رواية فوق جبال الهوان الفصل الثامن والعشرون 28 بقلم منال سالم
رواية فوق جبال الهوان الفصل الثامن والعشرون 28 بقلم منال سالم
رواية فوق جبال الهوان البارت الثامن والعشرون
رواية فوق جبال الهوان الجزء الثامن والعشرون

رواية فوق جبال الهوان الحلقة الثامنة والعشرون
بناءً على المعلومات التي تم جمعها مؤخرًا من مصادر مختلفة، وكذلك من المرشدين ومعاونين أفراد الشرطة، اجتمعت القيادات الأمنية في مقر القيادة العامة لمناقشة الخطة المقترحة لردع أمثاله من الخارجين عن القانون ومعاقبتهم أشد العقاب. تطلع اللواء المكلف بمتابعة هذه القضية الخطيرة إلى ضباطه قائلًا بلهجة هادئة لكنها جادة للغاية:
-احنا درسنا كويس نقاط القوة والضعف عندهم، وطبعًا المعلومات المتاحة عندنا سهلت علينا اختراق صفوفهم بسهولة.
تحدث أحد الضباط من تلقاء نفسه معقبًا عليه:
-يتبقى فقط خطة التنفيذ يا معالي الباشا.
فيما أضاف آخر بنفس القدر من الجدية:
-الهجوم المفاجئ ده أسهل وأسرع حل يا فندم.
وزع اللواء نظراته المهتمة بينهم قبل أن يعلق في نبرة يشوبها التحذير:
-هيحصل، بس لازم نتأكد إن مافيش ثغرات، وإلا كل تعبكم يا رجالة هيروح، ده غير طبعًا الخساير اللي ممكن تحصل في الأرواح.
مجددًا تكلم أحد الضباط في تحفزٍ:
-معقل زي التبَّة العالية كان لازم يتهد من زمان.
رد عليه بنفس الهدوء:
-كل حاجة وليها وقتها.
عاد ضابط آخر ليقول بجدية:
-واحنا سيبناهم يصدقوا إنهم بلعوا الطُعم، وإنهم مسيطرين ومالكين البلد، بس كل شيء وليه نهاية.
مرة ثانية تابع اللواء حديثه مشيرًا بيده:
-دلوقت احنا هنناقش خطط الهجوم المقترحة بحيث نضمن تعاملنا الفوري والحاسم مع المجرمين دول.
في لهجةٍ متفائلة ومليئة بالثقة قال ضابط ما:
-إن شاء الله هنقضي عليهم كلهم يا فندم.
عللت الهمهمات الموافقة على جملته الأخيرة، ليعكف بعدها الجميع في مناقشة المقترحات التي تحوي خطط الهجوم لتحقيق الانتصار، وسحق وتدمير بؤر الفساد والمفسدين.
……………………………
في تؤدةٍ وحذر، سارت متأبطة ذراع زوجها، ويدها الأخرى تتحسس بطنها، فما زالت آثار طعنتها تؤلمها بين الحين والآخر، مما يدفعها للمتابعة بشكلٍ متعاقب مع الطبيب المتخصص للتأكد من تماثلها للشفاء. تطلعت “مروة” إليه من طرف عينها، وسألته في ترددٍ، ونبرتها تكاد تشي بخوفها المشوب بحزنها:
-تفتكر أنا عملت الصح؟
حينما أصبحت الفرصة مهيأة لها لمغادرة المشفى سيرًا على قدميها، كان أول ما قامت بفعله الذهاب إلى مديرية الأمن، والإدلاء بما نما إلى مسامعها من معلومات هامة وخطيرة أثناء فترة إقامتها الجبرية في منطقة التَبَّة العالية، أتي ذلك بعد نصيحة من زوجها لرد الصاع صاعين لمن اغتالوها معنويًا، ولكن بصورة أكثر إضرارًا لهم وإنصافًا لها؛ عن طريق القانون. لم تدخر “مروة” وسعها، وقدمت يد العون للجهات الأمنية فباحت بكل شيء قد يفيد في الخلاص منهم، على أن تظل هويتها سرية، ولا يعلم أحدهم بمساعدتها.
أومأ زوجها برأسه مؤكدًا لها، ووجهه تعلوه أمارات الرضا:
-أيوه، وعلى الأقل تبقي خدتي حقك من ابن الحـــرام ده.
نفرت دموعها من عينيها تلقائيًا، لم تستطع كبحها، فسألها في شيءٍ من الضيق:
-بتعيطي تاني ليه؟
سحبت نفسًا عميقًا لتخنق به نوبة البكاء العارم التي داهمتها، وأجابته في صدقٍ:
-أنا ماستهلش أعيش، ماستهلش أخد فرصة تانية بعد اللي عملته.
توقف عن السير، والتفت ينظر إليها ملء عينيه قبل أن يخبرها في نبرة متعاطفة:
-كل إنسان بتجيله لحظة ضعف ويغلط، وبعدين باب التوبة مفتوح، وربنا بيدينا أكتر من فرصة نرجع، واللي حصلك مكانش بخُطرك.
جاء حديثه كالبلسم على جراحها، ومع ذلك باغتته بسؤالها النزق:
-لسه مصمم جوازنا يستمر؟ وخصوصا بعد آ…
قاطعها رافعًا يده أمام فمها هاتفًا بحزمٍ:
-ماتكمليش، والله هزعل…
سرعان ما لانت نبرته حين استكمل باقي جملته:
-إنتي عوض ربنا ليا، وأنا واثق إن ربنا هيكرمني معاكي يا وش الخير.
بشكلٍ عفوي ابتسمت، فاستحثها على السير قائلًا:
-شوفي الوقت سرقنا، واحنا عايزين نلحق المواصلات بدل ما الدنيا تزحم على الآخر.
اكتفت بهز رأسها، وسارت مستندة عليه وهي تحمد الله سرًا أنه منحها زوجًا طيب القلب، متفهمًا، سمحًا، فتجاوز عن أخطاء الماضي، وأعطاها فرصة لتعيش حياتها بصورة طبيعية من جديد.
………………………….
في هذا الزمن العجيب المليء بالأعاجيب، شيء واحد فقط يمكن احتسابه، ألا وهي القوة، فعن طريقها يمكن تحديد مصائر الآخرين. افتقرت “عيشة” إليها، فكانت قليلة الحيلة، قلبها معبأ بالهموم والأحزان، نكست رأسها في خزيٍ، ولم تستطع منح “فارس” الجواب المباشر، مما اضطره لسؤالها مجددًا في نوعٍ من التحفز، وقد انعكست علامات الغضب على محياه:
-مردتيش عليا ليه يا مرات عمي؟ هي هتتجوز مين بالظبط؟
وكأن لسانها انعقد، فلم تتمكن من حل عقدته، والنطق بحروف اسمه، استغرقها الأمر عدة لحظاتٍ قبل أن يخرج صوتها من جوفها مرددًا في تلعثمٍ:
-“ز..زهير الهجام”.
لم يبدُ الاسم غريبًا بالمرة على مسامعه، بل على العكس تصادم كلاهما لأكثر من مرة في مشاحنات السجناء، وبالأخص مع شقيقه الأكبر. برزت عيناه في محجريهما، وهتف باستنكارٍ تام:
-مين؟!!!
في عفوية ساذجة سألته “عيشة”:
-تسمع عنه؟!
تحولت نبرته للتهكم والازدراء عندما جاوبها:
-أومال! مش ده أخوه “الهجام” الكبير؟
هزت رأسها بالإيجاب وهي تجيب:
-أيوه.
انتقل إلى سؤاله التالي في نبرة بدت هجومية إلى حدٍ ما:
-وإنتو إيه اللي وقعكوا مع العالم دي؟
لم تجد ريقًا في جوفها لتبتلعه، وقالت وهي تعاود الجلوس على الأريكة:
-النصيب يا ابني.
جلس هو الآخر في مواجهتها صائحًا بإلحاحٍ:
-لأ أفهم بالظبط كل حاجة.
حررت نفسًا طويلًا محملًا بكتلةٍ ثقيلة من الأوجاع عن صدرها، لتسترسل موضحة تفاصيل ما مرت به العائلة دون ترتيب محددٍ، ورغم هذا لم ينتبه كلاهما لوجود “دليلة” بالردهة، فأرهفت السمع لكل ما قيل لتكتمل لديها قطع الأحجية الناقصة، وتتضح الصورة المنقوصة، فأزيلت الغشاوة عن ذاكرتها، واستعادت ما فقدته، ليشتعل داخلها حقدًا وغضبًا، قبل أن تنفلت منها صرخة موجوعة، جاءت من أعمق أعماقها، انتفضت “عيشة” على إثر صوتها المفزع، وكذلك “فارس”، لتهرع إليها على الفور وهي تهتف في جزعٍ:
-“دليلة”، إنتي بخير يا بنتي؟
من بين دمعها الغزير واصلت الصراخ هادرة بألمٍ وحرقة:
-قتلوا أبويا بقهرته وزعله، حرموني منه بشــرهم وظلمهم.
من ورائها تكلم “فارس” بحذرٍ:
-اهدي بس.
وكأنها لا تراه، استمرت على عويلها، لتأتي “إيمان” من الداخل متسائلة في خوفٍ كبير:
-إيه اللي حصل يا ماما؟
في التو لامتها أمها بضيقٍ:
-إنتي كنتي فين وسايبة أختك؟
أجابتها بشيءٍ من الحرج:
-كنت في الحمام.
ظلت “دليلة” تصيح باهتياجٍ، ودموعها الحارقة تنهال على وجنتيها:
-قتلوا أبويا الظلمة، حرموني من حضنه وحنانه، والمفروض أقبل وأتجوز المجرمين دول، مش هيحصل، مش هيحصل.
رد عليها “فارس” موافقًا إياها:
-كل اللي إنت عايزاه هنعمله، اهدي بس.
فيما توسلتها والدتها وهي تمسك بها من ذراعيها:
-علشان خاطري يا “دليلة” اهدي.
بينما احتضنتها “إيمان” من كتفيها لتضمها إلى صدرها، وراحت تحادثها في أذنها بتعاطفٍ شديد:
-تعالي معايا يا حبيبتي.
نظرت إليها من طرف عينها، وقالت بإصرارٍ لا يمكن وصفه:
-أنا مش هتجوزه
أومأت برأسها مرددة:
-ماشي، ماشي.
بالكاد تمكنت من إعادتها إلى داخل غرفتها، لتستحثها بعدها على تناول الدواء المهدئ، حيث سرى مفعوله المثبط لكل ما هو انفعالي في أوصالها، فغرقت رغمًا عنها في غفوة مؤقتة.
…………………………………..
بينما اشتعلت الأجواء سخونة خارج الغرفة، ظل “فارس” يصول ويجول حول نفسه، ولسانه يصيح بأيمانٍ مغلظة، وكأنها صارت مسألة حياة أو موت بالنسبة له:
-قسمًا بالله ما يحصل، مش هتتجوزه، ولو فيها إيه!!
في شيءٍ من الخوف أخبرته “عيشة” وهي تراقب حركته الغاضبة:
-يا ابني إنت مش أدهم.
توقف عن الدوران لينظر إليها بعينين حمراوين كالجمرات، وسألها في استهجانٍ:
-مين قالك؟
قطبت جبينها بتحيرٍ، فتابع في غموضٍ أجفل بدنها:
-ده أنا عندي اللي يخافوا منهم ويترعبوا في جلدهم.
ردت عليه بلومٍ:
-هو احنا في عصابات هنا؟ كفاينا غلب وحرقة أعصاب.
زفر الهواء دفعة واحدة، وصاح محتجًا:
-يا مرات عمي إنتو دلوقت ملزمين مني، وأنا مش هسيبكم ترموا نفسكم في التهلكة علشان ناس ولاد أبالسة زي دول.
ارتعشت شفتاها وهي تتوسله:
-يا ابني…
قاطعها باعتراضٍ جم:
-الحوار بقى معايا، وأنا بأقولك أهوو، وعزة جلال الله لهيشوفوا، ومش هيحصل إنها تتجوز حد من نسل الأبـــالسة دول!!
ارتاعت أكثر أمام إصراره المعاند، وكأن ناقوس الحرب قد دق ليعلن عن معركة حامية الوطيس بين عائلتها المكلومة، وشرور البشر.
………………………………..
استغرقه الأمر قرابة النصف ساعة حتى يتمكن من الاستدلال على عنوانه في هذه البقعة النائية. أبطأ “عادل” من سرعة سيارته، ليتطلع بتدقيقٍ إلى أسماء اللافتات التي تزين واجهات المحال، حتى يتأكد من بلوغه وجهته، قطع تركيزه صوت أبيه المتسائل:
-إنت متأكد إن ده المكان؟
بإيماءةٍ مقتضبة من رأسه أجابه:
-بيتهيألي أيوه.
جال “رجائي” بنظرات مليئة بالإشفاق على تفاصيل ذلك المكان الشعبي، والذي أقل ما يقال عنه أنه لا يصلح للسُكنى، فمياه الصرف الصحي تسد الطرقات، وتفسد على المارة السير بأريحية، ناهيك عن الرائحة المقززة والعطنة المنتشرة في الأرجاء، بجانب أكوام القمامة والركام المتراصة على الجانبين فيما يشبه التلال الصغيرة. همهم مع نفسه في شيءٍ من النفور:
-سبحان الله، الحال اتدهور بيه في آخر أيامه، محدش يتوقع كده…
أدار “رجائي” وجهه تجاه ابنه يسأله في اهتمامٍ:
-جهزت الظرف اللي قولتلك عليه يا “عادل”؟!
أجابه مستفهمًا:
-أيوه، بس تفتكر هيقبلوا بالمساعدة دي؟
تنهد قبل أن يقول:
-أنا هحطه جوا الكرتونة اللي فيها حاجته، وأظن بكده مافيش حرج.
استحسن تفكيره مردفًا:
-حلو جدًا.
خيم الصمت من جديد لعدة لحظاتٍ ليقترح “رجائي” بعدها وهو يشير بإصبعه:
-حاول تركن العربية في حتة أمان شوية، وخلينا نكمل الباقي مشي.
سرعان ما استجاب لمطلبه، وطاف ببصره على الأنحاء باحثًا عن غايته وهو يتمتم في طاعة:
-ماشي يا بابا.
لاحقًا، ترجل كلاهما من السيارة ليعرجا عبر الأزقة الضيقة إلى الشارع الرئيسي الذي يمر وسط هذه البقعة السكنية، استوقفهما أحد الأشخاص متسائلًا في تطفل، وهو يدور بنظرة فاحصة على الاثنين، وكأنه قد استراب في أمرهما نظرًا لغرابة هيئتهما عن المنطقة:
-خير يا بهوات؟ بتدوروا على حد هنا؟
تولى “عادل” دفة الكلام، واستطرد موضحًا غرض زيارتهما:
-أيوه، احنا عايزين بين المرحوم “فهيم”، احنا جماعة معرفته، وجايين نعزي.
هز رأسه في تفهم، واستدار مشيرًا بذراعه نحو أحد الأبنية:
-هناك .. في العمارة اللي في الوش، آخر دور.
ابتسم مجاملًا:
-شكرًا.
ثم تحرك مع والده نحو البناية شبه المتهالكة، وهو يكاد يجزم أن أعين الجميع ترافقهما. ولج “رجائي” أولًا إلى مدخل البناية، فهتف ابنه من ورائه:
-امسك يا بابا الدرابزين، السلم هنا مكسور.
علق عليه باقتضابٍ:
-طيب
كعادتها المتطفلة المقتحمة لخصوصيات الآخرين، اعترضت “إعتدال” طريقهما بصفاقةٍ متسائلة وهي ترفع حاجبها للأعلى:
-طالعين عند مين يا حضرات؟
نظر لها “رجائي” باستهجانٍ قبل أن يهمهم بوجومٍ:
-عند بيت الحاج “فهيم” الله يرحمه.
سألتهما في تشككٍ وعيناها تتجولان عليهما بإمعانٍ:
-إنتو قرايبو برضوه؟
هذه المرة رد عليها “عادل” بانزعاجٍ مشوب بقليلٍ من الهجوم:
-أيوه، في حاجة؟
تصنعت الضحك السخيف، وبررت:
-لأ، بنطمن، أصل أهل الحتة هنا كلهم حبايب، وعارفين بعض.
سقم “عادل” من الحديث إليها، وخاطبه أبيه في توقيرٍ:
-اتفضل يا بابا.
انخفض صوت “رجائي” إلى حدٍ كبير هاتفًا بتذمرٍ:
-الناس هنا حشرية أوي.
أيده في وصفه متمتمًا:
-فعلًا.
بقيت “إعتدال” واقفة على بسطة السلم تراقبهما بعينيها الفضوليتين، لتهسهس بعدها في حماسٍ:
-أما أكلم سي “زهير” أعرفه.
…………………………………
عملًا بالمثل الشائع (اطرق الحديد وهو ساخن) أقنعت “نجاح” ابنها بتفريغ منزل الزوجية من كل الأثاث الموجود به، طالما أن الفرصة لا تزال سانحة لفعل ذلك، لذا مستغلًا فرصة غياب زوجته عن البيت، استأجر “راغب” عددًا من العاملين لنقل كافة المنقولات في عجالة، ومع هذا بدا متوترًا إلى حدٍ كبير، وكأن داخله لا يرضى عما تمليه عليه والدته، ظل يتطلع إليها وهي تعطي أوامرها للعمال، ليدنو منها مبديًا احتجاجه قائلًا وهو يجفف عرقه بمنديلٍ ورقي:
-كان لازم نعمل كده دلوقت؟ ما كنا نستنى شوية يا ماما.
أخبرته بتصميمٍ، غير مكترثة بتبعات الكارثة التي توشك على الحدوث:
-قطمه أحسن من نحته، خلينا نخلص، ونفضنا من الشبكة السودة دي.
ما زال “راغب” على قلقه، فتساءل وهو ينظر تجاه الباب المفتوح:
-طب لو حد من الجيران سأل؟
وكأنها قادرة على استدعاء الكذب بسهولة، فأعطته الحل المثالي:
-قولهم بنغير العفش، فيه سوس وبلاوي سودة…
ما لبث أن تحولت نبرتها للحدة عندما تابعت:
-وبعدين محدش ليه حاجة عندك، إنت حر في حالك ومالك.
ازدرد ريقه، وأكمل تساؤلاته القلقة:
-افرضي “إيمان” عرفت؟
لوت ثغرها مرددة:
-قولها نفس الكلام، وزود عليه إنك عايز توضب الشقة، دي ما هتصدق تفرح.
حرك رأسه موافقًا على اقتراحها الكاذب:
-ماشي.
ليواصل بعدها إعطاء إرشاداته للعاملين ليتوخوا حذرهم أثناء نقل قطع الزجاج لئلا تتهشم.
………………………………….
تحسست “عيشة” بيدها المرتعشة قليلًا رأسها الذي راح يطن بصداعٍ فتاك، لتسرع ابنتها بإحضار الدواء المسكن لها، تجرعته مع قليل من الماء، قبل أن تعطيها الكوب الفارغ، وسألتها في توجسٍ:
-أختك عاملة إيه دلوقت؟
أخبرتها وهي تجلس إلى جوارها:
-الحمدلله، نامت، وأنا كل شوية بَطُل عليها.
من تلقاء نفسه شدد عليها “فارس” بجديةٍ:
-ما تسيبهاش لواحدها يا “إيمان”، بدل ما تتهور وتعمل في نفسها حاجة.
التفتت ناظرة تجاهه، لم تعارضه في اهتمامه وردت بإيجازٍ:
-حاضر.
فيما وجه حديثه هذه المرة إلى زوجة عمه مشددًا وقد كور قبضته المسنودة على فخذه:
-وأنا بكرر عليكي كلامي يا مرات عمي، أنا مش هسيبكم، وإنتو ملزمين مني.
غلف الحزن نبرتها وهي تُفضي إليه بهمومها:
-والله ما عارفة أقولك إيه! احنا في ضيقة ما يعلم بيها إلا ربنا.
قال في ثقة غريبة:
-نسب من الناس دي مش هيحصل! وأنا عندي اللي يقفلهم.
استرابت “إيمان” من طريقته المملوءة بالتحدي، ومع ذلك لم تنطق بشيءٍ، فأحيانًا الصمت أبلغ من الكلام، لتستمع إلى والدتها وهي تقول بتضرعٍ:
-ربنا يخلصنا منهم على خير.
تنبه ثلاثتهم لقرع الجرس، فانطلقت “عيشة” تتساءل في ضجرٍ:
-وده مين اللي جاي السعادي؟
بفمٍ منقلب أجابت “إيمان”، ونظرة ساخطة تطل من حدقتيها:
-هو في غيرها الست “إعتدال”.
علقت عليها أمها بسأمٍ:
-ما هي مش هتفوت اليوم إلا لما تيجي تاخد أخبارنا.
قامت “إيمان” من موضع جلوسها هاتفة بعزمٍ:
-استني يا ماما أنا هوزعها بطريقتي، احنا مش ناقصين خوتة.
طوحت “عيشة” بيدها قائلة بغير ممانعة:
-يكون أحسن برضوه.
ضبطت حجاب رأسها، وأسرعت في خطاها تجاه الباب لتفتحه، تفاجأت بشخصٍ يماثل والدها في عمره تقريبًا، وربما يتجاوزه ببعض سنوات، ومن خلفه يقف شابًا يشبهه في الملامح لكنه أصغر سنًا. استفاقت من تحديقها اللحظي على صوته المستطرد:
-سلام عليكم.
حمحمت قائلة بترقبٍ:
-وعليكم السلام.
بنفس الأسلوب الاستفهامي المعتاد تساءل “رجائي”:
-ده بيت الحاج “فهيم” الله يرحمه؟
هزت رأسها مرددة:
-أيوه، مين حضرتك؟
عرف عن نفسه منتقيًا كلماته بحذرٍ:
-أنا “رجائي”، صاحب المكتبة اللي والدك كان شغال معايا فيها.
انزوى ما بين حاجبيها باندهاشٍ واضح، وراح لسانها يردد:
-مكتبة؟
تحولت عيناها نحو ذلك الشاب الغريب الذي استأذنها في أدبٍ:
-ممكن يا آنسة تسمحيلنا ندخل نقابل والدتك لو مافيش مانع؟
صححت له بعفويةٍ:
-مدام من فضلك.
قال في تحرجٍ:
-أسف جدًا.
ابتسمت في خجلٍ، وقالت وهي تتنحى للجانب قليلًا ليتمكنا من المرور:
-حصل خير، اتفضلوا.
فيما تساءلت “عيشة” من موضع جلوسها:
-مين يا “إيمان”؟
تفاجأت بأحدهم يقبل عليها، فنهضت على الفور لتحملق فيه وهو يعيد تعريف نفسه بنفس الطريقة السابقة:
-أنا الحاج “رجائي”، صاحب المكتبة اللي المرحوم كان بيساعدني في إدارتها.
رحبت به على الفور:
-يا أهلًا وسهلًا، اتفضل.
أضاف “رجائي” مشيرًا نحو ابنه:
-وده ابني “عادل”.
ثبتت نظرتها عليه قائلة بوديةٍ:
-إزيك يا ابني؟
رد مقتضبًا:
-الحمد لله.
بينما عاد “رجائي” ليتكلم من جديد شارحًا سبب قدومه غير المرتب له:
-اعذرينا يا حاجة إن كنا جينا من غير ميعاد، بس للأسف كنت مسافر لما وصلني الخبر، وكان لازم أجي أعمل الواجب.
علقت في شيءٍ من المجاملة:
-كتر خيرك.
تقدم “عادل” نحو “إيمان” ليناولها الصندوق الكرتوني الذي وضع فيه ما يخص والدها، وخاطبها:
-دي حاجة المرحوم اللي كان محتفظ بيها عندنا في المكتبة، أنا جبتها لحضراتكم.
رغمًا عنها تأثرت بذكرى أبيها الراحل، وأدمعت عيناها، فأخذتها منه دون أن تنطق بكلمة، فيما هتفت “عيشة” تشكره:
-تسلم وتعيش يا ابني.
عاد “رجائي” ليضيف في نبرة جادة:
-ولو احتاجتم لأي حاجة في أي وقت، فأنا موجود، ومافيش داعي للكسوف.
هذه المرة تحديدًا تحدث “فارس” بعدما كان متخذًا موقف المشاهد بإرادته:
-الحمدلله خير ربنا موجود، وأنا مسئول دلوقت عنهم.
استدار “رجائي” تجاهه، وتحدث إليه بإصرارٍ:
-المرحوم كان في مقام أخويا قبل ما يكون صاحبي، فطبيعي أقف مع عيلته لما يكونوا في أزمة.
باستغرابٍ لا يزال مسيطرًا عليها عقبت “إيمان” وهي تضم الصندوق إلى صدرها:
-ولو إن بابا مكانش بيحكي عن حضرتك كتير.
برر لها “عادل” في صوتٍ هادئ:
-عم “فهيم” كلامه قليل في الطبيعي.
نظرت ناحيته مومئة برأسها، وكأنها قد اقتنعت بتبريره:
-أها.
حاولت “عيشة” أن تبدو لبقة مع الضيفين، فقالت في حرجٍ:
-معلش اعذروني دماغي مش فيا، تحبوا تشربوا إيه؟
بلطافةٍ لا تخلو من التهذيب، أخبرها “رجائي” وقد تقوست شفتاه ببسمة باهتة:
-مالوش لازمة، احنا جايين نقوم بالواجب ونمشي على طول.
صارت نبرتها نوعًا ما مُلحة عندما هتفت:
-عيب ما يصحش.
أصر على موقفه قائلًا:
-مرة تانية إن شاء الله.
عاود “عادل” مخاطبة “إيمان” بوديةٍ غريبة، لم تستسغ لها، وهو يناولها بطاقة ورقية مدون فيها أهم معلوماته الشخصية:
-ده رقمي أنا هسيبه معاكي علشان لو احتاجتوا لحاجة.
بترددٍ ظاهر عليها أخذتها منه قائلة بعبوسٍ طفيف:
-شكرًا.
وكأن زلزالًا فجائيًا قد ضرب بالبيت مرة واحدة، حيث أُطيح بغتةً بباب المنزل، ليفتح على مصراعيه، قبل أن يقتحم “زهير” المكان مدفوعًا بعنفوانه وغضبه، طاف ببصره على المجتمعين هادرًا في لومٍ، وعيناه تطقان بالشرر المستطير:
-وده يصح بردك يا حماتي إن ألاقي أغراب هنا في غيابي؟!!
هربت الدماء من وجه “عيشة” وابنتها البكرية، لتسرع الأخيرة بالالتصاق بأمها، كأنما تبحث عن الحماية المفقودة في وجودها، ليظل صوته اللائم مجلجلًا في محيط المكان:
-ده حتى عيبة في حق الرجالة!
من فوره تقدم تجاهه “فارس” ليتحداه في جراءة مرعبة:
-ده لما يبقوا رجـــالة أصلًا…
تفاجأ “زهير” بوجوده، لتصير ملامحه غائمة بالكامل، فيما استأنف “فارس” إهانته الفجة له، وهو يندفع ناحيته ليمسك به من تلابيبه غير مبالٍ بردة فعله المنذرة بكل ما هو مهلك ومميت:
-ولا إيه يا دلدول أخوك ……………………….. !!!!
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية فوق جبال الهوان)