روايات

رواية آصرة العزايزة الفصل الثامن والعشرون 28 بقلم نهال مصطفى

رواية آصرة العزايزة الفصل الثامن والعشرون 28 بقلم نهال مصطفى

رواية آصرة العزايزة البارت الثامن والعشرون

رواية آصرة العزايزة الجزء الثامن والعشرون

آصرة العزايزة
آصرة العزايزة

رواية آصرة العزايزة الحلقة الثامنة والعشرون

قرأت ذات مرة نص شهير يقول :
“لا تُطعم طعامك إلا لمن يشتهيه.”
وهنا يتحدث عن البذل في غير موضعه، وآيضًا عن مشاركة إنجازاتك وخطواتك مع مَن لا يأبه لها.. أو بالأحرى لا يأبه لك “أنت”…..

‏•عنوان الفصل :
( قُل لي بربك من تكــون )🍂

••••••••••
~العـزايـزة .

يجـلس ” خليفة ” مكفهر الملامح أمام هيثم الذي غلب سلطان النوم سلطان هواه في مرافقة لليـلة لبلدها ؛ وهو يلومه :

-أنت عُمرك ما كُنت قَد أيه حاجة اطلبها منك !! يعني أيه تنام وتخلي أخوك يسيب مصالحه وخطيبته ويوصلها هو !! وأنتَ فاضي لا شغلة ولا مِشغلة .

ضرب كفًا بكف وهو يقول :
-هي مش قالت مسافرة ٦ الصبح ، صحيت لقيتها مشت ، أيه ذنب هيثم يا عمدة !! المرة الچاية هنجـم وأقرا الأفكار عشان يبقى لي شُغلة ومِشغلة ..

كانت أحلام بينهمـا غارقـة في الضحك لتأكدها يوم بعد يوم من مشـاعر هارون ناحيـة ليلـة ، فربتت على ظهر خليفة بنوايا خفيـة :

-هو أيه وأخوه أيه بس يا حج ، ما واحد ، كبر مخك وخلي هارون يشم شوية هوا نضاف بعيد عن العزايزة وغُلبها ..

-استنى أنتِ يا أحلام .
ثم تطلع لابنه معاتبًا :
-أنت ما روحتش ليه شُغلانة البنك اللي أخوك چابهالك !!

-يا وقعة سودة هي أي عركة وخلاص !!
قال هيثم جُملته وهو يحك برأسه ليبرر سبب عدم ذهابـه بعفويته :

-أصلهم بيصحوا بدري قـوي!!

-أيــه !!

برر بحُجة :
-لا منا رُحت المقابلة وشكلي معجبتهمش !!

اختنق خليفة من استهتار ابنه :
-يعني ايه معجبتهمش !! هو لعب عيال !!

هب هاربًا كالفأر من القـط الذي تحالف عليه للتـو :
-قالولي هنشوف ونردوا عليك يا حچ !! وبعدين أنا اتفقت مع هارون همسك المصنع الواقع ديـه وهخليه أكبر مصنع في صعيد مصر ، أنت خليك واثق في هيثم حبيبك .

رد بيقين :
-والله ما واثق فيك من هِنه للباب ، عمرك ما اخترت حاجـة عِدلة ونفعت فيها !!

فتدخلت أحلام التي زاد حُبها لهيثم إثر عدم ذهابه مع ليلة وتركة الفسحة للعاشق أخيه لتقول مداعبـة :
-هو من بعد ما ساب الهندسـة وخش تجارة والواد خاب يا حچ !

غمز لها كي تهدي النفوس لا تُشعلها :
-خليكي فاعل خير يا أحلام وانا سبتها بمزاجي !! منا سقطت وبعدين مالها تِجارة دي كُلية الشعب وأنا من الشعب !!

ثم وشوش لها بضحك :
-هو مش الشعب ده كله بنات تتاقل بالدهب !!بيني وبينك انا مسقطتش بكيفي ، دول بنات هندسـة معجبونيش ، لقيت بنات تجارة أنقح وأحلى ..

ثم تنهد وهو يمسح على صدره :
-وأنتِ عارفة قلب هيثم ضعيف ..

ضرب خليفة الأرض بمؤخرة عكازه وهو يتمتم :
-عليا النِعمة ما أنت نافع ! وما هتتلم غير لما أجوزك .. وعروستك لقيتها ..

تلهف هيثـم لجُملة أبيـه :
-أنا في عرضك ألحقني بيـها ومش هنسالك الخِدمة دي .. هي مين ! حلوة كيف أحلام ولا عفيـة كيف صفية !!

قرأت أحلام بعينيه ترشيح ليلة لهيثـم فتدخلت لتنقذ الموقف قبـل أن يعلق ابنه بآمال خائبة وقالت :
-أمشي يا هيثم أنتَ دِلوق ..

-والعروسة !!

-اختارها وهجوزهالك أنا .. يلا .

انصرف هيثم على الفـور بدون أيه نقاش إثر رنيـن هاتفه من أحد الخفر المعينين بمراقبـة ” جميلة ” ، فخرج وقفل البـاب خلفه :

-أيـوة يا مرسي !

توارى مرسي خلف الشجرة وهو يقول متهامسًا :
-ايوة يا هيثم بيه ، الست جميلة خرجت من بيتهم الساعة ٧ و٤٠ دقيقة ، راحت الأجزخانة قعدت بالظبط ٧ دقايق ثم عادت وبحوذتها كيسة سودة ، بس معرفتش چواتها أيه !!

-أعرف وكلمني !

ألتفت خليفـة لأحلام وهو يشكو لها :
-عاوزة أقرب البت من هيثم عشان أجوزهاله وهو زي ما أنتِ شايفة ، حارق دمي !

عاتبـته أحلام بلُطف:
-كيف يا حچ وأنا اللي عقول عليـك تفهمـها وهي طايرة ، هيثم مش رايدها دي واخدها كيف أخته ، بس هارون يا عيني وياقلبي على هارون ..

برقت عيني خليفـة على تلميحات أحلام :
-قصدك أيه يا أحلام !!

-قصدي الحب ملى قلب هارون وخلاه يهمل الدِنيا كلها ويروح معاها على اسكندارية .. أنا كنت شاكة بس دِلوق اتاكدت ، ولدك حب غُفران يا حج ، حب بيتنا من دمنا ومن لحمنا ..

رد مندهشًا :
-يعني ايه !! وخطيبته !! طب كمل ليه وهو مش رايدها !

-عشانه الكبير ومش عاوز يعلق قلبه بحبال دايبـة ، ما يعرفش اللي فيها يا حبة عيني ، ورط نفسه قبل ما يتورط في قلبـه ، بس هنقولوا أيه الحب كيف الدخان مهما حاولت مش هتعرف تداريـه !

-هو قالك حاجة!

-ماقالش ، ما أنت خابر هارون زين ومستحيل يكسر عُرفنا ، هارون هو عريس غفران ، هو اللي هيقف في ضهرها قصاد العزايزة ويفرض وجودها على الكُل ، البت عاوزة ضهر شديد تتكي عليه ..

ثم امسكت بكفه :
-اتصرف يا حج قبل ولدك ما يتورط في بت صالح مهياش توبه ..

-البلد مقلوبة على هلال واللي عمله وإحنا مش حِمل نفتحوا طاقات نار في وشنا ، قلت اصبر شهر ولا اتنين تكون الدِنيا راقت .. بس أنا مخلي عيني على البت وأمها ..

تأوهت أحلام بسرها :
-ااه أمها القرشانـة دي _ثم غمغمت بالسر المدفون بينها وبين هارون_يارب يا هارون تعرف توقفهـا عن حِدها..

~بالمطبخ ..

دخل هيثم وراء ثرثرة زينة التي تدوي بالمكان وهي تتشاجر مع الهواء الذي تتنفسه :
-يِلد عليكي الحال ديه يا عمة !! أنا من ساعة ما سمعت اتكربجت حطيت الطرحة على راسي وچيت لك جري !! يعني ايه يهمل مصالحه ويروح معاها !! اااه يا ناري ؟ ايه هتتخطف فـ السِكة ماهي زي العفريتـة ملفلفة مصـر كُلها !!

ثم دارت لعمتها التي تصنع الجُبن بنفسها :
-واللي يشل تلفونه بيرن ولا حتى معبرني !! ياما يتقفل في وشي !! عمة انا الحال العوچ دي مش عاجبني !! شوفي لك صِرفة .

-وه وه يخربيتك !! كل ديه ريـحة شياط !! هتولعي يا حزينة !
اقتحم هيثم المطبخ قائلا جملته الأخيرة بسخرية ، فانفجرت زينة بوجهه :
-هيثم مش ناقصاك ، رن شوف لي أخوك عيعمل إيه مع البت دي !

سحب ثمرة فاكهة من الطبق الكبير أمامه وقال :
-آكيد قاعد على البحر بيضرب وكلة سمك من اللي يرموا العضم !

-مع البت دي ؟!

-أومال مع أبو چالمبو !! طبعًا مع القمر ..

ضربت على سطح الطاولة بغلٍ :
-واعية لتصرفات عيالك يا عمة !! هي البت دي ملهاش أهل يلموها بعيد عنينا !!

-طب بذمتك يا صفية مش البيت دمه تقيل من ساعة ما مشت والله ما طايق اقعد فيه !! البت كانت عاملة روح في البيت ، مش زي واحدة كل ما شوفها بتنوح !!

ثم مال على مسامع أمه :
-لقيتي أيه عِدل في جواهر دي عشان تجوزيها للراجل العاقل اللي حيلتنا ..

هبت زينة معترضة :
-وهو أخوك كان هيلاقي ضُفري فين ! ديه مفيش راجل في النجع كله متقدمش لبت صالح .. لولا بس القلب وما يريد!

-قصدك القلب لما يخيب !!

ثم دنى منها وهو يستلذ بمذاق الفاكهة وإغضابهـا :
-تعرفي يا زينة أن في أسطورة عتقول ، لو بينك وبين الراجل اللي عتحبيه حرف واحد مشترك في اساميكم ؛ يبقى ديه اسمه حُب من طرف واحد وهيموت عطشان بعون الله !

انفرجت عينيها :
-كـيف ديه يا هيثم!! خدتها في الكُتب !!!

••••••••••••••
~اسكندريـة.

عم الصمت على غصن الصدمة وكل منهما يحاول إدراك هول الموقف الذي عجزت الكلمات عن وصفه .. اعتدلت نادية من نومتها لتبرر بوقاحة :

-ليلة .. متفهميش غلط أنا وأونكل رشدي متجوزين !

حانت منها نظرة ساخطة على اعترافها :
-على سرير بابي !! وفي أوضة نومه !! ليه تعملي فيه كده .. هو ده اللي تعبانة وتعالي فورًا يا ليلة !!

ثم بللت حلقها الذي جف من قسوة الصدمة وحانت منها نظرة مهزوزة لرشدي :
-طيب وطنت أميرة !!تستاهل منك كدا ..دي أكتر واحدة وقفت جمبك ؟!

ثم انخرطت العبرات من مقلتيها هي تضرب الأرض بقدميها :
-أنتوا أزاي كده ؟! أزاي !!

تأهبت نادية لمفارقة فراشها بقميصها القصير للغاية.. فتحاشت ليلة التطلع إليها بضيق:
-لو سمحتِ .. أنا ماشية وياريت متعملوش صوت عشان معايا ضيوف تحت مش حابة يشوف مامي وهي متجوزة في السر ..

ثم انحنت والتهمت حقيبتها وصفعت الباب خلفها وهي تأكل خطاوي الأرض ركضًا وسُخب عينيها تمطر حزنًا وقهرًا .. اقتربت من هارون الجالس وهي تحاول إخفاء دموعها عنه بأسف :

-لو سمحت يلا نمشي من هنا ..أنا أسفة بس .

وقف ببطء وهو يتأمل وجهها الشاحب :
-مالك !! وشك متغير ليه ؟!

كفكفت دموعها بكفها المرتعش وهي تجر حقيبتها متأهبة لمغادرة البيت وهي تترجاه :
-لو سمحت ممكن متسألنيش أي حاجة مش حابة اتكلم .. وو و يلا بينا من هنا بسرعة ..

أخذ الحقيبة التي تجرها من يدها وغادر الثنائي البيت بعجلً في اللحظة التي انتهت فيها نادية من ارتداء روبها الطويل خارجة من الغرفة تبحث عنها وتنادي باسمها .. فعادت بأسف لرشدي الذي يكمل ارتداء ثيابه وهي ترتمي على أقرب مقعد :

-مشيت .. أنا هبص في وشها أزاي يا رشدي بعد النهاردة .. موقف زي الزفت .

اتبع رشدي مبررًا جريمتهما بوقاحة :
-متكبريش الموضوع يا نادية ليلة مش عيلة دي مش صغيرة وفاهمة .. و اللي حصل حصل مش معقولة هتعملي حساب لبت فاشلة وهبلة زي دي !

انفجرت بشكواها :
-مكنش لازم تعرف دلوقتي يا رشدي .. كدا فقدت السيطرة على ليلة .. و دي فقدت فيا الثقة كمان !! خسرنا كل حاجة .

ثم أكملت وهي ترجع شعرها الفوضوي للوراء :
-هي قالت جاية بكرة أيه جابها النهاردة بس !!

عاتبها :
-وأنت مادام عارفة أن المفاتيح معاها !! مقفلتيش ليه الباب يا نادية !!

تناولت يدها المرتجفة كوب الماء وأحد الأقراص المهدئة التي ابتلعتها على الفور وأتبعت :

-استلمت العشا من الدليفري ونسيت يا رشدي نسيت .. وبعدين كفاية كلام شوف لنا حل للورطة دي !!

علق الكرافت على كتفيه وهو يسب بليلة علنًا كأن هناك ثأر قديم معها :
-فصلت الدماغ اللي عاملها بت ال***

ثم جلس بجوارها وقال بمكر ذئب لعوب :
-ولا حاجة يا نادية سبيها يومين تهدأ .. وكلمها وشوية شحتفة من بتوعك على دمعتين وهي هتحن وترجع ..

ثم حك ذقنه مكملا حياكة خطته الدنيئة :
-وأنا هكلم شريف يخلصنا من التهمة دي ويتجوزها في أسرع وقت .. نادية الأرض اللي في العلمين دي كنز لوحدها .. لازم ناخدها منها حتى ولو التمن روحها ..

اختلج قلبها عند سماعها لجملته الأخيرة إثر تلميحه بنواياه الخبيثة جهة ليلة التي يود قتلها لمجرد الحصول على مصلحته .. فهبت معترضة :

-لا يا رشدي .. ده مش اتفاقنا .. الاتفاق أننا نطلعها فاقدة الأهلية مش نقتلها .. دي بردو بنتي وو

ارتدى قناع الإقناع وهو يقبل كفها:
-منا عارف يا حبيبتي مفيش أحن وأرق من قلبك .. بس المصلحة تحكم .. واتمنى ما نوصلش لكده .. أنت بس كسفي الجرعات عليها الفترة دي خليني أسدد ديوني وأفوق لك وأطلق أميرة وارمي لها فلوسها عالجزمة وناخد بيت لوحدينا بعيد عن الدوشة دي ..

ثم طبع لدغة العقرب كفها بقبلة أخرى :
-أنت عارفة أن رفعت الجوهري اشترى الأرض دي من أبويا بكام !! بملاليم !! وحاليًا سعرها يوصل كام!! ملايين الملايين !! مش حرام كل الفلوس دي تبقى مع البت الهبلة اللي اسمها ليلة ..فكري فينا يا ندود ….يرضيكي رشدي حبيبك وجوزك وابن عمك يتحبس وانتي في إيديك تنقذِه من الحبس !!

قتلت أخر ذرة من مشاعرها صوب ليلة التي تربت على يديها :
-تمام يا رشدي .. اديني شهرين بس وموضوع ليلة دي كله هيخلص والأرض هترجع لك ..

رسمت الضحكة على ملامحه :
-هو ده الكلام وهي دي نادية اللي أعرفها ..

بسيارة ليلة والتي يقودها هارون الذي لم يكف عن التطلع لها في صمت بناءً على رغبتها كان يتبع الخريطة كي ترشده على الطريق للفندق الذي حجز فيه قبل ساعة .. كانت جالسة في مقعدها ترتعش من البرد ومما رأته وتهذي بكلمات غير مفهومة لتختم صرختها بالسؤال المعتاد والذي يفتقر الرد وهي تخبط في صندوق السيارة أمامها :
-ليـــه ؟!ليـه كده !!

لم يتحمل رؤيتها في هذه الصورة وهو يشعر بالعجز في تخفيف همها الذي شك في سببه بدهائه ولكنه ما زال مجهول عنه زفر بضيق وهو يصف السيارة جنبًا وهبط منها بدون أي كلمة ..
كل ما فعلته تكورت بداخل مقعدها ودفنت وجهها بيدها وهي تتوسل للذاكرة أن تمحو صورة أمها وقدوتها من ذاكرتها وهي تئن بآهات مكتومة .. غاب هارون عدة دقائق حتى عادي وبيده علبتين من القهوة التي ابتاعها من المتجر المختص بها ..فتح بابها وقال بهدوء :

-هتحبي تشربيها فى العربية ولا تنزلي تقعدي على البحر ..

رفعت جفونها وهي تراقب يده الممتدة لها بالمواساة .. فأخذت منه القهوة بمهلٍ وقالت بفتور :
-عادي .. أي حاجة .

قفل باب السيارة ودار ليجلس بمكانه وهو يحكم قفل الأبواب ويلقى نظرة على البحر الثائر على يمينه كحزنها تمامًا وقال:

-الجو صعب .. خلينا في العربية أحسن .. عشان متبروديش .

أخذت تلتمس دفء يديها من الكوب الساخن ورمقته بعينيها التي لم تكف عن البكاء قائلة :
-أنا ليه بيحصل معايا كل ده !! ليه بجـد ..

نزع غطاء كوب القهوة وهو يقول :
-أنا مش عارف أيه اللي حُصل .. بس أحلام تملي عتقول أن رب العالمين مش بيجيب حاجة وحشة .. كل حاجة ليها حكمتها ..

لفت الكوب بين يديها وهي تخر بالبكاء خارجة عن صمتها وكتمان وجعها أكثر :

-طيب وأيه الحكمة اللي تخليني أقضي أحلى سنين عمري في مدرسة داخلي .. أيه الحكمة اللي توجع قلبي على جدو وبابا .. أيه الحكمة اللي تخليني أخد أدوية وأنا لسه في السن ده !! أيه الحكمة اللي معطلة تحقيق حلمي لحد اللحظة دي ..

ثم انخفضت نبرتها المقهورة وهي تطالع عينيه التي تراقبها باهتمام بالغ وقالت :
-أيه الحكمة من إني أشوف مامي في سريرها مع واحد غير بابي ..

ثم اختلج قلبها وارتفع صوت أنفاسها وهي تقول :
-أسفة مكنتش حابة أحكي بس جوايا نار مش عارفة تهدأ ..

تأكد من شكوكه التي تزاوله منذ مفارقتهما لبيتها في هذه الحالة .. تنهد بضيق وهو يمضغ حزنه عليها بين فكيه ويتحاشى النظر إليها شاردًا في حقيقة هذه السيدة التي تثور حولها الشكوك .. أخرج نفسًا طويلًا وهو يعصر مقود السيارة بيده مغلولا ويعاود النظر إليها وهي تقول :

-مامي طلعت متجوزة بابا شريف في السر .. طيب ليه تعمل كده !! ليه وهي مش مجبرة لو عايزة تتجوز تقول أنا مش همنعها.. بس ليه في السر !! ومالقيتش غير بابا شريف !!وطنت أميرة صاحبة عُمرها !

أطفئ النيران التي تحرق دواخله برشفة من قهوته وأتبع قائلًا ليلطف الأجواء بينهما :
-وايه الحكمة اللي تخليني سايب كل مصالحي وقاعد اتساير معاكي ونشربوا قهوة على البحر !!

أرسلت إليه نظرتين مهزوزتين وأخبئت الثالثة بقهوتها وهي تتمتم :
-مش عارفة !!

-شوفي يا ليلة .. مش لازم كل حاجة تحصلنا نعرف حكمتها في لحظتها .. الانسان مش ملزم يعرف كل حاجة في حياته ..

ثم ملأ رئته بنفسٍ طويل ممزوج بعطرها وأكمل :
-يعني لو جينا قبل عشر سنين وسألتك أيه الحكمة من واحد كان بيلم شنطة هدومه عشان يتحرك على مصر في اليوم اللي صدر فيه قرار تعينه عشان يكون قاضي عسكري !! لقى أبوه واقف قصاده وقاله مش توبك .. أنت توبك العمدية وكرسي أبوك .. العزايزة عاوزة راجل من جبال زيك ..

لمعت عينيها بشغف الدهشة :
-ده المفروض انت ؟؟ وسمعت كلامه طبعا وضحيت بمستقبلك !!

رد مقتنعًا غير نادمًا على قراره :
-أبويا أمر يا ليلة ومينفعش أكسرله كلمة حتى ولو غلط .. ديه كلام ربنا هو مخلفنيش عشان أخيب أمله في ، وأصغره وسط الخلق…أو على الأغلب دي مشكلة الكبير بيكون شايل المسئولية .

-أحيـــه بجد !!!

رفع حاجبه ممازحًا :
-مفيش فايدة فيكي !!

رسمت ابتسامة خفيفة على وجهها لا تتناسب مع أجواء حزنها الذي سحبها منه بدهائه وفطنته .. فقالت :
-لا أنت هنا في اسكندرية يعني أقولها براحتي ..

-مش براحتك قوي .. استني لما امشي ابقى قوليها براحتك ..

-ما أنت قولتها على فكرة .. ولا تحب أفكرك !

ضحك بوجهها منتصرًا على حزنها الذي يملأه :
-ما انتِ تخرجي الواحد عن الملة مش عن شعوره وبس ..

كانت تتأمله كأنه طوق النجاة الوحيد لشخص غريق وهي تقول :

-بجد بجد شكرا لانك معايا في الظروف دي .. مش عارفة لو مكنتش هنا أنا كمان ممكن أروح فين .

انكسر غصن من شجرة تمرده على قلبه ليفول بهدوئه الاعتيادي :

-ولا حاجة متكبيرش الموضوع يا ليلة .. امك اتچوزت معملتش حاجة حرام .. ااه حقك تزعلي بس يومين وهتتقبلي الموضوع ..

ثم أتبع من وراء عقله :
-اقعدي معاها وأفهمي الدنيا … يمكن عندها عذرها ..

تأرجحت عينيها بشك :
-انت شايف كده !!

تأهبت لقيادة السيارة :
-ديه كلام العقل .. في الأول والأخر دي أمك ومن حقها تعيش حياتها كيف ما هي عاوزة ..

صمتت للحظة تفكر في كلامه وهي تضع الكوب بمكانه بالسيارة :
-بس هي لو كانت بتحب بابي مستحيل تقدر تتجوز غيره ..

رد بملل :
-الأيام اللي أحنا فيها تنسي الواحد اسمه .. مش هتنسي الحب !!

-ااه طبعا .. انا لو قلبي حب حد مستحيل يعيش مع حد غيره .. ده ما يبقاش حب ..

رد بنبرة العقل :
-ده يبقي هبل يا ليلة .. الحُب اللي يسجنك يبقى قِلته أحسن.. متخليش حاجة تِلوي دراعك وتشغل قلبك .. متخليش فرحتك متعلقة على وجود نفر.

أجابته بنبرتها الحالمة :
-الحب مش هبل .. الحب أحلى حاجة في حياتنا .. والحياة كلها شخص واحد نرتاح له يا عمدة ونعيش معاه العُمر .. أنتَ ليه مصمم تحبس قلبك في تابوت!! ليـه مش سايبه يحب ويتعلم ويغلط ، ليه كل حاجة محسوبة أوي عندك!! كده مش صح .

أرسل لها نظرة خاطفة :
-ونلاقوه فين الشخص ديه !!

-مش لازم تلاقيه .. هو هيجي لحد قلبك ويفتح الباب ويتربع جواك وأنت مش هتقدر تقوله لا .. ولا تمنعه .

ثم عادت لأخذ الكوب الخاص بها وأتبعت بمزاح :
-بس انا مبسوطة بجد أنك عرفت تقول ليلة .. معرفش ليه كنت مصمم على ليلي دي كانت تضايقني ..

رد ببرود :
-منا كنت قاصد .

-قاصد تقول لي ليلي ؟

-لا قاصد أضايقك …

هبت كالطفلة بوجهه :
-ياسلام!!وأنا كُنت عملت لك ايه يعني؟! انت والدُنيا عليا! ده مش عدل .

تحرك بالسيارة وهو يقول :
-لا هو ديه العدل عشان عضمك طري ، لازمًا تنشفي هبابة …

•••••••••••
‏”متى سينتهى الخريف الذي لا جرد روحي من كل شيء ، متى سوف تنتهي كُل هذه التناهيد الحارقـة، متى سوف تخرج هذةِ الليالي الموحشـة مني !”

عندما وصلت رسالة نصيـة لرغد بفتـح هاتفـه الذي ظل مُغلقًا لمدة أربعة أيام ، هرولت كالمجنـونة لتطلب رقمه من خط مجهول اشترته صباح اليـوم .. كان يتمدد على فراشه بجرح كتفه المتعري والمُضمد بالشاش الأبيض بالمشفى العسكري ، رفع جفونه لأعلى نحو الضابط رفيقـه وهو يقول :
-حمدلله على سلامتـك يا سيادة الرائد ..

رد بصوت متألم وهو يكتم صوت رنيـن هاتفـه ويقول بابتسامة رضا :
-عمر الشقي بقيِ ، يكش يضبط نيشانه المرة الچاية ويجيبها في القلب .

عارضه رفيقه :
-بعد الشر عنك يا باشا ، البلد محتاجالك .. شد حيلك لسه طريقنا طويـل ..

-وراهم وراهم لغايـة ما أخلص عليهم يا يخلصـوا هما عليّ ؛ مُحى مش عاوز أي خبر يوصل لناسي في الصعيد ، كُلها يومين وهبقى زي الفل ..

ربت مُحي على كتفه السليم :
-معلوم يا فندم ، هستأذن أنا عشان عندي دورية .. وهزورك الصبح ..

انتظر هاشم حتى غادر مُحى من غرفته الخاصة بالمشفى العسكري التي يقطن بها ليطلع على هوية الرقم المجهول بقلب يشُم رائحتها ، لم يستطع أن يتجاهل الرنين المتواصل ربما إنه في حاجة لمسكن صوتها ، اكتفى بسحب زر القبول ووضع الهاتف على مسامعـه ، فتسرب لقلبه أنفاسها المحترقة في محرقة الغياب ..

انتفضت من مكانها وهي تلهث مفطورة البكاء وهي تتوسله :
-هاشم ، عشان خاطر حُبنا متقفلش ، أنا رغد حبيبتك ومراتك وحتة من قلبك زي ما كُنت دايمًا تقول..

ثم هبطت بالأرض وهي تمسح الحائط بظهرها ، وأكملت باكية :

-طمني عليك الأول ، قلبي حاسس فيك حاجـة بس مش عارفة هي ايه ! أنت كويس مش كده ، ولا مش كويس عشان بعيد عني !! وانا زيك بالظبط بموت كل دقيقة ألف مرة .. أنا مش قادرة أعدي الساعات من غير ما استناك فيها !! بس يا ترى هتيجي أمتى ؟!

تكرر صدى تعب الرصاصة التي ضُربت بكتفـه وهو يعتصر جفونه من شدة وهج القلب الذي سمع احتراقه بموطن الجرح .. لم يصلها من صوته إلا آهات تحترق مثلها تمامًا ، تبللت أناملها بماء لعابها وهي تكمل شكواها منه إليه:

-كل حاجة وحشة من غيرك يا حبيبي.. هاشم بلاش تعمل في قلبي كده أنا ماليش غيرك .. صوتك وحشني ، اسم رغود منك وحشني.. حضنك واهتمامك ولهفتك عليا وحشوني؛ كل ده راح فين .. انا عمري ما هبطل استناك حتى ولو مش جاي يا هاشم !!

حرائق كلماتها اشتعلت بصدره وهو يستمع للمزيد منها كأنه أراد أن يروي قلبه منها ، فأتبعت :

-تعالى ننسى الماضي وننسى كل حاجة ونرجع ، أنا مخترتش أهلي زي ما أنت كمان مخترتش أهلك .. أهلك اللي لو عرفوا بحقيقة جوازنا هيقتلونا ، مش هو ده السر اللي أنت مخبيه عليا ..

ثم احتنضت جوفها الذي يحمل مضغة حبهم الكبير :
-تعالى نهرب ونسيبلهم حياتهم الظالمة دي ، ونعيش أنا وأنت في أي مكان ، المهم أنك تكون معايا، هاشم انت اختياري الوحيد في الدنيا كلها متخذلنيش.. تعالى وأنا والله مش هعاتبك ، أقولك موافقة جوازنا يبقى في السر العمر كله بس متحرمنيش منك ..انا بموت بالبطيء يا هاشم ..

ثم ضمت ساقيها إلى صدرها وأكملت :
-هاشم متعملش في رغد حبيبتك كده ، زي ما أنا خبيت أنت كمان خبيت ، أنت التمن شغلك وأنا التمن حياتي .. والله ما تغلى عليك ؛ بس تعالى أموت حضنك مش عايزة أموت وحضنك واحشني … رد عليا هتفضل ساكت كتير ؟

رفس كمن يركل كُرة الحنين بقدمه وهو يشتعل شوقًا وشوكًا لرغد قلبه وهناه ليقول :

-أحنا الاتنين غلطنا يا رغد ، وبندفع التمـن ده .. معنديش حاجة أقولها غير أن ورقة طلاقك هتوصلك في أقرب وقت ..

من هذا الذي يتكلم !! أ هل هاشم القيادي رجل الجيش أم هاشم أليف روحها وحبيب عمرها !! من يكون ذلك القاسي الذي قدم لها شهادة وفاتها بسكين بارد وهي ما زالت حية ترزق بحبه !! لم ينتظر ردها بل أنهى المكالمة على الفور حتى انه لم يسمح لقلبه أن يسمع اعترافها بوجود طفل برحمها ما ذنبـه !! ما ذنبه أن يُعاقب بنفس عقابهم .. قفل جفونه وانكمشت ملامحه قابضة على جمر الحزن الذي يقلع حبيبة فؤاده من روحه .. أما عنها فانفجرت حد الانهيار العصبي كالبركان الذي لا يمكن أن يخمده أحد .

ويبقى التساؤل هنا :
“ما الخطأ في أن يتعلق الغريق بلوح خشب أو عود أو قشة لتنقذه من الغرق !! ما الجُرم في إشعاله لفتيـل من اللهب كي يُنير الدرب بعينيه فيحرقه !! ما الجريمة في سعى المرء ليحيا بعد ما قتلتـه الحيـاة فيُمت وهو يحاول!! ما الكارثة في حبي لك !! ما سينقصه العالم أن تركك لي لآخر عمري “

••••••••••••••

ذهب كُل من ليـلة وهارون لأحد الفنادق الراقية بالاسكندريـة .. حجز لهما غُرفـتين مجاورتين وبعد البحث المتعدد آخيرًا وجد الموظف غرفتين كطلبه .. صعدت ليلة غُرفتها ورمت أشياءها بملل ، ثم رمت جسدها على السريـر الذي يحمل النار والنور في آن واحد ، نار أمها ونور وجوده معها ، ضمت الوسادة لحضنها متمنيـة أن يبقى هنـا للأبد ، لا يفارقها ولا تفارقه لقد وجدت أمانها المفقود منذ سنوات مضت ، لقد كان لوجوده سحر الونس والأمان السند الذي تفتقده بحياتها ….

أما عنـه لم تخلٌ رأسه من الشكوك خاصة بعد رؤيته لأحد رجال أبيـه يختبئ أمام بيت ليلة !! فما السبب يا ترى !! أخرج هاتفـه ليتواصل مع الرجل الذي سبق و أوقف السيارة عنده قبل ساعتين ليعرف سبب وجوده وترك ليلة بالسيارة غارقة بحزنها لم تلتف لأي شيء حولها .. ظل يفكر دومًا حول ما يدور برأس أبيه ليراقب هذه السيدة وما صِلته بها ، حتى رد عليه الرجل بالهاتف فاكتفى متسائلًا :

-الراجل اللي كان فوق نزل !!

-نزل يا عمدة من نص ساعة ، الرجل ده كل ليلة يجي ويمشي الساعة ٢ بعد نص الليل ..

-تمام متبلغش ابوي بحاجة وخلي كلامك معاي !! وخليك ماشي ورا الدكتورة دي لغاية مانشوفوا أيه وراها ..

انتهت مكالمتـه مع الرجل وهو ينزع سترته الشتوية وملابسه ليأخذ حمامه الدافئ من مشقة الرحلـة ويقضي فروضه الفائته على مدار اليوم وهو يستغفر ربـه جهرًا ..

~في تمام السـاعـة الثامنـة صباحًا ..

استيقظت ليلة على صوت رنيـن هاتفهـا باتصال هارون الذي لن يعتاد النوم أكثر من ستـة ساعات ، ما صلى الفجـر وقرأ أوراده مثلما اعتاد مع أخيه هلال من قبل ، ظل يجوب بالغرفة بملل من الشُرفة للغرفة للتلفاز الذي يمله ويمل من مشاهدته ..

آتاه صوتها المفعم بالنـوم وجفونها المُغلقة :
-صباح الخيـر !

لا يعلم سبب خفق قلبه المفاجئ بنبضة غريبة عليه عندما سمع نبرتها هذه ولكنه ما زال محافظًا على نبرة صوته الشامخة والثابتة وهو يطالع البحر من وراء الزجاج:

-كله ديه نوم ! أنا عاوز افطر .. وأنتِ مجوعاني على فكرة !

ضحكت بخفـوت ودلالٍ يحتل نبرتها :
-طيب اديني نص ساعة كمان أكون فوّقت وجهزت .

قال مهددًا :
-نص ساعة لو مجتيش هستندل وانزل افطر لوحدي ..

-لا والله نص ساعة بس .. مش هتأخر عن كده .

قالت جملتها وهي تُفارق فراشها بسرعة وتركض صوب الحمام لتكون بالموعد ، كان يحركها شيء أسمى من خطوات رجلها ، ربما قلبها .. صوته ، سعادتها بوجوده ، فرحتها بلذة هذه المشاعر التي تعيشها لأول مرة .. قبل الموعد المحدد بخمس دقائق كانت تطرق باب غُرفته وهي في كامل أناقتها … فتح لها الباب والابتسامة تشغل ملامحه وهو يقول ممازحًا و يقفل باب غرفته خلفه:

-أنا كُنت نازل بس لحقتيني على آخر لحظة !!

-من غيري!

-الجوع والنوم ملهمش سلطان …

تابعت خُطاه :
-ليه بقا ..

ضغط على زر المصعد وهو يقول :
-عشان هما الاتنيـن سلاطين ..

كانت مع كل كلمة منه تتعمد النظر إليه كأنه الشيء المميز الوحيد الذي تراه .. وصل الثنائي الي المطعم وكل منهما سحب طبقـه ليملأه في ” البوفيه ” ودار الحديث بينهما وهي تسأله بحزن :
-أنت هترجع النهاردة!

كان منشغلًا بتعبئة صحنه الأبيض :
-لا قاعد معاكي يومين طلع لي شغلانة لازم اخلصها ، مضطرة تستحميلني..

-الله بجد !! خلاص مادام كده تروح معايا فرح النهارده.. أنا مكنتش ناوية أروح بس أي رأيك نروح سوا ! وننبسط شوية .

رفع حاجبه معترضًا :
-أروح فرح معرفش فيه حد!

-ما أحنا هنروح سوا ، بليـز وافق عشان خاطري ..

لم تمهله فرصة للاعتراض فأتبعت:
-أحنا هنروح لصاحب القناة عشان بيجي اسكندرية يومين بس سبت وأحد ، واقدمله الفيديوز وبعدين نلف سوا نشتري حاجات لزوم الفرح ، وحاجات ليك آكيد مش هتقعد باللبس ده يومين .. هاه قول موافق بقا ..

رغم عدم اقتناعه إلا أنه أحب حماسها وفرحتها بوجوده معها في هذا اليوم ، وافق على مضض وبعد ما فرغ الاثنان من تناول وجبة الإفطار، بدأت رحلتهما لـ مكتبت المدير التنفيذي بأحدى القنوات الفضائية.. أخذت ليلة الكاميرا وهي تطلب منه أن ينتظرها بالسيارة والقلق يحوم بملامحها:

-ادعي لي بقا ! يارب الفكرة تعجبه ..

-منصورة أن شاء الله يا ليـلة .. خليكي واثقة في نفسك متخليش حاجة تهزك مهمـا كانت النتيجة..

قال جملـتـه بنبـرة ناصحة وهو يتكئ على مقعد القيادة ثم رفع حاجبه مشجعًا :
-يلا اتوكلي على الله وهستناكي …

تقبلت نصيحته بسعة رحب وهي تفارق السيـارة وتدلف بداخل المبنى الفخـم المُحاط بالزجاج ، هبط هارون من السيارة متجهًا نحو عربة القهوة الواقفة ليطلب قهوته و يتساير مع الرجل حول هوية ذلك الشخص صاحب هذا المكان الذي ستُقابله ليلة ..

مرت قرابة النصف ساعة حتى غادرت ليلة مكتب هذا الشخص الذي عاد ليجري اتصاله برشدي ليخبره :
-رشدي بيه ، ليلة لسه نازلة من عندي .. وزي ما اتفقنا ، مفيش قناة في مصر هتشغلها … أنا حطمتها على الآخر .

-عفارم عليك يا شناوي بيه ، دي خدمة عمري ما هنساهالك …

عادت مطأطأة الرأس محاولة اخفاء دموع عينيـها عنه والخزى يعقد ضبابه فوق رأسها .. كان واقفًا أمام سيارتها في انتظارها فما اقتربت منه سألها:

-خير يا ليلة !! حُصل ايه !!

هشت على دموعها بآهاتٍ مُلتـاعة :
-زي كُل مرة يا هارون ، محدش راضي يشغلني .. هو أنا بجد فاشلة زي ما بيقولوا ، ولا هما اللي اتفقوا عليا يدمروني .. انا تعبت أوي .

كظم غضبه بنفسه وهو يقول :
-كله هيتحل متزعليش نفسك .. هو يعني مفيش غير الراجل ده في البلد!!

-مش زعلانة بس مقهورة ، هما ليه مش عايزين يشغلوني ليه بيقفوا في طريق حلمي!! طيب المفروض أعمل أيه تاني ؟! أنا مفيش حاجة مش عملتها .. والله فكرة البرنامج اللي أنت قولتها جامدة بس هو اقتنع وبعدين قالي هنبقى نشوفلك ممول ..

اختنق لحزنها فقال مشجعًا :
-دول هما اللي خسروكي ، بلاش إحباط وكبري مخك ، متيأسيش .. فكي عاد ، عندك فرح ماينفعش تروحي بالمنظر ديه ..

-نفسي اتسدت والله ..

-طب انا ليه حاسس إنهم شوية وهيكلموكي ويوافقوا ، اتفائلي خير بس ومتحطيش في دماغك ربنا بيقلب الليل والنهار في ساعات ، قادر يبدل حالك لافضل حال في لحظات .. قولنا نرضى مهما كانت النتيجة ..

ثم أخرج من جيب بنطاله منديلًا وقدمه لها:
-امسحي الدموع دي ، عيبة في حقي لما تكوني مع هارون العزايزي وتبكي .. ولا انتِ عايزة تزوغي من عزومة السمك !!

أخذت المنديل من يده وهي تُجفف دموعها بضحكة مكسورة :

-لا خلاص ، هعزمك ونحتفل بالخيبة اللي أنا فيها ..

ثم كلمت نفسها بقلب مهزوم :
-انسى انسى خلاص يا ليلة ، يعني دي مش أول مرة !!

ثم نطرت لعينيه تسألهما:
-المفروض أكون أخدت حصانة مش كده !!

••••••••••
~العزايزة ..

عاد هِلال برفقة رقيـة من “النيابة العامة” بعد إثبات التُهمة على بكرة وصدور قرار بتجديد حبسه لمدة أربعة عشر يومًا على ذمة التحقيـق .. بعد ما رفضت رقية التنازل نهائيًا عن حقها وطالبت بمعاونة محاميها بنيل المتهم أقصى عقوبة يستحقها وهي القصاص..

عند وصولهما للبيت كانت تسير بمحاذاة هِلال بمهلٍ حتى ألتقت بصفية التي رمقتها باشمئزاز :

-عاجبكم أنتوا الفضايح والجُرس دي !! جبت لروحك وجع الرأس ليه يا ولدي ! كان مالك بس بالهم ديه !

ربت على كتف رقية :
-رقيـة روحي على أوضتك ..

هزت رأسها بالنفي معارضة طلبه بتأدب ثم تقدمت خطوتين لـتواجهها :
-وأيه الغلط في وخد الحقوق يا مراة عم !! أيه الغلط اللي أنا عملته عشان أمشي كاسرة عيني !

-معملتيش حاجة آه ، بس شيلتي ولدي حِمل ملهوش ذنب فيه يابت الناس !!

تدخل هلال القابض علي جمر غضبه:
-انتهينا يا أمي .. رقية بقيت مرتي وانتهى الأمر ، مش عاوزة تقفلي على الماضي ليه وتنسي !

تدخلت رقية التي تقاوم دموعها:
-بعد إذنك يا شيخ هِلال ، سيبني أكلم مراة عمي باللغة اللي تفهمها ..

ثم تطلعت لصفية :
-لو هاجر ولا هيام حصل فيها اللي حصلي كُنتي هتعملي أيـه !! قوليلـي .. هتقتلي بتك ولا تاكلي كبد اللي عمل فيها كِده ولا ترميها وتچوزيهاله !! ليـه مش راضية تشوفيني بتك ونازلة تجريح فيّ !! ليه بتشاركي حيوان زي بكر في جريمته !!

دنت منها صفية محافظة على كلماتها التي تعاكس سُم نواياها لتقول:
-أنا بناتي عارفين عرفهم ومصيرهم ،متمردوش على نصيبهم .. أما أنتِ افتريتي على الراجل وطلعتيه عن شعوره ، وخلتيه كيف المجنون يدافع عن حقه .. ياريت بس تكوني فرحانة بروحك ومچيتك على المحاكم وأحنا عنقولو يا حيط دارينـا ..

تدخل هلال بينهما ليضع لأمه حدًا ، فلم تتحمل رقية إهانتها أكثر من ذلك ففرت لغُرفتها باكيـة :

-أنتِ ليه مصممة تخليني أخد مرتي ونسيبوا البيت ونمشوا !! ليه أنتِ الوحيدة اللي شايفاها مجرمة مش مظلومة !! ليه مصممة تحطيني بينك وبينها !! خلاص يا صفية أنتِ اللي اخترتي .. ومن الساعة دي مش هتشوفي وشي أنا ومرتي في البيت تاني ..

صرخت عليه :
-ليه عاوزني أغضب عليك يا هلال يا ولدي ليه بس !! كمان بتعصيك عليّ وعاوزة تطلعك من بيت أبوك !

قال جُملته وهو يلحق بخطى المسكينة التي اتخذت من الجدران مأوى لها متجاهلًا ثرثرة أمه حاسمًا قراره ليُعزل من بيت أبيه كي يرحم زوجته من إهانات أمه المستمرة ..

وصل لغُرفته فوجدها نائمة بمنتصف فراشها وهي تنتقض من لوعة الحزن الذي لم تتحمله بعد .. قفل باب الغُرفة وهو يقول بهدوء :

-رقية .. قومي هنمشوا..

-هي ليه مصرة تدبحني بكلامها !! ليه !
قالت رقية جملتها وهي تنهض لتواجهه بحرقة وأتبعت:
-ليه كل ما أحاول انسى تيجي تفكرني ، ليه هي والزمن عليّ !! يا ريتني ما وفقت بجوازنا كُنت قعدت فـ بيت أبوي أكرملي .. طلقني يا شيخ هلال وعذرك هيكون معاك ومحدش هيلومك ..

أن تحاشي لوم الجميع فأين يذهب من لوم قلبه يا ترى !! هناك دخان يتصاعد من قلبه من ملامحه كل شيء بداخله يحترق تحول لرمادٍ ، لم يتحمـل رؤيتها في هذه الهيئة الضعيفة المستسلمـة ، بنظرات حادة كالمشارط يود أن يزيـل تجاعيـد الحزن عن وجهها ، وبضمة مفاجأة وقوية منـه وكأنه يود حشو الأمان بـ جسدها المتعطش للحنان برغبة جامحـة ..

ضم بقوة على جسدها الضعيف فسقطت عِمة رأسه أرضًا ، دفنها بداخل حضنه كأنه يقدم قربان اعتذاره عن أيامها القاحلة التي عاشتها .. كلما ازدادت انتفاضة جسدها الذي لم يكد يتحمل قوته التي تعتصره بحضنه تضاعف احتضانه إليها .. لأول مرة يشعر باكتمال روحه وقلبـه .. لأول مرة يشعر بأنه قطع شوطًا طويلًا في درب الوصول إليهـا ..

ابتلت ملابسه بدموعها ، لم تقاومه ولن تعارض حضنه الذي كسر كل الأوجاع بجسدها ، حضنه الذي تأخر كثيرًا حتى ترك فسحة للحزن أن يتغلغل فيها .. وجدت نفسها تميل على صدره ، تستمع لصوت ضربات قلبـه الثائرة بجفونٍ مقفولة تأبى فتحهمـا كي لا يعارضان ذلك الشعور الغريب الذي سكنها ولا تود الابتعاد عنه ..

حلقة من الصمت الطويل ، تعمقت بحضنه وتعمق بحمل وجعها عنها وهو يقبل رأسها التي تزحزح عنها الحجاب ويقول معتذرًا :

-حقك عليّ ، وأسف على كُل كلمة وجعتك ، وأسف على اللي عمله بكر عشان مقدرتش أحميكي منه .. وأسف عـ

ثم خاطب عينيها المحمرة وغير مجرى كلامه وهو يمسك وجهها و يكفكف عبراتها بكفيه ويتعمق بجمال أهدابها المبللة بالدمع :

-هنمشوا من هِنه عشان اللي يزعلك كأنه زعلني بالظبط ..

هزت رأسها نافية :
-لا ، مش هبعدك عن ناسك .. أنا اللي همشي .. طلقني يا شيخ هلال أنا مستاهلش واحد زيك ..

قطب حاجبيه برسم ابتسامة مترددة ويمازحها :
-أي طلاق يافتاة !! أنتِ خلاص ادبستي فيّ لآخر عمرك .. ومُجبرة أن تتقبلي هذا الوضع حُبًا ولست أمرًا ..

كادت أن تعارضه وهي تشد حِجاب رأسها وتبتعد عن حضنه الذي أغرقته بالدموع ، فقطعها :
-أول مرة بعمري أرى أعين يُجملها الحزن !! أنتِ أغويته هو كمان !!

-يعني أيه !!

-يعني تسمعي الكلام وتجهزي نفسك عشان هنمشوا .

رفضت قطعًا :
-لا ، ديه بيتك ومينفعش تبعد عن ناسك بسببي انا هستحمل كلام أمك خلاص دي في مقام أمي وست كبيرة ..

-وأنا مش هستحمل يا رُقية !!

تعرقلت بنظرات عينيه المُربكة بقلق مدركة ما حدث قبل لحظات بخجل لتُعاتبه على فعله وعن احتضانه لها وهي تقول :
-شيخ هلال؟!!

دنى منها بهدوئه المعتاد بعد ما قرأ العتاب والخجل بعينيها ثم تنهد قائلًا :
– لست مضطرًا لتبرير شيء يا رقية !!

ظلت تراقبه بنظرات حائرة تتساءل بنفسها من أنت يا رجل !! من أنت الذي يحطم حصوني شلو وراء الآخر ولم أمانعه ! خيم التوتـر على ملامحها وهي تطوف بأعينها في كُل مكان :

-أنتَ مش عِندك محاضرة في المعهد ، أمشي قصدي هتتأخر وو

ثم توقفت عن ارتباكها الذي زاد ابتسامته وسألته :
-أنتَ ليه مصحتنيش أصلى الفجر الليلة دي !!

دنى منها خطوة وهو يشد حاجبها على رأسها رغبةً من أنامله أن يتحسس نعومة شعرها اللامع تحت الحجاب والذي يغازل عينيه كثيرًا كشعاع الشمس :

-سَهّى عني أمر إجازتك من الصلاة .. مع أن الخطأ منك وو

-هي عمتي أحلام قالت لك !! ولا أنت عرفت منين !! انتَ تعرف أيه بالظبط ؟

لم يتوقف عن محاولة إدخال شعرها تحت الحِجاب وهو يقول دون النظر لعينيها :

-أنا أعلم عنكِ كُل شيء يا رقيـة ، أعلم أن هناك مدة إجازة من الصلاة، وأعلم أن ما يسبقها فترة كآبة تحتاج ليد حنونة لتهونها عليك ..

ثم أطال النظر بعينيها وأكمل :
-وأعلم أن هناك فترة تتفتح فيها الفتاة كالوردة الزاهيـة وتكون في قمة جمالها وجاذبيتها وأيضا تحتاج لنفس اليد الحنونة التي تضمها وتمدها بأسمى معاني الحياة .. أنا أعلم كل هذا !!

انفجرت عينيها بدهشة ، خاصةً عند علمها بدراسته الأدبية الخالية من أي معلومات علمية كهذه وهي تسأله :

-أنتَ عرفت كل ديه كيف ومنين !!

انفجرت منه ضحكة خفيفة وهو يقول :
-يقولون أني شيخ ومُعلم .. ولا لازم أكون طبيب لكي أعرف كل هذا !!

أحست بتجردها أمامه من كل شيء لتقول بارتباك :
-وديه أكبر دليل عشان منصدقش كل اللي بيتقال .

-ديه أكبر دليل أنكِ لما تحتاجي لاستشارة من أيا نوع متروحش تستفسري من أحلام ..

ثم ولى ظهره ليسحب حقيبته :
-يلا عشان هنمشوا من هِنه …

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية آصرة العزايزة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *