روايات

رواية جعفر البلطجي 3 الفصل التاسع والخمسون 59 بقلم بيسو وليد

رواية جعفر البلطجي 3 الفصل التاسع والخمسون 59 بقلم بيسو وليد

رواية جعفر البلطجي 3 البارت التاسع والخمسون

رواية جعفر البلطجي 3 الجزء التاسع والخمسون

رواية جعفر البلطجي 3 الحلقة التاسعة والخمسون

رَأيْتُ القنَاعَة َ رَأْسَ الغنَى،
فصِرتُ بأَذْيَالِهَا مُمْتَسِكْ،
فلا ذا يراني على بابهِ،
وَلا ذا يَرَاني بهِ مُنْهمِكْ،
فصرتُ غَنِيّاً بِلا دِرْهَم،
أمرُّ على النَّاسِ شبهَ الملك.
_الإمام الشافعي.
____________________
لا بُد أن يُفكر المرء مرتين قبل أن يخطو خطوته..
الإقدام على خطوة حاسمة ليست بالشيء الهين ولا بتلك السهولة التي يظنها البعض، الأمر لم يكُن بتلك السهولة وتلك كانت مِن الإختبارات الصعبة التي يواجهها بعد نفسُه..
<“رابط الأخوة لا يُمكن أن يُكسَر أبدًا.”>
كانت لحظة ليست في الحُسبان، لحظة لم يكُن يتخيَّل أن تحدث بالفعل، ترقُب، تفاجؤ، صدمة، ولكن على النقيض الآخر كانت مشاعر أصدقائه تعكس مشاعر “سـراج” الذي لم يُصدق ما يراه أمامه، فثمة وجهٌ غريبٌ في مكانهم السري الذي لا يعلم أحدهم عنهُ، شَعَر “يعقـوب” بالتوتر حينما رأى نظرته لهُ ولكن برغم كُلّ ذلك لم يتحدث، أقترب “سـراج” مِنهم حتى وقف أمامهم على مسافة وجيزة وهو ير’ميهم نظرةٍ ذات معنى قائلًا بجهلٍ:
_إيه؟! بيعمل إيه هنا؟.
تحدث “رمـزي” بنبرةٍ هادئة قائلًا:
_طب أر’مي السلام علينا الأول متبقاش زي التو’ر كدا.
رد عليهِ “سـراج” دون أن يحيد بنظره عن “يعقـوب” قائلًا:
_وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، محدش جاوب على سؤالي برضوا.
تحدث “رمـزي” بنبرةٍ هادئة بعد أن نظر إلى “يعقـوب” قائلًا:
_”عصفـورة” بقى واحد مِننا مِن النهاردة، عايز يصلّح مِن نفسُه ودي حاجة متعيبهوش بالعكس، فجه وحكالي وبصراحة إحنا بدأنا معاه صفحة جديدة و “يـوسف” أول ما يوصل بعد بُكرا هيقعد معاه عشان محتاج يتكلم معاه ويفهمُه اللي قالهولنا، بالمناسبة أسمه “يعقـوب” مش “عصفـورة”.
نظر “سـراج” إلى “يعقـوب” في هذه اللحظة نظرة مُحمَّلة بالشـ.ـك بعد أن أستمع إلى حديث رفيقُه الذي كان يتم خد’اعه واستغلا’ل طيبة قلبُه دومًا ليجاوبه بنبرةٍ هادئة دون أن يُبعد نظره عن الأول قائلًا:
_آه، وأنتم صدقتوه مِن كلمتين خيبا’نين صح !!.
هذه المرَّة جاوبه “يعقـوب” بنبرةٍ هادئة مبتسم الوجه بعد أن نظر لهُ:
_حقك تخو’ني يا “سـراج” وحقك متثقش فيا وتشُـ.ـك فيا كمان، بس أنا مش هجاوبك دلوقتي، هسيب الأيام والأفعال تثبتلك كُلّ حاجة.
أجابُه “سـراج” بنبرةٍ باردة كصقيع الطقس في الخارج عاقدًا ذراعيه أمام صدره قائلًا:
_ميهمنيش، كُلّ دا ميعنليش بشيء إلا لمَ يحضر أخويا ويسمع الأول بنفسُه ويُحكم، ساعتها هشوف إذا كُنْت هصدقك ولا لا.
تَفَهَّم “يعقـوب” حديثه ولذلك لم يدخُل في نقاشٍ حا’د معهُ وتركه يفعل ما يُريد فيجب أن ينظر إلى الجانب المشرق الآن، وهو أن الجميع صدقوه وقرروا أن يدعموه أيًا كانت النتائج فيما بعد، نظر إليهم نظرة هادئة ثمّ قال:
_أستئذنكم همشي ولمَ “يـوسف” يرجع إن شاء الله هكلمه بنفسي.
جاء جواب “لؤي” الهادئ وهو ينظر لهُ قائلًا:
_خلّي بالك مِن نَفسك، ولو أحتجت حاجة متترددش، أنا موجود فكُلّ وقت.
أبتسم “يعقـوب” ثمّ ودعهم جميعًا ورَحَلَ دون أن يتفوَّه بحرفٍ آخر تاركًا إياهم خلفُه ينظرون إلى طيفه، لحظات ونظر إليهم “سـراج” نظرةٍ تحمل الكثير والكثير في طاياتها والجواب عندهم، نظروا جميعًا إلى بعضهم بعد أن أنتظر “سـراج” تفسير ما حدث دون أن يقول شيئًا، ويكون آخر مَن يعلم بهذا أيضًا؟..
في منزلٍ يحتضنه الدفء..
كانت تجلس في غرفة النوم على الفراش وهي تشاهد التلفاز بكُلّ هدوء تنتظر عودته وتنتظر وجومه وغضبه المفرط الذي تتلقاه كُلّ يوم حينما يعود مِن الخارج، كانت متوترة ولكنها محا’صرة، فهذا واقعٌ وفُرِضَ عليها، لحظات ووصلها صوت الباب يُغلق في الخارج لتعلم أنهُ وصل أخيرًا وحان دورها لتلقي غضبه كالمعتاد..
هُنَيْهة ووَلَجَ لها يخطو خطوته بهدوءٍ شديد هذه المرَّة عن المرات السابقة التي كانت مثقـ.ـلة وعنيـ.ـفة بعض الشيء، حينما رأته أصا’بها التوتر والخوف الشديد ولذلك أخذت جهاز التحكم وأغلقت صوت التلفاز الذي كان دومًا يُزعجه، توقف هو في هذه اللحظة مكانه ينظر لها وإلى ما فعلته، مستشعرًا بغُصَّة مر’يرة، ولطالما قرر أن يتغيَّر مع العالم الخارجي يجب أن يتغيَّر معها كذلك فهي أحق مِنهم في ذلك..
تقدَّم مِنها بخطواتٍ هادئة يجاورها في جلستها هذه المرَّة دون أن يتحدث أو يُعنـ.ـفها لعدم هرولتها وإعداد الطعام لهُ، كانت مندهشة، لا تُصدق ما تراه عيناها وكأنها تحلُم وستستيقظ في أيا لحظة، رأته يستلقي على الفراش واضعًا رأسه على حجرها ملتزمًا الصمت ألا مِن همسة صغيرة كانت راجية مِنْهُ حينما قال:
_إحتويني يا “زُبيدة”، أحضنيني.
كانت “زُبيدة” مصدومة في هذه اللحظة لا تُصدق ما سَمِعَتهُ أُذُنيها وكأنها تحلُم، كان يرجوها أن تُعانقه لأول مرَّة منذ زواجهما، لأول مرَّة تُعامل بلُطفٍ مِنْهُ، فمهما كانت قوة وصلا’بة الر’جُل في الخارج حينما يكون في مملكتها يُصبح هشًـ.ـا، يحتاج لمُعاملة خاصًّة، يحتاج إلى دلالٍ يجعله ينسى مر’ارة العالم الخارجي..
كانت مترددة، كفها ير’تعش، الخوف حاضرًا في هذه اللحظة، ولكن صوتٌ آخر كان يُشجعها على الإقدام وفعل ما يهواه القلب بلا تردد، وبلا خوف، وضعت كفها الناعم على خصلاته السو’دا’ء الناعمة الطويلة ثمّ بدأت تمسح عليها برفقٍ ودفءٍ يستشعره هو لأول مرَّة، أغمض عيناه مستمتعًا بتلك اللحظة التي حَرَ’مَ نَفسُه مِنها بغباءه، لأول مرَّة يَشعُر بالهدوء والراحة، كانت مترددة، خائفة، تعلم أنَّها ستكون لحظةٌ عابرة وستز’ول ويعود إلى سابق عهده..
ولكن هذه المرَّة أنتظرت تلقي الغضب ولم تجده، أنتظرت صرا’خه عليها ولم تسمعه وكأنه تم أستبداله دون علمها، وبعد وصلة صمت دامت قليلًا بينهما، جاءها صوته الهادئ الذي دَل على استرخاءه:
_أول مرَّة أحسّ بالهدوء والراحة دي معاكي، أول مرَّة أحُط راسي على حجرك وأقولك إحتويني وتحتويني بجد، كُنْت فاكر بعد مُعاملتي ليكي دي إنك هترفضي ومش هتقبلي تتعاملي معايا تاني، بس ردك دلوقتي صدمني وخلاني أسأل نفسي إيه اللي يخليكي تكملي مع واحد زيي … أنا مش مستحمل نَفسي أنتِ أزاي مستحملاني وساكتة وراضية كدا؟.
سألها بجهلٍ في نهاية حديثه وكأنه كان يلو’مها على مُعاملتها الطيبة وإخلا’صها لهُ برغم أنَّهُ لم يفعل لها شيئًا سوى أن يجعلها تبكي كُلّ ليلة قبل أن تخلُد إلى النوم، ابتسمت هي في هذه اللحظة وجاوبته بنبرةٍ هادئة قائلة:
_يمكن عشان بحبك، “زُبيدة” بتحبك حُبّ غير طبيعي، حُبّ مخليها تيجي على نفسها وتستحمل وتكمل معاك برغم كُلّ حاجة بينا.
فَتَحَ عيناه في هذه اللحظة ثمّ رَفَعَ رأسه ينظر لها مذهولًا مِمَّ يسمعه مِنها فبالتأكيد هو يحلُم، لا يُصدق ما سَمِعَه قبل قليل، نظر إلى عيناها العسلية التي كانت تُغلفها الحُبّ والحنان لهُ، لا تعلم كيف جعلته يرى نفسُه حـ.ـقيرًا الآن، فقد شَعَر أنَّهُ لا يستحق حُبّها ذاكَ، فقد رأى نفسُه متخا’ذلًا أمامها ولا يستحق أن يكون بجوارها فهي تستحق الأفضل مِنْهُ..
_”زُبيدة” صدقيني أنتِ متعرفيش كلامك دا عمل فيا إيه دلوقتي، أنتِ مش مجبو’رة تعيشي معايا، أنا مش الفارس اللي كُنتي بتتمنيه.
جاوبته هي في هذه اللحظة وهي تُطالعه بحُبٍّ خالص وهي تنظر إلى عيناه السو’د’اء التي تعكس صورتها وكفها الدافء يسير على خصلاته برفقٍ قائلة:
_متمنتش فارس غيرك، أنتَ الوحيد اللي أتمنيته وحُبّي ليك كان أكبر مِن أي حاجة، بس كُنْت بتمنى حاجة واحدة كمان، أتمنيت تحبّني زي ما حبّيتك، دي الحاجة الوحيدة اللي كان نفسي فيها وكُنْت هبقى أسعد إنسانة.
لا تعلم ماذا تفعل كلماتها تلك بهِ الآن، شَعَر بمدى حماقته أمامها وأنَّهُ بالفعل لا يستحقها، ولكن في بعض الأحيان تعطينا الحياة فرصة أخرى، فرصة لنستطيع أن نعيشها بشكلٍ صحيح مع مَن نُحبهم، وها هي فرصته جاءت إليه على طبق مِن ذهب لإصلاح كُلّ شيءٍ وبدء صفحة جديدة ناصعة يخطو فيها أولى خطواته..
نهض بهدوءٍ وجلس أمامها وهو ينظر لها يرى تلك اللمعة التي بإمكانه إعادتها سريعًا قبل أن تنطفئ ويخسر كُلّ شيءٍ فإن كان سيخسر فمستعد أن يخسر كُلّ شيءٍ إلا هي، نظر إلى عيناها مباشرةً ثمّ اقترب مِنها قليلًا قائلًا بنبرةٍ دافئة لأول مرَّة:
_أنا محتاجك جنبي، عايز أحسّ إن في حد بيحبني وبيخاف عليا، عايزك جنبي على طول متسبنيش لحظة واحدة، أنا عايز أبقى “يعقـوب” تاني، عايز أرجع “يعقـوب” حبيبك اللي حبتيه وأتمنتيه، عايزُه يرجع عشان يعوضك، عشان هو عارف إنك تستاهلي مُعاملة أحسن مِن دي وتستاهلي إنُّه يحبك ويخاف عليكي ويفضل حُضنك وطنه اللي مهما يبعد عنُه مسيره يرجعله، أنا كا’ره نفسي بالحالة دي أوي ونفسي أرجع “يعقـوب” تاني يا “زُبيدة”.
أنهى حديثه ثمّ عانقها بعد أن قال ما يجب أن يُقال، أخرج ما في جعبته وترك نفسُه لها، إلى أحضانها الدافئة التي وصفها بأنها وطنه، د’فن وجهه في عُنُقها ولم يتحدث، ترك نفسُه لها منتظرًا ردًا مِنها لن يخـ.ـيب، أنتظر ضمة صغيرة، وهمسة لطيفة تطمئنه أنَّها مازالت هُنا حيثُ ينتظره وطنه الحبيب للعودة لهُ مجددًا، وبفعلتها تلك أعادت لهُ رو’حه وحياته مِن جديد، شَعَر بذراعيها يطوقانه..
وأخيرًا شَعَر بها تمنحه ما كان يتمناه، ما كان يدعو أن يظل كما هو، لا يذهب، لا يختفي، أخيرًا يَشعُر بذراعيها وهما يضمانه أكثر إلى أحضانها التي كانت موطنًا لهُ، كان غريبٌ ووطنه كان كما الغُربة، لم يجرؤ على العودة بعدما كَسَـ.ـرَ وطنه؟، كيف يعود الغريبُ مشتاقًا إلى غُربته، هكذا كانت الحياة، وهكذا قد تم الحُـ.ـكم عليه، غريبٌ في أحضان غُربته..
شدد مِن عناقه لها أكثر محاولًا أن يَشعُر بها وهي تضمه لأول مرَّة، يُحاول أن يجد نفسُه بداخل وطنه بعد أن طالَت الغُربة وتلبدت المشاعر، ولكن عبق عطرها المُميز أخبره أنها ليست خيالاتٍ، بل حقيقة طالَ أمدها، همس لها بصوتٍ أجش راجيًا:
_متسيبنيش يا “زُبيدة”، أنا محتاجك أوي جنبي، متتخليش عنّي.
ترقرق الدمع في المُقل حينما أستمعت إلى نبرة صوته الخافتة والراجية في نفس الوقت، حبيبها يتوسلها بالبقاء وعدم الرحيل، مازال يرغب بها، مازال ينتظر أن تمنحُه فرصة أخرى جديدة، مازال يُريدها هي وفقط، مسحت بكفها الدافء على خصلاتها برفقٍ وأعطته جوابها التأكيدي بنبرةٍ ثا’بتة ناعمة:
_مين قالك إني فكرت فيوم أسيبك وأمشي؟ أنتَ حياتي كُلّها يا “يعقـوب” في حد بيسيب حيا’ته برضوا؟ لو كُلّهم سابوك وبعدوا أنا موجودة يا حبيبي هتلاقيني على طول جنبك فأي وقت.
كانت كلمات بسيطة ذات طابع وأثر كبير عليهِ هو، كان يتطوق لسماعها مِنها هي وها هي تمنحه إياها على طبق مِن ذهب، شَعَر بنبـ.ـضات قلبُه تزداد حتى باتت مسموعة في أُذُنيه، فرحة وسعادة غمرته فجأة، ولذلك أبتسم بسمةٌ واسعة ثمّ فاجئها بسَيل مِن القبّلات المتلا’حقة على خَدِّها لتعلو ضحكاتها تتغلغل إلى أُذُنيه كنغمات الموسيقى الهادئة في ليلة شتوية باردة..
تركته يبوح عن سعادته كيفما يشاء، ومنحتهُ في المقابل ضحكاتها الرنانة التي أشتاق إلى سماعها كثيرًا، هُنَيْهة وتركها تلتقط أنفاسها وهو معها بعدما أبتعد قليلًا، كان يستلقي بجوارها ينظر إلى سقف الغرفة هُنَيْهة ثمّ نظر لها ليراها تحدق في السقف بصمتٍ تام، أطلق زفيرة هادئة ثمّ قال بنبرةٍ هادئة:
_عايز أبعد عن كُلّ حاجة فيها أذ’ية ليا وليكي، عايز أبعد عن الطيش وعن أي حاجة مقر’فة، فجأة وأنا مع “فتـوح” وهو قاعد بيشر’ب كعادته حسيت بقر’ف مِنُه ومِن نَفسي، حسيت إني محتاج أبعد، محتاج أبقى نضيف مِن جوايا تاني، صوت “يعقـوب” صحي تاني وبيطالب بالرجوع، عايز يرجع لمكانه تاني، عايز يعيش زي ما كان فالأول، قومت جريت مِن جنبه ولقيت نَفسي بكلم “يـوسف” كأني بطلب مِنُه مساعدة صريحة، آه أتوتر وقَلَّـ.ـق مِني شوية بس وافق يقعد معايا، بعدها لقيت نَفسي رايح المسجد تقريبًا دي أول مرَّة أدخله فيها مِن فترة طويلة أنا حتى مش فاكرها، رايح عشان “رمـزي” ياخد بإيدي، وعشان عارف إنُه مش هيرفضلي طَلَب بالذات فحاجة زي دي وهو كتر خيره مأثرش معايا..
_حتى باقي الشلة أتصافوا معايا وأدوني الأمان ما عدا “سـراج”، لسه مقَـ.ـلَّق مِني ودا حقه بصراحة، مقدرش أعتب عليه أنا مقدَّر، بعدها حسيت إن الحياة بدأت تضحك فوشي تاني ولقيت لسه في حلقة مش مكتملة..
نظر لها في هذه اللحظة يرى عيناها تُتابعانه وتنتظر المزيد لسماعه لأول مرَّة، مَدّ كفه البارد يُلامس كفها الناعم الدافئ الموضوع بجوار رأسها، نظر إلى عيناها مباشرةً وأكمل قوله الهادئ:
_أنتِ يا “زُبيدة”، قعدت أفكر كتير هبدأ معاكي أزاي وهقول إيه وأبرر أفعال مينفعش يتبررلها أزاي؟ سألت نَفسي أسئلة كتير أوي قبل ما أجيلك ومكونتش لاقي إجابة، بس كُنْت عارف إنك مش هترُديني مكسو’ر، كان عندي أمل كبير أوي فيكي يا “زُبيدة” برغم كُلّ اللي عملتُه معاكي.
منحتهُ بسمةٌ هادئة، حنونة، مُحبَّة، وتركت عيناها تُخبره بكُلّ شيءٍ، تلك كانت أفضل وسيلة للبوح عن ما يكمُن داخل المرء تجاه حبيبُه، رَفَعَت كفها تحاوط شطر وجهه لتُلامس أناملها الرقيقة لحيته الخفيفة هُنَيْهة تُحاول إقناع عقلها بحقيقة الأمر وأنَّ ما تراه هي حقيقة واقعية ملموسة وليست خيالات صنعها عقلها كُلّ ليلة حينما كان القلب يشتاقُ إليه، هذه اللحظة هو كان صاحب القرار، فلطالما كانت تنتظر مِنْهُ فعلٌ فهذه هي فرصته..
أمسك كفها الموضوع على شطر وجهه وقرّبهُ مِن شفتيه يُلثم با’طنه بقبّلة حنونة كانت مفاجئة لها، شعرت بقشعريرة تسري في جسـ.ـدها وبرغبة حاضرة في البُكاء، حاوطها بذراعيه وضمها إلى دفء أحضانه بعدما قبّل جبينها ماسحًا بكفه على رأسها برفقٍ دون أن يتحدث، فهو يعلم أنَّ مشاعرها متخـ.ـبطة ولا تعلم بماذا تشعُر وماذا تريد بالضبط ولكنها سعيدة لعودته لها مجددًا..
مرّ القليل مِن الوقت بهذا الهدوء ليأتي قوله الهادئ حينما خَطَرَت برأسه فكرةٌ ماكرة:
_يا حزني عالحزن اللي إحنا فيه بدل ما نعيشلنا يومين حلوين.
كان يعلم أنَّها تبكي ولذلك أراد تلطيف الأجواء بينهما، همس بجوار أُذُنها قائلًا:
_عايزك تسامحيني على اللي هعمله دلوقتي.
تعجبت ولم تفهم مغزى حديثه جيدًا ولذلك قبل أن تبتعد عنهُ لسؤاله كان هو قد نَفَذَ مُخططه وبدأ يدغدغها بلا توقف، علت ضحكاتها ترن في أرجاء الغرفة وهي تحاول الابتعاد عنهُ ود’فعه ولكن كانت محاولاته يائسة بكُلّ تأكيد، ظلت تضحك حتى ترقرق الدمع في المُقل وفشـ.ـلت في إبعاده، كانا يحتاجان إلى لحظاتٍ كتلك كي يبدءا مرَّةٍ أخرى، كانا يريدان أن يشعران بأنهما مازالا أحياء، يشعران ويعيشان تلك اللحظات التي كانا يفـ.ـتقرا لها..
ر’حمها أخيرًا وتركها تلتقط أنفاسها بعدما قررا أن يحظيا بالقليل مِن المرح، نظر لها بوجهٍ مبتسم لتُبادله نظراته بأخرى تلتمع ببريقٍ تطوق لرؤيته في عينيها، وضع رأسه بجوارها وهو ينظر لها مبتسم الوجه ليقترب مِنها في دعوةٍ صادقة مِنْهُ لضمه، ولأنها تفهم ما يُريده مِن نظرته عانقته هي هذه المرَّة تُخبره أنها طويت عن الصفحة القديمة وبدأت صفحة جديدة معهُ تبدأ تخطو برفقتِه أولى خطواتهما في طريقٍ أفضل فيه يتلقيا مجددًا ويبدءا قصة جديدة مليئة بالعاطفة والذكريات الجميلة.
_____________________
<“ليلةٌ هادئة، وقلوبٌ تنبـ.ـض لحبيبها عشقًا.”>
كانت ليلةٌ هادئة لهما بعد مرور ليالِ عصيبة، ليلةٌ كانا يحتاجانها، قلوبٌ تنبـ.ـض لحبيبها عشقًا ورو’حٌ أرادت أن تكون ساكنة..
فُتِحَ باب المنزل ليشـ.ـق النور ظُلمته لأول مرَّة، ولجت “بيلا” أولًا إلى منزل أبيه بعدما قررت “شاهـي” أن يأخذ ولدها زوجته ويذهبا إلى منزل أبيه حتى يقضيا بعض الوقت وحدهما قليلًا، وَلَجَ “يـوسف” خلفها مغلقًا الباب خلفه، سَارَتْ “بيلا” بخطوات هادئة إلى داخل المنزل تنظر حولها بشكلٍ أكثر دقة عن المرَّة السابقة..
أقترب مِنها بخطوات وهو ينظر حوله، إلى منزل أبيه الحبيب الذي ترك وصمته بينهم، أخذ نفسًا عميقًا ثمّ نظر لها مبتسم الوجه وحاوط خصرها بذراعيه ضاممًا إياها إلى دفء أحضانه قائلًا:
_أمّي أدتنا فرصة حلوة أوي، البيت جميل ودافي وجَوه حلو أوي، فرصتنا جات لغاية عندنا نبعد عن التعـ.ـب والصداع والضغـ.ـط ونقضي يومين هنا حلوين نغيَّرلنا فيهم جَو.
ابتسمت هي بسمةٌ هادئة وهي تنظر إلى أرجاء المنزل وهي تجاوبه بنبرةٍ هادئة قائلة:
_عندك حق، إحنا فعلًا كُنْا محتاجين نبعد شوية، بس لو عايز الصراحة البيت حلو أوي وعجبني.
ألقى نظرة أخرى على المنزل هُنَيْهة ثمّ وافقها القول بقوله:
_عندك حق، أول ما دخلته حسيت بالراحة وريحته لسه فيه، فرصة نقضيلنا وقت هادي.
نزعت هي حقيبتها وتركتها على المقعد بعد أن تركها “يـوسف” وطافَ في أرجاء الغرفة ينظر إلى أدق تفاصيلها، إتجهت هي إلى المطبخ بخطوات هادئة قائلة:
_هدخل أشوف في حاجة هنا تتاكل ولا لا حاسّة إني جعانة.
هُنَيْهة كان “يـوسف” يجول في المنزل متفحصًا إياه بهدوءٍ حتى قادته قدميه إلى المطبخ حيثُ كانت “بيلا” وَجَدَت الطعام متراصًا في الثلاجة، وقف بالقرب مِنها عاقدًا ذراعيه أمام صدره يشاهدها بهدوءٍ لأول مرَّة تقريبًا يراها تُعد الطعام..
نظرت هي لهُ حينما شَعَرت بوجوده في المكان لتمنحه بسمةٌ هادئة ثمّ قالت:
_لقيت التلاجة مليانة تكفي شهر تقريبًا، عيلة مامتك كريمة أوي على فكرة وقلوبهم طيبة وحبابين، خصوصًا خالك “رامـي” مَرح أوي وبشوش.
أبتسم هو بسمةٌ هادئة وهو يُتابع ما تفعله ليجاوبها بنبرةٍ هادئة قائلًا:
_عندك حق، أول مرَّة أشوفهم بس حاسس إني أعرفهم مِن سنين، حزين على العُمر اللي ضا’ع وأنا مش معاهم.
في هذه اللحظة أقتربت مِنْهُ “بيلا” وهي تصيح بوجهه بنبرةٍ متو’عدة قائلة:
_قصدك إيه يا “يـوسف”؟ وأنا روحت فين !!.
وبحركة ذكية مِنْهُ أقترب مِنها يُلثم خَدِّها بقبّلة هادئة ثمّ قال:
_أنتِ اللي إحتويتيني وعوضتيني، دا أنتِ كنزي يا عسلية لا هييجي بعدك ولا كان في قبلك، هو أنا طلع عين أهلي مِن شوية عشان أجي دلوقتي ومعملش حسابك يا قمر.
نظر لها ليرى عينيها مازالت لم تصـ.ـفى بعد وكلماته لم تُطـ.ـفئ غضبها لينتقل إلى شطر وجهها الآخر يُلثم خَدِّها بقبّلة هادئة حنونة تستسمحها في أن ترضى عنهُ وتصفح عن هذا الخطأ الصغير الذي اقترفه، نظرت لهُ في هذه اللحظة نظرةٍ ذات معنى ثمّ فكرت قليلًا لتجاوبه بعدما عادت تُكمل إعداد الطعام قائلة:
_المرَّة دي سماح، خلّي بالك بعد كدا بدل ما نزعل.
لاحت بسمةٌ جانبية ماكرة على ثَغْره ثمّ أقترب هو هذه المرَّة مِنها يقف بجوارها مباشرةً ثمّ قال بنبرةٍ خـ.ـبيثة وهو ينظر لها:
_شايفك هتديني أوامر وتبقي الكبيرة عليا.
جاوبته بنبرةٍ جادة وهي تقوم بإعداد الطعام قائلة:
_إذا كان عاجبك، يكونش مش عاجباك قوانيني يا “يـوسف” باشا وأنا معرفش.
اتسعت بسمتُه على ثَغْره ثمّ رَفَعَ كفه الأيسر يُلامس طرف حجاب رأسها الذي قامت بتحر’يره عن رأسها ليكشف عن النصف الأمامي مِن خصلاتها البُنية، وبحركة خفيفة سَحَبَ طرفه لينزلق مِن على رأسها وتظهر خصلاتها التي كانت تعقدها على هيئة كعكة صغيرة، عاد هذه المرَّة يُلامس خصلاتها بين أنامله قائلًا بنبرةٍ لعو’بة:
_حد يقدر يقول لا، حقك، بس الكلام دا هنا بس إنما هناك أنا ليا قوانيني الخاصة، يعني نسمع ونقول حاضر.
عا’ندته وبدأت تراوغه بحديثها حينما قالت بنبرةٍ جادة:
_حلو، وهنا أنا ليا قوانيني الخاصة، يعني تسمع وتقول حاضر.
_بدأنا نعا’ند ونفـ.ـرض نفسنا ونتشا’قى يا “بيلا” وكدا أزعل.
جاوبها وهو يسـ.ـحب برفقٍ خصلة شعرها الذي لَفّها حول سبابته لتمنحه هي ضر’بة خفيفة على صدره قائلة:
_بَطَل يا “يـوسف” شعري بيو’جعني.
_بَطَل يا “يـوسف” شعري بيو’جعني !!.
هكذا سَخِرَ “يـوسف” مِن قولها مقلدًا صوتها، ليراها تُلقيه بنظرةٍ غاضبة غير راضية بوجهٍ عابس، أبتسم هو لها بسمةٌ بريئة ثمّ قبّل خَدِّها قبّلة سريعة ثمّ قال بنبرةٍ هادئة:
_هسيبك تجرّبي مرَّة مِن نِفسك، بس متحلميش كتير يا قطة مسافة ما نرجع أنا الكبير.
ابتسمت بسمةٌ خفيفة ساخرة وعادت تُكمل غسل حبات البندورة دون أن تُجيبه، نظر هو لها هُنَيْهة ثمّ نظر إلى ما تفعله ليقترب مِنها قليلًا يهمس لها قائلًا:
_مش عايزة مُساعدة؟.
لم تُجيبه وأكملت ما تفعله لتتسع بسمتُه على ثَغْره قائلًا:
_فكري، جرّبيني مش هتخسري حاجة، بعرف أطبخ على فكرة متفتكرنيش فاشـ.ـل يعني.
نظرت لهُ حينها نظرةٍ ذات معنى غير واثقة ليقرأ هو ذلك سريعًا ثمّ يقول:
_شوفي محتاجة إيه يتعمل وأنا هنفذه، وأوعدك هتنبهري ومش بعيد تخليني أعملك أكل تاني.
فكرت هي قليلًا بينهما وبين نَفسها لتجدها فرصة ذهبية لن تتكرر مرتين، تركت حبات البندورة وقامت بأخذ المنشفة تمسح كفيها مِن المياه ثمّ نظرت لهُ وقالت مبتسمة الوجه:
_أتفضل يا حبيبي، وريني شطارتك فالمطبخ.
هكذا جاوبته بنبرةٍ ساخرة قبل أن تتركه وتذهب إلى المقعد تجلس أعلاه وهي تنظر لهُ مبتسمة الوجه تنتظر ما سيفعله، نظر هو حوله محاولًا معرفة ما ستقوم بطبخه ليعاود النظر لها قائلًا بنبرةٍ هادئة متسائلة:
_طب أنتِ قررتي تعملي إيه ما أنا معرفش !! شايف أوطة بس؟.
جلست بشكلٍ أكثر أريحية على المقعد وجاوبته بنبرةٍ هادئة:
_مكرونة وشوية سلطة، كدا كدا الساعة داخلة على ١١ ومش هنتـ.ـقل فالأكل.
حرّك رأسه برفقٍ موافقًا على حديثها ثمّ بدأ بإعداد المعكرونة دون أن يتلقى مِنها أيا إرشادات، وعنها فكانت تُتابعه وهي تشعُر بالسعادة بداخلها وهي ترى زوجها بالفعل يقوم بطهو الطعام لهما لمرَّته الأولى منذ زواجهما تقريبًا، كان وكأنه محترفًا، أو طاهي مثالي، كانت الرائحة تصل إلى أنفها بعد مرور الوقت لتجد نفسها تبتسم لهُ وهي تراه يضع الصحنين على سطح الطاولة أمامها ثمّ يعود لأخذ صحن السلطة ووضعه أمامها ويجلس أخيرًا أمامها بعد أن أنهى مُـ.ـهمته..
_عارفة، مش هتلاقي حد يعمل طبق المكرونة والسلطة دي بالطريقة دي غيري.
هكذا أخبرها وهو ينظر لها نظرةٍ تحمل الثقة بنَفسُه مبتسم الوجه، وعنها فقد نظرت لهُ نظرةٍ ذات معنى ثمّ نظرت إلى الصحن الخاص بها ثمّ أخذت ملعقتها وتناولت أول ملعقة أسفل نظراته التي كانت تتابعها دون أن يتناول شيئًا منتظرًا إثناءها على طعامه، ولكن تبددت أحلامه بالكامل حينما رأى تعبيرات وجهها تجـ.ـهمت فجأةً ليترقب قولها حينما قال بنبرةٍ هادئة:
_مالك، في حاجة مش مظبوطة أو أنا زودت حاجة وأنا مش واخد بالي؟.
أنتظر أن تُعطيه جوابًا غير الذي يعلمه وتُخـ.ـيب ظنه، فقد كان وجهها منكمشٌ قليلًا حينما تذوقت أول ملعقة وكأنها تتلذذ برؤيته قلـ.ـقًا أمامها خصيصًا تلك هي أولى تجاربه في المطبخ، كان ينتظر بفراغ الصبر ردها الذي طالَ لمُدة دقيقة لترأف هي بحالته وتُخبره بصراحةٍ تامة وبوجهٍ مبتسم:
_طعمها حلو أوي، تسلم إيدك.
لانت معالم وجهه وأطلق زفيرة هادئة حينما أستمع إلى حديثها الذي أراحه بكُلّ تأكيد، تناولت ملعقة أخرى أسفل نظراته التي كانت تُتابعه بهدوءٍ، برغم أنها لم تكُن جائعة كثيرًا مثلما أخبرته ولكن حينما رآها تأكُل بهذه الطريقة التي توحي للبعض أنها لم تتناول الطعام منذ وقتٍ طويل أبتسم، فيبدو أنها قد نالَت إعجابها كثيرًا حتى أنها قد تناولت نصف الكمية..
شَعَرت “بيلا” بنظراته نحوها بعد أن حاولت تجا’هل الأمر، خصيصًا أنهُ لم يبدأ بعد بتناول طعامه، وهذا جعلها تتعجب فحينما نظرت إلى صحنها رأت أنها قد تناولت نصفه وقد شارفت على إنهاءه وهو حتى الآن لم يتناول شيئًا، نظرت لهُ أخيرًا بعد أن قررت معرفة ما حدث لهُ وسألته بنبرةٍ هادئة قائلة:
_في إيه بتبُصلي كدا ليه؟.
علت بسمةٌ جانبية وخفيفة على ثَغْره ثمّ جاوبها بنبرةٍ هادئة وقال:
_بتابع واحدة قالت إنها مكانتش جعانة أوي ويا دوبك هتاكل خفيف عشان إحنا بليل وتعرف تنام، بس شايف دلوقتي واحدة غيرها خالص لو طالت تاكُل الطبق بعدها هتاكلُه عادي.
شَعَرت هي بالحرج في هذه اللحظة مِمَّ جعلها تترك الملعقة وتجلس بهدوءٍ دون أن تتحدث فرغمًا عنها وَجَدَت الطعام طيبًا وهذا جعلها تتناوله دون أن تشعُر، بينما شَعَر “يـوسف” أنهُ لرُبما أر’تكب خطأً بسيطًا دون أن يشعُر ولذلك سرعان ما أعتدل في جلسته ونظر لها قائلًا:
_مقصدش أحرجك أو أضايقك بأي شكل مِن الأشكال أنا بتكلم بتلقائية، أنا بهزر واللهِ، وإيه يعني تاكلي بكمية كبيرة حتى لو مش جعانة أنا عاملها عشانك أنتِ، كُلي براحتك لحد ما تشبعي، أهم حاجة يكون عجبك.
هُنَيْهة ونظرت لهُ بعد أن أنهى حديثه لتراه ينظر لها مبتسم الوجه مُمسكًا بكفها بين راحة كفيه، حرّكت رأسها برفقٍ لهُ دون أن تتحدث وأبتسمت بسمةٌ خفيفة بعد أن أشاحت بنظرها بعيدًا عنهُ وهو في هذه اللحظة كان يعلم جيدًا ما بداخلها ولذلك ترك مقعده واقترب مِنها يجاورها محاوطًا إياها بذراعه ماسحًا بكفه على خصلاتها البُنية برفقٍ ثمّ قال بنبرةٍ هادئة وهو ينظر لها:
_مالك بقيتي حساسة أوي ليه كدا؟.
لم تُجيبه وظلت ملتزمة الصمت، هي نفسها لا تملُك جوابًا على سؤاله ولا على سؤالها الداخلي، فهي لا تعلم لِمَ تأثرت هكذا فتلك أول مرَّة يُمازحها وتتأثر مِن كلماته، وبينما هو لم يعلم للاستسلام غاية فقرر أن يُمازحها قبل أن يعلم السبب وراء حزنها ذلك:
_طب أنتِ تعرفي، أنا لمَ بقول كدا لـ “لؤي” بيطنشني وبيكمل أكل عادي ويبجح فيا ويقولي مباكُلش مِن جيب أهلك وبيكمل أكل عادي خالص كأني مهزقتهوش مِن كام ثانية.
رأى بسمةٌ خفيفة تُزين ثَغْرها وتلك اللمعة في مُقلتيها إزدادت تو’هجًا، وتلك كانت غايته منذ البداية، أن يرى بسمتُها، اقترب مِنها يُلثم جبينها بقبّلة حنونة ثمّ قال بنبرةٍ هادئة مبتسمًا:
_هي دي الضحكة اللي عايز أشوفها دايمًا، معرفش إيه اللي زعلك أو إيه اللي مأثر فيكي ولمَ هزرت معاكي زاد أكتر بس عايزك تعرفي إني مقدرش أزعلك فيوم مِن الأيام بأي شكل مِن الأشكال، زعلك، ودموعك عُزاز على قلبي أوي متعودتش غير على شقا’وتك وضحكتك وصوتك اللي بيملىٰ قلبي بالراحة والدفا قبل ما يملىٰ البيت، لو في حاجة مزعلاكي أو جَت فلحظة وأثرت فيكي أو أفتكرتي حاجة بتزعلك قوليلي، ولو مش عايزة تقولي مش مشـ.ـكلة، براحتك.
أنهى حديثه وهو يُمرر أطراف أنامله على خصلاتها برفقٍ منتظرًا جوابها، بينما نَفَت هي قوله ذاك بهزَّة صغيرة مِن رأسها ثمّ أبتسمت لهُ بسمةٌ هادئة وقالت:
_مفيش هي بس لحظة تأثُر وهتروح، مبزعلش مِنك يا “يـوسف” وأنتَ عارف كدا كويس.
أبتسم بسمةٌ هادئة حينما تلقى الجواب المُراد مِنها ثمّ ضمها إلى دفئ أحضانه ويمسح بكفُه على رأسها قائلًا:
_خلاص طالما هي كانت لحظة عابرة، كملي أكلك عشان نعملنا خربوشين شاي حلوين ونطلع نقعد شوية عالسـ.ـطح فوق.
حرّكت رأسها برفقٍ موافقة على حديثه ثمّ عادت تُكمل تناول طعامها أسفل نظراته التي كانت تُتابعها مبتسم الوجه، فقد كان يُريد أن يبتعد عن الجميع برفقتِها إلى مكانٍ بعيد، كما يحدث في الأحلام، فما مرّوا بهِ لم يكُن سهلًا البتة على الجميع، وفي نفس الوقت يطرأ حديث “يعقـوب” رأسه يُذكره بذلك اللقاء المؤجل الذي حتما سيحين وقته وتتلاقى العما’لقة.
____________________
<“لحظةٌ خا’طفة كنسيم الهواء البارد، وأعترافٌ صريح.”>
تلك كانت اللحظات التي لا يحسبها المرء..
اللحظة الحاسمة، أو رُبما الخا’طفة، تأخذ المرء بعيدًا، خصيصًا وإن كان حبيبًا، كنسيم الهواء البارد في ليلة شتوية، وبلحظتها تأتي الرياح بما لا تشتهي السُفن، لحظة سريعة، وأعترافٌ صريح..
كان “نادر” يجلس على المقعد الخشبي ينظر إلى السماء المُلبدة بالغيوم في تلك الليالِ الشتوية الباردة، ينتظر أن تتساقط الأمطار وتفوح رائحتها المكان مع نسيم الهواء البارد، كان يرتدي كنزة شتوية ثقيلة باللون البترولي وبيده كوب القهوة السا’خنة وفي الخلفية صوت المذياع حاضرًا لموسيقى مِن الزمن الأصلي الجميل، لمطربته المفضّلة “فيـروز”، رَفَعَ كفُه بهاتفه ليجد الساعة أصبحت الواحدة بعد منتصف الليل..
وَلَجَ “بشيـر” لهً في هذه اللحظة بخطوات هادئة يقف على عتبة الغرفة ينظر إلى أخيه الذي كان يلتزم الصمت منذ دقائق قليلة يُشاهد السماء منتظرًا سقوط الأمطار، أطلق زفيرة هادئة ثمّ أقترب مِنْهُ بخطى هادئة ثمّ جاوره حاملًا نفس كوب القهوة، كان يرتدي كنزة ثقيلة شتوية باللون الكريمي الذي تماشى مع بشرته السمراء الجميلة، لم يتحدث وتابع السماء كما يُتابعها “نادر” منذ وقتٍ..
_رحلتك كانت عاملة أزاي فأسبانيا؟.
هكذا سأله “نادر” دون أن ينظر لهُ، بينما أخذ “بشيـر” نفسًا عميقًا ثمّ قال بنبرةٍ هادئة:
_كانت حلوة، نزلت شوفت عالم تاني، حياة تانية، ناس مختلفة، كُلّ حاجة فالسفرية دي كانت مُختلفة، كان في شعور جديد جوايا معرفش هو كويس ولا لا، أتقبلت بعد ما عملت أنترڤيو معاهم بشهر، بيدرسوا أد’ق التفاصيل، أتقبلت وروحت كانوا شهرين حلوين ووحشين فنفس الوقت … حلوين عشان لقيت شغلانة بشهادتي كويسة فمكان محلمتيش بيه قبل كدا ولقيت نَفسي، وفنفس الوقت وحشين عشان بعيد عن أهلي وناسي، خدت على جَو الحارة وأهلها، بس كانت تجربة حلوة.
دام الصمت بينهما هُنَيْهة ثمّ قال “نادر” بنبرةٍ هادئة:
_عندك حق، الغُربة وحشة حتى لو قولنا عكس كدا، مع الوقت الإنسان بيبدأ يُدرك إنُّه كان أكبر مغفـ.ـل لمَ فكر يمشي، مفيش حاجة فالدُّنيا بتمحـ.ـي شعورك بالغُربة مهما كانت، لا أصدقاء ولا فلوس ولا لمة ولا عربية ولا أي حاجة.
نظر لهُ “بشيـر” في هذه اللحظة ليرى أن أخيه ليس على طبيعته كما أعتاد رؤيته، فاليوم هو أكثر تأثرًا عن الليالِ السابقة، ولذلك سأله بنبرةٍ هادئة قائلًا:
_مالك يا “نادر”؟ النهاردة حاسس إنك مش طبيعي، في حاجة مزعلاك ولا إيه؟.
_قول إيه اللي مش مزعلني يا “بشيـر”.
هكذا جاوبه “نادر” بنبرةٍ هادئة وهو ينظر إلى السماء، تعجب “بشيـر” ولذلك أعتدل في جلسته ومالَ قليلًا إلى الأمام وهو يسأله قائلًا:
_في إيه بجد؟ شايفك ساكت النهاردة على غير العادة وقاعد لوحدك طول الوقت ومشغل “فيـروز” وكأنك بتكد’ر نفسك؟.
دام الصمت قليلًا بينهما بعد أن أنهى “بشيـر” حديثه المتسائل، رَفَعَ “نادر” كوب القهوة وارتشف مِنها رُشفة صغيرة ثمّ جاوبه بعدها بنبرةٍ هادئة وقال:
_النهاردة المفروض يكون يوم حلو بالنسبة لي، بس مكانش زي ما كُنْت متوقعه تمامًا، النهاردة تميت ٢٤ سنة، كُلّ سنة فاليوم دا كُنْت متعود ألاقي ماما داخلة عليا وتكون أول واحدة تعايدني وتاخُدني فحُضنها، وتتمنالي سنة حلوة كُلّها سعادة وراحة ونجاح، قررت أفتح موبايلي بعد شهرين غياب يمكن ألاقي مكالمات ورسايل سواء مِنها أو مِنُه، بس محصلش أي حاجة مِن كُلّ دا، فتحت ملقتش أي حاجة ولا حتى مكالمة واحدة، لقيت فراغ أول مرَّة أحسّ بيه فحياتي، حتى هو مفكرش يسأل عليا، كأني مش أخوه ولا أنا أبنها، لوهلة كدا حسيت إن أنا أصلًا مكانش ولا هيكون ليا مكان فقلوبهم، الموضوع وصل بيا لدرجة إني بدأت أفكر إن حُبّها دا مكانش غير تمثيل، حياتي كانت عُبارة عن تمثيلية بايخة عيشت فيها لحد ما أنتهت..
_عارف أنا حاسس بإيه دلوقتي؟ حاسس بالو’حدة، حاسس بالفراغ جوايا، حاسس إني كُنْت لوحدي مِن زمان بس كُنْت بكدب نَفسي، كر’هت نَفسي عشان صدقت وشوش كدابة، هي أصلًا عُمرها ما حبّتني، هي كانت بس بتعمل كدا عشان ترضي نَفسها، قولت متسرعش، ولقيتها بعد ما بدأت أديها فرصة عشان مظلـ.ـمهاش ألاقيها عملالي بلوك !! أزاي دا وليه وعشان إيه؟ أنا أبنها برضوا زيي زيُه أنا مش مجبو’ر إني أصرف على شحـ.ـط يروح يقـ.ـضيها سهرات وسفريات وصرمحة !!..
أنهى حديثه بعد أن بدأ صوته يعلو تدريجيًا دون أن يشعُر، اضطربت وتيرة أنفاسه وترقرق الدمع في المُقل، شَعَر بالو’حدة والأ’لم فمَن كان يظُنه سـ.ـكينتُه وداره الأمن أصبح مصدرًا للخوف وعدم الأمان، فمِن قبل كان أبيه، واليوم كانت والدته وأخيه، وكأن الجميع أجتمعوا على إيذ’اؤه، أسند “نادر” مرفقيه إلى رُكبتيه واضعًا كفيه على وجهه بعد أن خذ’لته عبراته وسقطت على صفحة وجهه تزامنًا مع سقوط الأمطار في الخارج..
ترك “بشيـر” كوبه على سطح الطاولة أمامه ثمّ نظر لهُ، وبدون مقدمات أقترب مِن أخيه ضاممًا إياه إلى دفء أحضانه محاولًا مواساته، شـ.ـد مِن ضمته إلى أخيه الذي أعلن أستسلامه أمامه بعد أن لم يعُد يتحمـ.ـل أكثر مِن ذلك، بكى داخل أحضان أخيه الذي لم يتردد وقرر أن يؤازره، تحدث “بشيـر” بنبرةٍ هادئة وقال:
_حقك تقول اللي حاسس بيه ومش مِن حق حد يلومك، أنتَ حسيت بالتفرقة بينك وبينُه وبحُبها لِيه أكتر مِنك، وعارف إن الشعور دا و’حش وبيو’جع بس أنتَ أقوى مِن كُلّ حاجة وأي حاجة، ربنا عوضك الأحسن مِنهم، أمّ زي طنط “هنـاء” وإحنا، إحنا قادرين نعوضك عنُه هو مش شايفك غير بنك لِيه، مش عارف ليه بتفتكر الماضي وتعذ’ب نفسك بيه؟.
أنهى حديثه جاهلًا ذاك السبب ولكن برغم كُلّ ذلك أستطاع إحتواءه وتهدأته فلا يُحبّ أن يراه بهذه الحالة التي يكره رؤية غيره فيها، أطلق زفيرة قوية ثمّ ظل يُحاول تهدأته قدر المستطاع حتى يستطيع أخيه نسيان ذلك الماضي الذي سيظل إثرًا قويًا تاركًا وصمته بداخلهِ..
وبعد مرور الوقت..
كان “نادر” يلتزم الصمت بعد أستطاع “بشيـر” تهدأته أخيرًا، كانت أنامله تُلاعب أطراف الكوب برفقٍ شارد الذهن، أقترب “بشيـر” مِنْهُ بخطى هادئة يجاوره في جلسته، نظر لهُ ليراه شاردًا، أطلق زفيرة هادئة ثمّ قال بنبرةٍ هادئة وهو يضع الصحن على سطح الطاولة أمامه:
_خُد كُل، كيكة مِن عمايل إيدي.
نظر “نادر” إلى الصحن هُنَيْهة ثمّ نظر إلى أخيه الذي كان ينظر لهُ بوجهٍ مبتسم ليقول بأستنكارٍ تام:
_أنتَ؟!.
عقد “بشيـر” حاجبيه وهو ينظر لهُ ثمّ جاوبه بنبرةٍ هادئة وقال:
_آه، إيه الغريب فكدا يعني.
جاوبه “نادر” وهو يعتدل في جلستِه قائلًا بنبرةٍ هادئة للغاية:
_لا مفيش، خايف بس أبات الليلة دي فالمستشفى.
نظر لهُ “بشيـر” نظرةٍ ذات معنى ثمّ قال بعدما طبـ.ـق على أسنانه:
_هي بقت كدا، طب أنا غلطان هات خسارة فأهلك.
كاد أن يأخذ الصحن ولكن منعه “نادر” الذي أخذ الصحن وأخذ أول قطعة يتناولها وهو ينظر إلى أخيه الذي نظر لهُ هُنَيْهة ثمّ قال مستنكرًا:
_متقولهاش بقى؟!.
أبتسم “نادر” في هذه اللحظة متلذذًا بطعم كعك الشيكولاتة الذي قام أخيه بإعداده ليجاوبه بنبرةٍ هادئة يُثني عليها:
_وربنا ما و’حشة، أتعلمت فين ياض تعمل حلويات؟.
هكذا جاوبه متناولًا قطعة أخرى وهو ينظر لهُ منتظرًا تلقي الجواب، بينما أطلق “بشيـر” زفيرة هادئة ثمّ قال بنبرةٍ هادئة:
_اليوتيوب مخلاش حاجة يا حبيبي، واحدة واحدة أتعلمت كُنْت عايش لوحدي فشقتي وكُنْت بجيب أكل جاهز بس بدأت أمِل عشان كدا بدأت أتعلم واحدة واحدة لحد ما الموضوع نجح.
أبتسم “نادر” وعاد يتناول الكعك أسفل نظرات أخيه الذي أخذ قطعة وهو يقول بنبرةٍ جادة:
_مش طفاسة هي، أنا أعمل وأنتَ تاكُل على الجاهز.
أخذ قطمة مِنها متلذذًا بها ليرى أخيه ينهض وهو يحمل الصحن مبتعدًا عنهُ، نظر لهُ “بشيـر” نظرةٍ ذات معنى ثمّ قال مترقبًا:
_رايح فين؟.
رأى أخيه يهرُ’ب بصحن الكعك ليعلم في الحال ما الذي يُخطط لهُ أخيه ولذلك نهض راكضًا خلفُه وهو يصيح بهِ كي يتوقف، بينما وقف “نادر” خلف الأريكة متناولًا القطعة الثانية وهو ينظر لهُ مبتسم الوجه ليقف “بشيـر” على الجهة المقابلة لهُ قائلًا:
_”نادر” إحنا متفقناش على كدا.
ولكن كما توقع لم يستمع لهُ ولذلك ركض خلفُه ليبدأ “نادر” بالركض هر’بًا بهِ وهو يقول بنبرةٍ مرحة:
_الطبق دا مكتوب عليه أسمي يعني الطبق باللي فيه يخصني.
_وعهد الله لو ما جيت لأطلع أخد علبة الكوكيز اللي جبتها وخبيتها فدولابك يا واطي وما هخليك تمد إيدك فيها.
هكذا جاوبه “بشيـر” معا’ندًا إياه وهو ينتظر رده على ما قاله، رأى تردُد “نادر” قليلًا ثمّ رأى بسمتُه تتسع على ثَغْره تزامنًا مع ركضه تجاه غرفته، وسريعًا عَلِمَ “بشيـر” ما ينوي عليهِ أخيه ولذلك ركض خلفه وهو يصيح بهِ يأمره بالتوقف قبل أن يهرُ’ب بالصحن الذي يوّد مشاركته فيه.
____________________
<“وبين هياهب الرياح ورائحة المطر، كان عبق ياسمينها حاضرًا.”>
بعد ليلة شتوية ممطرة وباردة عليهم، كانت هُناك مشاعر لذيذة قد نَمَـ.ـت بداخلهم، راحة، أمان، طمأنينة، الكثير والكثير، وبين هياهب الرياح الشتوية ورائحة المطر الفواحة كان عبق ياسمينها حاضرًا في باكورة صباحه ليجعل يومه مُميزًا..
وَلَجَ “رمـزي” إلى غرفته وهو يتمطئ ليرى “تسنيـم” تقف أمام خزانة الملابس ويبدو أنها تُحاول أن تنز’ع شيئًا ما في محاولةٍ يائسة مِنها، تقدم مِنها بخطى هادئة حتى وقف خلفها ورأى أنها تُحاول فـ.ـك عُقدة عُقدها الفضي الذي أشتراه لها الأسبوع الماضي، أبتسم بعد أن نظر إلى تعبيرات وجهها الحا’نقة ثمّ قال بنبرةٍ هادئة:
_دي لو خنا’قة شوارع مِن بتوع “يـوسف” كانت خلصت مِن زمان وبدأت واحدة غيرها.
أجابته “تسنيـم” بنبرةٍ تملؤها الضيـ.ـق وهي تُحاول فـ.ـك العُقدة قائلة:
_مش رايقة لهزارك دلوقتي يا “رمـزي” بجد، بقالي نُص ساعة بحاول أفُكها وخايفة أقطـ.ـعها عشان أنتَ اللي جايبها وبقت غالية عندي.
ظل محتفظًا بابتسامته الهادئة ثمّ اقترب مِنها ومَدّ يَده يأخد العُقد مِنها متفحصًا إياه أسفل نظراتها التي كانت تتابع حركة أنامله حينما بدأ يقوم بفـ.ـك العُقدة، كانت خائفة طيلة الوقت مِن ألا ينتبه ويقطـ.ـعه دون أن ينتبه، وبين الحين والآخر كان ينظر لها يرى توترها باديًا على تعبيرات وجهها، فـ.ـك العُقدة الأولى لتظن أنه قطـ.ـعه دون أن ينتبه لتقول بنبرةٍ متلهفة وهي تتفحصه بأنامله بخوفٍ واضح:
_يا لهوي يا “رمـزي” قطـ.ـعته؟!.
نظرت إلى العُقد لترى أنَّهُ قد فـ.ـك العُقدة ولذلك ظنت أنَّهُ قُطـ.ـع، نظر لها “رمـزي” وقهقه بخفةٍ ثمّ جاوبها بنبرةٍ هادئة وقال:
_متخافيش محصلش حاجة، فـ.ـكيتها أهو والسلسلة زي الفُل مفيهاش حاجة.
نظرت هي إلى عُقدها الثمين لترتسم البسمةُ الواسعة على ثَغْرها ويظهر بريق عينيها بفرحةٍ حينما رأت عودة عُقدها مثلما كان، نظرت إلى “رمـزي” ثمّ عانقته وهي تطوق عُنُـ.ـقه بذراعيها بفرحةٍ يراها لأول مرَّة ولكن يعلم أنَّ هذا العُقد يعني لها الكثير ولذلك سَعِدَت حينما أعادُه لها، حاوط خصرها بذراعيه مبتسم الوجه ثمّ قال بنبرةٍ هادئة:
_دول لو قالولك جوزك أتجوز عليكي مش هتبقي بالفرحة دي.
تلاشت بسمتُها حينما أستمعت إلى حديثه ولذلك أبتعدت عنهُ قليلًا تنظر إلى عيناه بنظرةٍ غاضبة لينظر هو لها نظرةٌ مغلفة بالمكر ثمّ قال بنبرةٍ هادئة لعو’بة:
_إيه يا حبيبي مالك؟ مثنىٰ وثُلاث ورُباع.
جاوبته بنبرةٍ تملؤها الضيـ.ـق وهي تطبـ.ـق على أسنانها قائلة:
_الجواز مش مِن فراغ يا سي الشيخ، متفهمش الآية غـ.ـلط تجيب التانية لو الأولى فيها حاجة، بشـ.ـرط، أن تحكموا بينهم بالعدل.
أحب ملاعبتها قليلًا ولذلك أتسعت بسمتُه وقال:
_ما هي الأولى جميلة وعاقلة وبتحب السعادة لجوزها فهتوافق، ولو على العدل فأنا مش هأثر مع واحدة فيكم زي ما بيعاملك هعاملها.
_وليه يا حبيبي تجيب التانية طلق الأولى وروح دوَّرلك على التانية أحسن أنا متعـ.ـبنيش حاجة عشان تشوف غيري.
ردت عليه وأشاحت برأسها بعيدًا بضيـ.ـقٍ واضح بعد أن فكرت في الأمر لوهلة ووجدت أنها لا تقبل أن تأتي أخرى تشاركها زوجها فلا يُعيـ.ـبُها شيء حتى يبحث على أخرى غيرها، وعن “رمـزي” فقد أتسعت بسمتُه على ثَغْره بعد أن وصل إلى مبتغاه ورأى غيرتها عليه ورفضها لأخرى تأتي لتشاركها بهِ، أقترب مِنها مجددًا محاوطًا خصرها بذراعيه وهو يميل برأسه نحوها قليلًا ينظر لها ليراها تهرُ’ب مِن النظر إليه بعد أن أغضـ.ـبها حديثه..
اقترب مِنها برفقٍ يُلثم خَدِّها بقبّلة هادئة تعكس ما بداخله، يكاد يرقص بفرحةٍ عا’رمة بعد أن رأى هذا الوجه مِنها والذي كان يختبئ خلف هذا الوجه اللطيف، تحدث بنبرةٍ هادئة وقال:
_يعني بذمتك أنا أقدر أشوف غيرك؟.
لم تُجيبه وظلت على مبدأها فلا يُنكر أنَّها مازالت غاضبة ويبدو أنَّها لن تصفح عنهُ بسهولة، ولكن هذا الملتحي لم يعلم طريقًا لليأس معها ولذلك قرر أن يلعب لُعبته المفضّلة التي ستأتي بثمارها، رَفَعَ كفه الدافئ وأمسك ذقنها برفقٍ بين إبهامه وسبابه ليجعلها تنظر لهُ، وبالفعل نظرت لهُ نظرة مُحمَّلة بالعتاب والحزن لينظر هو إلى عينيها مباشرةً ثمّ همس لها وقال:
_‏مَطرُوفُ العَيْنِ بِفُلانة؛ لا ينظُرُ إلّا لَها.
كلماتٌ بسيطة كانت ذات طابع كبير بالنسبةِ لها، رأت الصدق؛ ورأت النظرة التي لا تُنظر لأخرى غيرها هي، تلك النظرة تكاد تكتُب إسمها عليها لتُخبر الجميع أنَّها لها، وهو كذلك لها؛ ليست لأخرى غير تلك التي جعلته يُصبح عاشقًا لها، لمح طفيف بسمتُها تلوح على ثَغْرها ولكن أخفتها سريعًا عنهُ، ولكن لم تستطع إخفاء لمعة عينيها لهُ، تظن أنَّهُ سيستسلم ويتركها، ولكن لم يكُن هو مَن يترك الحبيب حزينًا..
هذه المرَّة أستطاع لعب لُعبته بالشكل المطلوب ولذلك قال بنبرةٍ هادئة وحنونة بعد أن نظر لها يفصح عن عشقه لها وليس لغيرها:
_يا “تسنيم”، لو كان للسكينة صوتٌ، لكانت همساتكِ، ولو كان للدفء هيئةٌ، لكان حضنكِ، أنتِ سُكْني الذي لا يُستبدل، وجنّتي التي وهبها الله لي في الدنيا.
يعلم كيف يتلاعب بكلماته، وكيف يستطيع وصف الأشياء الغير ملمو’سة إن كانت ملمو’سة، فمَن كانت تظن؟ إنَّهُ مَطروفُ العَيْن؛ إنه حبيبها وكُلّ عالمها وحبيب قلبها المُلتحي الذي كان يستحي، نظرت إلى عينيه لترى الصدق بهما والحُبّ يسكنهما والطمأنينة تُغلفهما، وأخيرًا لم تستطع أن تحر’مه مِن بسمتُها الحنونة التي يعشق رؤيتها، ولذلك صَرّحت عن حُبّها كذلك لهُ على طريقته هو وليست هي:
_وإن كُنتَ ترى فيَّ سكينتك، فأنتَ أماني وطمأنينتي، وإن كان صوتي همسًا دافئًا، فحديثُك لي دعاءٌ تُزهر بهِ روحي، وإن كُنتَ ترى فيَّ جنتك، فأنتَ الفردوس الذي أُحِبُّ أن أُحاطَ بهِ ما حييتُ.
حسنًا لقد جعلته يُعلن أستسلامه هذه المرَّة أمامها بعد أن أستطاعت إجابته والبوح عن حُبّها لهُ، أتسعت بسمتُه وألتمعت عيناه بلمعتها الخاصة، أكمل قُربه وضمها إلى دفئ أحضانه حيثُ وصلت رائحة مسكه الذي تُحبّه إلى أنفها، أستطاع إغضابها وإثا’رة غيرتها وبكلماته اللذيذة أستطاع أن يُخمدها، هكذا كان هو دومًا معها، ماكرًا، وهذا الوجه كان يُخفيه عنها بقناع براءته..
وبين صقيع الطقس في الخارج ورائحة المطر التي تفوح في كُلّ مكان بعد ليلة شتوية صقيعة وممطرة، كان هذا المنزل يملئه الدفء والحُبّ والراحة، تغلغلت رائحة عبق الياسمين خاصتها إلى أنفه ليبتسم فورًا حينها مشد’دًا مِن ضمته لها تاركًا الوصال لقلبين عاشقين وجدا بعضهما بعد ليالِ باردة على كليهما.
___________________
<“امرأة بوجهه قوية، أستطاعت أخذ حقها مِنْهُ.”>
في باكورة الصباح..
كان يجلس “فتـوح” أمام محله كعادته يُدخن، لا يُبالي لأي شيءٍ حوله فما يُريده يفعله مهما كان هو ومهما كانوا مَن حوله، هذه المرَّة لم يأتي “يعقـوب” للجلوس معهُ مثلما كان يفعل كُلّ صباح مِمَّ جعله يتعجب كثيرًا، كان يُحاول مهاتفته ولكن كان الأمر ينتهي بعدم تلقي الإجابة مِن “يعقـوب” ولذلك زفر “فتـوح” ولم يهتم فهو بدأ صباحه بهدوءٍ هذه المرَّة لا يُريد أن ينزعج في أولى ساعات الصباح..
ولكن ليس كُلّ ما نتمناه يحدث، فقد جاءت رياح الموسم تفاجئه بمفاجأة لم يكُن يتوقعها مِن قبل، أقترب مِنْهُ ر’جلٌ ممسكًا بدفتر بيده ليقف أمامه وهو يقول بنبرةٍ متسائلة:
_أنتَ “فتـوح سويلم زيدان”؟.
عقد “فتـوح” حاجبيه وهو ينظر لهُ يُحاول معرفة ماهيته ولكنه جاوبه مترقبًا:
_أيوه أنا، خير.
أخذ الآخر الورقة وأعطاه إياها ثمّ مَدّ يَده بالقلم والدفتر قائلًا:
_أمضيلي هنا بعد إذنك.
نظر “فتـوح” لهُ ثمّ أخذ القلم وأعطاه إمضته دون أن يعلم ما يحدث، وقبل أن يُغادر الآخر أوقفه “فتـوح” الذي قال متسائلًا:
_بس إيه الورقة دي يا باشا؟.
_مرات حضرتك “نورهان السيد علي” رافعة عليك دعوة طلا’ق.
ألقى بكلماته ثمّ تركه ورحل دون أن يهتم، تاركًا “فتـوح” خلفه الذي جحـ.ـظت عيناه بصدمةٍ واضحة وعدم استيعاب لِمَ قيل لهُ قبل ثوانٍ معدودة، نظر إلى الورقة هُنَيْهة ثمّ بدأ غضبه يتصا’عد وهو يقول بداخله “كيف فعلتيها؟” فقد كانت صدمة لهُ لم يحسب أنَّ تلك اللحظة ستأتي في أحد الأيام، كان هذا ترو’يضٌ خـ.ـفي.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية جعفر البلطجي 3)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *