روايات

رواية بك أحيا الفصل الرابع والستون 64 بقلم ناهد خالد

رواية بك أحيا الفصل الرابع والستون 64 بقلم ناهد خالد

رواية بك أحيا البارت الرابع والستون

رواية بك أحيا الجزء الرابع والستون

بك أحيا
بك أحيا

رواية بك أحيا الحلقة الرابعة والستون

“اختبار حب”
طوق نجاة “بكِ أحيا”
ناهد خالد
” قلبي ينزف, وعيني تدمي, وروحي تصرخ كعلو صوتي, والعجز يتملكني, لا أنا قادرة على السماع لعقلي, ولا قادرة على مطاوعة قلبي, لأقف بينهما حائرة ومشتتة والعقل غاب مع تملك الرعب والفزع لزمام الأمور, ليعلو صوت القلب فوق أي صوت آخر, ومشاعري تعلن الانتصار…”
وقفت بعد قطع شوط قصير في الممر المظلم حين توقفت أصوات الطلقات, وتوقف صراخها فجأة, فقط صوت شهقاتها وتنفسها العالي هو ما يبدد الصمت المحيط, ركعت على ركبتيها بوهن تبكي بقوة كأنها لم تفعل لسنوات, ورغم علو صوتها الباكي إلا أنها تسترق السمع للخارج لترى إن كان سيستمر الصمت أم سيعود الصوت يصدح ليزلزل كل ذرة بها, كانت تبكي بتشتت, تبكي تارة وتضرب الأرض بكفيها تارة أخرى رغم أنها لا ترى شيء, وفجأة صمتت وكتمت صوت بكائها وعقلها يفكر “ماذا إن كانوا نجحوا في قتل مراد لذا صمت الصوت؟؟” جحظت عينيها بفزع وقد توقف صوت نحيبها على الفور, وهي تردد بتشتت:
– مراد… اكيد.. اكيد عملوا فيه حاجه… لا, لا.
رددتها بارتعاش وهي تنهض رغم وهنها لتتخبط بين جنبات الممر وهي تعود أدراجها, حتى بدأت ترى النور من فتحت الباب, فوقفت وعاد عقلها يعمل..
” إن قتلوه فبالطبع دلفوا للفيلا وإن خرجت الآن ربما ستجدهم في وجهها, وربما قتلوه وذهبوا بعد أن انهوا مهمتهم وعليها إنقاذه, وماذا إن أخذوه معهم؟ وماذا إن لم يذهبوا لمعرفتهم بوجودها والآن حتمًا يبحثون عنها!” كل هذا واكثر دار في عقلها وهي تنظر لفتحة الباب وكأنها كابوس بشع, وعقلها لا ينفك عن التخبط, وقلبها يحثها على الصعود والذهاب إليه علّه بحاجتها ولن تلحق أن تأتي له بمساعدة إن خرجت من هنا, وبين كل هذا سيطر عليها خوفها وفزعها عليه وعلى حالته الآن لتضع كفها على بطنها تحدث نطفة لم يُدب فيها الروح بعد وبصوت مبحوح و نبرة مختنقة:
– عارفه إن المفروض اهرب عشانك, بس كمان عارفه إن وجودك ملوش لازمة لو خسرت ابوك بسببي وأنا كان في ايدي انقذه, دايمًا هقول يمكن كنت قدرت انقذه لو رجعت ومهربتش, مش هقدر… مش هقدر اهرب واسيبه من غير ما اعرف حصله ايه..
وتخبط عقلها مرة أخيرة, لينحيه القلب وهو يعلن انتصاره, وتدفعها مشاعرها لنجدة حبيبها ومن لم يتوانى يومًا عن تقديم كل ما في وسعه لها, لتهز رأسها عدة مرات كأنها تقول أنه لا فائدة وقالت بقرار أخير:
– أنا آسفة لو بقراري ده خسرتك… بس معنديش استعداد اخسره.
وخطت خطواتها الأخيرة لتخرج من الباب باندفاع أهوج دون الحذر حتى, وما إن خرجت ووجدت لا أحد في المطبخ رفعت سلاحها الذي تركته عند باب الممر في وضع الاطلاق وأخذت تختبئ في حوائط المكان وتحاول استراق النظر للمكان قبل أن تتحرك له…
وما إن خرجت من المطبخ و حاذت حوائط الممر المؤدي للصالة وهي تتلفت في رعب وكفيها يرتعشان خوفًا ما أن تصدم بأحد فجأة, حتى أصبحت ترى الصالة الواسعة فثبتت قدميها أرضًا وفغر فاهها بصدمة وفزع كجحوظ عينيها وهي تراه غارقًا بدمائه أرضًا نائمًا على ظهره ورأسه مائلة, عيناه مغلقة, وذراعيه ملقيان بجواره كأنه جثة هامدة فارقت الحياة, وفوق رأسه يقف ثلاثة رجال بأسلحتهم, ورجل منهم يتحدث عبر الهاتف….
قبل خروجها, وما إن توقفت طلقات الرصاص حين صدح صوت أحدهم يقول عبر جهاز الاتصال اللاسلكي الذي يصلهم ببعضهم عبر الأذن:
– المهمة تمت, انسحبوا في هدوء وأنا هتأكد ان كله تمام.
فصدح صوت آخر يقول:
– بس يا باشا لسه مراته, احنا مشوفنهاش ماتت.
ليقول بهدوء:
– قولت انسحبوا انا هخلص كل حاجه انا والرجالة اللي معايا, والباقي ينسحبوا فورًا اكيد حد من الكمبوند بلغ الشرطة عشان أصوات الرصاص دي, واحنا قولنا المهمة متاخدش معانا 10 دقايق قبل ما الشرطة تقدر توصل.
– تمام يا باشا هننسحب.
وبالفعل انسحب الجميع سوى المتحدث الأول والرجلين المرافقين له, تسللوا بهدوء لداخل الفيلا حتى وصلوا اليهِ قام أحدهم بتحريكه وعدله على ظهره بعد أن كان ساقطًا على وجهه ليسأله الرجل الأول:
– لسه عايش؟
وضع الرجل اصبعه موضع نبض “مراد” ليقول بعدها:
– ايوه يا باشا.
هز رأسه وهو يتنهد بقوة قبل أن يقول للرجلين:
– اطلعوا دوروا على مراته فوق.
وبعد دقائق قليلة عادوا أدراجهم يقولون:
– ملقنهاش فوق يا باشا.
وقبل أن يأمرهم بالبحث في الطابق السفلي استمع لرنين هاتفه ليجيب:
– ايوه يا دياب..
اتاه صوت الآخر يسأله:
– ها عملت ايه؟
– تمام, هم دلوقتي وصلهم خبر بالتصفية.
سأله “دياب” بترقب:
– وهو؟
نظر له مقيمًا حالته:
– يمكن يعيش.
استمع لزفرة الأخير قبل أن يقول:
– انقله المستشفى اللي اتفقنا عليها.
– مش هينفع انقله انا.. أنتَ عارف إن عربياتنا وتليفوناتنا متراقبة بالgps, لكن كلمت غسان دقايق وهيوصل, انا أخري هيكون هنا.
– مفهوم, طب ومراته؟
نقل بصره بين ارجاء المكان ثم قال بملل:
– مش ظاهرة, بس هنلاقيها.
اغلق الهاتف ليلتفت لرجاله يقول:
– دوروا عليها هنا…
وقبل أن يتحرك أحد منهم سمعوا صوتها يقول بارتعاش واضح:
– محدش يتحرك من مكانه…
وقبلها كانت قد استفاقت من صدمتها بصعوبة وهي لا تعلم هل ما زال حي أم لا, لكن كل ما تعلمه أن عليها إنقاذه, عليها التحرك فورًا فلا وقت للانهيار الآن, وما إن سمعت أمره لرجاله بالبحث عنها حتى تجلدت وهي تخرج من خلف الحائط رافعة سلاحها وكفها يرتعش رغم محاولتها لإظهار القوة, ولكن تخونها نظراتها لتركض لجسده الهامد أرضًا تارة ولهم بتشتت تارة, هتف الرجل الذي كان يتحدث في الهاتف بهدوء:
– اهدي يا مدام خديجة, احنا مش هنأذيكي ولا هنأذيه.
صرخت بهِ كاللبؤة الشرسة ودموعها تتهاوى بقهر:
– اومال انتوا عملتوا ايه؟ انتوا قتلتوه…!!
– بس هو مماتش, اهدي صدقيني انا هنا عشان اساعدك.
نفت برأسها بقوة وهي تقول بتهديد:
– اطلعوا بره, بررررره..
– مش هينفع نخرج, لو خرجنا مش هتعرفي تلحقيه هيموت منك, ولو لحقتيه هيموتوه في المستشفى لو عرفوا انه لسه عايش وعرفوا في مستشفى ايه.
تاهت نظراتها وهي تسأله بتعب وبدأت ترى الصور متداخله:
– هم مين؟
– يا مدام انا مع مراد مش ضده, انا هنا عشان انقذه صدقيني.
سألته بتشتت وضياع:
– ليه اصدقك؟
ابتسم لها ببرود يجيب:
– معندكيش حل تاني, ومتفكريش ان ايدك اللي بترتعش وهي شايله السلاح دي بتهددني, احنا نقدر في غمضة عين نصيبك برصاصة في نص راسك لو نيتنا نقتلك.
انهارت في البكاء وقد تلفت اعصابها وهي تقول بينما تنقل نظرها بينه وبينهم:
– انا مش عاوزه غير انكوا تسبوه في حاله, انا مش عاوزه اهدد انا….
– يبقى تنزلي سلاحك.
حسنًا, هي خاسرة, بكل حال هي كذلك, سلاحها المرتعش لن يهددهم وإن أرادوا قتلها لفعلوا بلا لحظة تردد, لذا القت سلاحها أرضًا وعلى الفور ركضت له جاثية على ركبتيها جواره تستشعر تنفسه, لتشعر بأنفاسه التي حتى وإن كانت ضئيلة فقد دبت بها الحياة, ضحكت وبكت في الوقت ذاته وهي تمرر كفها على وجهه وجسده بجنون ثم نظرت لهم تقول برجاء باكٍ:
– الحقوه… الحقوه أرجوكم.
– مش هينفع احنا نخرج بيه, انا همشي دلوقتي وهبلغ المنظمة اني اتاكدت من تصفيته وتصفيتك معاه, وغسان جاي متقلقيش هو هيلحقه.
وقبل أن تعترض وجدت “غسان” يدلف ركضًا وخلفه عدة رجال أقوياء بعد أن فتح أحد الرجال الواقفين باب الفيلا ما إن سمعوا صوت احتكاك إطارات السيارات بالخارج…
– مراد باشا.
صرخ بها “غسان” وهو يجثي جوار جثته الهامدة من الجهة المقابلة ليجس نبضه وما إن شعر بهِ صرخ بالرجال:
– شلوه فورًا بس براحه خدوه على العربيات.
وبالفعل قاموا بحمله بحرص واتجه “غسان” ل “خديجة” التي سقطت جالسة ما إن حاولت الوقوف ليقول وهو يقدم كفه ليدعمها:
– خديجة هانم هاتي ايدك.
نظرت له بضبابية وهي ترى صورته بالكاد تدرك هويته, وسريعًا ما استندت على كفه وما إن وقفت حتى ركضت بتخبط للخارج تلحق بهِ.
– شكرًا يا صبري.
– روح بيه على مستشفى *****, ويدخل باسم غير اسمه, مش محتاج اقولك اول ما يفوق لازم يكون بره مصر، واقفل تليفونك انت ورجالتك، خد التليفون ده آمان..
التقطه وقال:
– مفهوم, متقلقش.
وانسحب خارجًا ليلحق بهم فوجدها استقرت جواره على الأريكة الخلفية للسيارة بعدما وضعت رأسه على فخذها بعناية ودموعها الصامتة تحرقها.
استقل المقعد الأمامي وبأعلى سرعة أمر السائق بها أن يقطع طريقه نحو المستشفى المتطرفة في أنحاء البلدة والتي لم تكن الأقرب لكنها أأمن والمسافة بينهما بسيطة.
************
جلست فوق المقعد أمام باب غرفة العمليات التي دلف لها للتو وكل ذره بها تنتفض, وكل عضو في جسدها رفع راية الاستسلام والوهن, سندت رأسها على الحائط بضعف ورؤيتها ضعيفة, كل شيء بها ضعيف عداه “قلبها” الذي يكاد يقتلها من شدة ضرباته وخفقانه بخوف على عزيز في خطر, ورأسها تردد ” قد مات شهيدًا من مات فداء للمحبوب” جملة ذُكرت بأغنية لطالما أحبتها لكنها لم تتوقع أن تعشها يومًا, وبحالة نفسية غير مستقرة بالمرة وجدت نفسها تدندن بخفوت كأنها تهمس لنفسها:
جلست والخوف بعينيها تتأمل فنجان مقلوب
قالت يا ولدي لا تحزن فالحب عليك هو المكتوب يا ولدي
يا ولدي قد مات شهيدًا, يا ولدي قد مات شهيدًا
من مات فداء للمحبوب…
قاطعها “غسان” الذي اقترب منها حين انتبه للتو من شعرها الظاهر وثوبها المحدد لجسدها بوضوح رغم كونه بأكمام, ليخلع سترته الخريفية والتي يفضل ارتدائها وقت تغير الفصول كأواخر مارس هذا, ورغم انها بأكمام وغطاء رأس إلا أنها خفيفة لحد ما, قال وهو يقف أمامها تمامًا:
– يا هانم…
نظرت له بعينين كبركة دماء حمراء, وبها تشتت أحزنه عليها وعلى حالة الضياع التي تنتابها, تنهد بحزن وهو يقول:
– خدي البسي الجاكت عشان شعرك واللبس يعني مش مناسب.
وبهدوء تام امتثلت, أخذت السترة وارتدتها ولم تهتم لشعرها الذي ما زال مكشوف, لتعود ساندة رأسها على الحائط بصمت وهي تضم السترة لها بحماية غريبة, نظر لها بتردد حتى قطع تردده أخيرًا وهو يمد أصابعه بحذر ليرفع غطاء رأس السترة ويضعه على رأسها حتى ابتلع الغطاء رأسها تمامًا فلم يعد يظهر شعرها, تنهد بثقل وهو يسألها بقلق طفيف:
– حضرتك كويسة يا هانم؟
لم تنظر له فقط رددت بعدم اتزان:
– آه.. يمكن… مش عارفة..
هز رأسه بأسف عليها وهو يلتزم الصمت حتى اشعار آخر من الأطباء الذين اختفوا خلف الباب المغلق واللمبة الحمراء تضيئ بتحذير…
*******************
سندت رأسها وشردت وهي تغمض عينيها بتعب واضح قد نال منها, وعقلها رجع لليلة قررت فيها مواجهته بحقيقة عمله… وبعد الكثير من الجدال والمناقشة خسرت صبرها لتقول بإنهاء للمناقشة:
– مراد, صدقني اخر شيء يهمني دلوقتي هو اقتناعك بان اللي بتعمله صح او غلط, لو سمحت ابعد عن شغلك ده, لانه ببساطة مش مناسبني ولا هيناسبك على فكرة.. فلو سمحت كفاية.
– بس هو مناسبني.
احتدت نظراتها وهي تقول:
– قصدك الفلوس اللي بتيجي منه مناسباك والسلطة والنفوذ اللي بيوفرهم ليك مناسبينك صح؟
وبجمود ملامحه سأل:
– هتفرق؟
– اه هتفرق, عشان لو ده اللي بيغروك بيه يبقى انا بنده في مالطة, عمرك ما هتسمعلي, رغم إنك المفروض بتحبني.
– ف؟
سألها ببرود أثار أعصابها فهدرت به:
– فتسيب الدنيا عشاني مش شوية فلوس ونفوذ يبقوا أهم مني ومن راحتي, عرفت بقى؟
وضع قدم فوق أخرى يقول بهدوء تام:
– دي حسابات نسبية, يعني حساباتك مش زي حساباتي, يعني انا لو ضحيت بكل ده عشان حبك صدقيني هتبقى خسرانة.
وقد أشعل فتيل غضبها وحرق ما تبقى من تحكم في أعصابها لتتوحش ملامحها وهي تقول بابتسامة باردة زائفة:
– تمام, انا بقى ضميري ميسمحليش أعيش مع مجرم واسكت, كده هكون بتستر عليه, عشان كده متزعلش لما ابلغ عنك.
لقد كان يستفزها كي تصمت بحديثه الأخير لكن النتيجة كانت عكسية, وبذكرها للبلاغ عنه ذكرته بفعلته بوالده, هل يمكن أن تفعل معه المثل؟؟ لكن هو فعل مع والده دون تردد لأنه لم يحبه يومًا لكن ماذا عنها؟ ليرفع نظراته المتوحشة كسواد الليل الحالك وسط عواء ذئاب مفترسة، ونهض متجهًا لها ووقف أمامها تمامًا يقول بفحيح رجف له قلبها:
– وفكرك وقتها هسكت؟ نهايتك هتكون قبل نهايتي, مش هسيبك تغرقيني ولا هخسر حاجه عشانك.
اتسعت عيناها بصدمه لجملته ورددت بخوف:
– بس أنتَ قولتلي إنك بتحبني أكتر من نفسك! ازاي هتنهيني عشان مصلحتك.
ضحك بسخافة عليها وهو يعود خطوة للوراء ينظر لها بمكر زائف وخلفه الكثير من الغضب:
– أنتِ عبيطة؟ احنا بنقولها بصيغة المبالغة عشان بس نبين معزة الشخص عندنا, لكن الحقيقة محدش بيحب حد أكتر من نفسه! ومهما كانت معزتك عندي فبعز نفسي أكتر بكتير.
نظرت له ودام الصمات لثواني, لتعلم أنه كاذب أحمق, عيناه تكشفه حتى وإن حاول الكذب فهي باتت تعرفه جيدًا كمعرفة خطوط كف يدها, لتضحك تحت نظراته المتعجبة:
– كداب يا مراد, أنتَ فعلاً بتحبني اكتر من نفسك, ومتقدرش تأذيني.
وهنا ظهرت حقيقة حديثه وهو يقول بغضب:
– واشمعنا أنتِ هتأذيني عادي؟
هو يحاول أن يظهر مثل ما تظهر هي ليس إلا!
تنهدت بقوة تهدأ نفسها ثم سألته:
– أنتَ ليه دخلت المنظمة؟ ليه مشيت في الطريق ده؟ مش حاسه الفلوس السبب ولا ابوك يقدر يسيطر عليك لو أنتَ مش عاوز.
وهنا فرد الحقيقة أمامها لتصبح واضحة كوضوح الشمس…
فظهرت ابتسامة ساخرة على شفتيه وقد هدأت ثورته وبمرار قال:
– أنتِ عارفة أنا دخلت المنظمة دي ليه؟ عارفة ايه الدافع القوي اللي خلى حسن قدر يضغط بيه على طفل عنده ١٥ سنة عشان يقتنع بشغل زي ده ويكون واحد منهم، ويشوف الويل الوان ويتحمل ويكمل.. متخيلة أصلا عشان ناس زي دي يجهزوا اي شخص عشان يبقى راجل من رجالتهم بيعملوا فيه ايه وبيتعرض لايه؟ ما بالك لو عيل مراهق لسه يدوب ١٥ سنة.. حاجات اصعب بكتير من اللي ممكن عقلك يصورهالك، طب تفتكري ايه اللي يخليه يتحمل؟؟ لا هينفع معاه تغريه بفلوس ولا بمكانة وسُلطة زي ما بتعملي مع الكبير.. اقولك ايه اللي حسن قدر يضغط عليا بيه ويخليني معاه.. دافعي الوحيد واللي حسن كان عارفه كويس.. كان أنتِ يا خديجة، أنتِ السبب إني اقبل اكون معاهم، دايمًا كنتِ السبب والدافع لأي خطوة خدتها في حياتي!
استنكرت وهي تقطب ما بين حاجبيها تسأله بصدمة:
– أنا؟
اومأ مؤكدًا ليلقي بالقنبلة المدوية في وجهها وهو يقول:
– لو طفل ضاع منه حاجه بيحبها اوي وهيتجنن ويرجعها لو جيتي قولتيله انا عارفه مكان الحاجة دي بس عندي كام طلب لو عملتهم هرجعهالك تخيلي الطفل ده هيعمل ايه؟
وبتلقائيه ردت:
– هينفذ طلباتي.
– حتى لو على موته…
قالها بسخرية شديدة ثم اهتزت نبرته بألم وهو يكمل:
– اهو انا الطفل ده, حسن فهمني ان الطريقة الوحيدة اللي اقدر الاقيكي بيها هو اني اشتغل معاهم.. شايف يا مراد, شايف انا عندي نفوذ ومعارف قد ايه, ده بسبب شغلي معاهم لو اشتغلت معاهم زيي هتقدر بكل سهولة بنفوذك ومعارفك تلاقي خديجة حتى لو في بطن الأرض.. ومراد اقتنع, واشتغل معاهم عشان بس يلاقيكِ, اصل حسن مقالوش انه عارف مكانك ويقدر يرجعك له من الصبح, بالعكس كان بيبعدك اكتر عشان مراد يستمر في الشغل اكتر ويقع معاهم اكتر وفجأة يلاقي نفسه متقيد بسلاسلهم وميقدرش يهرب.
وكأنه يتحدث عن شخص آخر, هكذا سرد القصة وهكذا شعرت بقلبها ينحر وهي تعترف ” ليست وحدها من عانت بالبعد فإن عانت هي شهرًا فقد عانى هو عمرًا!!”
**************
وكأنه اختبار حقيقي لحبها له.. القدر اختبره هو مرارا و مرارا، والآن هل حان دورها لتثبت مدى حبها له؟ لكنه اختبار قاسي على قلبها الموصوم بحبه.. هي الآن فقط أدركت انها لا تحبه، هي موصومة به، تحيا بهِ وله، حياتها بدونه سراب لا قيمة له وكلما حاولت الركض خلفه سيسحبك لفوهة عميقة لن تنتهي ابدًا..
مرت ست ساعات والباب لم يُفتح… حتى هُلكت أعصابها وقفت تتجه ل “غسان” الذي يتحدث مع أحد رجاله جانبًا لينتبه لها فيصرف الرجل بعد أن القى أوامره بتأمين الوضع على النحو المطلوب, ونظر لها بانتظار لحديثها لتقف أمامه لا تعلم ماذا تقول لكنها تعبت الانتظار, فقالت فجأة ومقلتيها يطوفان بلا هوادة حولهما:
– عاوزه اخرج من هنا… عاوزه امشي.
هو موقن بأنها نفسيًا ليست متزنة, فتصرفاتها كلها غريبة وغير مفهومة, لكنه يتفهم ما لاقته وما عاشته لربما سبب لها صدمة وحالة من عدم الاتزان.
– مش هينفع اروحك يا هانم البيت مش آمان, تحبي احجزلك اوضة هنا تريحي فيها؟
نظرت له كأنه برأسين وهي تهتف بغرابة:
– واسيب مراد لوحده؟؟!
أليست هي من طلبت! فرك جبهته بتعب قبل أن يشير لها للمقعد بهدوء:
– طب يا هانم اتفضلي استريحي وانا ثواني وراجعلك.
حركت رأسها تميل يمينًا و تميل يسارًا بوضع أقلقه أكثر, قبل أن تنظر له وهي تقول:
– أنا … أنا عاوزه فريال…وباهر… عاوزاهم.
اومأ برأسه:
– حاضر استريحي وهبعت اجبهم.
اتجهت للمقاعد بوهن وجلست فوقها رافعه رجليها تمددهم على الثلاث مقاعد المجاورة وزوت نفسها في الحائط مستندة عليهِ بضعف محزن.
***************
وفي نصف ساعة أتت “فريال” قبل “باهر” لقرب منزلها..
ركضت تلحق الرجل وقلبها يدق خوفًا على صديقتها وابنة خالها, حتى وصلت لها ورأتها بوضعها هذا كطفلة ضائعة, كطفل شُرد فجأة بعدما فقد المأوى..
– خديجة!
رددتها وهي تضع كفها على ظهر الأولى لتنتفض مستجيبة وهي تلفت رأسها لتنظر لها ورددت جمل قصيرة حملت الكثير من الآمها النفسية والجسدية:
– مراد بيموت…. او مات … مش عارفة.
نظرت “فريال” للشخص الواقف قربهما والذي رأته قبلاً عدة مرات فهي تعلم أنه من رِجال “مراد” لكنها لم تحدثه يومًا, والآن فعلت وهي تسأله بخوف:
– ايه الحكاية؟ هو مات؟
أجابها مقتضبًا بصوت أجش هادئ:
– في العمليات.
عادت تنظر ل “خديجة” تحت نظرات “غسان” المتفحصة لها لأول مرة رغم رؤيته لها سلفًا عدة مرات لكنه لأول مرة يجد نفسه يتفحص فيها, وقد شعر بأن هذه الفتاة بريئة, وعلى سجيتها كما لم يرى فتاة من قبل.
– لسه في العمليات يا خديجة, يعني ان شاء الله هيخرج يا حبيبتي, اهدي ارجوكِ جسمك عرقان, ووشك اصفر وحالتك مطمنش.
ورن هاتف “غسان” ليبتعد به والرقم دولي غير مسجل فأجاب:
– الو, مين؟
– دياب الحلاوني يا غسان, مراد عايش؟
قطب “غسان” ما بين حاجبيه بتعجب ما به هذا الرجل!؟
– هو فيه ايه؟ يعني تخلي صفوت يكلمني عشان الحق الباشا ودلوقتي بتتصل تسأل عليه, أيه الحكاية من امتى حبيت الباشا؟
أتاه رد الأخير الهادئ:
– من لما عرف إني بجهز للهجرة ومبلغش عني المنظمة, من لما كلمني وقالي انه عارف اني بحضر لهروبي وبدل ما يهددني زي ما توقعت لقيته بيحذرني اني لو ناوي اهرب لازم الحق قبل ما يكتشفوا بيع املاكي زي ما هو اكتشف, يمكن هو مساعدنيش في حاجة, بس سكوته دي خدمة مقدرش انسهاله… وبعدين انا والباشا بتاعك عمرنا ما يجمعنا حب, يجمعنا مصالح… خدمات, ديون, لكن حب مستحيل, وهو له عندي دين وبسدده.
– هو لسه في العمليات, بس انتَ ازاي وصلت لصفوت؟
– صفوت طول عمره راجل مخلص ليا, ولما هاجرت حرصت أكون على اتصال بيه عشان اعرف لو قدروا في يوم يوصلوا لمكاني الحق اهرب, و اتفاجأت بيه بيقولي ان صدر أمر بتصفية مراد, وده كان وهو خارج مع الرجالة ورايحين بيته, قولتله في أقرب فرصة كلم غسان يلحقه… واعمل أي حاجة عشان ميصفهوش تمامًا لو قدروا يوصلوله, ولما وصلوله وخد كام طلقة ووقع صفوت منعهم يدخلوا الفيلا لأنهم لو كانوا دخلوا ولقوا فيه نفس كانوا خلصوا عليه وهيدوروا على مراته كمان, فصفوت قالهم انه هيقوم بكل ده وخد معاه اتنين من رجالته اللي بيثق فيهم.. بس كده, وعمومًا انا كده رديت الدين…عاش او مات مش بتاعتي, سلملي على الباشا بتاعك لو شوفته تاني.
وأغلق المكالمة ليزفر “غسان” بضيق يقول:
– رغم اني مبقبلكش بس اهو طلعنا منك بفايدة… يا ريتك يا باشا ما ادتني إجازة النهاردة.. قولتلي مش هخرج يا غسان روح أنتَ وجالك الخطر لباب بيتك.
ويا ليت “ليت” تصحح الخطأ أو تعود بالماضي لكنها مجرد تمني واهي.
خرج الطبيب أخيرًا ليرحم انتظارهم القاتل, لم تستطع النهوض فظلت كما هي وقد تقدم منه “غسان” ووقفت “فريال” بجوارها تنظر للطبيب بخوف مما سيقوله وذراعها يحيط جسد “خديجة” بدعم لأي خبر سيء قد يسمعوه الآن.
– خير يا دكتور طمني الحالة ايه؟
أجاب الطبيب بإرهاق:
– الحمد لله اطمنوا, الرصاصتين مصابوش أي مناطق حيوية, واحدة في جنبه الشمال والتانية جت في ضلع فعملتله شرخ بس لأن واضح إن الإصابة كانت من مسافة بعيدة, هو بس نزف دم كتير على ما وصل هنا وده اللي كان مصعب العملية لأنه كمان احتاج لنقل دم فوري والحمد لله فصيلته كانت متوفرة عندنا في بنك الدم… هيفضل 24 ساعة تحت الملاحظة في العناية بعدها لو تمام هيتنقل غرفة عادية بس هتمنع الزيارة لحد ما يفوق.
وارتاحت القلوب بعد شتاتها, وسكنت الأرواح بعد ثورانها, وأخيرًا جاء الاطمئنان المنتظر..
أخذ “غسان” الطبيب ليتفاهم معه فيما يخص الإبلاغ عن الحادثة فلا يجب أن تكون الشرطة طرفًا أبدًا…
وعاد بعد دقائق وقد نجحت مهمته, ليجد “مراد” يخرج من غرفة العمليات على السرير المتحرك فتابعه بعينيه حتى دلف للمصعد الكهربائي برفقة الممرضين وما زال غائبًا تمامًا عن الوعي… وما لفت نظره أنها لم تتحرك من مكانها فقط عينيها ما تحركت وهي جالسة!
اقترب منهما يسألها بقلق:
– خديجة هانم أنتِ كويسة؟
نظرت له ولم تجيب, ليقول:
– خليني اوصلك اوضة ترتاحي فيها أنتِ تعبتي كفاية النهاردة.
– آه يا خديجة, قومي عشان ترتاحي.
قالتها “فريال” مؤيدة لتقول هي بهمس ضائع:
– مش قادرة… رجلي مش شيلاني… مش حاسة بجسمي.
تبادلا كلاً من “فريال” و “غسان” النظرات القلقة على حالتها قبل أن يقول “غسان” مقترحًا:
– هجبلك كرسي ننقلك عليه للأوضة ونخلي الدكتور يشوفك وترتاحي هناك.
احنت رأسها تنظر لأسفل بصمت غير مفهوم, ليقرر “غسان” التحرك لتنفيذ ما قاله لكن سمع صوتها المشتت يقول:
– أنا حامل.
وبعودة رأسه للنظر لها جذب عينه ما تنظر هي له لون أحمر قاني تجمع أسفل قدميها, لتجحظ عينيه وهو يدرك الكارثة أنها تنزف!!
وأتته صرخت “فريال” باسمها حين تهاوت برأسها على صدر الأولى فاقدة للوعي..!

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية بك أحيا)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *