روايات

رواية لأنه موسى الفصل الخامس 5 بقلم ماهي أحمد

رواية لأنه موسى الفصل الخامس 5 بقلم ماهي أحمد

رواية لأنه موسى البارت الخامس

رواية لأنه موسى الجزء الخامس

لأنه موسى
لأنه موسى
ad
ad

رواية لأنه موسى الحلقة الخامسة

 🍂شَجرة أكَاسيــَا
تجمّدتِ الأجواءُ، كأنَّ الحياةَ توقّفتْ للحظةٍ لا تتجاوزُ طَرفةَ عين، ثم انفجرَ الصمتُ.
“مـاتـلـمـسـنيــش”
شقَّ صوتُ “آدم” سكونَ الحَاره كطلقةٍ طائشةٍ، حاملًا ذعرًا واضحًا في نبرته ، وكأنَّ الجميعَ شهدَ جريمةً تتشكّلُ أمَامهم
ارتجفَ للخلفِ كمن يهربُ من قيودِه الأخيره، أنفاسُه مُتقطّعه، وجسدُه يَرتجف ، أصابعُهُ انكمشَتْ حتى غرزتْ أظافرُه في جلدِه.
عيناهُ متّسعتانِ كمن واجهَ كابوسًا مفاجئًا، ووميضُ ذكرى كرِهَها وتمردَ عليها تُلاحقُه… كرِهَ اللّمسَ، وخذلوه .
“لسه عبيط زي ما انتَ يا أدم ”
كَان صَوت “سَعد” جَارهم المقِيم بِنفس الحَي مَعهُم مُمتزج بِالسُخريه زَحف فَوق طبَقات الفَزع المُتحَلق حَول “آدم”، نَبرةٍ وَقحه تُقطر تَمتعًا بِالهَلع المُنتشر فِي أَوصَال غَريمُه، اِلتَوى فَمه بِابتسامةٍ جَارحه، يَمد يَده مُجددًا كَأنه يَهوى رُؤية الصَدمة فِي عَيني “أدم” ، تَدخل “نوح ” يُدافع عن شَقيقه سَائلاً:
” ايه ده ، مالك ياكَريزما في ايه ”
ثُم أشَار ” نوح ” بأصَابعه عَلى جَانب رَأْسه بِحركَات مُتتابعه كَمن فَقد السَيطره يَسترسل :
” هي فرطت منك ياسعد ولا ايه ”
هَكذا عَلق ” نوح ” عَلى حَديِثه فَسَخر “سَعد ” مِنه بِقول :
” فرطت من مين يلا ، مني انا ، أنت َ اتجننت يابن الفران ”
مَد كَفه يَغرز اصابعه في كَتف ” نوح ” مُستمراً في سُخريته:
ابلع ريقك يابا وروح اغسل ايدك من العجين الأول وابقى تعالى كلمني ”
أَشَاح ” نوح ” كَفه غَاضبًا ، هَاتفًا بِنَبره أَشّد حِده :
” هو ايه ده ياعم ، أوعى أيدك ياسعد لا كسرهالك”
تَجاهل تَحذيرُه وكرّر ” سعد ” حَركته، وَهذه المَره كانت أعنف، جَعلت”نوح” يَفقد توَازنه يَتراجع لِلخلف خطواتٍ رغمًا عَنه أقتَرب ” سَعد ” خَطوات مُتحدياً أياه :

ad

” تصدق ياخويا انا خفت لا تكسرلي ايدي وتعملي عاهه مستديمه ما بين صوابعي ”
ثُم رفَع كَف يَده المُمسك بلفافة تَبغُه يُطالعها بِسخريه وهو يُكمل :
” ومعرفش اكمل بقيت سيجارتي ”
التَفت “نوح” خَلفه ليَجد الذُعر دَاخل عَيني شَقيُقه ، حَاول التمَاسك مِن أجلهُ فَكرر بِصوتٍ أكثر حِده غَامزاً :
” يسطا ، انتَ جاي تقول ياشر اشتر ولا ايه ، مشي معايا الدنيا ”
غَمز لهُ بِطرف عَينه يَكمل :
” الدنيا لوحدها خنقه يسطا الله يكرمك ”
أشَار بِيدهُ علَى شَقيقه حَتى يَرأف عَلى حَالته :
” اكيد انتَ شايف ”
نَطقت أَحدى السيدات الوَاقفه بالشرفه :
” ماتسيبه بقى ياسعد ، الواد ادم هيموت من الرعب ”
رَفع ” سَعد ” نَظرُه يُطالعها بأحتِقار :
” بس أنتِ يا ام حسونه ولا تحبي حسونه يبقى مكانه ”
أَنتَهز ” نوح ” الفُرصه وأَسرع بِأتجاه “شَقيقه” مَد لهُ كَف يَده في مَحاوله مِنُه للنهوض بِه وَهو يَقول :
” ادم ، قوم بسرعه اطلع فوق ، نادي اخواتك واوعى تنزل من فوق أنتَ فاهم ”
رَفع ” أدم ” عَيناه نَحوه دونَ استِجابه مِنهُ ، لَمح “نوح ” هيئتهُ المُضطربه ، شَعر بِخافقهُ يَخفق بِأضطِراب ، لَمح أْناملهُ التي تَرتجف يَخرج أصواتٍ كَالهمهمات مِن بَين شَفتيه المُرتَجِفه بِالصَلاه عَلى نَبيُنا أْشرف الخَلق ، ضَجر “نوح ” بِصوتٍ خَانق يَحثه بِقول :
” مش وقته يا ادم الصلاه على النبي دلوقت ، أنا عارف أنتَ بتمر بأيه بس ساعدني مافيش وقــ ”
وقَبل أن يُكمل “نوح ” جُملته قَام ” سعد ” بِجَذبه نَاحيته بِقوه مُلقياً بهِ عَلى الأرضيه :
” تصدق يسطا أنتَ كده ماطلعتش تمام بتستنجد باخواتك بدل ما تقف قصادي راجل لراجل .. ولا انتَ مش راجل ”
نَفض ” نوح ” يَديه يَستعد للوقوف قائلاً :
ad

” اهوه ده الكلام اللي هخليني اخبأ منك ”
قالها ” نوح ” بِضجر وَلم يَعُد بِه بَعدها أي هِدوء وَكأن جُِنون أَصابه أدىَ الى أنفِعالهُ الشَديد وَلم يَشعر بِنفسُه الا وهو يسَدد لَكمه قَويه الى وَجه “سَعد ” جَعلته يَقع أرضًا من قُوتها قَائلاً :
” اللي ييجي على أخويا هزعله ”
شَقيقُه خَلفهُ وأمامه ” سعد ” يمَسح دماؤه بِكف يَده بَعدما بصق دماءه من شفاه ، أشَار ” نوح ” بِيده في حَركه قامت بأستفزازه وكأنه يَقول لهُ أنا بِأنتِظارك ، وعَلى دون غَره تَلقى ” نوح” لَكمه على وجهُ ، تَراكمت الأجسَاد حَول “نوح”، تَتلاحق الركَلات واللكَمات عَليه مِن كل صَوب بَينما هو يتلوّى على الأرض محاولًا حماية وجهه بكفّيه، يلهث بين الضربات، ويركض بعينيه باحثًا عن خلاص فَخرجت سَبه نَابِيه مِن بَين شَفتِيه :
” بتتكاتروا عليا ياولاد الـ …. عشان بطولي ”
تَقدّم “بشر” نَحو الزحَام بِخطى مُتباطئه ، يُحاول أن يَتسلّل بِنظرُه بَين الأجسَاد المُتحلّقة ليَرى مَن ذَاك الَذي يُنهال عَليه بِالضَرب، لَكن الحَشد الكَثيف كَان حاجزًا منيعًا ابتَسم بَسمتُه البلَهاء يَقُضم قِطعه من الخِياره بيدهُ :
” اللـه عـــركه ”
وفي فَجوه ضَيقه بَين الأرجُل المُتزاحمه ، لَمح “نوح” وجهًا مألوفًا كَانت مَلامِحُه واضِحه ، تلِك الابتِسامة البَلهاء، وتلِك اليَد التي تَرفع خيِاره نَحو فَمه بِلا مُبالاه :
” بــِشــــر ”
نَطقها ” نوح ” بِصوتٍ مُتهالِك بِالكاد خَرجت مَن بَين شَفتِيه يِمد يَدهُ نَحوه كَمن يَتشبث بِطوق نَجاه وَسط غَرق مَحتوم
مَال ” بِشر ” بِجسده قليلًا، مدّ عُنقه، أرهَق عيِنيه بحثًا عَن مَلامح مَألوفه، وفي يَده بَقيت قِطعة الخِيار، يَقضمها دون اكتِراث، وحَين عَجز “بِشر ” عَن الرؤيَه، التَفت إلى شَقيقُه الصَغير الوَاقف بِجواره وسَأله بِنبره سَاذجه، لا تَخلو مِن ابتِسامه بلهَاء، وهَو يَنهي آخَر قَضمه :
“ولا ياهيما مين اللي بيتفرم تحت رجلين سعد وشلته ”
سَمع ” ابراهيم ” صَوت مَضغ طَعامً يَتحطم مِن بَين أسنانُه وأَيدهُ بِصوته الذي يَتضح ان فَمه مَحشو بِالطَعام ، فأجَابُه دون أن يَلتفت اليه ، عِيناه لا تَزال مُعلقه بِالمشهد :
” وانا ايه اللي عرفني يابشر ، انا لسه جاي حالاً من الدرس وعالابيض خالص ، بس الواد ياعيني ، ايــــه ، مفروم على الأخر ”
وَصل ” نوح ” إلى أقصَى دَرجات العَجز، بيَن ألَم جَسده، وسَخافة صَديقه صَرخ بِأعلى صَوته رَغم ضَعفه:
“أنا نوح يا حــمــار”
وَصلهُ نداءُه أخيراً ، أقتَرب ” بشر ” منهُ وَهو يُزَمجر بِصوتِ قَلق :
ad

” ده الولا نــــوح ، نهار ابوكم فُحلقي ”
أشَار بيِده كَالسَهم بِصوتٍ مُتَحشرج بَعض الشَىء :
“ولا ياهيما ، اجري على بيت الحج نصار ، نزل موسى واخواته ”
هَرول “ابراهيم ” يَفعل كَما أُمر بهِ ، وشَق “بِشر ” الزِحام يُهرول اليه دونَ تَفكير يَلكم مَن يَراه أمامُه بِهيئتهِ الضَخمه ، أنحَنى نحو ” نَوح ” في لحظه ، مدّ ذراعُه الضَخمه ، وَرفعُه عَن الأرضيِه ، وأوقَفه علَى قَدميه بِجانبه في حركةٍ واحِده ، أشَار “بِشر ” برأْسه الى “نوح” قائلاً كلِماتهم المُعتاده حيِن يَخوضون اي شِجار :
“عركه يازميلي ”
مَسح ” نوح ” بظهر يَده الدِماء المُتناثره على وجهه لاَهثًا:
“عركه ياصديقي ”
التَقط “نوح” أنفَاسه ثُم التفّ للِخلف صارخًا:
” بتتكاتروا عليا ياشوية خنازير عشان لوحدي ، عليا الطلاق ياسعد ما هتبات فيها النهارده ”
٠٠ ❧❀❧. ٠٠
“حين يُهدى القلب طوعًا ، تُصبح الحريّة زيفًا، ويغدو الأسر شُعورًا لا قيدًا ، فَالإنسان يَتنفّس مَا دَام قَلبه لُه، وَما دَام القَلب خَارج الجَسد ، صَار نَفَسه موقوفًا على نبض من يحب ”
“مالك بس ياشيماء لاويه بوزك ليه على الصبح ”
ابتِسامه صَفراء صَدرت مِنها الِيه وقَالت :
” ما أنتَ شَايف بِعينك يعني يالقمان ، أمك مش مدياني وش ولا أنا ولا أمي من ساعة ما جينا ”
وَقفَ أمَامها يُبرر بِنَبره مُتوتره:
” هي الوليه لحقت تديكي وشها ولا حتى قفاها يابنتي ”
أَشَار بِعينيه لِوالدتها بِالجلوس قَائلاً :
” ما تقعدي ياحجه واقفه ليه ”
جَلست ” والدتها ” عَلى مَقربه مِنهم تَصتنت بِهدوء لِما يَحُدث شَد ” لُقمان ” عَلى أزره يُكمل :
ايه يا شيماء ، ايه ياشيماء داخله بزعابيبك ليه ، ده أنتِ يادوبك لسه داخله ، أمي جت سلمت عليكي ودخلت عشان تغرف الغدا ”
ad

نَاولته كِيس الفَاكهه بِغيظ :
” بلا داخله بزعابيبي ، بلا داخله بلهيبي ، وانا ياخويا لو كنت داخله بزعابيبي كنت كلفت نفسي وجيبتلكم تلاته كيلو موز مره واحده ”
وَضع ” لُقمان ” الكيس بِجانبه عَلى الأريِكه بِضيق :
” موز مره واحده ، كتير علينا كده ياشيماء ”
أثَارت ” شيماء ” حَنق ” نعيمه ” حينَ جَاءت مُتأخره كَعادتها ، أخرَجت قِدراً نِحاسيًا ، ثُم طَفِقت تَلقي بِه كَومة أورَاق “الاكاسيا” لنَقعها وَتركت مَاءٍ عَلى المَوقِد لِتَسخينُه
” البت اللي معندهاش ريحة الدم ، جايه قبل الغدا بخمس دقايق تاكل وتمشي ”
تَمتمت ” نَعيمه ” بِتذمر لا تَزيح بَصرها تُقلب بَين أدراج المَؤونه بَحثًا عَن بَعض الأعشَاب لِتحضير الشَراب المُفضل لَدى ” موسى ” وَهو خَليط مِن أعشَاب مُتناثره جَمعها مِن بِقاع الأرض ، وَلونَها عِند الغَليان ، أشبه بِغروب الشَمس ، لا أحد يَعرف مُكونات هذا الشَاي الا هو ، ولاَ يَشربه إلا حين تَختلط الوحِده بِالحنين ، وعَلى الرغم مِن كُره
” نَعيمه ” لِخلطة الأعشاب هَذه الا أنها تُحضر منه القَليل حَين تَشعر بِالأنزِعاج الشَديد ، شَعرت “وداد” بِتوترها ، اقتربت مِنها بِبطء شَديد سَائله :
” مالك يانعيمه ياختي ، طلعتي بره كنتي كويسه دخلتي زي القطر وعينك بطق شرار ، وودانك شويه وتنفس دخان حصل ايه بره خلى زرابينك تطلع علينا كده مره واحده ”
أجَابت ولاَ زالت يَداها تُفتش هُنا وهُناك لَرُبما وَضعتهُ في رُكن مَا وَنسيت
“مش شايفه ياختي ، مش شايفه الموكوسه بنت الموكوسين بتيجي على أخر لحظه ازاي ياوداد كل مره مابتجيش غير على الغدا ”
أغلَقت درج المَؤونه بِحده :
” راح فين ياربي ده كمان انا كنت بحطه هنا ”
كَانت هَذه هَمستها لِنفسها ، ثُم اقتَربت مِنها وَقد تَجاوزت ” سمر ” الَواقفه أمَامها تَشير بأصابِعها لِلخَارج:
” البت حتى مابتحطش ايدها ياوداد معايا في حاجه بنت سماح ، وانا اللي بقول خلفتي كلها صبيان بكره تيجي اللي تعوضني بحنية البنات اللي اتحرمت منها ياوداد ”
تَحدثت السَيده ” وداد ” بِنبره مُتحيره وَعيناها تَزوغ أرضًا :
” ما تقفي يانعيمه خايلتيني .. رايحه جايه .. رايحه جايه في المطبخ لما دوخت ، بدوري على ايه ”
ألتَوى ثِغرها فِي زَهد :
” يعني مش معنى ده اللي هلاقيه ، هو بقى في حاجه بتتلاقى في البيت ده ، عشان الاقي شويه الشاي ”
” طيب اهدي ، اهدي وكل حاجه وليها حل ، بلاش تاكلي في نفسك كده ”
ad

كَان طَلب السَيده ” وداد ” طَلبًا وتَرجيًا أكثر مِن كَونهُ استِفهامًا لِلوضع
ماتققوليش اهدي ياوداد و جاموسه هانم اللي بره دي عامله فيها هانم وهي ماتسواش تلاته ابيض ، بس العيب مش عليها العيب على ابني ، ابني انا اللي مش مسيطر ، خليها كده وخداه على حجرها ياريتني كنت خلفت دكر بط اولى ”
هَتفت بِِصوت مُرتَفع ليَبلغ حَديثُها مَسامعها ، بَينَما اعتَرضت “سمر ” عَلى فِعلها هَذا حَتى لاَ تَفتعل مِشكله هُما في غِنى عَنها :
” وطي صوتك ياطنط نعيمه بالله عليكي لا تسمعنا تبقى مصيبه ”
تَجاهلت حَديثها كُليًا تَلتقط أحدى الصحون المُزخرفه عَلى الَرف :
” وايه يعني ماتسمعنا شيماء فلتر ، ولا هتدخل تديني قلمين ”
فَلتت ضِحكه مِن ” سمر ” رَغمًا عَنها عَلى تَسميتها لَها بِهذا الأسم ، ثُم سَمعت ” شيماء ” صَوت ضحكات فَتاه بِداخل المَطبخ وأستَغربت حَقًا حينَ رَأت “سمر” تَخرج مِن المَطبخ حَامله بين كَفيها أطبَاق المَحشي تَضعهم عَلى الأرضِيه ، طَالعت “لقمان ” تَخبرهُ بِتَهُكم :
” وايه اللي جاب ست سمر هنا كمان ، انتوا عازمينها ولا ايه ”
تَنهد دونَ أجَابه فَعادت تُكرر :
” ساكت ليه .. ماترد ”
وَقبل أن يَجب هَتفت قَائله :
” انا لو كنت اعرف ان سمر وامها جايين انا مكنتش جيت ، وانتَ عارف ده كويس أنا طول عمري مابطيقش البت دي ”
صَرحت بِما لَديها بِنبره صَادقه وَقد لَمع الحُزن بِعينين “لقمان ” سَائلاً:
“ليه بس يابنت الناس هي عملتلك ايه ”
كَررت “شيماء ” خَلفه بِأستِنكار :
” عملتلي ايه ، معملتليش حاجه ياسي لقمان ، وبعدين من غير ماتعملي انا لسه هستنى لما تعملي ، كفايه انها طول عمرها من واحنا لسه صغيرين تقعد تتمحلس لامك وتيجي تروق معاها الشقه وتقعد معاها وهاتك يارغي هي ووداد امها ”
أشَارت بِكف يَدها نَاحية المَطبخ وَاستَمرت :
” واهيه ، زي ما أنتَ شايف لسه فيها العاده الزفت دي ، رايحه تساعد امك وبتحط معاها الأكل عشان تكسب رضاها ، يمكن ترضى عنها وتجوزها عيل من عيالها ولا حاجه ”
ad

سَألها بِحزم وَفي نَبرتهُ شَيئً مِن الاِنزِعَاج :
” وماتعمليش زيها ليه ؟ ”
كَانت سَتنطق ولَكنه بَتر حَديثها بِقول :
” وقبل ما تتكلمي بكلامك اللي انا حافظه ، انا ماقولتلكيش اخدميها بس على الأقل في عزومه زي دي ماتعمليش نفسك ضيفه ياشيماء ادخليلها المطبخ اعرضي عليها مساعدتك ، دي اقل حاجه يعني ”
” قول كده بقى عايزني اشتغلكم خدامه اسمع بقى
يالقمان ، انا من الاول قيلالك انا مش هحط ايدي في اي حاجه في البيت عندكم انا اه وافقت اتجوز في بيت عيله بس شرطي الوحيد اني مش هدخل بيت امك غير في المناسبات وبس .. وأنتَ عارف كده كويس تيجي دلوقتي تغير كلامك معايا ”
مَرر أصَابعه بَين خُصلات شَعره بِعصبيه، وكَأنُه يُحاول تَرتيِب الفَوضَى بِداخلُه ، تَنهد بِعمق في مُحاوله مِنُه لِتهدِئة نَفسُه ، خَرجت كِلماتُه بِصوتٍ مُنخفضٍ، يُكاد يَكون همسًا، كَأنه يَقولها لِنفسُه أكثَر مِن قَولها لَها :
” ياميمه ، ياميمه عشان خاطري بلاش كل ماتيجي زياره عند اهلي نتخانق كده ”
هَبت ” والدة شيماء ” وَاقفه تَبتر حَديثُه :
” أنتَ بِتقول الكلام ده لبنتي ما تروح شوف نعيمه ومقابلتها لينا ”
أرجَع بَصره نَحو والِدتها بِحزم :
” أقعُدي أنتِ ياحَجه ، أقعدي أبوس دماغك ”
جَلست والدتها ، وأَخذَ يُلامسُ كَتف ” خَطيبتُه ” بِرفقٍ، وكأنما كان يريدُ أن يُخففَ ثقلَ الأجواءِ بينهما، ثم همسَ بكلماتٍ خَافِته، وكَأنها تَأتي مِن أعماقِ نَفسهِ التي تَعبتْ مِن التَوتر هَاتفًا :
“انا مابحبش اشوف غير ضحكتك يابت ، بلاش بوز البومه اللي مصدراه من ساعة ما دخلتي عشان مش لايق على وشك المقطقط ده ”
اِجتاحَ نبرَتَها دفءٌ خَفِيّ، كأنَّ لُطْفًا مُفاجِئًا قد تسلَّل إلى حروفها، وابتسمَت ابتسامةً هادئة، ثمَّ رفعت يدَها برِقَّة، تُعيدُ له ضربتهُ على كِتفه بِحنانٍ خَفيف، تَخبرهُ وَعيونه لا تُفارقهَا :
” لا ياشيخ ، ما هو انتَ كده كل ما تلاقي نفسك اتزنقت تاخدني في دوكه بقى وتقلب عليا الطرابيزه ، ترمي كلمتين حنيه يخلو قلبي يرفرفلك تاني ”
ألقَى نَظره سَريعه عَلى ملَابسها ، وَرد بِجديه بِما هو بَعيداً عَن حَديثها :
“بس ايه الچيبه اللي أنتِ لبساها دي ”
ad

تلبّستها الحِيره، تَفحصت تَنورتها بِعينيِها دونَ أن تفَهم مَقصدُه :
” مالها .. مش فاهمه ”
أشَار إليها بِعينيه يَقتَرب مَنها خَطوه ، وقال بصوتٍ نِصف هامِس:
” لا أنتِ هتبطلي استعباط ، وفاهمه ياشيماء ”
نَظرت مُجددًا إلَى التَنوره تُحاول أن تَستَكشِف مَا يَقصُده، وَأجَابت:
” طب وربنا ما فاهمه ، ماتنطق يالقمان بقى ، لا مالها الچيبه بجد ، عشان مش فاهمه يعني ”
تغيّرت مَلامُحه فَجأه ، وَدار بِعينيه فِي المَكان قَبل أن يَقترب مِن أُذنَها، وَهَمس لَها بِابتِسامه واسَعه :
” اكلت من جسمك حته ”
فَلتت ضِحكه مَنها، تَضربهُ بِخفه عَلى صَدره وهي تقول بِنبره مُبطَنه بِالفَرح :
” خضتني اقسم بالله .. صدقتك وربي بقى.. ماتشتغلنيش تاني يالقمان ”
أَكد علَى حَديثه غَامزاً :
” لا بس جامده عليكي ”
غَزت الحَمره وَجهها وتَحركت بِخفه نَحو المَطبخ مِن تِلقاء نَفسها هَاتفه:
” طيب اسكت بقى يالقمان ”
طَالعها “لقمان” يَتبع خُطاها بِنظراته المُهتمه قَائلاً :
“ايِه يابت القمر ده ، يُخْرَب بيتك”
بَان تَأثير كَلِماتُه عَليها حِينَ لاَنت تَقاسيمَها ، فَأقتربَ “أنس” ِبنفاد صَبرٍ :
“بعد إذن جوزين الكناريا اللي شويه وهيعششوا في صالة بيتنا ، ماشفتوش الولا نوح ، بقاله ساعه لاطعني في الأوضه وقالي استناه ”
التَفتت إليه “شيماء” قَبل أن تَدخل المطبخ، وأجَابتهُ بِلا مُبالاه :
“لـــؤه…”
وَقفت ” والِدة شيماء ” سَائله وَهي تَراها تَبتعد عَن نَاظريها :
ad

” رايحه فين ياشيماء ”
رَفع ” أنس” صَوته يَوقفها :
” أقعدي أنتِ ياحجه ، أنتِ ايه اللي وقفك ، أنا مش بتكلم ”
عَادت تَجلس في مَقعدها ثُم رَفع “أنس” حاجبَيه بِتعجّب، وَردّ مُستنكرًا يُطالب ” لُقمان ” بالأجابه :
“يعني إيه لؤه دي يالقمان ، رد عليا مش فاهم انا .. ايه لؤه دي يسطا ”
تَلقى مِنهُ الصَمت ، عيَونه مُعلّقة بِها وهي تَمشي بخفةٍ نَحو الدَاخل، كَأن الَهواء نَفسُه أصبَح أليَن مِن خُطاها ،سَألها “لُقمان ” بِهدوء، مُبطن بالدَهشه:
“رايحة فين يا بِت…”
ألتَفتت لهُ ، وقد ارتَسِمت عَلى ملامِحها الرِضا ، وقالت:
“رايحة أساعد أمك في المطبخ ”
فِسألها بِتعجُب :
” غريبه .. وده عشان ايه ”
أجابتهُ بِدلال :
” عشان خاطر ابنها”
خَتمت حَديثها تَغمز لُه بِعينيها بَينما هو ابَتسم، كأنّ الجُمله ربّتت علَى قَلبه، قَائلاً:
“حبيبي والله”
تَابعها بِنظراته حَتى أصبَحت بٓداخل المَطبخ وكَأن الضَوء انسَحب مَعها
عَاد صَوت “أنس” فَجأه ، يَوقظه مَن شَروده:
” ايه ياعم ..ايه .. ركّز مع أمي هنا ، الله يحرقك ويحرقها في ساعه واحده ، انجز ، فين الولا نوح..”
فَهبت ” والدة شيماء ” بِأنزعاج قَائله :
” بتقول على مين الله يحرقها يا انس ماتحترم نفسك ”
أختَطف ” أنس ” نَظره نَحو ” والدتها ” ثم نَحو
ad

” لُقمان ” قَائلاً :
” وقفتي تاني برضوا ، انا مش قولتلك اقعدي ياحجه ”
ثمُ طالع “لقمان ” بِقول :
” ماتقعد حماتك يالقمان ”
تبَدّلت ملَامح “لقمان” ، كأن شيئًا انطفأ في عينيه، وقَال بِصوت مُنزعج :
” ايه يسطا … ايه يسطا بتزعق ليه ، وربنا ما شُفتُه ياعم ”
سَحب ” أنس ” نَفسًا عَميقًا ، وتَركه خَلفُه الى غُرفَته يَخلع ملاَبسهُ البيتِيه ، يُراقب البَاب بَين الحين والأخر يَنتظر شَقيقه الذي لَم يَأتي بَعد ، وقَف أمَام خِزانَته بِحيره يُقلب بَين قُمصانه القَديمه هَامساً بِداخله :
” ألبس أيه أنا دلوقتي ، ألبس ايه …”
وَقعت عَيناه عَلى قَميص مِن الچينز ثُم قَام بِسَحبه وأرتداه عَلى عَجله اقَترب مِن المرآة، يُعدّل ياقة القَميص ويُفرُد كُمّيه، قَبل أن يَتأمّل وَجهه قَائلًا:
“المرّة دي بقى يا ست سمر… مقابلتنا لازم تبقى مميزه ”
ثُم أردَف بِابتِسامه جَانبيّه يَضع القَليل مِن عِطره المُميز :
“هتشوفي أنس تاني خــالــص ، مش زي المره اللي فاتت ”
أشَار إلى نَفسُه وَقد تَملكُه الغرور :
“أنا.. أنا تسيبني مره واحده كده وتعمليلي بلوكات من كل حته … مكانش العشم ياسمر ، بُكرة تندمي إنك سيبتيني”
بَدأ بِتمشيط خُصلات شَعره الجَانبيه ، وتَحرك نَاحية الخِزانه يَبحث عَن بِنطال يُلائم قَميصه
“عــيــالي ”
أنَتفِض ” أنس” سَريعًا بِسبب ذَلك الصِراخ والذي لَم يَكن سوَى صِراخ والدَته ، شَعر بِقبضهً تَقبض عَلى قَلبه بِقوه ، هَمس لنَفسه :
” ده صوت نعيمه ”
تَسمر مَكانُه يُحاول التقَاط مَا يَقولونه بِالخَارج
” حرام والله ، ده ادم ده اغلب من الغلب ، منك لله ياسعد كل ماتشوف الواد لازم ترازي فيه ”
ad

عَلم بِما حَدث ، َشعر بِنبضاتُه المُتسارعه تُكاد تَصم أذُنه ، هَرول نَاحية المَطبخ وقَبل أن يَصل لهُ وَجد ” موسى ” يُهرول نَاحيه “لُقمان ” قائلاً:
” الولا هيما تحت البيت ، وبيقول ان سعد وقلاضيشه فارمين ادم ونوح على أول حي الكويت ”
استَوقفُه ” أنس ” بِذعراً فَسأل :
” فين بالظبط ”
أتَجه ” موسى ” مِهرولاً مُغادراً المكَان وَهو يَسمعهُ يَقول بِنبره عَاليه :
” عند كشري شطه جنب المقله ، انجز ياعم ”
صَرخت “نَعيمه ” صَرخه مُدويه وَهي تَقول :
” أنتوا لسه هتتسايروا ، أجروا أدم معاه تحت ، الحقوا أخواتكم ”
وتَابعت بِقولها مُعاتبه :
” منك لله ياسعد ، معرفش فيه ايه بينك وبين الواد”
هَرول ” أنس ” خَلف أشقائه ، يَنزل الدَرج يَغلق أزرارُ قَميصه بِعدما حَاول بَث الطمأنينه بِداخل والدته ، ركضُ في اتجاه التجمع دون أن يُلقي بالاً لِما يَكسو نِصفه السُفلي… أو بِالأحرى، لِما لا يَكسوه
لم يُدرك في لحظته الطائشة أنه نسي ارتداء البِنطال، وهَرع إلى قَلب الحَارة بِشورتٍ منزليٍّ قَصير، لا يَصلح إلا للنَوم… أو للنَكبات
رَكضوا دَاخل الَحارة والنفَس يَتقطع في صدورهم، لم ينتبه أيٌّ منهم لوقع أقدامه على الأرض، كانت أعينهم تفتّش عن وجوه اشقائهم ، عن طرف واحد يطمئنهم وسط الضجيج.
كان “هيما” شَقيق “بِشر ” الأصغَر يَسبقهم بخطوات قليله ، يشير بيده إلى نهاية الزقاق
“أهم ، هناك اهم ياموسى ”
وهناك، كانت الفوضى تتكثف ، حشد من الناس اصطف على جانبي الطريق، وبعضهم اعتلى السلالم، وآخرون تكدسوا في النوافذ ، تتشابك العيون على مشهدٍ محتدم، الأنفاس مكتومة، والهمسات متقطعه
كان ” نوح ” في المنتصف، ذراعه تندفع بقوة نحو أحد رجال “سعد”، يلكمه ثم يتلقى ضربة في المقابل ، يتراجع قليلاً ثم يعاود الهجوم، يُدفع فيسقط، ينهض في لحظة وكأنه لم يقع قط.
بجانبه، كان “بشر” يتصدى لآخرين، وملامحه مشدودة، شفته السفلى تنزف، لكنه لا يشعر بها
لم ينتظر ” موسى ” دفع نفسه إلى الداخل، جسده يشق الطريق، كتفه يصطدم بالأجساد دون أن يلتفت، وعيناه تمسكان بـ”سعد” مباشرةٍ
ومن خلفه كان “لقمان” يتحرك بثبات لم ينطق، لكنه لمح “موسى” يومئ له، فهم الرسالة دون شرح، اتجه يسارًا ليمنع رجلين من الوصول إلى “أنس”.
ad

في الركن الأيمن من الزقاق، انزوى “آدم”، جالسًا على الأرض، ذراعيه ملتفّتين حول جسده، ظهره محني، وعيناه نصف مغلقتين كأنه يتحاشى كل شيء.
رآه “أنس” وسط الزحام، اتسعت عيناه، واندفع نحوه دون تردد كان يلهث، وعلى ملامحه مزيج من الخوف والذنب، ركع أمامه ومد يده ليتحسس كتفه، وجسده يلتف حوله كدرع.
في وسط الضجيج، انقضّ “موسى” على “سعد” ودفعه بجسده دفعة واحدة جعلته يتراجع خطوة للخلف، قالها دون رفع صوته:
“لو جيت على إخواتي تاني… هتزعل يا سعد”
تَوقف الشِجار وضحك “سعد” ساخرًا
” في الأوقات اللي زي دي بحب ازعل ”
ثم انقضّ عليه بلكمه سريعة في الفك، ارتدّ “موسى” قليلاً لكنه لم يسقط مَسح الدماء التي انسدلت من شفاهه السُفليه بِظهر يَده:
“أنا ازاي يلا ماشوفتش قبل كده أنك بالوسا**دي ”
ثم ردّها بأخرى ، كلّ شيء بعد ذلك بدأ يتداخل
أصوات، اصطدام أجساد، صرخات تنفلت من هنا وهناك، و”لقمان” يشد أحد رجال “سعد” من قميصه ويلكمه في الصدر، بينما “أنس” ما يزال جالسًا أمام “آدم” يحميه بعينيه وظهره
🍁
عُقده في مَعِدة السَيده “نعيمه” مَنعتها مِن أبتِلاع ريقها وشَعرت بأن كُل شىء الأن يَثير غَثيانها ، فأثرت الصَمت ، حَتى وأن لَم تَظهر مَا تَضمُر فالجَميع يَرى رَجفة يَدها وخنصَرها ، اهتِزاز مِقلتيها وفرك كَفيها أحدى علامَات التَوتر ، تَدور في أرجاء الغرفة الرئيسية بِخطى قلقة، كأن المساحة تضيق عليها كلما تحركت يداها تعانقان بعضهما لحظة، ثم تنفرجان في ارتباك، نظراتها تائهه ، لا تستقر على موضع، تمرّ على الباب والنوافذ والجدران ..
كما لو أنها تبحث عن مهرب من فكرة تزداد ثِقلاً كل لحظة.
لَم تَخف عِن السَيده “وداد ” تَنهيدة ” نعيمه ” الثَقيله والتى لاَ تكون صَادره إلا عَن شَك يَليه خَوف ، كانت تجلس على طرف المقعد، تراقبها بصمت ثقيل، ثم نطقت في محاولة يائسة لبعث السكينة:
“اهدي بس يا نعيمة… ماتقلقيش، خير إن شاء الله ياختي”
عَقدت السيده “نعيمه” حَاجبيها وَسحبت المَقعد الذي احَتك مَع الأرضيه الخَشبيه لِتجلس وأمرت تَلك الجَالسه بِجانبها بصوتٍ يشوبه الخوف:
“ما تتصلي يا بت ياسمر على طه أخوكي، شوفيه فين… خليّه يروح يشوف إيه اللي بيحصل على اول الشارع ويطمنّا”
أومأت “سمر” مسايرة حدِيثها وابتِسامه دافئه تُزين ثِغرها ، لِتنسحب نَحو المَطبخ بِغير راحه وقَد شَعرت بِقلق طَفيف
“حاضر يا طنط… التليفون في المطبخ، هاروح اجيبه”
ad

لَم تَنتظر وتَحركت السَيده “نعيمة” نَاحية الشرفة، لَعلها تَلمح أي شَىء ، دفَعت الَباب الزُجاجي وخَرجت، كَما لو أن الهَواء داخل البَيت لَم يَعد يَكفيها.
لحقتها السيده “وداد” بِهدوء، وقفت بجوارها، تتأمل الشارع الصامت، والقلق يتصاعد كضباب خفيف من صدريهما شفتا “نعيمة” كانتا تتحركان دون صوت، ثم قالت، والدمعة محتقنة في صوتها:
“مش قادرة يا وداد… مش قادرة أقعد هنا ثانية واحده ”
نَبست “شيماء” بَعد صَمت ، تتبعها والدتها، بِصيغه سَاخره مِواريًا نَبرتها المُتوتره ، التي لا تَليق بِثقل اللَحظة:
“انا مش فاهمه يا طنط انتِ قلقانه اوي كده ليه ، هما يعني بيرضعوا في صوابعهم عشان تقلقي عليهم كده .. دول رجاله ”
كَانت نَبرتها مَليئه بِالسُخريه ، لِتقرصها والدتها عَلى حينَ غَره ، وكَانت عَلى وَشك فِعل المِثل لِلمره الثَانيه لِذا ابتَعدت ” شيماء ” صَارخه :
“إيه يا أمي بتقرصيني كده ليه ، هو انا قولت ايه غلط ”
وعِند هَذه الكِلمه ابتَسمت السيده “نعيمه ” بِمكر وهَتفت بِحاجِب مَرفوع مُتكتفه تُطالع مقلتِها بِغيظ :
” مش انتِ اللي هتعرفيني ان عيالي رجاله ياشيماء ، ولا ياختي ..
دَست أبهامها بِداخل فَمها بِسخريه تَسترسل :
” هما لا بيرضعوا في صوابعهم ولا عيال صغيره .. دول رجالة الحج نصار يعني من ضهر راجل …
أشَارت بِكف يَدها على فؤادها بِغيظ :
بس اعمل ايه ، قلبي حنين ، مش قاسي مابتحملش عليهم الهوا ، مش زي ناس
القَت السِيده ” وداد” نَظره على كُلاً مِنهما لِتجدهم يتبادلون النظرات الخرساء فيما بينهم قررت حينها كسر الصمت و خرج صوتها صارمًا يخترق لحظة التوتر:
“بت يا سمر أخوكي رد عليكي ولا لسه ”
ثُم هَتفت تَشير بِعينيها لـ “شيماء” :
” نقطينا بسكاتك ياشيماء مش ناقصه هي ، أنتِ شايفه حالتها حاله دلوقتي ”
ظهرت “سمر” عند مدخل الشرفة، الهاتف في يدها، والقلق مطبوع على ملامحها:
“لا يا ماما… طه بيكنسل، مش عارفة بيكنسل ليه ”
في لحظة، اندفعت “نعيمة” نحو الداخل، اتجهت مباشرةً إلى الأريكة، تَلتقط حِجابها الأسود ، تَلفُه على رأسها بحركة معتادة، وهَتفت دونَ نيه لِلتراجع ، وهي تمسك بمقبض الباب:
“وأنا ياختي هستنى سي طه بيه لما مايكنسلش ويرد أنا نازلة أشوف عيالي ”
ad

“استني بس يا نعيمه ”
تبعها صوت “وداد”، لكنه ارتطم بالهواء… إذ لم تلتفت ، لَمحت أنَامل السيِده “نجاح ” تَقترب مِنها ، تَمسك بِذراعها قَرأت ما بِداخل عينيها وكأنها تَنطق دون حَديث بِأنها لَن تَستطيع المكوث هُنا وَتنتظر عَودتهُما أما بِخبرٍ سىء أم جيد تَقدمت مِنها السَيده “نَجاح ” أكثر تَبتسم ابتِسامه دَمِثه قائله :
“نزولك تحت وسط الرجاله هيقل منك ، مش هيزيدك ياخايبه ”
فَتحت “نعيمه ” فاهه لِتعترض ، ضَغطت السَيده “نَجاح ” عَلى “ذراعها ” تُكمل بِلطف:
” ومش هيقل منك أنتِ بس لاء .. هيقل منك ومن الرجاله اللي معاكي ”
تَحركت السَيده “نَجاح” ناحية الأريكه تَجلس بِحذر
واضعه كَف يَدها أسفل ظَهرها بِألم :
” أه ياضهري ، ضهري مفلوق نصين من ناحية العصوصه يابت يانعيمه بقاله يومين مش قادره..
عَدلت مِن جَلستِها تَجلس بِأراحيه :
” لما عيالك الرجـــــاله تطلع وهما سالمين وعرفوا يجيبوا حق أخوهم ، اوبقي وديني الاستباليه يابت عشان ضهري قافش عليا قفشه وحشه ”
تباطئت قَليلاً حِينما خَرج مِن بِين شَفتيها كَلمة “الرجاله” وكَأنها تُذكرها مَن هُم أولاد “نَصار ” تَنهدت السَيده ” نعيمه ” تَنهيده حَارقه تَدل عَلى فِهمها لِحديثها
ضَربت السَيده “نجاح” بكفّ يدها على الأريِكه إلى جوارها، ضَربة خَفيفه ، تَشير اليِها دونَ حَديث أن تَأتي ..
كان الهواء ساكنًا، لكن يدها أحدثت رجفة صغيرة في قلب السَيده ” نعيمه ” تَرددت بين قدميها وثقل الجسد، شيء كان يشدها للخلف.
عينُها على الأريكة، والعَين الأخرى ناحية الباب
“تعالي، تعالي بس يانعيمة… والله ما تقلقي .. شويه كده وهتلاقيهم جايين ”
هَتفت بِها “نجاح” بصوت خافت، لكنه نُطق كالوعد ، حَديث بدا وكأنه خرج من صدر لا يكذب.
جلست .. جلست بجوارها كأنها تستسلم، لا من الضعف، بل من رغبة مُرهقة في التصديق.
“بجد يا ياما”
سؤالها لم يكن بحثًا عن إجابة، بل عن طمأنينةٍ تُثبت نفسها داخل الملامح المرتعشه
أشَارت السَيده ” نجاح ” إلى نفسها ببطء، كأنها تُقسم:
ad

“هو أنا قُلتلك حاجة قبل كده وطلعت غلط ياموكوسه ”
هَزت رأسها بالنَفي فتابعت السيده “نجاح ” تَميل بِرأسها ناحيه “نعيمه ” هامسه:
الست اللي بجد ماتحشرش نفسها بين الرجاله وتقف تزعق وتهلل وسطهم طالما رجالتها واقفه ، وانتِ عارفه زي ما انا عارفه انهم مش قليلين ”
ارتخت شفتا “نعيمه” في شيء يشبه الابتسامه وكأن الخَوف خَجل مِنها فاختبأ لَحظه
لمعة صغيرة في العين مزيج من الخوف والراحة، ظهر واختفى في طرفة ، ثم أشارت السَيده
” نجاح ” برأسها نحو “سمر” :
“روحي يا سمر… روحي النهارده الجمعه ولعي شوية بخور، بخري البيت… خلّي الشيطان يبعد عننا”
ثُم أزاحت بِبصرها نَاحية شيماء :
” روحي ساعديها ياشيماء ”
لَوت “شيماء” فَمها دونَ رَد ، فأعادت طَلبها بِحده :
“ماتروحي تساعديها يابت واقفه كده ليه ”
تَحركت ناحية المَطبخ بِضجر :
” رايحه اهوه ”
كَانت هَذه هَمستها بَينما سَمعت “نعيمه” صَوت اقدَام تَطرق دَرجات الطَابق السُفلي ، لم تُدرك السَيده “نعيمه” كَيف انتفض جَسدها بُمجرد أن بَلغها أصواتِهم ، شَعرت بِقلبها يَنهض واقفًا قَبلها أبتَسمت السَيده ” نجاح ” قائله :
” اهم جم ياستي ، أجري افتحلهم بقى ”
هَرولت تَفتح البَاب دونَ شُعور مِنها ليُقابلها وَجه
” نوح” بِأبتسامه مُنكسره و وَجه شَاحب بِالرغم مِن أن أبتِسامة ” نوح ” لا يَكسرها شِىء
أرغَمت نَفسها عَلى نَسج خَيال ابتِسامه مِن دَاخل كُل شىء مُدمر بِها وأقتَربت مِنهُ
” ايه يانوح ، حصل ايه ياواد طمني ، الولا سعد معلم على وشك كده ازاي .. ياولا انطق ، طيب أخوك بخير ، فين اخواتك ”
أشتَدت يَدها عَلى مِقبض البَاب تَنتظر أجابَتهُ تجَاوزها يُحاول كَتم بَسمتهُ
ad

” ياستي ماتقلقيش طالعين مع الحج ورايا ”
نَبس بِجملته بعدما تَجاوزها ، بَينما سَمعت صَوت يُنادي بِهمس عليِها بِنبره مُشبعه بالبَحه خَلف البَاب
“نَـعيـمه ”
أقتَربت بِحذر لَتتفاجىء بـ ” أنس” يَمط قَميصُه الجينز للأسفل ليُخبىء مَا يَستطيع مِن شورت قَصيراً يَرتديه أسفلُ جَسدهُ بِكفيه ، عَيناه تتلفتان
في كُل أتِجاه ، يَعلم تمامًا مَن في المَنزل ، أشَار الى فَخذه بِرجاء نِابع مِن عِينيه قَبل لِسانه
” اما .. استري عليا ياشيخه ، ادخلي بسرعه هاتيلي بنطلون .. انا بلبوص ياما ”
شَهقت مِن دون صَوت لِما رأت مِن حال ابنها ، طالعها بِندم وهو يَشير لِنفسه
” ايه يانعناعه هتفضلي راشقه عينك في فخدتي كده كتير ، مش ناويه تبدي اي ردة فعل للي شايفاه طيب ”
أشَارت ” نعيمه ” لِفخذه مَع ضِحكات لَم تَستطع كَبحها
” ايه ياواد اللي معري فخدتك كده ”
أجَاب على سؤالها بِحديثٍ أخر :
” مش وقته دلوقتي يانعناعه هبقى اقولك بعدين ”
انحنى يُقبل كَف يَدها وهو يَترجاها :
” بس ابوس ايدك .. ابوس ايدك وطي صوتك ماتفضحنيش ، ادخلي بسرعه هاتيلي اي حاجه البسها”
ابتَسمت ” نعيمه ” تَنزع حِجابها تَلقيه بوجه تَضم ذرَاعيها الى صَدرها
“خد استر نفسك ياموكوس ”
كَانت ملامحُه عَابسه يَشير لِنفسه :
“ايه ده ؟ ”
” لو مش عجباك هاتها يامفضوح انا مش فضيالك فين أخوك ”
ابتَسم بَسمه مَليئه بِالضجر وهو يَقوم بِلفها على فَخذيه بِحنق يَرد عَليها بِضيق
” طالع ورايا ”
ad

أشار ” أنس ” لفخذه :
” طيب كنتِ هاتي طرحه طويله شويه ، عجبك كده ، الشعب يشوف عورتي ، اودي وشي من الشعب اللي جوه انا فين دلوقتي ”
ضَحكت السيده ” نعيمه ” على منظر أبنها فَهي تَعلم بِمن يَقصد بالشَعب ، أنهى حديثه وتَركته وتحركت ناحية الخارج تنتظر صعود ” ادم ” بفارغ الصبر ، بَينما هو دخل الى المنزل كاللص ينظر يمينا ويسارا حتى يَتبين اذا كان يَتحرك سَريعًا لاقرب غُرفه مِنه يَتلفت حَوله بريبه يَحمد الله في قَلبه ان لا أحد بالداخل والجميع يَنتظر بالشُرفه ، وبِسرعه كَبيره اتجه الى غُرفته وقَبل ان يَصل اليها لمح ” شيماء ” تخرج من الشرفه ولم يَجد سوى المطبخ ليحتمي اليه ، وَلم يَكد يَخطو بِقدمه للداخل حَتى شَعر بِطبق مِن الشوربه السَاخنه يَسقط عَليه ، لمَ يَشعر بِالحراره مِن كَثرة شعوره بِالخجل ، تلاقت عيونه بـ “سمر ” ، واشتدّ الحرج.
لا يَعرف أيَن يخبئ نفسه، فابتلع ريقه كأن حنجرته قد ضاقت، وارتسمت على شفتيه ابتسامة بائسة، لا تخفي شيئًا من ارتباكه، بل تُعلنه بصراحه
مدّ يده إلى طرف القميص مرّة أخرى، يشده كأنما يتّقي به نظراتها، ثم تمتم بنبرةٍ مبحوحة:
“اوعي تبصي تحت ياسمر .. انا بلبوص ”
شَهقت في مكَانها، مذهولة مِن المشهد، لَكن طَرف فمها ارتجف، وكأن ضحكة صغيرة كانت تحاول أن تتسلل… ثم أدارت وجهها سريعًا، تُخفي احمرار خديها تَاركه المَطبخ ، بينما هو ظلّ واقفًا هناك، كمن داهمه القدر بقميص طويل… وشورت قصير
. . .
. .
. . .
فِي الَأزمَات ، لاَ نُعد الوَقت… ولَا يَشغِلنا مِروره بَل فَقط نَرجو نِهايتُه ، يَنتظر ” أدم ” بِمُنتصف المَنزل كأن الأرض تحت قدميه غريبة عنه…كأن الزمن متوقف، لا يتقدّم ولا يعود.
عيناه معلّقتان بباب غرفة والده المغلق، شفاهه تتحرك همسًا بالصلاة على النبي، لا يكاد يسمعها أحد، كأنها رجاء يوشك أن يُقال ولا يُقال.
أصابعه تتحرك بلا وعي، تفرك بعضها، كأن فيها شيئًا يحاول أن يخرج، توتره كان يفضح كل شيء، حتى الهَواء حَوله صَار أثقل، يضغط على صدره
كانت السَيده “نعيمة” تقف بجانبه، تنظر إليه بعينين خائفتين، تحاول أن تفهم، تحاول أن تُطمئن لكنه لا يجيب ، كأنه غارق في بحرٍ داخلي، أمواجه تتلاطم بلا صوت، لا يسمعها أحد سواه.
” أموت وافهم ماله ابن الخرداتي بيك ، كل ما يشوفك يترازل عليك ، ايه اللي خلاه يقلب عليك كده ، ده انتوا مكنتوش بتاكلوا غير من طبق واحد”
كَالعاده ، لمَ تَتلقى رد ، وفَضل الصَمت كَان الحُزن أثقل مِن أن يُقال ، ظَلت عيِناه مُعلقتين بِذلك البَاب
حَاولت السَيده “نعيمه ” أن تَجلسه علَى الأريكه ، تُلامس ذِراعُه بِخفه لَكنه أنتَفض كَمن لُسع ، تَراجع خَطوه جَسدُه كُله يَرتجف فأزالت يَدها فوراً
ad

” ماتخافش يا ادم ، حقك عليا يابني ، مش هلمسك تاني ماتخافش ”
تَجاوزها دونَ رد يَتجه نَاحية غُرفته يَغلق بابه بأحكام ، ثُم انتقل الى الفراش يَحتضن وسادتهُ بِقوه والرَعشه تَعتلي كامل جَسده
كَانت الغُرفة مُضاءة عَلى نَحو خَافت، يَجلس “الحج نصار ” أسفل النَافذه ، تَتدلى مَسبحتُه مِنه تَنزلق حبَاتها بِبطء مِن بَين أصابعه ، يُمرر عينيه عَلى أولاده الواقفين أمامه ثُم يَنظر الى مَسبحتُه مِن جديد يَستغفر ، قَلب ” موسى ” نَظره الى “لُقمان ” الواقف جواره وبَادله “لقمان ” نَفس النَظره يَنتظرون حَديث والَدهم ، رفع
” الحج نصار “عينيه إليهما أخيرًا ، وجهه هادئ، لَكن السكْون فِيه لَم يَكن طَمأنينه ، بل ما يسبق العاصفه
“مين فيكم بقى الشبح اللي بـ100 راجل، وبدأ الخناقة مع سعد وعيلته ”
تقدّم “موسى” يَمد يَده خَارج النَافذه ، تناول القله، ورفعها إلى فمه كُل رَشفة بَدت كأنها تَزيح حملًا عَن صدره، لَكن بلعته الثقيلة فضحته.
تفاحة آدم في عنقه تحركت بحدة، ثم مسح فمه بظهر كفه وأعاد القلة الى مكانها قال بهدوء:
“إنت تعرف عنّا كده يا حج ، أحنا غلابه ياحج ”
نظر إليه الحج “نصار ” طويلًا، بِعين من لا تنطلي عليه الإجابات الملتوية مرّ بعينيه على القلة وهو يَقول :
“لا .. لا سمح الله أنا أعرف عنكم كده بس ، ده انا اعرف عنكم ابو كده وام كده كمان ”
أنفَلتت ضِحكه مِن “لُقمان ” أثارت غَضبه
“بتضحك على خيبتك يالقمان ، لما تبقوا رجالة كبار… المفروض تبقوا عارفين الصح من الغلط.
جوز البهايم اللي بره دول ما بيعرفوش يفرّقوا.
إنما إنتوا .. أنتوا تنزلوا الحاره وتضربوا وتتخانقوا، وتسيبوا الواد سايح في دمه كده وتكسرولوا دراعه بالمنظر ده
جلس “لقمان ” بجواره محاولًا التبرير، وكأنّه يبحث عن ثغرة في الحرج:
“يا حج… الواد ده بقاله فترة حاطط آدم في دماغه،كل ما يشوفه، يترازل عليه، كل مرة بنتكلم معاه بالأدب…”
بَتر “موسى ” حَديثه :
“ادب .. ادب ايه يالقمان ماتصلي على اللي هيشفع فيك يسطا هو اللي زي ده ينفع معاه الادب”
تَحرك ناحية الأمام خَطوه يستردف :
” وحياة ديني انا لو كنت أعرف إنه بيضايق آدم بالشكل ده كنت بيّته في حجر أمه من أول مرة”
ad

“وأنتَ عايز تعمل ايه أكتر من انه راح يجبس دراعه في المستشفى ياموسى ”
هَتف بها “الحاج نصار ” فأجابه دون تَردد :
“ادشدشله دماغ امه قسماً بالله ما ياخد في ايدي غلوه ”
وقف “الحج نصار” ، ببطء، خطواته ثقيلة لكنها واثقة، اقترب من موسى، بعينين تشبهان الصمت،
ابتلع “لُقمان ” ريقه يُطالع شَقيقه بِنظرة لَوم عَلى ما قاله ، رَفع “الحج نصار” ذراعه وبدا عليه الغَضب ولكنه ربَت على كَتف موسى تَعتليه ابتسامة صغيرة، لكنها كانت مزيجًا من القسوة والرضاوقال بصوت يكاد يُخفي الإعجاب خلف الجدّ:
“جدع يا لا تربيتي”
. . . .
. . .
. . . .
أطفأ “ادم ” الأناره ودَثره نَفسه جيداً دَاخل الفِراش
يَشعر بِالنوم ، يَشعر بالتَعب لَكن لا بوادر لِلنوم ، حَاول مِراراً وتِكراراً ، كلما أغمض عينيه، زحف إليه الماضي كظلٍّ ثقيل حاول أن يطرده، أن ينسى
لكن ذاكرته أبت،وسحبته إلى ذلك اليوم ، اليوم الذي بدأ بِه كل شيء
كان “آدم” و”سعد” يلعبان في الشارع الترابي، تحت شمس مائلة إلى الغروب.
كان البلي موزعًا بدقة أمام ” سعد “، بينما ركز نظره بعين واحدة مغلقة، والأخرى محدّقة كالسهم، يستعد لإطلاق الضربة الحاسمة.
“آدم” يقف إلى جواره، يراقب باهتمام طفوليّ، يشجع صديقه بصوت حماسي:
“يلا يا سعد، تقدر تجيبها، مش بعيدة… عايزين ناخد منهم البلي كله.”
وفي اللحظة التي كاد فيها “سعد” أن يقذف بالبلية بأطراف أصابعه، تقدّمت خطوات ثقيلة.
جاء والد “سعد”، عابرًا فوق البلي بلا مبالاة، فتناثرت الكرات الصغيرة هنا وهناك، وتبعثرت لحظة النصر قبل أن تولد.
تقدّم “سعد” منه، بعين ممتلئة بالعتاب:
“مش تخلّي بالك يا بُويا؟ كده هدّيت البلي بتاعنا، بعد ما كنت هكسب عيال الشارع كلهم.”
ad

جلس الأب على المقعد الخشبي أمام المخزن، بثوبه الصعيدي ، مستندًا إلى عصاه الخشبية
ابتسم في فتور، وضع كفّه على خده، وقال بصوت هادئ:
“بس كده يا سعد؟ حقك عليّا.”
أدخل يده في جيب ثوبه، وأخرج بعض النقود، ناولها لابنه:
“خد، روح هات لوليتا ليك ولآدم.”
ثم التفت نحو “آدم”، وبعينٍ ضيقة لا تخلو من نظرةٍ خفية، تطلع إلى جسده الصغير بنظرات غامضة، لا تُريح القلب.
تقدّم بخطوات ثقيلة، ومدّ يده على ظهر “آدم”، ثم قال بصوتٍ مغطّى باللين:
“إيه رأيك يا آدم؟ بتحب اللوليتا؟”
أومأ “آدم” برأسه مبتسمًا، بحماس طفل لا يفهم ما خلف الكلمات.
ثم التفت الأب من جديد إلى “سعد”، وقال:
“اجري يا سعد، روح هات لوليتا ليك ولآدم، بس هاتها من أوّل الشارع… عشان تبقى متلّجة، ما تبقاش ميّه.”
ضحك “سعد” وقال:
“تعالى معايا يا آدم.”
لكن الأب بادره سريعًا، بصوت آمر:
“ييجي معاك فين، يا وَلَا؟ يعني محتاج حد يحرسك؟ روح بسرعة وتعالى.”
أومأ “سعد” بالموافقة، وهو يشير إلى “آدم”:
“ماشي… بس خليك هنا، يا آدم، أوعى تتحرك عشان نكمل لعب.”
مضى “سعد” مهرولًا، واختفى عند آخر الشارع.
حينها، اقترب والد “سعد” من “آدم”، وأجلسه على ساقه، وقال:
“بقولك إيه يا آدم… ما تدخل تجيبلي حاجة، الصفيحة اللي جوه في آخر المخزن، على إيدك الشمال… تعرفها؟”
ابتسم “آدم” بهدوء، ونزل عن رجله، واتجه نحو المخزن.
ad

وما إن دخل، حتى التفت الأب يمينًا ويسارًا… الشارع خالٍ، لا أحد يمر.
لحس شفتيه بلسانه، ثم توارى داخل المخزن خلف “آدم”، خالعًا عباءته الثقيلة.
مدّ يده نحو الباب، وأغلقه خلفه… في صمتٍ مريب، وابتسامةٍ تجرّ خلفها ظلالًا لا تُفصح
ولم يكن “آدم” يعلم أن الباب الذي أُغلق خلفه
لن يُفتح أبدًا على نفس البراءة
كان ذلك اليوم… أول كسرة في روحه، وأقسى ما خبأه العمر في طيّاته ، لم يُغلق على جسدٍ صغير… بل على طفولةٍ انتهت قبل أوانها.
———————————–🍁—————————-

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية لأنه موسى)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *