدر يُقبّل رأسها ليقول:
” الحمدلله يا أمي، صبرت و نُلت، نُلت عائش يا أمي، نُلت حُب عمري و عشقي الأبدي ”
ربتت على كتفه بحنانٍ و قالت:
” البنت الصغيرة اللي ربتها على ايدك و شيلتها بين دراعك أول ما اتولدت، بقت مراتك يا بدر..
عائشة العنيدة وقعت أخيرًا في حُب البدر ”
زاد كلام والدته من سعادته، فاعتدل يتأمل نفسه في المرآة و عينيه تنضج بالسعادة مُتذكرًا يوم ولادتها..
***
وقف مع والده الشيخ مُحمد في طرقة المشفى ينتظران برفقة عمه محمود ولادة ” ناهد ” زوجته، و علامات الأسى و الاعتراض تملأ وجه عمه، فضاق ذرعًا و هتف بصرامة:
” أنا ماشي، أنا مش عاوز البت دي، مش هكتبها على اسمي و لا حتى عاوز ناهد، يغوروا هما الاتنين في داهية ”
رد شقيقه بهدوء يحاول تهدئته
” حرام عليك يا محمود، البنت حتة لحمة متعرفش حاجة ولا ليها ذنب بأي حاجة، أنتم السبب، فمتاخدوش ذنب العيلة دي بذنبكم ”
تجاهل شقيقه و خرج من المشفى يشعل سيجارته في غضب، و لم يتركه أخاه و ذهب معه يحاول اقناعه و تهدئته بشتى الطرق، تاركان بدر الصغير يقف أمام غرفة الولادة التي بها ” ناهد” وحده..
صبي صغير في الصف السادس الابتدائي، لا يعلم كيفية التصرف حيال تلك المعضلات بعد، و قد جاء مع والده كمرافقٍ له، فالأخير كان يحب أخذه معه في كل الأماكن و اطلاعه على مختلف الأمور، و لم تستطع مفيدة القدوم معهما، لاعتنائها بطفليها ” هاجر و سيف “..
و أثناء غياب والده و عمه، وُلدت ” عائشة” و وصل صوت بكائها لأُذنيّ بدر، فالتفت يبحث بعينيه في براءة و تيه منه عن والده و عمه، و عندما لم يجد أحدًا منهما..
اتجه هو بقلبٍ حائر رقيق يأخذ المولودة من الممرضة بعد أن البستها و دثرتها بالغطاء..
لم يعرف ماذا يفعل، ظلت تبكي بين ذراعيه وهو يهزها برفقٍ خشية عليها الأذى، و عندما تذكر ما فعله والده عند استقبال ولادة هاجر شقيقته العام الماضي و من قبلها سيف، أخذ يؤذن بصوتٍ هادئ.. الله أكبـر الله أكبـر..
و عندما انتهى، و بدأت هي في الهدوء؛ تبسم لها حينما وضع اصبعه الصغير في يدها البيضاء فقبضت عليه بقوة جعلت ابتسامته تتسع متذكرًا هاجر عندما تفعل مثلها كلما كان يضع اصبعه في يدها الصغيرة، غير مدركًا أن تلك حركة عفوية تصدر من الأطفال حديثي الولادة..
تنهد هامسًا بلُطفٍ أمام وجهها:
” عائـشة.. اسمك عائشة.. عائـش ”
***
” عائش، عويش خاصتي ”
قالها بابتسامة مرحة، فهتف سيف من خلفه:
” إيه يا باشا سرحت فين ؟ ”
” فيها ”
” خلاص هانت، كلها ساعات و تبقى معاك إن شاء الله ”
” بحبها أوي يا سيف، بعشقها ”
أردف بها وهو يتأمل عينيه التي تنضج منهما لمعة العشق الطاهر، فقال سيف بموافقة:
” و أنا كمان بحبها أوي ”
التفت له بدهشة:
” هي مين ؟ ”
” مراتي اللي لسه مبقتش مراتي، مهو مش أنت لوحدك العاشق المجنون، أنا كمان بحب رواني عشقي وغرامي زي المجنون ”
قالها سريعًا قبل أن يفتك به شقيقه، بينما عصام أقبل عليهم يقول بأدبٍ:
” بدر، العربية وصلت ”
رد سيف غامزًا له:
” إيه ياض الأدب ده ! فاكر إما كنت بتقول عاوز أعمل فطيرة ”
رمقه عصام بعدم فهم غير متذكر تلك الأحداث، بينما أُبَيِّ خرّ على نفسه من كثرة الضحك يقول:
” ده أنت الله يسامحك بوظت لي كتب كتابي، كنت عامل فيها فتحية كشري في فرح سنية بنت الحج عبد الغفور البرعي، و طلعت كيسة سودة عشان تلم الأكل من قدامنا ”
نظر لهما بدر في تحذيرٍ:
” اتقوا الله أنتم الاتنين، ابننا زي الفل، أنتم اللي دماغكم طقة ”
ثُم تركهم، و خرج يرى ما أعده لحبيبته من مفاجآت..

في يوم ما ذكرت له عائشة في مزاح، أنها تتمنى أن يصمم لها عربة مثل عربة سندريلا يوم زفافهما، و لم تتوقع أن بدر سيقوم بتحقيق أمنيتها.. !
صمم لها عربة تفوق جمال عربة سندريلا بواسطة أمهر الصناع، عربة بيضاء صممت بالكامل يدويًا من الفولاذ القوي، لها بالون يشبه اليقطين المجسم الكبير الذي يتخذ شكل عربة ملكية زرقاء متلألئة مزينة على شكل حلزوني و أضواء متلألئة، و حرص على جعلها مغلقة من كافة الجوانب مثل عربات الأميرات قديمًا؛ حتى لا تنكشف على أحد لعلمه أن مثل تلك الأشياء الطريفة، يتهافت عليها الناس لتصويرها، و أراد بذلك أن يخفي عائشة عن أعين الجميع، المهم سعادتها هي عندما تعلم أنه حقق لها أمنيتها الشبه مستحيلة كما تقرّ هي..
أما الحِصانان فكانا بيضوان جميلان للغاية، و تم تزيين شعرهما بالورود ذات اللون الوردي، كما تم تزيين العربة كذلك..
و جعل بدر ” زين ” أخيها هو السائق، لعلمه بجنون عائشة و ما ستفعله داخل العربة..
انطلق ” زين ” بالعربة وهو يكاد يبكي من فرط الخجل، عندما بدأوا المارة يحدقون به، و كأنه هارب من أحد أفلام ديزني خاصة فيلم سندريلا !
بينما ” بدر ” ركب بجانب سيف في سيارته لحين الوصول لمركز التجميل، و من خلفهم بقية الشباب بسياراتهم، لاسيما سيارة قُصي السريعة التي تخطى بها سيارات أولاد أعمامه و فتح النافذة، ليخرج يده بمفرقعات يلوح بها في السماء مصدرة أضواء كثيرة..
بداخل مركز التجميل، ارتدت ” عائشة” فستان مصمم خصيصًا من أشهر المصممين الايطاليين اللذين تعرف عليهم بدر في آخر صفقة عمل له مع المهندس مرتضى في ايطاليا، و الذي وصل له عن طريق ممول لأفرع الشركة بالخارج.
الفستان أشبه بأن يكون فستان ملكي تمامًا.. فقط نظرة عليه تسلب العقول و تذهل العيون من شدة جماله، له ذيل طويل مرصع بالالماس المزيف و الذي تشابه مع الحقيقي، فجعله قمة في البهاء..
مصنوع من الحرير الخالص يستر كامل جسدها مع غطاء للرأس شبيه بغطاء المنتقبات، ارتدته ليستر شعرها الذي تركت له العنان خلفها..
“عائشة” الآن أقل ما يقال عنها أنها أميرة جميلة بحق..
نهضت أخيرًا ليقوموا بتعديل هيئتها و فستانها الطويل، بينما ” زين ” حمحم و دلف يأخذها من يدها يسلمها لعريسها، و عندما رآها شهق غير مصدق ما تراه عينيه:
” أنتِ مين ؟! لأ إيه ده بسم الله ماشاء الله، برنسيسة والله.. ده بدر هيقع من طوله لما يشوف الجمال ده كله ”
هتفت في مرح:
” إيه رأيك بقى في أختك المزة ! حتى مش حاطة ميكب كتير ”
تقدم يضع قُبلة صغيرة على جبينها، ثُم أنزل غطاء وجهها ليجعلها تتأبط ذراعه وهو يقول:
” أقولك الصراحة، بدر طالع أحلى منك بمراحل.. ”
وكزته تقول بتوعد:
” ايوه ما أنتم رجالة زي بعض، بكرة تتجوز إن شاء الله و هغتت عليك برضو ”
أشار ” زين ” له بالمجيء لأخذها منه قبل أن تنزع فستانها و تركله في مؤخرته، فجاء في الحال بتوتر اتضح أثره عليه، و عندما وقعت عينيه عليها بفستان الزفاف؛ تسمر مكانه لدقائق يبتلع ريقه بصعوبة في محاولة منه لاستيعاب، أن متمردته الصغيرة أصبحت زوجته حقًا الآن و اليوم ستصبح إمرأته شرعًا..
****
” اطلبها من عمك يا بدر، قوله أنك بتحبها ”
رفع بدر وجهه يتطلع لوالدته التي تعرف خفاياه و ما بداخل ثنايا قلبه.. نظر لها بدهشة ثم أخفض رأسه خجلًا، و أردف:
” هي مش بتحبني يا أُمي، و لا أنا قلبي قادر يتخطى حُبه ليها ”
” القلوب كل ساعة في حال يا بدر، و اللي خلاك تحبها قادر يخليها تحبك.. الصبر يا ابني ”
****
وقف يتأملها بانبهار طغى على ملامحه، و قسمات وجهه السمراء الجميلة تطالع بزيغ سُحر بسحر جمالها الساحر فجعلته مسحورًا بها، بها هي فقط.
قلبٌ الأسمر العاشق ينبض كأنه طبول تقرع فرحًا وليس وجلًا..
زاغ بصره عليها، و تاهت عيناه بل و ضاعت شاردة في جمالها الأخَّاذ.. أخذه أخذًا لعالم رائع من صنع مخيلته، يتخيلها في عالم يجمعهما وحدهما و عنوانه ” يُناديـها عائش ” و يظل في هذا العالم الخيالي يُناديها عائش؛ ليثبت أنها مُدللته و عويش خاصته هو فقط..
همس بابتسامة مسحورة بجمالها الرقيق بعدما اقترب منها تمامًا و أزال عنها غطاء الوجه:
” آهٍ عائش.. لو كان للعشق اسم آخر لأسموه عائش، مُهجة الفؤاد و أسيرة قلب البدر و ساحرته المجنونة.. ”
تابع و عينيه تتأملها بثباتِ لا يرف له جفن:
” أنا اليوم أمير لكِ و أنتِ سندريلا خاصتي ”
امتد التواصل البصري بينهما للحظات، جعل الدموع تتجمع سريعًا بفرحة طغت عليه و تهللت لها أسارير وجهها.. همست بنبرة عاشقة حقيقية:
” كل الأشياء باتت بجوارك آمنة يا بدر، حتى قلبي ”
****
أرسلت له قُبلة ساخرة في الهواء، فوجئ هو بها
” جود باي أبيه بدر، أمير جاي كمان نص ساعة عشان يطلبني من بابا، من هنا و رايح مش ها يبقى لك حُكم عليا، أنا لأميري و بس ”
” أقسم بالله ما هترتاحي غير إما أعمل فيه زي ما هتلر عمل في اليهود ”
****
بينما الذاكرة تعود بهما للوراء منذ أن اشتعل قلب بدر بعشق ابنة عمه، احنى رأسه يضع قُبلة عميقة على جبينها متبوعة بقوله:
” أنتِ رفيقة نبضات القلب، و مؤنستي يا عائش”
****
اقتربت عائشة منه أكثر لتقف أمامه مباشرةً، تنظر في عينيه بحيرة هامسة
— ليه بتناديني عائش !
” لأنِك مُدللتي ”
****
” هو أنت إيه اللي جابك !! جاي الكلية بتاعتي بمنظرك المقررف ده ليـــه ؟؟ هتشمت فيا صحابي و تفضحني قدام النــاس.. ابقى في كلية هندسة وليا ابن عم بيصلح عربيات.. حاجة تقرف
هتف بدر بهدوء متغاضيًا عما تقوله من تفاهات بالنسبة له، عادة لا تنجح في استفزازه و هو يعلم جيدًا أنها تكثر هذا القول الغليظ له لتستفزه، و لكنه يبقى محافظًا على هدوئه و ثباته الانفعالي و هذا ما يزيد غيظها.
” ابقي قوللهم إني السواق بتاعك ”
ردت بتعصب
“ده على أساس أنهم مش عارفينك ؟؟
و بعدين أنا مبقتش صغيرة عشان توديني وتجيبني”
“مهما كبرتي ها تفضلي صغيرة بالنسبة لي”
*****
قالت بدموع حقيقية وهي ترفع يدها تداعب به لحيته المهندمة:
” كُنت غبية لما كُنت برفض حُبك ليا، أنت بحُبك يا بدر رجعت لي حياتي الضايعة.. أنا مش بس بحبك، أنا عشقانة يا ابن عمي ”
دندن بصوته الجميل الذي طرب مسامع بنات أعمامه فأخذن يتهامسن باعجابٍ بهما..
” أنت هدية رب الدنيا وخلاصة قدري..
إن جفت أرضي يا سمائي كوني لي مطري عاهدت أهواكِ وهذا عهدي للأبدِ.. عاهدت أهواكِ وهذا عهدي للأبدِ ”
أبدعت و أبهرت مسامعه بقولها المتزن الصادق النابع من قلبها:
” كُنت مُتعَبة، ولا أدرِي لِأي دَارٍ أرتَمِي.. كُل الأمَاكِن لم تكن مَوطِني، أما الآن أنت موطني، و كل الأماكن الآمنة يا بدر ”
تدخل زين و صفق بكفيه ليرد لهما وعيهما هاتفًا:
” جوز الكناريا اللي نسوا نفسهم و نسونا معاهم ! إيه ! نلغي الفرح ولا إيه ؟! ”
أعاد بث قُبلاته على جبينها، ثُم أخذها من يدها برفقٍ يجعلها تتأبط ذراعه نحو عربة سندريلا التي جهزها لها
****
قام قلبه بإخْرَاجُ نَفَسٍ بَعْدَ مَدِّهِ بِتَأوُّهٍ مَشْحُونٍ، لتتجلى بذلك تنهيدة مِلْؤُهَا الألم، مُحدثًا ذاته المتهالكة:
” وَيْحَكَ يا بدر، الوَيْلُ لك يا رَجُل إن لم يعفو عنك الله وَ يَرحمُك من هذا العشقِ المَكْلُوم ”
****
” بقولك ايه ياسطا بدر.. أنت عندك بيدوفيليا صح ! مهو عيب على سنك تبص لواحدة في سني.. أنت بتيجي البيت هنا عشان تاخد مني أي حاجة صح ! ما أنت اللي زيك يتقال عليهم ياما تحت السواهي دواهي.. ”
اتسعت عيناه بدهشة ليقول
” أنتِ ايه اللي بتقوليه ده ! أنتِ عبيطه ؟
___
شهقت بشدة و شردت ببصرها عندما رأت عربة سندريلا تقف أمامها..
هتفت بقلبٍ أخذ يخفق بسرعة و بعدم تصديق:
” بتهزر ! لأ أنت أكيد بتهزر ! عربية سندريلا اللي كان نفسي فيها ! مش معقول يا بدر !
تعرف.. أنت تستاهل أرقص لك ”
” هو ده اللي ربنا قدرك عليه ؟ ”
قالها في مزاح، فتجاهلته و كادت أن تتجه نحو الحصانان لمداعبتهما، و لكنه أوقفها سريعًا بتوسل:
” بالله عليكِ بلاش جنان دلوقت، إحنا في الشارع و المفروض إنك عروسة رقيقة.. لما نروح إن شاء الله ها اجيب لك حصان لعبة تلعبي بيه ”
” ما تركب أنت في العربية و أنا أركب على الحصان ”
” لأ أنا مش هركب على الحصان ”
” اومال هتعمل إيه ؟ ”
” هلطم على وشي.. يابت ما تبوظيش اللحظة بدل ما أكلك لكمة في دماغك ”
امتثلت لأوامره، و قررت اكتشاف العربة من الداخل.. ساعدها بدر على الصعود، بينما كانت هاجر تحمل ذيل الفستان لها، و وضعته بجانبها، لتنطلق العربة و ينطلق خلفها وابل السيارات..
أزالت غطاء الوجه عنها و من شدة فرحتها، أخذت تصفق كالمجنونة تمامًا وهي تصيح:
” سيد يا سيد.. سيد جيت أبوسه قام لاوي لي بوزه و سيد يا سيد”
لطم بدر وجهه بخفةٍ و تمتم باستسلامٍ:
” سيد إيه بس في الليلة دي ! ”
صاحت بضربة على فخذه صدم هو لها:
” منور يا أبو البدور.. ايوه يا عم الليلة ليلتك و محدش قدك ”
” هو أنا مجوز واحد صاحبي ! ”
غمزت له متابعة بمرح:
” ايوه يا عريـس ”
” على فكرة، أنا فرحي عليكِ أنتِ مش واحدة تانية والله.. ”
بدأت بالاستيعاب أخيرًا و الحمدلله التزمت الصمت لحين وصولهم للقاعة..
القاعة أمام بحر المنصورة الرائع، قاعة مقسمة لطابقين قمة في البهاء و الرُقيّ..
أعد ” بدر ” حفل زفافه بطريقة مختلفة، فعند وصوله مدخل القاعة و عائشة تتأبط ذراعه و وجهها مخفي بالكامل بالغطاء الأبيض.. بدأ في استقبالهما الفرقة الاسلامية التي أحضرها بدر لاحياء العُرس..
تشكلت الفرقة من أربعة عشر رجل من بينهم أجانب مسلمون، جميعهم يرتدون بِذل سوداء جعلتهم غاية في الأناقة.. انقسموا لقسمين، قسم مكون من سبعة رجال على اليسار و اليمين السبعة الآخرون، ليرفعوا جميعهم الدف و بدأت صوت الهمهمات تعلو و النغمات الصادرة منهم
” هممم”
تعلو و تعلو فشكلت صوت عزفٍ بل و أجمل من العزف الموسيقي.. رائع، و أخذوا جميعًا ينشدون على طريقة « سامي يوسف»
اللهم صلِّ على
سيدنا محمدٍ النبيِّ الأُميِّ
و على آلهِ و صحبهِ و سلِّم..
و تم اعطاء ميكرفون لبدر، لينضم لهم بصوته و عائشة تتعلق في يده بساعده تستمتع لصوته الجميل الذي غطى عليهم جميعًا..
«اللهم صلِّ على
سيدنا محمدٍ النبيِّ الأُميِّ
و على آلهِ و صحبهِ و سلِّم
اللهم صلِّ على
سيدنا محمدٍ النبيِّ الأُميِّ
و على آلهِ و صحبهِ و سلِّم»
و عند المقطع الذي سيتم الانشاد فيه باللغة الانجليزية، صمتوا جميعًا ليتولى ” بدر ” الانشاد باتفاق مسبق معهم، فكان أيضًا من بين الحضور الكثير من الأجانب المسلمون و غيرهم ممن يجمعهم العمل مع بدر، و اللذين أعجبوا كثيرًا بالزفاف و بطريقة دخول العروسين المحتشمة..
و بعض لاعبي النادي الأهلي، اللذين جاءوا مباركة لسيف، و الكثير من رجال الأعمال أيضًا..
« OH.. My Lord
My sins are like
The highest mountain
My good deeds
Are very few
They’re like a small pebble
يا ربي
خطاياي مثل
أعلى جبل
أعمالي الصالحة
عددهم قليل جدًا
إنهم مثل حصاة صغيرة..»
Ya Allah
Send your peace and blessings
On the Final Prophet
And his family
And companions
And those who follow him
يا الله
أرسل سلامك وبركاتك
على النبي النهائي
وعائلته
والرفاق
ومن تبعه» صلّ الله عليه و سلم.
ختم نشيده بالصلاة على النبي، ثُم تركهم يكملون إنشاد الأناشيد الخاصة بالزفاف الاسلامي، و توجه بعائشة يصلها للطابق الخاص بالنساء..
و قبل أن تجلس، تم اسدال ستارة كبيرة بإشارة من بدر تحجب الرؤية عن النساء جميعهن و عنهما، فقط هما وحدهما في منصة الرقص، و انطفأت الأضواء و استبدلت بأضواء تشكلت على هيئة نجوم تمامًا، و بالتصميم المبهر بدت المنصة و كأنها فوق السحاب محاطة بالنجوم المتوهجة..
نظرت عائشة حولها بدهشة، و اثناء تعرفها على المكان من جديد، تقدم بدر تجاهها و وضع يده خلفه ظهرها، ثُم احنى جسده بطريقة معروفة قائلًا:
” تسمحي لي بالرقصة دي ؟ ”
عرفت على الفور أنه عزم على تحقيق كل ما تمناه قلبها، فقد تمنت أن يرقص معها رقصة رومانسية و يغني لها أغنيتها المفضلة التي كانت تسمعها قبل اعتزالها الأغاني، و بعد عدم سماعها للأغاني، كانت تغني هي بصوتها المزعج بها أغلب الوقت..
بسط لها كفه، فوضعت يدها برقة في كفه الأيسر، بعد أن ازالت الغطاء و اظهرت شعرها المُزين، و قام هو بإزالة ذيل الفستان الطويل من الخصر، ليصبح فقط الفستان نفسه هو المتبقي دون أي عوائق تعيق رقصتهما سويًا..
وضعت يدها على كتفه، فانحنى انحناء بسيط و حملها يوقفها على قدميه قائلًا بابتسامة جذابة:
” كان نفسك في الرقصة دي مش كده ! ”
أومأت باسمة بسعادة عارمة، فتابع:
” و أنا موجود عشان أحقق لك أحلامك ”
تأملها للحظات قبل البدء في الغناء لها بصوته، و كأن رجل البدر يراها لأول مرة.. تساءل بحُبٍ:
” إيه أحلى جملة غزل سمعتيها مني و حبتيها ”
فكرت لثوانٍ، لتجيب:
” للمسلمين قُدس و أنتِ قُدسي ”
” و رب القدس و رب فلسطين و رب العبادُ أجمعين، هفضل أحبك ليوم الدين ”
قالها، ثُم صدح صوته وهو يراقصها برقة و بتناغم مع ما يطرب به مسامعها..
قاطعته قبل أن يكمل:
” إحنا كده هنغيب عنهم، الناس هتقول إيه؟ ”
” و أنا مالي و مال الناس، الناس للناس، و أنتِ كل الناس ”
تبسمت في رقةٍ، بينما هو تمايل بها لليمين و لليسار بهدوء، و لسانه يتحرك بكلماتٍ تضفي على رقصتهما العاطفة الجياشة..
« و ماله لو ليلة توهنا بعيد وسيبنا كل الناس
أنا يا حبيبي حاسس بحب جديد، ماليني ده الإحساس
وأنا هنا جنبي أغلى الناس، أنا جنبي أحلى الناس»
وضعت رأسها على كتفه و أدمعت عيناها رغمًا عنها..
****
— و الله حاسس إن عائشة هتوب على ايدك و هتتجوزوا و تجيبوا زياد صغير
تنهد قبل أن يقول مبتسمًا
— أخليها تقرب من ربنا اه.. أنا فعلًا بسعى لكده بس خطوة خطوة ..الدين يُسر … لكن اتجوزها. لأ.. عائشة مش شيفاني غير إني عمها..فارق معاها سني جدًا… فأكيد هترفض تتجوزني…رغم إني بحبها بس هخلي حبي ده في قلبي وخلاص.. يكفيني إنها تبقى قريبة من ربنا..مش عايز حاجة تاني.
*****
«حبيبى ليلة، تعالى ننسى فيها اللي راح
تعالى جوا حضني وارتاح، دي ليلة تسوى كل الحياة
وما لي غيرك ولولا حبك هعيش لمين ؟
حبيبي جاية أجمل سنين وكل مادى تحلى الحياة»
*****
أغمض عينيه متنهدًا بضعف ثم قال وهو يقترب منها حتى انمحت المسافة بينهما
“حبي ليكِ حقيقي.. حُب صادق هقدر أمحي بيه الماضي كله.. بس محتاج مساعدتك”
همست بضعف مماثل
–عايزني أعمل ايه يعني ؟
–مش عاوز غير إنك تحبيني من قلبك
–أنا بحبك فعلًا يا بدر
هز رأسه بنفي و بدت على ملامحه الإنطفاء ليقول
–أنا مش ساذج يا عائش عشان أصدق إنك حبتيني بالسهولة دي ومن كام يوم مكنتيش طايقاني.. أنتِ حبيتي اهتمام بدر.. حنية بدر.. حبيتي تعلقي و احتوائي لكن محبتيش بدر
رمقته بنظرات حائرة، فتابع وهو يمسك يديها يبث فيهما الطمأنينة
“عايزك تحبيني أنا.. لو جيت في يوم تجردت من الاهتمام والحنية وتحولت لشخص صارم..قاسي.. ما تبعديش عني أنا متأكد إن عمري ما هبطل أحبك.. بس مش متأكد من ثباتي، بحاول مخسرش نفسي.. أنا وزعت كل الطاقة اللي عندي وما بقاش ليا جزء حتى صغير يخليني اقاوم الهزيمة.. أنا مستقوي بيكِ.. وجودك جنبي اللي مصبرني على قساوة الدنيا.. أنا وزعت نص الحُب على أهلي والنص التاني بحبك بيه أو تقدري تقولي بحبك أضعاف فوق ما تتخيلي.. ربنا وحده اللي عالم مقدار حُبي ليكِ.. فمتبقاش لنفسي جزء صغير حتى أحبني بيه.. عايزك تقفي جنبي تساعديني أستعيد نفسي اللي خسرتها مع المشاكل اللي فاتت.. معاكِ هقدر أعدي أي حاجة صعبة.. أنا متأكد من كده.. بس محتاج لده يحبني
” قال جملته الأخيرة وهو يشير لقلبها، ثم أدمعت عيناه رغمًا عنه ليكمل كلامه بوهن”
–الحُب هو إن ألاقيكِ جنبي في أصعب الأوقات.. إن أكون متمرمط و طالع عيني و كلمة حلوة منك تقويني.. الحُب هو إنك تسنديني وقت ما أتعثر و أقع.. الحُب إنك تفهميني من غير ما أتكلم، و تسمعيني لما أكون مهموم.. إنك تعامليني كطفل محتاج لحضن أم يطمنه ودفء أبوي يحتويه.. هو ده الحُب اللي بطلبه منك يا عائش.. مش عاوزك تحبيني كوني بفرحك بهدية أو براضيكِ بخروجة.. مش عاوز حُبك ليا يكون بسبب.. عاوزك تحبيني لذاتي..
******
أنزلها من على قدميه، ثُم لفها لتعود بخفة بين ذراعيه، بينما هو مستمر في غنائه..
« حبيبي المس إيديا عشان أصدق اللي أنا فيه
ياما كان نفسي أقابلك بقالي زمان، خلاص وهحلم ليه ؟
ما أنا هنا جنبي أغلى الناس، جنبي أحلى الناس»
*****
“– الله.. ده جميل أوي.. أنت اللي اختارته ؟
أومأ بحُب، فـإندفعت بتلقائية وتعلقت برقبته كالصغار تعانقه
— ذوقك حلو أوي.. شكرا يا بدر شكرا..
ابتعدت عنه و أخذت الفستان لترتديه و تراه على نفسها.. أما هو فكان في عالم آخر كأن سعادة البشر تجمعت في قلبه حين رآها سعيدة هكذا.
ارتدت عائشة الفستان ونادته ليراه..
ابتسم بعفوية و صدقت مخيلته حين صور له ذهنه أن هذا الفستان قد صُمم خصيصًا لها.
ظلت عائشة تدور بالفستان وهو يدور معها كـأميرات ديزني وصوت ضحكاتها تملأ الغرفة، بينما هو ظل يراقبها و قلبه يتراقص من السعادة”
******
فتحت ” عائشة ” الباب بحذرٍ و أدخلت رأسها داخل الغرفة تقول بابتسامة بلهاء:
” بدوري ممكن أدخل ؟ ”
تفاجئ من فعلتها و تأملها للحظاتٍ بدهشة، ثُم تحولت ملامحه للضحك دون صوتٍ عليها، و قال:
” أنتِ دخلتي أصلًا يا عائـش ! ”
تصنعت الاحراج المزيف، و أخرجت رأسها ثم أغلقت الباب، و عادت تقول وهي تنقر على الباب بخفة:
” بدوري ممكن أدخل ؟”
أتاها صوته المهزوز، و كأنه يحاول كتمان ضحكته عليها:
” اتفضلي يا عائش ”
******
انتهت رقصتهما، و أنزلها برفقٍ و عينيه تتابعان تأثير الفرحة عليها.. انفرجتْ شفتاه عن ثناياه ضاحِكًا دون صوت، ثُم اقترب أكثر منها و همس بصوتٍ بالكاد تسمعه هيَ ومن غيرهما متواجد معهما:
” و أخيرًا وقعتِ في غرام البدر يا عائش”
” دي الوقعة الوحيدة بالنسبة لي الصح ”
” ابن حزم الأندلسي قال واعلم أن للحُبّ حُكمًا على النفوس ماضيًا وسلطانًا قاضيًا وأمرًا لا يُخالَف وحَدًّا لا يُعصى ومُلكًا لا يُتعدَّى، و أنا حُبي ليكِ حكم على قلبي بالعشق الأبدي ”
أحاط وجهها و أضاف:
” ها تفضلي عائش مُهجة قلبي و مُدللتي للمشيب حتى سويًا نشيب ”
” و ها تفضل تناديني عائش حتى بعد ما أكبر و شعري كله يبيض ! ”
” أنا من يوم ما شفتك و عقلي ادى أمر لقلبي بحاجتين اتنين، الأولى إني اعشقك و التانية إن العقل قال للقب صاحب القلب لازم يفضل
” يُناديها عائـش” عشان تفضلي مُدللتي للأبد ”
…. و تركها بعد مدة قصيرة، ثُم اتجه لقاعة الرجال، بينما هي انضمت للنساء ترقص معهن، حتى انتهى الزفاف و فوجئت بالمفاجأة الثالثة التي أعدها لها رجلها البدر.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية يناديها عائش)

‫3 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *