روايات

رواية لأنه موسى الفصل الثالث 3 بقلم ماهي أحمد

رواية لأنه موسى الفصل الثالث 3 بقلم ماهي أحمد

رواية لأنه موسى البارت الثالث

رواية لأنه موسى الجزء الثالث

لأنه موسى
لأنه موسى

رواية لأنه موسى الحلقة الثالثة

المُمحاه لا تَمحو الخَطْأ، بل تُنقِذُ الحَقيِقه بتَضحيهٍ صَامته تَذوب في الفَراغ كِي يَبقى القلمُ شاهِدًا على جمالِ السُّقوطِ نحوَ الصَّواب.
؎ ☃ ؎
“وَدادُ” الآنَ أمامَ منزلِ “نعيمه”، تركتْ ولدَها “طهَ” في الصيدليّه بعد أن أتتْ إليها، الهواءُ كانَ باردًا قليلًا، وصوتُ زحامِ الشارعِ البعيدِ يملأُ الأجواءَ دقّتْ على البابِ الخارجيِّ بقلبٍ متسارعٍ، حتى فتحتْ “نعيمه”، والتي قالتْ بمجرّد أن رأتها، بينما تُطلُّ من خلفِ البابِ بوجهٍ مستغربٍ:
“وداد ، ايه اللي جايبك بدري كده ”
لَم تُكمل حديِثها بِسبب ” ودَاد ” التي قَالت وهَي تشِير للدَاخل :
“هنتكلم على الباب كده مش هتقوليلي ادخلي ”
أشَارت لَها بالدخُول ثم خِطت نحو الَداخل ، وقَبل أن تَقول اي شِىء ، بَدأت ” نعَيمه” بالحَديث بِقولهَا :
– خير ياوداد
تَلوَّنَ وجهُ “وَدادُ” بالحَمره الخفَيفهِ ، لكنَّ قَلَقَها عَلَيها جَعَلَها تَسأَلُها بِلَهُفٍه:
” كل ده كنتِ فين يانعيمه ، انا فضلت طول الليل واقفه في البلكونه في عز البرد عشان اطمن رجعتي ولا لاء ، واتصلت بيكي طول الليل امبارح وانتِ مكنتيش بتردي قلقت عليكي أوي وأول ما شوفتك جايه على أول الشارع قلبي أرتاح
قولت هسيبك ترتاحي وهاجيلك على الضهريه كده بس اول ما شوفتك جايه بتعرجي ومشيتك مش مظبوطه ماقدرتش استني قلبي كلني عليكي ،
مالك ياختي طمنيني عليكي ، أنتِ كويسه ”
سَأَلَتْها فَطَعَّمَتْ حَديثَها بِنَبْرَةٍ وَاثِقَةٍ مِمَّا تَقُولُ، وَكانَتْ بارِعَةً حَقًّا فِي الكَذِبِ. :
” أبداً ، ده انا وانا ماشيه رجلي اتلوت حاجه بسيطه كده من تحتي ، قعدت على الرصيف لحد ما لاقيت تاكسي روحني ، وده السبب أني اتأخر
أنتِ عارفه بقى أمبارح كان راس السنه والبلد كانت على رجل ”
رَفَعَتْ حَاجِبَيْها بِعَدَمِ تَصْدِيقٍ، وَهِيَ تَتَصَنَّعُ الدَّهْشَه:
“فعلاً ..؟”
تابعتْ حديثَها دونَ أنْ تَخْلَلَ نَبْرَتُها الغَيرَ مُصَدَّقَه تَوازُنَها، حيثُ قالتْ:
“حساكي مش مصدقاني ياوداد ”
تَرَكَتْ مَقْعَدَها وَاسْتَقامَتْ، هَبَّتْ واقِفَه هيَ الأُخْرى مُنْتَظِرَه أيَّ حَديثٍ مِنْها، لَكِنَّها سَمِعَتْ مِنْها ما جَعَلَ آمالَها تَهْوِي أَرْضًا، حَيْثُ قالتْ:
” اسمعي يا نعيمه، أنا مقدره اللي حصلك ، وعارفه إنك في حاجه جواكي مسمّراكي ، بس أنا هنا… هنا علشانك استنيت كتير ترجعيلي، ترجعي لحضني اللي كان دايماً بيسيعك ، بس من ساعة اللي حصل وانتِ بعدتي عني، عنّا كلنا ”
“مش عايزه أقولك قد إيه حضنك واحشني، أكيد انتِ عارفه بس أنا عارفه كمان إنك جواكي نعيمه تانيه ، نعيمه محتاجه حد يمسك إيديها، حد يحضنها ويقولها أنتِ مش لوحدك، أنا معاكي
فاكراني يا نعيمه؟
فاكره لما كنتي بتقوليلي ‘حضنك بيشيل همومي’؟ أنا هنا علشان أشيل همومك تاني، مش هضغط عليكي، بس متخليش الدنيا تكسرك وأنا واثقه إنك هترجعي… هترجعي نعيمه اللي أعرفها، اللي كانت بتقف قدام الدنيا وبتقول “أنا هنا”
تَنَهَّدَتْ بِكَلامٍ صادقٍ خرجَ مِن أعماقِ قلبِها، ثم فتحتِ البابَ وخرجتْ إلى الخارجِ، وهَي تَسترَسل :
“حضني ليكي موجود يا خَتي، موجود مهما حصل ومش هسيبك، لأنك أختي وجزء من قلبي ، متخليش الدنيا تخدعك، أنتِ أقوى من كده بكتير وأنا هنا… هنا علشانك”
ابتسمت ” نعيمه” لودادَ ابتسامه مكسوره، تحمل في طياتها ألف حكايهً لم تُحكَ ، عيناها تلمعان بَحديثً لو تستطع نطقه لقالته، لَكنَّ حاجزًا خفيًّا منَعها احِترمت “ودادُ ” سرِّها، وأغلَقت البَاب بِلطفٍ وراَءها وحِين رحَلت ، خَرج “الحجُّ نصارُ” مِن غُرفتُه، وفي صَوته لفَحةُ قلقٍ، سَألها:
“ايه مشيت ”
قَال كِلمتُه وهُو يتَجه الى الحَمام ، هَزت “نعيمه” رأسَها بِغضَب تتَبع خطٌواته سَائِله :
“أنا بس بدي افهم ، ليه مش عايزني اقول لوداد ان الولاد عايشين وامثل عليها انهم ميتين ، ما انتوا عارفين ان وداد دي عشرة العمر من سنين ومش قادره امثل عليها اكتر من كده
وضَع المنَشفه علَى كِتفُه يُشمَر سَاعديِه يُخبِرهَا وهُو يَستعد للوضُوء :
“وانا ايه اللي عرفني يانعيمه ، عندك “موسى” ابنك ابقي اسأليه لما يتصل ، لو قالك قوللها ، يبقى قوللها ، عشان أنا خـــلاص حطيت أيدي في الشق منهم كلهم ”
❧☘️❧
جَلسَ “عُمر ” بِجسُده المّتخَدر عَلى أحدِ المقاعِد في الرُدهه الخَاصه بِمَنزله وصَدى كَلاَم ” نَعيمه”
يَختلط مع صوت “زوجته” الوَاقفه مُقابله وهي تَسأله بلَهفه :
“هــا ، قولي عملت أيه مع نعيمه ، أدتك الأمان واتكلمت معاك ”
لَيس لدِيه الطّاقه والرَغبه ليُخبرهَا أي شِىء ،إذ أسَتقام متوجهًا نحَو البَاب لَكِنها أستوقَفَتُه بِحديثَها:
” رايح فين ياعمر ، أنا مش بكلمك ”
اسَتدارَ نحوها ليُجيب بِتَنهيده حَارقه تخَرج مِن جَسده :
“حاسس انها شكت فيا ”
لَم تَنبس بِكلمه بل أسَتمرت بالتَحديِق بهِ ليَشرع بِفتح البَاب ، وقَال وهو يقّبض على المَقبض :
” مش عارف ازاي لساني نطق اسمها قبل ماتقولوا ، من غبائي قولتلها كملي ياحجه نعيمه بصتلي بصه حسيت كأنها بتقولي أنتَ حد زقك عليا ، بس اللي مستغربله أنها كملت وعملت نفسها مش واخده بالها ”
بَينما هي لم تَتزَحزح مِن مَكانها ، بّل تَنهدت تطّالع الأرجَاء في احَباط حِين قَالت :
” يعني ايه ، يعني كل اللي عملناه وخططناله خلاص راح ومبقاش لي قيمه ”
تَجاهل حَديِثها وسَارع بِخطواتهُ خَارج المنَزل يَهبط طَابقًا تلو الأَخر ، لاَ يَحتَمل حَديث زوجَته حَتى لو كَانت على صواب ، جَريت نَحوه رافَعه بصَوتها كِي يَسمعها :
” عــمــر .. ”
توقّف عَند مُنتصف الدَرج، التَفت إليِها ونَظر إلى الأَعلى، حيُث وقَفت تَلهث ، تلاقٌت أعُيِنهما، ثٌم قَالت بصـوت مُتقطع:
“مش هنسبها صح ، هنكمل اللي بدأناه مش كده ”
تمَتم مِن بَين شَفتاه وكأنُه يَنوي على فَعل هذا دَون رجَعه مهَما كلّف الأَمر يُردد ما يَنوي فِعله يَخرج كلِماته بُبطىء:
” مش هســيبها ، يا انا يا أنتِ يانعيمه ”
رَأت الأصَرار في عيِنيه ولاحَت بَسمه علّى شفَاهه وكأنِها تَقول هَذا هو رجُلي ٭
٭
٭
٭
٭
٭
خَطَفَت “نَعِيمَة” نظرةً مِن “نِصَار” قبل أن تبتعد عنه، سارت قدمَاها نحو النافذه في غرفة “مُوسَى” بجانب السرير لتُرْفِعَها قليلاً وتُجَدِّدُ هواءَ صدرها جالت ببصرها في أرجاءِ الغرفه حيثُ كادَ الغبار أن يلتهم أسقفها ، اتكأتْ على طرفِ الفِراشِ ووقعَ بصرُها على عُلبه زُجاجيّه ذاتِ حوافٍ منقوشه بخُطوطٍ دقِيقه نُقش عليَها أسَمُه { مۘــﯣڛۣــۍۧ} تعكسُ الضَّوءَ كأنّها تحتفظُ بهِ داخلَها، مستقِرَّه فوقَ طاولتِهِ المميّزه، تحتضِنُ مجموعه منَ المفاتيحِ، لكلٍّ منها شَكلٌ مُختلِفٌ، كأنّها أبوابٌ لحكاياتٍ لم تُرَوَ بعدُ ، مدّتْ يدَها نحوَ العلبه ببطءٍ وأحسَّتْ بأنّ أنفاسَ الماضي تملأُ الغرفه من جديدٍ، تارِكه الحاضرَ يتلاشى عند أطرافِ التفكيرِ، شردت بذاكرتها نحو الماضي يتردَّدَ في ذهنِها صَوتُ رنينِ مفتاحِهِ وهو يضعهُ داخلَ تلكَ العُلبه، لينضمَّ إلى مفاتيحه الأخرى استدارتْ ببطءٍ، تسألهُ وهي تخطو خلفهُ سائِلةً بودٍ:”
“ياترى ده أخر مفتاح تحطه ياموسى ”
استَدار مُسنِدًا جسدَه على طرفِ الطَّاوله، رَابِعًا ذرَاعيِه وهو يُبادِلُها نظراتٍ دافئه، تسبقُها ابتسَامه هادئه تُخفي في طيّاتِها كلماتٍ لم تُنطَقْ بعد :
” والله ما انا عارف يا “ام موسى ” محدش عارف دماغ الشيخ ظهران فيها ايه ”
ورَدت علِيه بِضجر :
” ليه ، هو هيفضل يستعبدك كده لحد أمتى ، كل شويه في بلد شكل ، عامل زي الطير اللي كل ما يرسى على مرسى يلاقي نفسه هيتقلع تاني ، لا لي أهل ولا عزوه في البلد اللي بيروحها ، بعيد عن وطنه ، كل مايلقى مكان يحس أنه غريب فيه
ارتفع صوتها تستكمل :
“وانتَ السبب في كل ده وماتلومش غير نفسك أنت اللي ..”
لَم تُكاد تَنهي جُملتَها حَتى سَمعت صُوت
“الحَج نصَار ” يُناديها من الخَارج بنِبره حَازمه :
“نعـــيمه”
شَعرت بالتَوتر علَى ما كَاد أن يَخرج مِنها أطبقت شفَتاها لِيرتفع حَاجبي “موسى” نحُوها يِنتظر تَتمةً الجُمله لَكنها أخَفت ارتِباكها بقُول :
” انا ، انا رايحه اشوف “نصار” عايز ايه ”
ابتعَدت بناظِريها عُنه ثُم اكمَلت بُحزن :
” ارتاح أنتَ دلوقتي ياموسى والصباح رباح ”
خَطت نحَو البَاب وقبَل أن تَطأ قدميِها العَتبه نَاداها “موسى” بصوتً حانِي :
” أمــي”
لفَت وجُهها لتجُده مُبتسماً بأبتسَامه هَادئه ، تَحمل في طيِاتها من سكِينه وتَرقب قَائلاً :
“أنا مش زعلان منك ”
ابتسمتْ له ابتسامةَ رضا دون أن تنطق بحرف، تتجهُ إلى الخارج، نحوَ غرفتها لتجد “الحجَّ نصار” جالسًا على الأريكه الخاصه بغرفتهِ، يُقلبُ بينَ حباته بهدوء، ينظرُ إلى النافذه بجوارهِ وقالَ:
“ناوليني الجلابيه السودا من جنبك، يا نعيمه”
التفتتْ لتحضرَ له مطلبه، وبينما كانت تعدلُ جلبابه، فاجأها بقوله، وهو ما زال يراقبُ النافذه:
“بلاش كل مره لما الواد ييجي، تسمعيه الكلمتين اللي هو حافظهم ، موسى زي الفلاح اللي كل ما يعزق الأرض ويفلحها، يلاقي التربه معطوبه ، لكن بيفضل يحاول ويزرع فيها تاني لو كان اتوقف من أول مره كانت الأرض فضلت كالحه ، موسى مش زي الباقي، هو شايف قدامه درب طويل عايش فيه مش باختياره ، وحد تاني فرضه عليه ما تبقيش زي الريح اللي لما تهب تروح مع أي اتجاه، خليكي ثابته في مكانك، عارفه إنك في الأرض دي من البدايه وطول ما انتِ زارعه جوه موسى من صغره الخير مش هتلاقيه بيطرح غير كل الخير ”
قطعتْ كلامه بِلهجه متَملمِله :
“أيوه، لكن هيفضل لحد إمتى كده يا نصار؟”
ردَّ عليها بثقهٍ تامهً في كلماته، وكأنَّ الزمنَ نفسه يتكلمُ من فمه:
“لحد ما ييجي الوقت اللي هو شايفه مناسب ، طول ما الوقت ما جاش، خليكي واثقه فيه يا “نعيمه” كل شجره تلاقيها في الأرض محتاجه وقت عشان تثمر، وإن كانت جذورها ثابته ، ما تظنيش إن الساق اللي طال ينكسر او حتى في يوم يعوج كل شيء بوقته، ما دام القلب ثابت والنيه صافيه ”
“جلستْ بجانبه على الأريكه، وكلما نظرتْ من خلالِ النافذهِ، تأملتْ ما قاله” الحجُّ نصار” ، كانت كلماته كالعطرِ، انتشرتْ في عقلها وروحها، لتستقرَّ أخيرًا في قلبها تركتْ أفكارها تتجولُ، عائدةً إلى مكانها الصحيح، ثم تنهدتْ بعمقٍ، وأغمضتْ عينيها للحظهٍ، وكأنها تقبلتْ كلَّ شيءٍ كما هو”
░M░o░u░s░A░
انتهَتِ الليلةُ بالنِّسبةِ “لنصارٍ وزوجتِه” ، ولكنَّها بدأَتْ عندَ الشبابِ بالفعلِ حينَ سمِعَ “موسى” دقّاتٍ على بابِ غرفتِه، انكمشَ حاجباهُ باستغرابٍ فتحَ ليجدَ أمامَهُ شخصًا توقَّعَه وجَدَ “آدم ” لم ينبِسْ بكلمةٍ، لكنَّهُ تراجَعَ ليُعطيه الفُرصه للدُّخولِ ، ولم يَنتظِرْ، بل دخلَ بالفعلِ
وقبلَ أنْ يتفوَّهَ بأيِّ شيءٍ، سألهُ “موسى” رغمَ علمِه بالإجابه:
“إيه اللي مصحيك لحد دلوقتي يا آدم؟”
أومأَ، يسيرُ للأمامِ لكنَّهُ توقَّفَ يستديرُ نحوَهُ، ينظرُ يسارَهُ دونَ النظرِ إليهِ، قائلاً:
“كلهم مستنيينك على السطوح فوق، وقالولي إني أناديك.”
تمتمَ، متقدِّمًا نحوَهُ، داسًا يديهِ في جيوبِ بنطالِه كانتْ ملابسُهُ ما زالتْ تحتضِنُ رائحةَ الرحله، ولم يتخلَّ عنها بدلَ التغييرِ وبهمسةٍ هادئةٍ، قالَ:
“معلش يا آدم، قولْهم خليها بكره ولا بعده… جاي تعبان من السفر وهموت وأنام.”
ردَّ “آدم “بصوتٍ منخفضٍ، ناقلًا حقيقةَ اللحظةِ بثقةٍ هادئةٍ:
“ماينفعش.”
فهمَ “موسى” أنَّ” آدم “مُجبَرٌ على قولِ ذلك امتزجَ الصمتُ بالمشاعرِ، فأومأَ برأسِه إيماءةً صغيرةً، كأنَّهُ يستسلِمُ للأمرِ جلسَ على طرفِ الفراشِ، ومدَّ يدَهُ نحوَ الزجاجه على الطاوله، التي نَقش عليها حُروف اسمُه المُزخرف “مـْـْْـْوُڛـ,ـى” فتحَها، ثمَّ رفعَ رأسَهُ ليشربَ
انسابَ الماءُ في عروقِه، وخرجَ ليُبلِّلَ رقبتَهُ بقطراتٍ بسيطه، وما إنْ تذوَّقَ رشفةً من الماءِ، حتَّى تحرَّكت تفاحةُ آدم على رقبتِه بانسيابيَّه، تصعدُ وتهبطُ بإيقاعٍ ثابتٍ، تبرزُ بوضوحٍ تحتَ الضوءِ الخافتِ، وكأنَّها توقِّعُ حضورَها في ملامحِه القويَّه لم تكنْ تلكَ التفاحةُ مجرَّدَ بروزٍ جسديٍّ، بل كانتْ رمزًا للجمالِ المُفعَمِ بالحياه، تزيدُ من وسامتِه، وتُبرزُ تفاصيلَ وجهِه بنفحاتٍ من السِّحرِ والتميُّزِ ، ضغطَ “موسى” بكفِّه على السريرِ برفقٍ، مشيرًا “لآدمَ “بابتسامةٍ هادئةٍ:
“تعالى اقعد جنبي يا آدم.”
رفعَ ” آدمُ “نظرَه للحظاتٍ، تأملَ المسافةَ بينهما، ثم أشارَ برأسِه بالرفضِ، لا يحبِّذُ التلامسَ بينهما ابتسمَ “موسى” بتفهُّمٍ، واتجهَ نحوَ الأريكه، محافظًا على المسافةِ التي يعرفُ أنها تُريحُ أخاه:
“أنا بعيد عنك اهوه دلوقتي، تقدر تقعد على السرير براحتك.”
تحرّكَ” آدمُ” بخطواتٍ ثابتةٍ نحوَ السريرِ، جلسَ على طرفِه، وأصابعهُ تعبثُ بحافةِ الغطاءِ، نظراتُه كانت شاردةً، تتفحّصُ تفاصيلَ الغرفه، يحاولُ أن يتجنّبَ التواصلَ البصريَّ المباشرَ مع “موسى”، ليسَ خوفًا، بل لأنها عادتُه لاحظَ “موسى” ذلكَ، فقرّرَ أن يخفّفَ الأجواءَ بسؤالِه بلطفٍ:
“طمني عليك يا آدم، أخبارك إيه؟ قولي، نوح كان بيضايقك وقت غيابي هو ولا أنس؟”
حرّكَ “آدمُ” عينَيه في الغرفةِ ببطءٍ، ثم رفعَ أصابعَه مشيرًا بالنفيِ، قبلَ أن يجيبَ بصوتٍ هادئٍ:
“لاء، مش هقولك.”
تسلّلَ الفضولُ إلى ملامحِ “موسى”، فسألَه:
“ومش هتقولي ليه؟”
قالَ بصراحةٍ مجرّدةٍ:
“عشان أنا مش عايز أكذب.”
نهضَ “موسى” واقتربَ منه خطوةً، لاحظَ “آدمُ” اقترابَه، فمالَ بجسدِه قليلًا، ليستْ خطوةً دفاعيةً، بل ردّةَ فعلٍ طبيعيةً لشخصٍ لا يرتاحُ كثيرًا بالقربِ الجسديِّ ، فهمَ موسى ذلكَ، وتراجعَ للخلفِ فورًا، مشيرًا بيديهِ عندَ صدرِه في إشارةٍ ضمنيّةٍ أنه لن يتجاوزَ المساحةَ التي تُريحه، لكنه لم يستطعْ كبحَ فضولِه فسألَه برفقٍ:
“وتكذب عليا ليه؟”
أطرقَ آدمُ رأسَه قليلًا، ثم بدأَ يفركُ أصابعَه وهو يقولُ:
“علشان لو قولتلك نوح كان بيولّع عليّا المروحةَ واحنا نايمين وبيضايقني هو وأنس ، هتضايق منهم وهتزعل معاهم، وأنا مش عايزك تزعل معاهم خالص، وخصوصًا النهارده.”
راقبَه” موسى” وهو يتحدّثُ، تلكَ البراءةُ الصافيه في صوتِه، البساطةُ التي لم يكنْ يدركُ كم هي عميقه استرسلَ” آدمُ “ولمعتْ عيناهُ موضّحًا:
“عشان النهارده رأس السنه… وأنا مبسوط أوي أوي يا موسى، عشان أنت رجعت لينا تاني، ومش عايزك تزعل من نوح ولا أنس عشان أنا برضه بحبهم”
فلتت منه ضحكه صغيره، متأثرًا ببراءةِ “آدم”، لا يعرفُ كيفَ يكذبُ، ولا كيفَ يخفي مشاعرَه الحقيقيه، كانَ دائمًا كتابًا مفتوحًا، يرفضُ أن يُثقلَ العالمَ بمشاعرِه، حتى لو كانَ الثمنُ أن يتحمّلَ وحدَه فقالَ بصوتٍ دافئٍ:
“وأنا كمان مبسوط أوي إني رجعتلكم يا آدم، وعارف كمان إنك بتحبهم ، وماتخافش يا سيدي مش هزعل منهم ، عشان ده طلبك ، عارف يا آدم…”
اقتربَ قليلًا، وجلسَ على ركبتيهِ ليكونَ في مستوى نظرِه، لكنه لم يحاولْ لمسه، يعلمُ أن “آدمَ” سيشيحُ بوجهِه فورًا، وحقًا، ما إن فعلَ ذلك، حتى أدارَ رأسَه للناحيه الأخرى تابعَ ” موسى” بابتسامه خفيفه:
“السفريه المره دي كانت في العراق وانا هناك كنت دايمًا بفتكرك، وجبتلك حاجه بتحبها أوي، تحب تشوفها؟”
أومأ” آدمُ” بحماسٍ، لكنْ فجأه تذكّرَ شيئًا، فتوقّفَ، وأعادَ التفكيرَ قبلَ أن يقولَ:
“لاء، مش دلوقتي، عشان نوح ولقمان وأنس مستنينا فوق، وأنا مش بحبّ أتأخرَ على حد هما قالولي خمس دقايق، وكده عدّى ست دقايق أقولك، حطّها في أوضتي، وأنا هبقى أشوفها.”
أُعجبَ “موسى” بردِّه، أومأ برضا وقالَ:
“تمام، وأنا موافق، يلا بينا عشان ما نتأخرش عليهم.”
نهضَ الإثنانِ، وسارَ آدمُ أمامَه، كما اعتادَ، يحافظُ على مسافتِه لكنه لا يبتعدُ تمامًا
٭
٭ ٭
٭
٭
“الرابعه فجراً ” كانت السّماءُ قد بدأت تتّشحُ بوَهَجِ الشّروقِ، مُلقيةً بأشِعّتِها الدّافئةِ على السّطحِ، حيثُ تحوَّلَ ذلك الفضاءُ الضّيّقُ إلى ساحةِ معركه محتَدِمَه، لا تَقِلُّ شراسه عن نِهائيِّ بطوله عالميّه صَعِدَ “موسى” إلى السّطحِ برفقةِ “آدم”، ليجِدَ الجميعَ في انتظارهِ، وقد أصبحت كلُّ الأمورِ جَاهزه
ألقى نظره حولَهُ بعَينَيْهِ، فرأى “بَشَر”، صديقَ “نوح”، واقفًا في المرمى، بينما المرمى المُقابلُ لا يزال فارغًا على الجانبِ الآخرِ، كان” لقمان” مُنكفِئًا على الأرضِ، يَنثُرُ الجِبْسَ الأبيضَ في المُنتصفِ ليخطَّ به الحدَّ الفاصِلَ بين طرفي السطوح
أمّا “أنس”، فكان يَقِفُ على مَقربةٍ، يَقفِزُ في مكانِهِ لتسخينِ جَسدِهِ قبلَ بدءِ اللّعبِ، بينما كان “نوح” مُنشغِلًا بربطِ شبكه قديمه، كانت في الأصلِ مِلْكًا للحاجِّ “نَصّار”، الذي كان يَستخدِمُها في الصّيدِ، لكنها الآنَ أصبحت شبكةَ مَرْمًى لهذا المَلعبِ المُرتَجَلِ
ابتسمَ “موسى” وهو يُراقِبُ الاستعداداتِ، ثم أخرجَ يدَهُ من جَيبِ بِنطالِهِ وهو يَقولُ:
“طيب كده كل حاجه جاهزه ، ناقصلنا واحد يقف جول الناحيه التانيه ولا هندخل جول في نفسنا؟”
وفي تلكَ اللحظه، ظهرَ “طه” عندَ عتبةِ السّطحِ، فوجدَ “موسى” أمامَهُ، يُحدّقُ فيهِ غيرَ مُصدِّقٍ لما تراهُ عيناهُ كانَ يَرَى صَديقَ عُمرِه، الذي غادرَهُ منذُ سنَواتٍ، يقفُ أمامَهُ، وقد اشتدَّ عُودُهُ
رفعَ “طه” يَدَهُ بابتسامه دافئه وهو يقولُ مازحًا :
“وأنا رحت فين يا فرنسا”
ابتسمَ “موسى”، قبلَ أن يقولَ بمزاحٍ:
“انتَ لسه ليك فيها؟ أنا قولت هربت وسِبتنا زمان، عشان ماندخلش فيك أجوان ”
اقتربَ “طه”، وضربَ كفَّهُ في كفِّ “موسى” وقالَ بثقه:
“انتَ اللي مالكش فيها، أنا حارس مرمى بالفطره، ولا نسيت يوم ما صدّيت بلنتي نوح”
رد “نوح” الذي كانَ يَربِطُ الشّبكه، رَفعَ رَأسَهُ وقالَ بِتهكُّمٍ:
“بلنتي إيه يلا ياخايب ؟ ده أنا كنت سايبهالك عشان صعبت عليا، مش أكتر!”
تعالتِ الضّحكاتُ فَوقَ السّطُوحِ، واحتَضَنَ “موسى” صَديقَهُ العائِدَ بعد غياب ،ورُغمَ بُرودةِ اللّيلِ، كَانَ فِي الهَوَاءِ دَفءٌ غَيرُ مَفهُومٍ فِي تِلكَ الأثناءِ، كَانَ “لقمان” لا يَزالُ يَرسُمُ خَطَّ الوَسطِ بِالجبسِ، فَرَفعَ رَأسَهُ قائِلًا بمَزاحٍ:
“يلا يا رجاله، نلعب قبل ما أمكم تطلع تلم الغسيل وتنشر غيره”
قَفَزَ “ادم” من مَكانِه بحَمَاسٍ وَقَالَ:
“اللي هيكسب لي بسبوسه”
ابتسمَ “بشر” ببَلاهَه وَقَالَ:
“لا، أنا عايز كوارع وفتّة ممبار”
كَانَ “نوح” يَقِفُ فِي المُنتَصَفِ وَيَضَعُ الكُره تَحتَ قَدمِيه، وقَالَ بانفِعَالٍ:
“بالله يا رجاله، أحلام الفجريه دي نخلّيها بعد الماتش، الفجر هيأذّن، والشمس هتطلع، والنور في السما هينور ، والديك خلاص هيدن والحياه هتبدأ، والحاج للصلاه هيعبر ، والشارع بالحياه هيعمر ، والحاجه على السطوح هتنشر ، واحنا لسه واقفين نتعذر ، هنلعب أمتى بقى ، انجزوا ”
أَشَارَ “طه” بِرَأسِه وَقَالَ:
“أنا هقف جول وهبقى مع موسى ولقمان.”
جَاءَ “أنس” مِن الخَلف ، وَوَقَفَ بجَانِبَ “نوح ” وَهُو يَلهَثُ قَائِلًا:
“طبيعي جدًا يا حيلتها، طول عمرك في ديل موسى ولقمان، مش جديده يعني ”
طَالعهُ “نوح “وَهُو يَلهَثُ، فَقَالَ بِسُخرِيَه:
“يعمر بيتك، إنت بتنهج من دلوقتي ، ده إحنا لسه مالعبناش ”
اقتَرَبَ “بشر” مِنَهُم وَسَأَلَ بِحَيرَه :
“إحنا هنلعب إيه؟”
تمَالَكت الَجديِه مِن مَلامَح “مُوسى” وَرد :
“يعني.. زي ما انت شايف، كوره، وبنرسم خط النص، وفي شبكه وراك، والكوره في رجلينا وانتَ كنت واقف عند الشبكه هنكون بنلعب إيه؟ طاوله طبعًا”
تعَالَتِ الضَّحِكَاتُ فيِما بينهم ، وأوقَف ضَحكَاتِهم صَوت “نوح” المُتهكم :
“يالهوي اصوت ربنا ابتلاني بواحد بينهج قبل ما يلعب والتاني غبي مش عارف هنلعب ايه من مع اننا ما بنلعبش غير كوره ”
قَطعه “انس” باعِتراض :
” ياعم انا كنت بسخن جسمي ، عشان انزل الملعب جاهز ”
ردَ “لُقمان” بِتَحذيِر :
“خللي بالكم الخسران هيشيل الليله كلها ”
تحدّثَ “نوح” بكلِّ ثِقَةٍ:
“عيب عليك يا زميلي، ده أنا مجهزلكم أحلى شيله”
ردّ “لقمان” ممازحًا:
“ماتفردش نفسك أوي كده، وبلاش الثقه اللي مودياك في داهيه دي يا نوح، عشان في الآخر زي كل مره بتاخد على قفاك”
تحدّثَ “نوح”بثِقَةٍ أكَبر :
“لا، أفرد وأتني كمان ، المره دي أنا مستعدلكم كويس أوي”
تدخّل “موسى” قائلًا:
“براحتك، افرد زي ما انت عايز، بس ماتزعلش لما تلاقي نفسك في الآخر متساب على الرف زي العيش البايت، لا حد طايق يسخنك ولا حتى يرميك”
نظرَ إليهِ باشْمِئْزازٍ:
“صحيح، فران ابن فران…”
أكملَ “موسى” الجمله بِجديه :
“وأفتخر يابني ”
انْقَسَمُوا إلى فريقينِ، الأوّلُ يضمُّ “طه، وموسى، ولقمان” ، والفريق الثاني “أنس، وبشر، ونوح” أَخَذَ كلُّ فريقٍ يُكَوِّنُ دَائِرَتَهُ الخَاصَّه، وَبَدَأُوا يَتَشَاوَرُونَ، حَتَّى قَالَ” موسى” لِفَرِيقِهِ:
“إيه رأيك يا طه تقف انت جول، وأنا ولقمان نبقى في وسط الملعب”
وعَلى النَّاحِيَه الثَّانِيَه، وَالرُّؤُوسُ الثَّلَاثَه مُلْتَصِقَه بِبَعْضِهَا فِي دَائِرَه، قَالَ” أنس” بِحَمَاسٍ:
“أنا هفضل لازق لـموسى، مش هسيبه وأول ما الكوره تيجي بين رجليه، هاخدها وأحدفها لك يا نوح، تمام”
وَافَقَهُ ، وَبَعْدَهَا الْتَفَتَ إلى “بشر” مُحَذِّرًا:
“تمام، وانت يابشر هتقف حارس، خليك واخد بالك، وانت شبه الحيطه كده، إوعى تخلّي الكوره تدخل الشبكه مهما حصل”
كَرر كَلمتهُ كَأَنَّهُ تَذكَر شَيْئًا وَقَالَ:
“زي الحيطه ، طيب ما صحيح، الواد بشر زي الحيطه، نوقفه ورا موسى مش هيعرف يخليه يفلفص منه، إيه رأيك يا بشر ”
أشارَ “بشر” بِرَأْسِهِ بِحَرَكَةٍ بَلْهَاءَ:
“آه، أقف ورا موسى ”
تَردد” نوح” فِي قَرارُه، يهَزَّ أَصبَعُه بِالنَّفْيِ:
“لا لا، خلاص خليك جول أحسن عشان تسد الشبكه كلها، إيه رأيك”
أشارَ”بشر” بِرَأْسِهِ بِنَفْسِ الضِحكه البَلْهَاءِ:
“آه، أنا أقف جول أحسن عشان أسد الشبكه كلها”
اعْتَرَضَ” أنس” وَقَالَ:
“هيسد الشبكه كلها بس لقمان سريع، ممكن يعمله حركه كده ولا كده، هيتحرك ويدخل الكوره بين رجليه، إحنا نخليه يقف ورا لقمان أحسن، مش هيعرف يتصرف، وموسى هيبقى لوحده، إيه رأيك يا بشر”
أشارَ “بشر” بِرَأْسِهِ بِنفَس حَرَكَتهُ البَلْهَاءَ:
“آه، أنا أقف ورا لقمان أحسن عشان موسى مش هيعرف يتصرف”
اعْتَرَضَ “نوح ” عَلَى كَلَامِ “أنس” وَهُوَ يَقُولُ:
“انتَ ناسي إن موسى ممكن يرقصنا كلنا حتى من غير لقمان ، أنا بقول نوقفه أحسن حارس عشان يسد الشبكه كلها، ويقعد على الكوره يبططها لو قربت منه، إيه رأيك يابشر ”
أشارَ “بشر” بِالمُوَافَقَةِ بِنَفْسِ الحَرَكَه البَلْهَاءِ:
“آه، أنا أقعد على الكوره عشان أبططها”
صَرَخَ ” أنس ” وَعَلا صَوْتُهُ:
” يالـــهوي ، اصوت منك واقلب حرمه انت مافيش حاجه ليك رأي فيها كده ، وَلا ، بقولك ايه انتَ هتقف جون ”
رَدَّ “بشر” موافقَا :
“آه، أنا هقف جون”
أتى صَوْتُ “طه” بِقول:
“إيه كل ده ، بتتشاوروا ”
رَدَّ عَلِيهِ “أنس”:
” ماسمهاش مشوره ده تكتيك يامغفل ”
اِتَّخَذَ كُلٌّ مِنهُم مَكانَهُ فِي المَلعَبِ، فَاتَّجَهَ ” بشر ” نَحوَ الشَّبَكَه بِخُطى واثِقَه، وَهُوَ يُردد بِحَماسٍ :
“آه، أنا هقف في الشبكه عشان أجيب جون”
كانَ المشهدُ متكاملًا، ففي المُنتصف وقفَ ” ادم ” يُمسكُ عُملةً معدنيةً، والكرةُ تنتظرُ القرارَ تحتَ قدميهِ، وفي ظلِّ تلكَ اللحظه الحاسمه، اقتربَ منهُ
” أنس “، وهمسَ في أذنِهِ بصوتٍ خفيفٍ، لكنهُ مشحونٌ بالتهديدِ المُغلفِ بالمزاحِ:
“لو جت على الكتابه هنفخك”
أَطلقَ ” آدم ” العُمله في الهواءِ، فاستدارت في الهَواء لحظاتٍ متباطئه قبلَ أن تهبطَ على راحةِ يدهِ، وقدْ استقرَّت على جهة الكتابه دونَ ترددٍ، رَمى الُكره أرضًا وانطلقَ راكضًا، بينما انتفضَ الجميعُ من أماكنِهم كما لو كانوا في نهائيٍّ حقيقيٍّ وحدَهُ ” آدم ” اختارَ أن يكونَ المشجعَ والمعلقَ، فجلسَ على الطوبه الكبيرةِ في زاويةِ السطحِ، ناظرًا إلى اللاعبينَ بعينِ الخبيرِ، قبلَ أن يلمحَ إلى جانبهِ قطعةَ خشبٍ، أمسكَ بها متخيلًا أنها ميكروفونٌ، ثمَّ قالَ بصوتٍ مزيجٍ من الحمَاسه والهدوءِ:
“هنا السطوح ، أحدثكم من فوق سطوح عم الحج نصار وأولاده الخمسه، وأحب أنوه وأقول إن الماتش ابتدى ومعانا هتشوفوا العجب ”
بدأتِ المُباراه بحماسٍ مُشتعِلٍ، كأنهم في نهائيِّ كأسِ العالم، رغم أنَّ الكُره لم تكن إلَّا كُره بلاستيكيَّه شِبهَ مُفرَغه من الهواء، لكنَّ ذلكَ لم يَمنعْهُم من الرَّكضِ والصِّراخِ كالمُحترفين
مَرَّرَ ” لُقمان ” الكُره إِلى ” موسى ” بِسُرعه، لَكِنَّ ” أنس ” اِنقَضَّ عَلَيهِ كَالبَرقِ وَخَطَفَها بِحَرَكه مَهارِيَّه فاجَأَت الجَمِيعَ فقال:
“إيه يا عم موسى، إنت ناوي تلعب ولا تعمل لنا عرض بالكوره”
رَفَعَ ” موسى ” يَدَيهِ مُعتَرِضًا، وَكَأَنَّهُ لَا يُصَدِّقُ مَا حَدَثَ:
“ده أنا لسه مستلمها يا بني آدم ، إنتَ كنت مستخبي ورايا ولا ايه ”
لَم يُمْهِلْهُ ” أنس ” فُرصَه، فَانطَلَقَ بِالكُرَه نَحوَ المَرمَى، وَلكِنَّ ” لقمان ” لَم يَكُن لِيَدَعَهُ يَعبُرُ بِسُهُولَه قَفَزَ عَلَيهِ بِطَرِيقَه كُومِيدِيَّه، حَتَّى كَادَ يُسقِطُهُ أَرضًا:
“هات الكوره ده أنا ضهري اتقطم وأنا برسم الخط الأبيض”
وَفِي زَاوِيَةِ المَلْعَبِ، كَانَ ” نوح ” يُشَاهِدُ المَشهَدَ ضَاحِكًا وَهُوَ يَهتِفُ بِمَرَحٍ:
“دي مش مصارعة تيران يا حبيبي”
كَادَ ” أنس ” يَفقِدُ تَوَازنه، لَكِنهُ نَجَحَ فِي تَمرِيرِ الكُرَه إِلَى ” نوح “، الَّذِي رَاوغَ ” موسى ” بِخِفَّه وَصَاحَ بِحَمَاسٍ:
“عــــدي… عـــــــــدي”
وَلَكِنَّ ” موسى ” رَدِّ بفِعل مُبَاغِتٍ، مَدَّ قَدَمَهُ بِسُرعَه خَاطِفَه، وَخَطَفَ الكُرَه مِن بَينِ قَدَمَيه ، ثُمَّ أَسرَعَ نَحوَ المَرمَى
كَانَ ” بشر “، الحَارِسُ، وَاثِقًا فِي نَفسِهِ وَقَد فَتَحَ ذِرَاعَيهِ، مُحَاوِلًا إغلَاقَ الطَّرِيقِ أَمَامَ “مُوسَى”، وَهُوَ يَصِيحُ بِتَحَدٍّ:
“هات اللي عندك يا لعيب زمانك”
لم يَتَرَدَّد ” موسى” ، فأدْرَكَ أن الفُرصه أمـامُه، فانْطَلَقَ بالكُره، مُتجَاوزًا ” نوح ” ، الذي حاوَلَ وَقْفَهُ بِحركات مُرْبِكه كَساحِر يُلْقي تَعويِذه ، لَكن ذَلك لَم يُؤَثِّر فِيه وعندما وَصَلَ أمام ” بشر” لاحَظَ فتحه ضَيقه بِين قَدميِه ، فَأرسل الكُره مِن خِلالهَا مُسجلًا هَدفًا رَائعًا.
صَرَخَ ” موسى ” فرحًا، وانْطَلَقَ في كُل الاتِجَاهات كأنُه أحَرز هَدف الفُوز فِي نِهائي العَالم، وكَان
” طه ” يِحتَفل معُه وهَو يَهتف بِحماسٍ:
“هـــــوووه ، احترموا الموهبة بقى”
طالع ” نوح و أنس ” بَعضهم الَبعض والغِيظ كَاد ان يَلتهمهُم ، صَاح ” نوح ” فِي ” بشر ” غَاضباً :
” طول ما أنت فاتح رجليك كده ربنا مش هيكرمنا أبداً ، يابني اقفل رجليك شويه”
تَوقف ” موسى ” ومَن معُه عَن الِأحِتفَال فَغمز ” لُقمان ” بِطرف عِينيه لـ ” أنس ” قَائلاً :
” ايه كفايه كده ، ولا لسه عايزين تتلسوعوا زياده ”
مَر ” أنس ” بِجانبُه وهَو يَلهث مِن كَثره الركَض :
“كفايه ايه ده احنا لسه بنسخن ”
مرّر ” لُقمان ” الكره لـ ” موسى ” ، ” موسى” لمَسها بِمهاره ، لَكن فَجأة… انِقضّ ” أنس” عليِه مِن الخَلف وخَطفها فِي لَمح البَصر
انِفَجر ” موسى ” أِعتراضًا:
“إيه ده ، إنتَ ملازمني في كل حركه انت كنت مستخبي تحت البلاط ”
تَدحرجتِ الكُره سَريعًا فوقَ سطحِ المنزلِ، بينَ أقدامِهم في مَعركه بَدتْ كأنها الأهمُ في التاريخِ ارتفعتِ الضحكاتُ والهتافاتُ، وصَوتُ الأقدامِ يُطرقُ الأرضيه العَتيقه بِحماسٍ طفُوليٍّ لا يَعرفُ الهِدوءَ
كانَ ” أنس ” أوَّلَ من استحوذَ علَى الكُره ، ركضَ بِها كَأنما يُحاولُ الفِرارَ مِن شيءٍ ما، لكنَّ” لقمانَ” لم يكنْ ليتركَهُ وشأنَهُ تحرَّكَ أمامَهُ فجأه، ولوَّحَ بيديهِ بِطريقه غَريبه، كَأنما يُحاولُ تشتيتَهُ بِخدعه بَصريه
صرخَ ” أنسُ “، متراجعًا قليلًا وهُو يحاولُ الحفاظَ علَى الكُره :
“ابعد يالقمان أنتَ بتلعب كوره ولا بتعملي تعويذه”
لكنْ قبلَ أن يجدَ فرصةً للمُناوره، انقضَّ ” نوحُ ” مِن الخلفِ، وخَطفَ الكُره في غَفله مِن الجميعِ، وانطلقَ بِها بِسُرعه وهَو يَهتفُ مُتحديًا:
” الدكر ياخد مني الكوره فيكم ”
اِقتربَ ” طهُ ” ليوقفَهُ، لكنهُ لم يكنْ يعرفُ كيفَ يتَصرفُ، فقررَ حلًا غيرَ متوقعٍ على الإطلاقِ…
قفزَ نحوَ ” نوحٍ ” واحتضنَهُ فجأه
تجمَّدَ ” نوحُ ” في مكانِهِ، ثمَّ نظرَ إليهِ بذهولٍ وهو يهتفُ:
” ده سطوح بيتنا اللي بنلعب عليه مش حضانه ياطه ”
لكنْ الكره سقطتْ أثناءَ العناقِ الإجباريِّ، ليقتنصَها لقمانُ ” سريعًا ويمررَها لـ ” موسى ” ، الذي قررَ أن يستعرضَ مهاراتِهِ، فقذفَها للأعلى برشاقه ، ثم تركَها تهبطُ تحتَ قدميهِ، مستعدًا للمراوغه كانَ الجميعُ يتحركُ بسرعه ، والسطحُ يهتزُّ تحتَ وقعِ أقدامِهم، كأنهُ جزءٌ من اللُعبه ، يتفاعلُ معهم، يشاركُهم ضحكاتِهم وانفعالاتِهم
لكنَّ نوحً لم يكنْ ليتركَ ” موسى ” يتفاخرُ طويلًا بعدَ عدةِ محاولاتٍ، استطاعَ خطفَ الكره منهُ، ثم اندفعَ بها نحوَ المَرمى، عازمًا على إنهاءِ المباراه بهدفٍ حاسمٍ ، إلا أنَّ الحظَّ لم يكنْ في صفِّهِ…
تعثرتْ قدمُهُ في حفرةٍ صغِيره علَى السطحِ، فقدَ توازنَهُ تمامًا، وبدلًا من أنْ يسددَ الكره … هوى بجسدِهِ بالكاملِ داخلَ المرمى
سادَ صمتٌ لثوانٍ، قبلَ أنْ ينفجرَ ” آدمُ “، الذي كانَ يراقبُ المباراه من بعيدٍ، ضاحكًا بأعلى صوتِهِ:
“جـــــــــــول ، بس نوحُ اللي دخلَ مش الكوره ”
في لحظه ، انهارَ الجميعُ من الضحكِ، حتى
” أنسُ ” كانَ يمسحُ دموعَهُ وهو يهتفُ:
” أنا اه عايزك تجيب جول بس مش بنفسك ياحبيبي ، هي الكوره كانت أثرت معاك في حاجه”
وقفَ ” نوحُ ” أخيرًا، ينفضُ الغبارَ عنْ ملابسِهِ، محاولًا التظاهرَ بالتماسكِ، ثم قالَ بثقه مصطنعه:
” ده بس عشان احنا نختلف عن الأخرين ”
لكنْ ” لقمانُ ” لم يتركِ الفرصةَ تمرُّ دونَ تعليقٍ، اقتربَ منهُ وهو يضحكُ قائلًا:
” حصل لدرجة أنك بقيت جزء من المرمى ”
وضعَ ” موسى ” يدَهُ على كتفِ ” نوحٍ ” وربَّتَ عليهِ وهو يبتسمُ بخبثٍ:
” لا بس الحق يتقال ادائك أتحسن كتير المره دي ”
رفعَ ” نوحُ ” حاجبَهُ مستنكرًا وقالَ بتهكمٍ:
“أتريق ، أتريق ”
وفي اللحظةِ التاليةِ، انفجرَ الجميعُ من جديدٍ، جلسوا على الأرضِ، غيرَ قادرينَ على التوقفِ عن الضحكِ كانَ السطحُ قد صارَ عالمَهم الصغيرَ، حيثُ لا قوانينَ سوى المتعه ، ولا همومَ سوى منْ سيكسبُ ومنْ سينفذُ العقابَ، ولا ذكرياتٍ سوى ضحكاتِهم التي ظلَّتْ تترددُ في الهواءِ، كأنها جزءٌ منَ المكانِ لنْ يُمحى أبدًا
. . . .
كَان الفجر يَنسِج خُيوطَه الأولى، يَغمُر الأرضَ بهُدوءٍ يُشبِه أنفاسَ النائمين، نَسائِمُه البارِده تُرَبِّتُ على الأرواحِ المُتعَبَه، كيدٍ خَفِيّه تَمسَحُ عن القُلوبِ أَثقالَها في هذا السُّكونِ، لم يَكُنْ يَسمَعُ سِوى هَمَساتِ الريحِ ونِداءٍ بَعيدٍ مِن مِئذَنةٍ تُرَدِّدُ ذِكرَ الله
دخل ” نصار ” الى المَسجِدِ بخُطواتٍ بَطيئه ، وقد خَفَّت وَطأَةُ الهَمِّ في صَدرِه لم يَكُنْ على عَجَلٍ، وكأنَّ الزَّمنَ تَوَقَّفَ قَليلًا لِيَمنَحَهُ لَحظَةَ صَفاء جَلَسَ في زاوِيه بَعيده يَنتَظر أقِامة الصَلاه ، أَسنَدَ ظَهرَه إلى الجِدارِ، وأَطلَقَ بَصَرَه إلى السَّماءِ الداكِنَه التي بَدَأَت تُخَفِّفُ مِن سَوادِها فَتَحَ المُصحَفَ، وأَخَذَ يَقرَأُ بتمَهُّلٍ، يَترُكُ كُلَّ آيَةٍ تَتَسَلَّلُ إلى قَلبِه كَنَسمَه بارِدَه وعِندَما أَنهى ما شاءَ قِراءَتَه، أَغمَضَ عَينَيه بِهدوء لِيَستشعِرَ الطّمَأنِينَه التي بَدَأَت تَنسابُ داخِلَه
لم يَدُم صَمتُه طَويلًا، حتَى شَعر بِأحدهم يَجلس جِوارِه، فَتَحَ عَينَيه على مَهلٍ ليِجد الحاجُّ ” رَحيم” بِابتِسامَتِهِ الهادِئَه التي تَحمِلُ بَينَ تَجاعيدِها حِكاياتِ العُمر رَفَعَ بَصَرَه إليه، وكأنَّهُما يَتَبادَلانِ التَّحيَّه بلا كَلِمات كانَ في حُضورِهِ سَكينَه تُشبِهُ هذا الوَقتَ مِن اللَّيلِ، حينَ يَكونُ العالَمُ أَقرَبَ ما يَكونُ إلى السُّكونِ، وأَقرَبَ ما يَكونُ إلى الله
أخَذ ” رحيم ” يُقلب بيِن حَباته سائلاً بصوتً هَادىء :
” عامل ايه ياراجل ياطيب ”
اتَسعت ضِحكَة ” نصار ” وكَأنُه يُريد طَمأنة نَفسهُ قبَل طَمأنة غَيُره :
” انا بخير طول ما أنتَ بخير ياحج رحيم ، طمني أنتَ عليك وعلى أحوالك ”
تَنهد قَبل أن يَرد وكأنُه يُفرغ ما بِصدره في تنهِيدتُه الطوَيِله :
” اهوه ، نحمد الله على كل حال ، الا قولي عملت ايه في الدين اللي على الفرن يانصار ”
تَنهد بِحزن قَبل أن يِرد :
” العمل عمل ربنا يارحيم ”
خَطف نَظره مِنهُ سَائلاً :
“ونعم بالله محدش قال حاجه يانصار ، بس انا بدي اعرف هتسده ازاي الأيام بتقرب وكل ما الأيام بتعدي الديون بتكتر ، قولتهالك الف مره وهفضل اقولهالك تاني ، لازم تقول لولادك يانصار وتشرك مراتك معاك عشان يشيلوا المسؤوليه وماتبقاش لوحدك ، لازم يلاقوا حل ”
رَفض ” نصار ” اقِتراحه بقول :
” لاء ، كله الا نعيمه ، نعيمه لو عرفت مش هينوبها غير شيلت الهم في القلب ، والعيال مش حِمل همّ تقيل زي ده يا رحيم كفايه عليهم همهم ، كُلّ واحد فيهم شايل همّه وعارف إنّي مش هكون معاه يوم جوازه ، الشِّيله بقت تقيله في زمن ما يعلم بيه إلا ربنا، زمن بقى الواحد فيه يحسب اللقمه قبل ما ياكلها، ويتعوّذ من الفاتوره قبل ما تِجي، زمن الخير فيه بقى محسوب، والراحه بقت غنيمه
رَأى ” رحيم ” الضِيق في عِينَيه ، فاقتَرح عليِه لأيِجاد مَخرج :
“طب ما تفكر تبيع الفرن وتخلص من الدين، يمكن ترتاح من الهم اللي شايله على كتافك لوحدك ”
هَز ” نصار ” رأْسُه دليَل على رفُضه بِأصَرار :
” أبيع الفرن .. الفرن ده مش مجرد طوب ونار وعجين، ده عمري اللي اتحسب برغيف طالع من النار، ده اللي كنت بوقد ناره من الفجر وأقول رزقي عليك يارب ،الفرن ده اللي شِلت همّه أكتر ما شِلت همّ نفسي
أبتَسم بِمرار، يُردد كلَامه وكأنُه غيِر مُصدِّق لمَا سمَع يَستردف :
” أبيع الفرن !! اللي أبويا كان بيقف فيه، ده أنا كنت أشوفه وهو بيعجن بإيده، كنت صغير وأتفرج عليه وهو بيحط العيش في النار، ولما يطلعه، ريحته تملى الدنيا بركه كان يقولي الرغيف ده مش مجرد دقيق ومَيّه، ده تعبك، وعرقك، وصبرك.. لو صبرت عليه، هيشبعك، ولو استعجلت عليه، هيتحرق في النار
ثُم نَظر إلى ” رُحيم “نَظره طَويله وقَال بِصوتٍ خَافت لَكن ثَابت:
“لو بعت الفرن يعني أرمي نفسي في بحر
مالهوش آخر الدين هيتسدد، والهمّ هينزاح، بس الفرن لو خرج من إيدي، عمري كله هيخرج معاه ”
حَاول ” رُحِيم ” تَهدئتُه، لَكنه سَأله بِقلَق:
” طيب لو مابعتش الفرن هتسدد ازاي ، ازاي بس يانصار ، ما انا وانت عارفين اللي فيها ومن غير زعل انا بحاول الاقى معاك اي حل عشان تخرج من اللي انتَ فيه كل كلمه قولتها عندك حق فيها وللأسف الزمن اتغير مابقاش زي زمان ومابقاش فيه حد بيقف فيه جنب التاني زي الاول ”
رَمَقُه بِعيِنين أقرب للحنِين الى المَاضى قَائلاً :
” ماتلومش حد يارحيم عشان زمان غير دلوقت ،زمان الدنيا كانت أبسط، والناس كانت عايشه على القليل بس قلبها مليان كانت البيوت مفتوحه ، واللقمه لو قليله كانت بتكفي وتزيد، لأن البركه كانت في كل حاجه الجار كان أخ، والصاحب كان سند، والناس كانت بتساعد بعض كنا بنشتغل من طلعة الشمس لغروبها، بس كنا بنرجع بعيشه مستوره ، وأهم حاجه كنا راجعين ببال مرتاح، مش بديون وهمّ .. دلوقتي ، تشتغل العمر كله وما تضمنش قوت يومِك، وتاخد القرش النهارده، تخاف ينقص نصّه بُكره
أجَابه ” رحيم ” بِنبره تَحمل خَليِطًا مِن الحِيره والأَسى َ :
“وعلشان الزمان مابقاش زي زمان لازم تعرف ولادك كل شىء قبل فوات الأوان ، هتفضل شايل همك لوحدك لحد ما تقع ، ولادك أولى بيك من الغريب ،،
أجَابُه بِصوتٍ مَغموسٍ بالحُزن :
” الكلام ده لو كانوا مرتاحين، لو عايشين من غير وجع، كنت قلت ماشي.. بس تطلب من الغريق إنه ينقذك ده حتى يبقى قسوه مش طلب مساعده”
تُم أردَف بِأسَى :
“على ايامنا الشاب كان بيبني بيته بالطوب والطين، بس كان قلبه مليان دفا، كنا بنشيل بعض، دلوقتي كل واحد شايل نفسه بالعافيه لقمان كسر التلاتين ولسه بيحفر في الصخر بضوافِره، بيحارب علشان يمهِّد لحياته الجديده بيشتغل شغلانتين ومش كافي ، والزمن مش سامحله يبدأ من غير ما يكون شايل جبل على كتافه وموسى كل شويه في بلد، مش عارف يرسى على برّ، زي اللي بيجري ورا السراب ، وإخواته نفس الحال، عايشين في دوامة الأسعار والشغل اللي بيسندهم بالعافيه ”
ارتَفعت نَبرة صَوتِه وهَو يُكمل :
” أجي أنا بقى وأزود همّهم ، أشيلهم حمل مش حملهم ، لا ده حتى يبقى حرام عليا ، زمان الأب كان يسند ولاده، دلوقتي الولد هو اللي بيشيل أبوه الدنيا تغيّرت، بس مش للأحسن، كانت ضلمه وبقت أضلَم، وكأن الخير بيتسرسب من بين إيدينا وإحنا مش قادرين نمسكه
طالعُه بِِحيِره وعَاد لِسؤالُه مِن جَديد :
” كل اللي قولته أنا عارفه و معاك كل الحق فيه ، بس هنرجع ونقول الحل اييه وهتعمل ايه فـ
بتَر ” نصار ” حديِثه بِقول :
“يا رحيم، الراجل مننا طول ما فيه نفس لازم يفضل واقف على رجله ، ويوم ما أمد إيدي لعيالي يبقى خلاص، انتهى اسم نصار، وأنا مش مستعد أوصل لليوم ده ”
سَاد الصَمت للِحظات، ثُم أكمل بِلهجه أقَرب للتَحذيِر:
” العيال ولا نعيمه مش عايزهم يعرفوا حاجه عن اللي بيحصل يارحيم ، ماتخلنيش أندم اني حكيتلك في وقت القلب كان ضاق ومحتاج يفك ضيقته معاك ”
هَز رأْسُه خاضِعًا لِطلبُه :
” اللي تشوفه يانصار ”
. . . .
. . .
على سَطحِ المنزلِ، مازَالَ الشبابُ يَجلسُون معًا ، يتبادلونَ الأحاديثَ وسطَ هواءِ الليلِ البارِد، جلسوا مُتقاربينَ، يُشكّلونَ دائرةً مُغلقةً، بينما كانَ ” أنس “، مُنشغِلًا بإشعالِ الفَحمِ، يَنفُخُ فيهِ بصَبرٍ
يَقِفُ” لُقمان ” قريبًا منه يُراَقبَهُ بِطَرف عَينُه، فْرُكُ گفيِه بِبَعضُهمَا مُحَاولاً أن يَسرق بَعضِ الدِّفءِ، قَائلاً بِأبتسَامه جَانِبيه :
“اخلص بقى يا أنس، كأنك بتشوي العمر مش كوزين درة دول ، ده انت لو كنت بتزرعهم كنت زمانك حصدتهم يا أخي ”
لَم يَرفع ” أنس ” عَينَيهِ فَقط لَوح بِيده فِي الهَواء وكَأنهُ يَطرُد كَلِماته ، ثم عادَ يُهَوِّي على الشَّوايه، قائلًا دونَ أن يَفقِدَ هُدوءَهُ:
“حاجات كتير تستاهل الصبر ومنهم الدره كل ما تصبر على شَويه ، كل ما يبقى طعمه أحلى
يا أهوج ، أنتَ فاكر شوي الدره ده بالساهل ”
عَلى الجانِبِ الآخَرِ، كانَ ” طه ” يُدس كَفيه دَاخل جَيبِه ليُطْرِدَ عنهما البَردَ، ثم التفتَ إلى ” موسى ” وسألَهُ بِصوتٍ خَافت ، لَكن فِيه مِن الفِضول مَا يَكفي لإشعَال حَديث جَديِد :
“كنت فين المرة دي يا موسى”
ابتَسَمَ ” موسى ” ابتِسامةً دافِئةً، وبصَوتٍ هادئٍ يَحملُ في طيّاتِهِ شيئًا من الحَنينِ، أجابَ وكأنَّ الاسمَ نَفسَهُ يَملِكُ وَقعًا خاصًّا في قلبِهِ:
“كنت في العــــراق”
مَرر ” نوح ” نَظُره سَريعِه بَيِن رفَاقه ، ثُم مَال قليلًا نَحو ” موسى “، قَائلًا بِنَبره شِبه مَازحه :
” مالك بتقول العراق كده وأكنك سايب حته منك هناك ”
أطَرق ” موسى ” لِلحظه ، ابِتسِامه صَغيِره مَرت علَى طَرف شفَتِيه قَبل أن يَجيِب بِصوتٍ دافِئ:
“يمكن… بس القلب لسه صايم، مستني اللي ترويه”
كَان لِكلماتُه وَقع جَعل الجَميَع يَصمُت لِثوانٍ، كَأنهُم يَتركونَها تَستَقر في أمَاكِنها، ثَم كَان ” أنس ” أول من كَسر الصَمت، بِنبرةً غَير مُصَدقه تمامًا:
“كل البلاد اللي روحتها، ومفيش حد خطف قلبك؟ مستحيل”
ولَم يَنكَر هو :
“قابلت جمال يخطف العين، لكن اللي يخطف القلب لسه مظهرش ، كل واحده فيهم كان فيها حاجة تشدّ ، بس لما القلب يتشدّ، لما يحس إنه وصل، ساعتها هعرف… ساعتها مش هتردد، هخطفها وأخبّيها عن عيون الناس، زي ما سرقت قلبي بنت اللذينَ ”
تَنهد ” بشر” و قَال بِنبره حَملت في طيَاتها أُمنيِه قَديِمه لَم تَتحقَق:
“يا بختك… على الأقل شوفت بلاد غير اللي اتولدت فيها أنا عمري ما سافرت، ولا حتى عديت حدود السويس، واللي زيي عمره ما هيسيب مكانه، دايمًا مربوط بالمسؤوليات”
لَم يُفوّت “نوح ” الفُرصَه ، فَأردف مُبتسمًا:
” من السويس بس .. أنتَ عمرك ما طلعت من حي الكويت اصلاً ، أنتَ اخرك الاربعين يابني وبعد كده بتوه في شبر مايه ”
ضَحكَات خَفيِفه تَسربت، لَكن ” بشر ” لَم يَرُد، فَقط نَظر ” لموسى” وسَأله بِعفويه صَادقه:
“بما إنك الوحيد اللي شاف الدنيا… إيه أكتر بلد حسيت إن بناتها مميزين؟”
رَفع “موسى ” نَظُره إلَى السَماء لِلحظه، كَأنهُ يَبحث عن إِجَابة وَسط النجُوم، و قال بِنبره تَأمُليه:
“كل بلد فيها جمالها… كل واحده شفتها كانت كأنها لوحة، مليانه تفاصيل تحكي قصصها.”
صَمت قِليلًا، وبدأ يُعدد، وصَوته يَأخذ لَون الذكريَات:
“عيون بنات الكويت فيها سحر يخلّيك تسرح وماترجعش ”
“ولا ضحكة بنات الأمارات زي نسمة الصبح، خفيفة بس تسيب أثر”
“وهدوء بنات الأردن وقار وجمال، كأنها بتتكلم من غير ما تنطق ”
“رقة بنات لبنان زي أغنيه حلوه تسمعها وتفضل فودانك مش عايزها تخلص ”
“سحر بنات العراق لغز جميل، كل ما تفُكّه تكتشف سرّ أجمل ”
“نعومة بنات تونس زي وردة يدوبك تلمسها تخاف عليها”
كل بنت عربية عندها حاجه تخليك تفتكرها حتى لو شُفت ألف غيرها”
إِنتَهى ” أنس ” أَخيرًا مِن شَوي الذره ، فَأخذ يُقسمها الَى نِصفين ، ألقى النصف منها إلى
“لقمان “، ثُم رمَى الآخر إلى ” موسى ” وقَال وَهو يَبتَسم:
” قول ياسيدي قول ، مش زي الغفر اللي عندنا في مصر ”
هَز ” موسى ” رَأسُه، وَنَظر للذره بَين يَديه قَبل أن يَرفع عيَنيه إلَيهم، قَائلًا بِصوتٍ يِكسُوه يَقين هَادئ:
“مين قال كده ، بنات مصر فيهم كل ده وزياده عليهم قوه وشموخ، وحياء ، مزيج مش سهل حد تفهمه، بس اللي يفهمه، يعرف إنه قدام حاجه نادره
الجدعنه تلاقيها في بنات مصر ، والضحكه تفتح لك ألف باب، والحنيه تكفي مدينه ، تحسها أم حتى لو كانت صغيره ، صادقة زي مية النيل، ما تعرفش تزيف.”
طَالعهُ ” لُقمان ” ثُم جَلس بِجانِبه يُربِت عَلى كِتفه، يَقول بِمرح دافِئ، لَكن عيِنيه تَحمِلان تسَاؤلًا حقيقيًا:
“ولما كل ده في بنات مصر… مفيش ولا واحده دخلت قلبك لحد دلوقتي ليه”
تَلاقى نَظر ” موسى “مع أعُينهم جَميعًا، كَانوا في انِتظاره أن يَجيِب، لَكنهُ فَقط اِكتَفى بِأبتَسامه بَسيطه، ناظرًا إلى الَنار التِي كَانت تَتراقص أمَامهَم، وكَأنُه يَرى فِيها إِجابتُه قَائلاً:
” يمكن عشان مستني حاجه… أو حد، يشد قلبي من نظرة عين، مش أكتر نظره واحده تخلي الدنيا تسكت، والزحمه تهدى، وألاقي قلبي سبقني قبل حتى ما أفهم ساعتها، ممكن ألاقي نفسي بعمل حاجات ما كنتش أتخيل إني أعملها، بقول كلام عمري ما فكرت أقوله، وبمشي في طرق ما كنتش حتى شايفها يمكن وقتها أدرك إن في حاجات وجودها لوحده يغيّر قوانين الحياه… وإن في عيون، مجرد ما تقابلها، تاخد منك كل شيء، ومع ذلك تحس إنك لأول مره… لقيت نفسك ، وكل ده من نظرة عين ”
تبادَلوا النظراتِ سريعًا، وكأنَّ كُلَّ واحدٍ منهم ينتظرُ الآخرَ ليبدأ، لكنَّ ” نوح ” لم يحتَجْ إلى دَعوه ابتسَمَ ابتسامه ساخره قَبل أن يقولَ بصوتٍ يحملُ سُخريةً واضحه:
” يعني من الأخر كده عايز تبقي عبيط زي لقمان وواحده تمشيك وراها ومن كتر حبك فيها ماتشوفش عيوبها”
اعَترض ” طه ” فورًا، محَاولًا تَهدئة الأجَواء:
“ايه اللي بتقولوا ده يانوح مش كده”
طَالعه ” لُقمان ” وهَو يَردف بِنبره شِبه مَختَنقه :
“سيبه ياطه انا ما بقيتش ازعل من كلامه خلاص”
أطَلق ” آدم ” زفيرًا مُنهكًا يُدحرِج مِقلتَاه بِينَهم لَيَنبس بِنَبره صُعِقت مِن كَونِها خَافِته وَمُهتَزه للِغايه :
” بس .. بس أنتَ زعلت يالقمان ”
لم يَجِب ” لُقمان “، لكنه طَرَفَ بعينيه للحظةٍ، حركةٌ صغيرةٌ، غيرُ ملحوظةٍ إلَّا لمن كان يُراقب عن كثب…و” آدم ” كان يُراقب لم يحتجْ إلى تردُّد، بل أكمل، نبرته تحمل يقينًا يتسلَّل إلى المسامِ ببطء:
“عينك بتلف في المكان، مش بتثبت على حدٍّ فينا مش عايز تواجه”
صَمت ” لُقمان “، أنفاسُه تكاد تكونُ هادئةً أكثرَ ممَّا ينبغي، وهذا وحدَه كان كافيًا ليعرفَ ” آدم ” أنَّه يحاول التماسُك… يحاول أن يبدو بلا مبالاةٍ، لكنه يفشل ابتلع ريقَه ببطءٍ، إلَّا أنَّ ” آدم ” لم يمنحْه هدنةً، لم يتراجع:
“وهرشت ورا راسك ، محاوله تبعد بيها التوتر، كأنك بتحاول تشتِّت دماغك عشان ما تفكرش في اللي قاله نوح ”
تحرَّك ” لُقمان ” في مَكانه، جَسدُه يتَململ وكأنَّه فقد راحته المعتاده، لَكن حَتى هَذه الحَركه لم تمرَّ على ” آدم “، فابتسم ابِتسَامه بِالكاد تُرى، ثُم قَال بِنبرةٍ أكثرَ ثباتًا، وكأنَّه يُلقي بالمرآة أمام “لقمان” ليجعله يرى نفسه بوضوح:
“حاولت تحافظ على نبرتك، تبقى هادي، كأن الكلام ما فرقش معاك… بس المشكله إن الهدوء ده زايد عن الطبيعي، مش شبهك، وده اللي بيعرفني إنك بتجبر نفسك عليه ”
تحرَّك “لقمان” مجددًا، غيَّر وضعيةَ جلوسه، رفع رجله وسند على القدم اليُسرى ، وعندها فقط، تَلاشت الِابِتسامه عَن وجه ” آدم “، لتحلَّ محلَّها نظرةٌ أكثرُ عمقًا، أكثرُ اختراقًا، قبل أن يهمس بصوتٍ منخفضٍ لكنه مُحمَّل بثقل الحقيقه:
“وبعدين غيرت قعدتك… رفعت رجلك وسندت على الشمال ده معناه إنك بتحاول تحمي نفسك… مش مننا، الوضعيه دي مش راحه ، دي درع أخير بتحاول تخفي وراه اللي جواك المشكله مش إنك مش حاسس… المشكله إنك مش عايز تحس”
سقط الصمتُ كالسيفِ، قاطعًا كلَّ محاولةِ إنكار، كلَّ سبيلٍ للهروب الجميعُ كان يُراقب ” لُقمان “، لكنه وحدَه من شعر بأنَّ عيني ” آدم ” كانت مرآةً تكشف كلَّ ما لم ينطقْ به، وكلَّ ما لم يجرؤ حتى على الاعترافِ به لنفسه ”
نَبسَ ” آدم ” دون شُعوراً مِنهُ وَهو يُطَالع الفَرَاغ فِي شُرود :
” انا مش عارف أذا كنت اللي هقولوا ده هيزعلك ، بس نوح عنده حق في اللي قاله ”
حَالَما تَفوه ” أدم ” بِذَلك الكَلاَم حَتى تَركَ ” نوح ” كُل شَىءِ وصَاح :
” شوفت .. جالك كلامي حتى أدم ، أدم اللي مابيفهمش في الدنيا حاجه بربع جنيه شايف اللي أنا شايفه ”
فَزفر ” لُقمان ” بقول :
” حتى أنتَ يا أدم ، أنا مش فاهم شيماء مضايقاكم في ايه ”
وَلَم يَكُن لـ ” آدم ” سِوا السُكوت بِفمٍ مُطبَق إثَر كَلاَمهُ البَارد الذيِ هُطِل عَليِه فَتحدث ” نوح ” مُبتسِمًا:
” ماتسيب الراجل يبعبر عن اللي جواه بطريقته ده أول مره ينصفني في حاجه في حياته ”
حَاول “طه ” تهدئة الأجَواء:
“نوح، مش كل الناس زيك… يعني مش لازم يكون غلط، يمكن شيماء تكون كويسه لي”
أَصدر ” بشر ” ضِحكه جَامده جَعلتَهُ يَردِف :
” وأنتَ مين قالك أنها ممكن تكون كويسه اكيد موسى ”
وكَأنها تُهمه ونفاها عنَهُ:
“لا والله، بس واضح إنكم هتشيلوني الذنب، مع إني ماشفتهوش من سنين ”
التفَتَ الجميعُ إلى ” موسى ” ، الذي كان ينظُرُ إلى النّارِ المُتراقِصَةِ أمامَهُ، عاقِدًا حاجِبَيهِ قليلًا، كأنَّهُ يُفَكِّرُ بِعُمقٍ تَرَكَهُم يَنتَظِرونَ لَحظَةً، ثُمَّ قالَ بِصَوتِهِ الهَادِئِ:
“الغريب في الإنسان إنه ممكن يكون شايف الطريق اللي ماشي فيه غلط، بس بيكمل فيه لأنه خايف يعترف إنه اختار غلط من البدايه… ساعات القرار مش بيكون عن قناعه ، قد ما بيكون عن خوف، خوف من إنك لو تراجعت الناس تقول عليك ضعيف، أو حتى خوف من إنك لو بصيت جوا نفسك، تكتشف إنك كنت عارف الحقيقه من الأول وبتكذبها ”
يَسودُ الصَّمتُ لِثَوانٍ، ثمَّ تَحَدَّثَ ” لُقمان ” وكأنَّ الكَلِماتِ تَرَكَت أَثَرَها:
“بتحاول تقول إني مش مقتنع ”
أصَدر ضِحكه وهَو يَقول :
“أنا مش بحاول أقول حاجه ، أنا بس بتكلم عن فكرة عامه… بس خليني أسألك، انت سعيد ”
تجمَّدَ لُقمانُ للحظةٍ، وكأنَّهُ لم يَكُن يَتوقَّعُ هذا السُّؤال، لكنْ قبلَ أنْ يُجيبَ، يَتدخَّلُ نُوحٌ سريعًا، كعادَتِهِ، دونَ أنْ يُدرِكَ أنَّهُ يُلقِي قُنبلةً جديدةً
” اراهنك انه هيكذب وهيقولك اه ”
نظرَ لُقمانُ إليهِ بدهشةٍ، قبلَ أنْ يقولَ بحدَّةٍ:
ــ “كنتَ دخلت جوايا أنتَ، وعامل نفسك فيلسوف وفاهمني ، طب كنتَ من باب أولى تفهم نفسك على الأقل أنا فاهم أنا عايز إيه وعارف كويس إمكانياتي، مش زيَّك بتحاول تهرب من عيشتك بعيشة كلها كذب في كذب، تتصوَّر جنب عربيات مش عربياتك، وتلبس لبس مش لبسك، وتعمل فيها ابن وزير الخارجيه على الإنستا ، مش ابن الحج نصار الراجل المكافح ، وكل ده ليه وعشان إيه ، مش فاهم”
ردَّ عليهِ بثقةٍ، دونَ أنْ يَهتزَّ لهُ جَفنٌ:
ــ “علشان أنا عارف كويس أنا عايز إيه، أنا عايز أخرج من هنا بأي طريقه ، مهما كانت ، بالغش بقى بالنصب، مش فارقة في الآخر، لازم أخرج، ومش هيخرجني من هنا غير بنت شيك، أبوها من فوق أوي، واللي زَيِّي ماحيلتوش غير الإنترنت والإنستجرام عشان يعرف الطبقة دي”
اعترضَ بَشَرُ مُستهجنًا:
ــ “ما أنتَ بقالك سنتين بتحاول، وكل بنت ابوها اول ما يكتشف الحقيقه ويعرف أنك عدمان ومصدي بيرفضك ”
نهضَ فجأةً، واقتربَ من أنسِ، الذي كانَ يُكملُ أكلَ الذُّرَةِ بهدوءٍ، فقطعَ لقمةً من كُوزِ الذُّرَةِ، وقالَ بينما يمضغُ الطعامَ:
ــ “وماله إن شالله يبقوا عشر سنين وهييجي اليوم اللي البت تقف قصاد أبوها عشاني وتتحداه وتقوله بحـــبُّــهُ يا بـابـا ”
أشارَ برأسهِ نحو ” أنس ” ، وكأنهُ يُطالبهُ برأيٍ:
“ولا إنتَ إيه رأيك يا أنس ، مالك ساكت ليه من أول القعده ، بتفكر في إيه”
تحدَّثَ ” أنس ” بصوتٍ شاردٍ، وكأنَّ فكرَهُ مُنشغلٌ بأمرٍ بعيدٍ تمامًا عن حديثِهم:
ــ “معلش يا جماعه، أنا عارف إن الموضوع ده مش وقته خالص بس هو السِّفِندي مطلعش ليه”
شقتِ الابتسامةُ وجوهَهُم، وبينما هُم كذلكَ، شقَّ صوتُ أذانِ الفجرِ سكونَ الليلِ، فانبعثتِ الكلماتُ العذبةُ من المآذنِ، تخترقُ الصمتَ المُخيمَ على الشوارعِ، وتلامسُ القلوبَ بندائِها العذبِ.
قَالَ ” موسى” ، بَصوتٍ تملؤهُ الرهبةُ:
ــ “اللهُ أكبر، اللهُ أعظم ، أذانُ الفجر… يلا، كله على الجامع، أكيد الحج نصار هناك من قبل الفجر”
هبَّ الجميعُ واقفينَ، يستعدونَ للنزولِ من سطحِ الدارِ، وبينما هُم يخرجونَ، تلقى ” نوح ” اتصالًا، نظرَ إلى هاتفِه وقال وهو يتجهُ نحوَ بابِ السطوح:
“طيب ياجماعه روحوا انتوا وانا هحصلكم ”
لم يُمهلهُ ” موسى ” بل أمسكَهُ مِن “سُترته وسحبَهُ للخارجِ قائلًا بحزمٍ:
” صلاة الفجر اهم من اي حاجه ياروح الحجه نعيمه ، يلا قدامي”
هبطوا الدرجَ، وأغلقَ ” نوح ” هاتفَهُ، بينما تبعَه
” طه ” ، ثم توقفَ فجأةً عندَ بابِ السطحِ، والتفتَ إلى ” موسى ” قائلًا بامتنانٍ شديدٍ:
” أنا مش عارف اقولك ايه ياموسى على اللي عملته معايا ، انا عرفت ان انت اللي كنت بتبعت مصاريف الجامعه بتاعتي لأمي بعد ابويا الله يرحمه ما مات ، ليه ماقولتليش ياصحبي ”
نظرَ إليهِ ” موسى ” يصطنع تأثرِه:
” ايه يابني الاڤوره اللي أنتَ فيها دي واقولك ليه اساسًا حسيت اني لازم اعمل حاجه وعملتها ، بس انا بقى ليا كلام تاني مع الحاجه وداد عشان انا نبهت عليها انها ماتقولكش ، ويلا بقى عشان ما نتأخرش على الصلاه ”
ابتسمَ ” طه ” ابتسامةً بسيطةً، ثم واصلوا النزولَ، وبينما هُم يعبرونَ الدرجَ الضيقَ، التقطَ ” أنس ” عبقَ رائحةِ الرزِّ بلبنٍ المنبعثةِ من شقةِ والدتِه، فهتفَ بحبٍّ:
” الله ، ريحه الرز بلبن تشرح القلب اكيد امك دلوقتي في المطبخ ومزوده اللبن والقشطه على الرز وبتقلب فيهم على النار بس يارب اللبن يبقى من جاموسه سقعانه غير كده هيبوظ ”
ضحكَ ” لُقمان ” ونظرَ إليهِ قائلًا:
“همك على بطنك انت وبس وعلى فكره مش هتخليك تقرب منه الا بعد صلاه الجمعه ما انت عارف دي طقوس عندها”
وصلوا إلى الدورِ الأرضيِّ، وما إن وطئتْ أقدامُهم البلاطَ الباردَ حتى بدأوا يتحركونَ بحذرٍ، يتسللونَ بخفَّةٍ. رفعَ ” أنس ” إصبعَهُ إلى شفتيهِ مشيرًا لهم بالصمتِ، وهمسَ قائلًا:
” هــــُوش ، لا نجاح تصحى وتسمعنا واحنا نازلين مش هتسيبنا قبل ما نفضلها الشقه ”
ردَّ ” لُقمان ” بضحكةٍ مكتومةٍ:
“وماله دي حتى ست كبيره وبناخد ثواب عليها ”
علَّق ” نوح ” وهو يلوحُ بيدِه مستنكرًا:
” سيبتلك أنتَ الثواب ياخويا ”
وكأنَّ ” موسى ” قد تذكَّر أمرًا هامًّا، فابتسمَ بمكرٍ وقالَ:
” أنت صح يالقمان وبعدين في واحد خسر في ماتش الكوره ومانفذش عقابه وانا بقى بقترح ان طول اليوم هيطبق عند نجاح النهارده ”
وقبلَ أن يردَّ أحدٌ، انفتحَ بابُ الشقةِ فجأةً، وظهرتْ ” نجاح ” مستندةً إلى عصاهَا، وهي تبتسمُ بمكرٍ:
” شالله يخليك ليا ياموسى ياللي دايماً ناصفني ”
انتفضَ الجميعُ فورَ رؤيتِها، وردَّ ” انس ” منزعجًا:
” أنتِ مابتناميش يانجاح ابداً ”
ضحكتْ وهي تزيحُهُ بعصاها قائلةً:
” وهو العمر في قد ايه عشان انام الحبه اللي فاضلين ”
حَركت عَيناها نَحو ” نوح ” طَالبه :
” تعالى يايحي ، تعالى هاتلي بنص جنيه فول وبربع جنيه طعميه عايزه افطر ”
نظرَ ” نوح” إلى ” موسى ” بغيظٍ قائلًا:
اتفضل بتقولك عايزه بربع جنيه طعميه ، حقها ما هي عايشه من ايام الملك فاروق ، عارفه طول ما انتِ بتناديني بيحي قلبي وربي هيفضلوا غضبانين عليكي ”
ضحكَ ” موسى ” وقالَ بحنوٍّ:
” بس بقى يانوح ، سيبك من نوح انا هجيبلك كل اللي أنتِ عايزاه بس هنصلي الفجر واحنا راجعين هاخدك اطلعك فوق ونفطر سوا وهخلي امي تحميكي ، انا عارفك بتحبي تستحمي يوم الجمعه وتصلي بجلبيتك البيضا النضيفه ، مش زي ناس ”
نظرَ ” موسى ” الى ” أنس ” الذي تظاهرَ بعدمِ السماعِ، فغمزَ ضاحكًا:
” ماتقولش انا الحمى هو اللي مابيحبنيش ”
خرجوا جميعًا وسطَ دعواتِ “نجاح” لهم بالعوضِ والوَنسِ، يغمرُهم ذلك الشعورُ الدافئُ بالُألفه الذي لا يمنحهُ إلا الأحبه تبادلوا الضحكاتِ والمزاحَ كعادتِهم، فكان حديثُهم خليطًا من النكاتِ والذكرياتِ والمواقفِ التي لا تنتهي، كلُّها تُحيطُهم كدرعٍ من البهجه، تحفظُ بينهم رابطةً أقوى من أيِّ كلماتٍ كان كلُّ من يمرُّ بهم يبتسمُ بلا وعيٍ، فكأنَّ مرحَهم معدٍ، وكأنَّ ضحكاتِهم تنسابُ في الشوارعِ، تملأُها حياه
لم يكن هناكَ من لا يعرفُهم، فـ “حيُّ الكويت” كلُّهُ كان يشهدُ لهم بالمحبَّه، وكان يكفي أنْ يُراهم أي شخص حتى يُقالَ “هؤلاءِ أبناءُ الحاج نصار” كِبارُ السنِّ يلقونَ عليهم التحيةَ بخشوعٍ واحترامٍ، والصغارُ يركضونَ خلفَهم، يحاولونَ مُجاراتَهم في هرجِهم ومزاحِهم، وكأنهم نجومُ الحيِّ التي تُضيءُ ليلَهُ، وتملأُ نهارَهُ بالحركه والفرحِ.
وحينَ اقتربوا من المسجدِ، كان الأذانُ قد بدأ يترددُ في الأرجاءِ، فتسربتْ نغمتُهُ إلى قلوبِهم، تُبدِّلُ ضحكاتِهم بهدوءِ الخشوعِ، وكأنَّهُ لمسَ أرواحَهم فأيقظَ فيها سكينةً خاصه لا تمنحُها إلا تلك اللحظاتُ التي يعلو فيها صوتُ السماءِ فوقَ كلِّ شيءٍ أسرعوا إلى الوضوءِ، يتركونَ الماءَ الباردَ ينسابُ على وجوهِهم، وكأنَّهم يغتسلونَ من ضجيجِ الدنيا، ثم دخلوا المسجدَ واحدًا تلوَ الآخرِ،
وما إن دلفوا إلى الداخلِ، حتى أبصروا والدَهم واقفًا، منكفئًا في صلاتِه، غارقًا في خشوعِه للحظةٍ، شعروا كأنَّهم عادوا أطفالًا صغارًا، يتعلَّمونَ الصلاةَ خلفَهُ، يقتدونَ بحركاتِه، يستمدُّونَ من ثباتِه يقينَهم، ومن إيمانِه قوتَهم تحرَّكوا نحوهُ بصمتٍ، وقفوا خلفَهُ في صفٍّ واحدٍ، قلوبُهم تخفقُ بتناغمٍ، كأنَّها قلبٌ واحدٌ ينبضُ بالطمأنينه ذاتِها.
وفي تلكَ اللحظه، لم يكونوا مجرَّدَ إخوةٍ يؤدُّونَ الصلاه، بل كانوا امتدادًا لروحِ أبيهِم، انعكاسًا لرحلتِه، ودليلًا على أنَّ الدنيا قد تعطي وتأخذ، لكنها حين تُعطي بهذا الشكلِ، فإنها تمنحُ أعظمَ ما يُمكنُ لرجلٍ أن يحلُمَ به، نعم، كانوا هم أبناءَ
” الحاج نصار “، وكان هذا وحدَهُ كافيًا ليعرفَ الجميعُ مَنْ يكونونَ
انتفضت “نعيمة” من غفوتها على وقعِ صوتِ “الحاج نعيم” وهو يناديها من الخارجِ، فتلاشت الذكرياتُ من عقلِها كما يتبدَّدُ الدخانُ في الهواءِ. تسارعتِ دقاتُ قلبِها مع ندائِه المتكررِ، فانتبهتْ على الفورِ، وردَّت بصوتٍ مُرتبكٍ، وكأنها تخشى أن يُدركَ أحدٌ أنها كانت غارقةً في أفكارِها:
” ايوه حاج جيالك اهوه ”
خرجتْ من غرفةِ “موسى” بخطواتٍ سريعةٍ، وقبلَ أن تتركَها، أغلقتِ البابَ خلفَها بحرصٍ، كأنها تخشى أن يهربَ منها شيءٌ من الماضي المُخبَّأ خلفَ ذلكَ الباب.
٠
٠ ٠
٠
٠
٠
هنا، في منزلِ ” وداد “، كانت تعملُ بجِدٍّ ونشاطٍ لإعدادِ وجبةِ الإفطارِ قبلَ بَدءِ خُطبةِ الجُمعه رَتّبَتِ الأطباقَ بعنايه على الطاوله، ولم يَبقَ سوى انتظارِ قُدومِ ولدِها “طه ” وما هي إلّا دقائقُ حتّى تَبِعها وهو يَسألها يَشُقّ رغيفَ الخبزِ إلى نصفين:
” كنتِ فين يا أمي الصبح بدري كده ”
اختارت ” وداد ” مَقعدًا بعيدًا عن ناظري ابنِها، حتّى لا يُلاحِظَ حُزنَها، إلّا أنّ تعابيرَ وجهِها البائسه لم تَخفَ عنه دَسَّ لُقمةَ الفولِ في فمِه قبلَ أن يقولَ بنبرةٍ حاولَ أن يَجعَلَها عَفويةً:
” لسه مضايقه برضوا عشان خاطر نعيمه ”
وضعت يَدَيها على وجهِها، تُحاولُ كَتمَ ضيقِها، ثمّ سَعَتْ إلى تَغييرِ المَوضوعِ بقولِها:
” كل ، كل أنتَ ياطه مالكش دعوه بيا ، غير ريقك يلا عشان تلحق صلاة الجمعه ، وانا نعيمه مش هسيبها هفضل وراها لحد ما ترجع تفتحلي قلبها من جديد ”
اهتزّ هاتفُ ” طه” ، وبمجرّدِ أنْ رأى الرقمَ على الشّاشةِ، تغيّرت ملامحُهُ وأسرعَ بإلغاءِ المكالمة. لاحظَت وداد تَصرّفَه، فسألتْه باهتمامٍ:
“مين بيتصل ياطه”
رفعَ نَظّارَتَه، وبَدا التوتّرُ واضِحًا على وجهِه، ثمّ قالَ مُحاولًا التَّظاهُرَ باللّامُبالاةِ:
“أبداً ، ده حد مش مهم ”
حاوَلَ أن يَتجاهلَ الأمرَ وأكملَ طعامَه، لكنَّ صوتَ إشعاراتِ تطبيق “الواتساب” قاطَعَه فتحَ الرّساله، قرأَها بصَمتٍ، ثمّ تَمتَمَ بقلقٍ:
“اطلعلي حالاً ياطه أنا مستنيك على السلم ”
ازدَادَ توتّرُه، خاصّةً مع وجودِ والدته أمامَه بَحثَ عن طَريقةٍ لإبعادِها، فقالَ بلُطفٍ مُصطنعٍ:
“أنا شبعت يا امي ممكن بقى تعمليلي كوبايه شاي من ايديكي الحلوه دي ”
نَظَرَت إليه وداد بِريبةٍ، ثمَّ إلى الطّعامِ غيرِ المَنقوصِ أمامَه، وقالت مُستنكرةً:
“لكن يا بُنيَّ، أنتَ ما أكلتش أكلك لسه زي ما هو ”
أدركَ طه أنّ حُجّتَه لم تَكُن مُقنِعَةً، فعادَ ليَقولَ:
“آه.. لا ما انا اقصد ان لحد ما تعملي الشاي اكون انا خلصت اكل ”
ألقى نَظرةً سريعةً على ساعتِه، مُتعجّلًا:
“عشان يادوبك خلاص الوقت الحق الصلاه ”
نَهَضَت ” وداد ” لِتُعِدَّ الشّاي، وما إن دَخَلت المَطبخَ حتّى تَسَلَّل طه بِهدوءٍ، فَتَحَ البابَ بحَذَرٍ ليُواجِهَ
” عمر ” الذي كانَ يَقفُ مُترقّبًا:
حَدَّقَ فيهِ بِغضبٍ قبلَ أن يَهمسَ بانفِعالٍ مَكتوم :
“إنتَ اتجننت يا عمر ، إزاي تيجي هنا وتدخل حي الكويت، أمي لو شافتك هتشُكّ فيا، ونعيمه لو لمحتك، هتعرف كل حاجة، يا غبي”
بَدَت عَلاماتُ التوتُّرِ والانزعاجِ على وجهِ ” عمر ” ، فقالَ بصوتٍ مُضطَربٍ:
“أنا غلطت… نعيمه شكلها شكت فيا!”
تسارعت أنفاسُ ” طه “، عَقَدَ حاجبَيه وهو يحدّق في ” عمر ” بذُهول، كلماته خرجت هامسةً لكنها مشبعةٌ بالقلق:
“شَكّتْ فيكَ”

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية لأنه موسى)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *