رواية جعفر البلطجي 3 الفصل الثالث والستون 63 بقلم بيسو وليد
رواية جعفر البلطجي 3 الفصل الثالث والستون 63 بقلم بيسو وليد
رواية جعفر البلطجي 3 البارت الثالث والستون
رواية جعفر البلطجي 3 الجزء الثالث والستون
رواية جعفر البلطجي 3 الحلقة الثالثة والستون
يا من بيده مفاتيح الفرج،
يا سامع كل نجوى،
يا من يكشف الضر عن المضطرين،
يا من خزائنه بين الكاف والنون،
فرّج عنّا الكروب،
وأزل عنّا الهموم،
وارزقنا من واسع جودك.
_نصر الدين طوبار.
____________________________
الخيا’نة…
تلك الطعـ.ـنة التي لا تأتي من عد’و، بل من يدٍ ظننتها الأمان، وصوتٍ حسبته الصدق، وعينٍ كُنتَ ترى فيها انعكاس نفسك، الغد’ر ليس مجرد فعل، بل خنجـ.ـر مسمو’م ينغر’س في القلب بلا إنذار يبدد الثقة، ويهدم جدران الطمأنينة التي بُنيت بسنواتٍ من العشرة والوفاء، كم من قلوبٍ صدّقت الوعد، فسقطت تحت وطأة الخد’اع، وكم من أرواحٍ راهنت على النقاء، فوجدت نفسها غا’رقة في ظلمات الخيا’نة، لكنّ الغد’ر، رغم قسو’ته يبقى درسًا لا يُنسى … يفتح أعيننا على حقيقة البشر، ويعلّمنا أن ليس كل من ابتسم لنا، حمل في قلبه الخير..
<“آل عليهم بالجنو’ن، فوجد نسخته الأخرى.”>
عاد إلى شقته بعد أن قام بزيارة شقيقته واطمئن عليها منهكًا، شَعَر بالخمو’ل ولذلك تكاسل عن فتح الباب ولذلك ضغط على زر المقبس ليصدح صوت الجرس عاليًا في الداخل ثمّ أبعد إصبعه وأنتظر أحدًا يفتح لهُ، هُنَيْهة مِن الصمت التام بلا رد حتى الآن، أطلق زفيرة حا’نقة ثمّ أعاد الكرَّة ليُفتح الباب بهدوءٍ شديد لم يعهده مِن قبل، ترقب وأنتظر رؤية الماكث خلف الباب وهو يُلقي نظرة خاطفة نحو الداخل بعد أن لم يلمح طيف صغيرته أو ظل زوجته، بل كان ظلًا لر’جُلٍ آخر..
ثانية، أثنتين، ثلاثة وظهر نسخته أمام ناظريه وهو يبتسم بوجهه قائلًا:
_أهلًا يا “چـو”.
جحظت عيناه حينما رآه أمامه نسخة مصغرة مِنْهُ، يرتدي مثلما يرتدي هو تمامًا، بنطال زيتِ اللون وكنزة بيضاء يعلوها سترة شتوية سوداء وحذاء أبيض، نفس درجة بشرته ولون عيناه وخصلاته، بالإضافة إلى لحيته..
_أحيه، دا أزاي ما أنا بره طول اليوم، ولا دا تأثير الإجها’د وأنا شايف غـ.ـلط؟ أنتَ مين يا عمّ؟.
حادث نفسُه مصدومًا بعد أن رأى نفسُه وكأنه يقف أمام مرآة تعكس صورته وليس على عتبة شقته، وأنهى قوله متسائلًا وهو ينظر لهُ مترقبًا ليأتِ الجواب مِن الآخر الذي قال بدهاءٍ:
_أنا أسمي “يـوسف عدنان المُحمَّدي” يا “چـو”.
رفع “يـوسف” حاجبيه وهو يُطالعه مندهشًا، فهذا ما كان ينقصه الآن، جاوبه بنبرةٍ ساخرة بقوله:
_ولمَ جنابك أنا، أنا أبقى مين إن شاء الله؟.
_”جعفر البلطجي.”
جوابًا صريحًا لم يتوقعه “يـوسف” الذي رفع كفيه يمسح وجهه محاولًا تمالُك نفسُه كي لا يصرخ بهِ ويُبرحه ضر’بًا، نظر لهُ ثمّ أخرج زفيرة عميقة وقال بنبرةٍ حاول جعلها هادئة رغم حدّ’تها:
_يمين بالله إن ما خـ.ـفيت مِن وشِ لهمسكك أعـ.ـجنك وهوريك وش البلـ.ـطجة على حق.
جاوبه الآخر بآلية يُزيد مِن استفزازه بقوله:
_البلـ.ـطجة مش حل، ريلاكس يا “چـو”، العصـ.ـبية مش حلوة عشانك وليها أسباب وأضر’ار كتير أوي وبتخلّي الواحد محتاج يشرب سجاير كتير والسجاير غـ.ـلط على أعضاء الجسـ.ـم وعلى راسهم الر’ئة اللِ بتكون..
_ما خلاص يا عمّ أنتَ هتديني درس فالطب ..!!
ظل ممسكًا بخيوط هدوئه المهتر’ئة، لكنه لم يتحمل أكثر، فانفجـ.ـر قا’طعًا حديثه بحدّة، وكأن الكلمات خرجت رغمًا عنه كبر’كانٍ تأجل انفجا’ره طويلًا، صمت الآخر ولم ينبث بحرفٍ آخر بعد صرا’خ “يـوسف” بهِ، بينما حاول “يـوسف” أن يهدأ قليلًا ماسحًا بكفه على وجهه، هكذا كانت حركته المعتادة بعد أن ينفعـ.ـل ويصر’خ بمَن أمامه..
خرج “سـراج” مِن خلفه وظهر في الصورة لتصطدم عيناه بعينان رفيق دربه الذي صُدِمَ بوجوده في شقته، تمتم “يـوسف” مذهولًا بعد أن رآه أمامه بقوله:
_”سـراج”، أنتَ بتعمل إيه هنا؟.
تبسم “سـراج” ضاحكًا ليتقدم مِنْهُ مجاورًا نسخته ومازال “يـوسف” مصدومًا ويُحاول معرفة السبب الذي جعل رفيقه في شقته دون علمُه، وكأنه كتابًا مفتوح أمام رفيق الذي جاوبه بنبرةٍ هادئة:
_جيت عشان أفاجئك، وأصدمك شوية، مقولتليش بقى عجبتك الصدمة؟.
_مفاجأة إيه دي أنا مش فاهم أي حاجة.
حكّ “سـراج” لحيته المنمقة برفقٍ مجيبًا إياه بنبرةٍ هادئة:
_لمؤاخذة يعني يا صاحبِ بس أنا شايف إن الغباء را’كبك النهاردة بطريقة مقلقا’نِ، طب أنا هقولك، دا يا عمّ أول روبوت يتقفِّل ويتجرّب مِن مشروعِ اللِ كلمتكم فيه فالشركة، خلّيته نُسخة مِنك بس دا النُسخة المتربية، الباقِ بيتقفِّل عشان خلاص فاضل أيام ويتقدم فالمعرض وبصراحة المشروع نجح ومِن فرحتِ جبته وجيتلك، “ليان” قالتلِ إن “بيلا” نايمة فقعدت تلعب معاه شوية لحد ما أنتَ جيت عشان أفاجئك بيه، إيه رأيك حلو مش كدا شوف نفسك وأنتَ روبوت عسول أزاي.
كان مبتسمًا وهو يتحدث طيلة الوقت والشغف ظاهرًا في عيناه السو’د’اء التي كانت تُغلفها لمعة يحفظها الآخر عن ظهر قلبٍ، حما’سه دفعه لسرد كُلّ شيءٍ إلى رفيق الدرب الذي كان يستمع لهُ مبتسمًا بعد أن رأى سعادة رفيقه وسؤاله عن رأيه بهذا الإنجاز الذي سعى فيه لشهورٍ كثيرة حتى يكون أمامه في هذه اللحظة..
_ها يا “يـوسف” قولِ رأيك إيه حلو مش كدا؟.
_فخور بيك يا صاحب عُمري، ومبسوط إنك قدرت تحقق حلمك وتحا’رب برغم اللِ كُنت فيه، كلماتِ مش هتكفِ عظمتك يا عظمة.
كلماتٌ برغم بساطتها ولكنها كانت مبطنة بمشاعر عديدة رأها “سـراج” في عينان صديقه، كان سعيدًا لأجله وفخورًا بهِ وكأنه أخترع ما عجـ.ـز المخترعين عن تحقيقه، كان صادقًا ولم يُخطئ حينما وضع ثقته بهم جميعًا فجميعهم فاجئوه حينما حققوا أحلامه قبل أن تكون أحلامهم هم، فصل “يـوسف” المسافة بينهما ضاممًا إياه إلى أحضانه مربتًا فوق ظهره برفقٍ..
وقد بادله “سـراج” عناقه مبتسم الوجه والسعادة تغمر قلبه وكأنه أخترع ما عجـ.ـز الجميع عن أختراعه وسيُكافئ عليه عمَّ قريب، لحظات وأبتعد عنهُ ثمّ نظر إلى أختراع صديقه ومازحه بقوله الهادئ:
_عملتها أزاي دي يا “سـراج” دا أنا حاسس إنِ واقف قدام مرايا وشايف إنعكاس صورتي فيها، لا بصراحة عالمي.
وجاء الجواب لهُ على بُساطٍ أحمدي لم يكُن يتوقع سماعه حينما خرج صوت “سـراج” هادئًا:
_دا هدية مِني ليك، تقديرًا على كُلّ حاجة عملتها عشانِ ومعرفتش أردهالك بالطريقة اللِ تليق بيك، أنتَ شيلتنِ كتير أوي يا “يـوسف” وأستحملت مشا’كلِ وسمعتنِ فأكتر لحظات ضـ.ـعفِ ومزهقتش ولا مليت، حتى لو عيدت الكلام كذا مرَّة مملتش وكأنك بتسمعه لأول مرَّة، وقفت فوش اللِ يعا’دينِ كتير وعد’وي كان عد’وك، وأنا معرفتش أردلك ولو بجزء بسيط اللِ عملته ليا، بس اللحظة دي جت أخيرًا وهعرف أرضِ نفسِ زي ما كُنت عايز، دا بتاعك مِن النهاردة وهينفعك جامد أوي فالشغل بتاعك زي ما قولت قبل كدا ولو حصل أي حاجة كلمني وأنا هتصرف ساعتها.
التفاجؤ دومًا هو العنوان الأول حينما يحدث شيئًا لم نكُن نتوقع حدوثه يومًا، كان “يـوسف” مندهشًا لا يُصدق ما تسمعه أُذُنيه حتى هذه اللحظة وكأن أحدهم ضر’ب رأسه بعصـ.ـاه خـ.ـشبية ثقـ.ـيلة أفقـ.ـدته عقله، كان قلبه يطرق كالطبو’ل بجنو’ن داخل صدره وهو لا يُصدق ما يسمعه ويراه..
_”سـراج” أنتَ، أنتَ أزاي تعمل كدا، أنتَ بجد بتفكر بالأسلوب دا ناحيتِ؟ فاكر إنِ مستنِ مِنك مقابل بعد كُلّ دا، ياض دا أنتَ أخويا اللِ مخلفتهوش أمّي يعني مينفعش نفكر بالأسلوب دا أنا كُلّ اللِ كُنت عايزُه إنك تكون معايا طول العُمر، أنا أول مرَّة شوفتك فيها صوت جوايا قالِ دا هيكون أخوك مِن النهاردة، أزاي كدا بجد.
يُعاتبه ويُلـ.ـقي اللو’م عليه بعد ما فعله قبل قليل بعد أن اضطربت مشاعره واستطاع “سـراج” ضر’ب نقطة ضـ.ـعفه الرئيسية باحترافية، تبسم ضاحكًا لهُ وجاوبه بنبرةٍ هادئة وصادقة في نفس الوقت:
_دي أقل حاجة ممكن أقدمها لأخويا، أنا معملتش حاجة، تقدر تعتبرها هدية لشغلك الجديد ولحياتك الجديدة اللِ مستنياك.
نظر “يـوسف” إلى الروبوت الذي كان يجاور صديقه مبتسم الوجه وعَبراته تُغلف مُقلتيه بسائلٍ شفا’ف ثمّ قال بنبرةٍ هادئة ممازحًا إياه:
_تسلم إيدك يا هندسة، بس أنا أحلى مِنُه.
_مفيش حد هييجي بعدك يا ملك طبعًا.
لم تكُن مزحة هذه المرة بل كانت جُملة صادقة نابعة مِن قلب صديقٍ رأى الحياة والسعادة والأمان مع رفيق الدرب الذي عاهده ولم يخو’ن عهده حتى هذه اللحظة، وهذا كان سر علا’قتهما التي كانت تحر’ق قلوب أعد’اءهم ويتمنون تد’ميرها..
وبعد مرور الوقت،
رحل “سـراج” تاركًا الروبوت مع صديقه الذي أقترب مِنْهُ بعد ودَّع رفيقه يتفحـ.ـصه تحت نظرات صغيرته التي كانت تُتابع دون أن تتحدث، جلس “يـوسف” فوق المقعد المجاور لها ثمّ نظر إليها ومد كفه ممسكًا بكفها جا’ذبًا إياها برفقٍ إلى أحضانه بعد أن رأى النعاس بدأ يفر’ض سيطـ.ـرته على جفنيها مطبقًا بذراعيه عليها يُلثم جبهتها بحنوٍ ثمّ شرد في أمر هذا الروبوت الذي أهداه إليه رفيق الدرب وكيف سيستعين بهِ في عمله الذي ينتظره بعد أيام.
________________________
<“كان يعلم كُلّ شيء، كان هو البداية والنهاية.”>
مر يومان، وفي باكورة صباح اليوم الثالث،
كان “رمـزي” قد خرج مِن المسجد للتو وأغلقه بعد أن رفع صلاة العصر وصلى بأهل حارته ثمّ قرر الذهاب إلى “يـوسف” في مكانهم السـ.ـري بعد أن هاتفه وأخبره بضرورة قدومه بعُجالة جاهلًا ما يحدث ولكن كان القلـ.ـق يساور قلبه ويشعُر بأن ثمة شيئًا يحدث خلف ظهره هو ليس على دراية بهِ..
في نفس هذا التوقيت،
كان “يعقـوب” يقف أمام “يـوسف” في نفس المكان والذي كان يترقب ما سيقوله بفراغ الصبر، وكان “يعقـوب” بصمته ماهرًا في التلاعب بأعصا’ب الآخر الذي كان فضوله يآ’كله حـ.ـيًا لمعرفة مَن الذي كان السبب في أعتقا’ل رفيقه وإلقا’ءه كُلّ تلك المُدة في المعتـ.ـقل كُلّ ما يتلقاه هو التعذ’يب القا’سي لتقديم أعترافًا لم يقترفه..
_في إيه يا “يعقـوب” ما تتكلم يا عمّ وبرّد نا’ري، مين اللِ بلّـ.ـغ عن “رمـزي” أ’من الدولة؟ خا’يف تتكلم ليه لو فيها أذ’ىٰ ليك أنا جنبك بس حرام عليك تبقى عارف مين هو وساكت كُلّ دا عن حق الغلبان دا، أنتَ قولتلِ إنك عايز تتغيّر صح؟ ودي فرصتك عشان ضميرك يرتاح وميعذ’بكش أكتر مِن كدا، مين اللِ بلّـ.ـغ عن أخويا يا “يعقـوب مش هسألك تانِ.
أجاد هذا الما’كر التلاعب بأعصا’به والضـ.ـغط عليه للتحدث وقول الحقيقة فهذه هي الطريقة الوحيدة لإجبا’ره فلن يتهاون عن حق هذا المسكين مهما حدث، أنفاسه كانت مثقـ.ـلة وكان مترقبًا تلقي الجواب الذي إما سيُريح قلبه أو سيزيد الأمر سو’ءًا ويرتكب خطًـ.ـأ فا’دحًا، بينما كان “يعقـوب” يقف أمامه بمشاعر مختلفة هذه المرة عن السابق، كان جامدًا لا يها’ب إن تحدث وقال الحقيقة فهو مَن طلب في بادئ الأمر أن يتحدث ويُخبرهم مَن المتسـ.ـبب في ذلك..
اصطدمت عيناه التي حملت القسو’ة والشـ.ـر بعينان هذا الذي كان يترقب سماع أسم الفاعل والذي بعدها سيحر’ق المكان بمَن فيه مثلما أعتادوا مِنْهُ حينما يتم إيذ’اء أحبابه:
_”فتـوح الجز’ار” هو اللِ بلّـ.ـغ عن “رمـزي” أ’من الدولة، وهو اللِ كان ماسك خيو’ط اللعبة، عنده واسطة تقـ.ـيلة جوّه فكان بيعرف يعذ’به زي ما هو عايز وهو قاعد فالمحل وحاطط رجل على رجل، ولمَ رجع برغم إنُه أضا’يق مِن رجوعه بس كان مبسوط لمَ شافه مكسو’ر ومش قادر يعمل حاجة لوحده، وقتها قالِ أنا اللِ بلّـ.ـغت عنُه يا “عصفـورة” ومش ند’مان، مش هنسى اللحظة دي مهما حصل ووقتها أستحقـ.ـرته أوي، أذ’ىٰ واحد كان بيخا’ف يئذ’ى نملة، أنا فضلت متعذ’ب بعدها برغم إنِ مليش علا’قة بالموضوع بس ضميري كان بيو’جعني أوي يا “يـوسف” كُلّ ما أفتكر إنِ عارف وساكت، لحد ما الموضوع بينا أتحل ووصلت المركب بيا لحد هنا قولت مبدهاش خر’اب بخر’اب أنا مش قادر أسكت أكتر مِن كدا.
كانت الصدمة حاضرة على وجه “يـوسف” الذي جحظت عيناه مصدومًا حينما أستمع إلى حديث صديقه الذي أصا’ب ضر’بته باحترافية وستكون العامل الأكبر في تحريك الو’حش الكامن بداخله، كان الشـ.ـك بداخله ولكن يُريد إثباتًا كي يصدُق هذا الشـ.ـك ويكون الحق معهُ حينما يُقرر التحرُك، الغضـ.ـب تمكن مِنْهُ وأُظلـ.ـم المكان مِن حوله بعد أن تمكن شيطا’نه مِنْهُ في هذه اللحظة وحضر العزيز الذي يعلم كيف يأتي بحقه حتى ولو كان بداخل فـ.ـم الأسـ.ـد..
وقبل أن يصر’خ ويتهو’ر ويُد’مر ما حوله أوقفه تواجد الآخر الذي حضر، وسمع، وعَلِمَ مَن تسـ.ـبب في تد’ميره، نظر لهُ مصدومًا مجحظ العينين حيثُ كان هو يقف خلف “يعقـوب” على عتبة الغرفة مصدومًا وجسـ.ـده متـ.ـصلب مِن هول الصدمة، تعجب “يعقـوب” مِن تحو’له المفاجئ ثمّ ألتفت بنصف جسـ.ـده ينظر خلفه ليراه حاضرًا والصدمة هي المتحـ.ـكمة بهِ..
حضر “رمـزي” وتلقى ضر’بة جديدة جعلته أضـ.ـعف مِمَّ كان عليه في هذه الليلة، خيّـ.ـم الحزن عيناه وغلفها عَبراته التي أوضحت كـ.ـسرته، تثا’قلت أنفاسه وشَعَر بثـ.ـقل في رأسه وضبا’ب أسو’د يحو’م أمام عيناه، حالة تلبسته ليكون أول مَن يَمُد يَده لهُ هو نفسُه هذا الحبيب الذي كان وفيًا لأحبابه..
_”رمـزي” أنتَ كويس ..!!
نطق بها “يـوسف” مرعو’بًا حينما رأى حالته التي فاجئته داعمًا ثقـ.ـل جسـ.ـده وقلبه ينبـ.ـض بجنو’ن داخل صدره خو’فًا عليه، أقترب “يعقـوب” مِنْهُ واضعًا المقعد بالقرب مِنْهُ ثمّ ساعد “يـوسف” بإجلاسه عليه:
_”رمـزي” أنتَ سامعني؟ إيه اللِ حصلك فجأة متر’عبنيش عليك.
جاوره “يعقـوب” الذي انحنى بنصفه العلوي نحوه ينظر لهُ متفحصًا إياه ليأتيه صوت “يـوسف” الذي كان يعبث في هاتفه:
_أنا هطلبله دكتور.
_وأنا كيس جوافة قدامك يعني؟.
نظر لهُ ليراه يرفع بصره مِن على شاشة هاتفه وهو يُطالعه بنظرةٍ تملؤها الذهول والصدمة في آنٍ واحد يُنكر ما سمعه قبل قليل، بينما عاد “يعقـوب” ينظر إلى “رمـزي” متفحصًا إياه قائلًا:
_أنا دكتور يا “يـوسف”، في حاجات كتير أنتَ لسه متعرفهاش عنّي.
أمسك برسغه يقيس نبـ.ـضه لمدة دقيقة ثمّ بدأ بإفاقته حينما شَعَر بنبـ.ـضه المنتظم قائلًا بنبرةٍ هادئة:
_دي حالة إغما’ء، متحمـ.ـلش وعقله مقد’رش يستوعب الحقيقة.
اقترب “يـوسف” مِنْهُ يجاوره وهو مازال ينظر لهُ مصدومًا يُحاول استيعاب ما قيل لهُ ولكن لا يستطيع، فكيف هذا كان هو نفس الشخص الذي كان مع عد’وه، شخصيتين متناقضان، لوهلة رآه يُشبهه، كلاهما كانا شخصين في الماضي واليوم هما شخصين آخرين في الحاضر ولكن كان الفارق الوحيد بينهما أن “يعقـوب” يعلم شخصه القديم، ولكن هو كان لا يعلم وظن أن هذه الشخصية هي شخصيته منذ الصغر..
بعد مرور القليل مِن الوقت،
عاد الو’عي إلى “رمـزي” الذي كان هادئًا على غير عادته شارد الذهن ملتزم الصمت، صمته المر’يب هذا جعل القـ.ـلق يغـ.ـزو قلب رفيقه الذي كان يقف بالقرب مِنْهُ ينظر لهُ بشفقة، كان “يعقـوب” يُراقب الوضع بصمتٍ تام منذ خمسة عشر دقيقة، كان في هذه اللحظة يُفكر حتى أطرأت بطلتها عليهم بعد أن أخبرها “يـوسف” بما حدث..
انعكس ظلها على “رمـزي” الذي كان شاردًا يُحاول أن يتذكّر إن كان قد قام بإيذ’اء “فتـوح” مِن قبل دون أن يشعُر هو أم لا، فلا يجد المبرر حتى هذه اللحظة لفعلته فعلى يَديه رأى الجحيـ.ـم وبرغم ذلك ظل صامدًا كالجبـ.ـل لم يُعلن إنكسا’ره، نظرت إلى “يـوسف” الذي أشار لها نحو رفيقه دون أن يتحدث لتُقـ.ـطع المسافة بخطواتها نحوه حتى وقفت أمامه..
لم يرفع عيناه لها ولم يرمش لهُ جفنٌ وكأنه مغـ.ـيبًا عن العالم، نظرت بقـ.ـلقٍ إليهما ثمّ عادت تنظر لهُ، مدت كفها تضعه أعلى كتفه مشد’دةً عليه برفقٍ تكسـ.ـر حِدَّ’ة هذا الصمت بقولها الهادئ:
_”رمـزي” أنتَ كويس؟.
استطاعت وبكُلّ سهولة أخترا’قه وتشـ.ـتيت عقله الذي كان لا يتوقف عن التفكير بالأمر يأمل أن يتذكّر شيئًا فعله لهُ دون أن ينتبه د’فع الآخر للثأ’ر مِنْهُ، ولكن حتى وإن كان الأمر هكذا ليس مبررًا أن يجعل الآخر ينتقـ.ـم مِنْهُ بهذه الطريقة، رفع رأسه نحوها لتصطدم عيناه التي كانت نظرتها مكسو’رة بعينيها التي كانت تحمل الشفقة لهُ وكأنها تضم عيناه في عناقٍ حنون تؤازرها وتعتذر على شيءٍ لم تقترفه هي..
_”فتـوح” أذا’ني يا “تسنيـم”، “فتـوح” دخلّني المعتـ.ـقل عشان أتعذ’ب فالدُنيا قبل الآخرة، “فتـوح” طـ.ـعني برغم إنِ مديتلُه إيدي عشان أساعده، قولت يمكن يقبل مساعدتِ ويتغيّر بجد للأحسن، فكرت إنُه عايز يتغيّر للأحسن بس مش لاقي اللِ يمدله إيده وياخده للطريق الصح، أنا عُمري ما أذ’يته ولا فكرت أأذ’يه بالعكس، بس هو د’اس عليا أوي وطعـ.ـنِ فضهري غد’ر، ليه يعمل معايا كدا يا “تسنيـم” أنا عُمري ما اتمنيت غير كُلّ الخير لكُلّ اللِ حواليا، أنا شوفت عذا’ب حياتِ كُلّها فشهر وكان على إيده ليه يعمل فيا كدا أنا مستاهلش اللِ جرالِ.
يشـ.ـكو وكأنه طفلٌ صغير قـ.ـست عليه الحياة ولم يجد سوى أحضان والدته تحتويه وتؤازره، نبرته كانت مرتجفة، مكسو’رة، متأ’لمة، تلبـ.ـسته ثلاث حالاتٍ في حالة واحدة في نفس الوقت زادت مِن حِدَّ’ة الأ’لم في قلبها وجعلت عَبراتها تسـ.ـقط على صفحة وجهها بعد أن رأت زوجها يُعلن عن سقو’طه ونجاح الأعد’اء عليه بعد أن طالت حر’بٌ ليست بحر’به، ود’فع فيها الثمن غا’ليًا ومجبو’رًا..
إنها’ر باكيًا في أحضانها بعد أن رأى الوجه الآخر لهذا الو’حش الذي كان مستعدًا لأن يثأ’ر مِن مَن حوله مهما كان لأجل مصالحه الشخصية وتلذذه برؤية جميع مَن حوله مُعذ’بين، وكانت هي الأمن والأمان لهُ، الحائط الذي لا يميـ.ـل إن قرر هو الميـ.ـل، الأيدي التي ستظل تنتشـ.ـله مِن بقا’عه السو’دا’ء كلما آن بهِ الأوان للسقو’ط، الحا’مي الوحيد لهُ إن تكا’ثرت حوله الذ’ئاب الجا’ئعة..
_أنا عُمري ما فكرت أأذ’ي حد حتى لو كان أذ’يني ١٠٠٠ مرَّة، بس ليه يوم ما أتئذ’ي يكون الأذ’ىٰ جا’حد كدا دا الكا’فر كان هيكون عنده رحمة شوية ومش هيفكر فيها، الحر’ب وسعت أوي وأنا مبقتش قادر أكمل فيها وأنا بتئذ’ي.
حديثه مو’جع وقا’سٍ بشـ.ـدة، آ’لم قلوبهم وسكنت الغـ.ـصَّة في صدورهم، وكان هو أول مَن تجرع الأ’لم على يَديه بهذه القسو’ة، رَبّتت على ظهره بحنوٍ وبقولها رَبّتت على قلبه الد’امي الذي كان لا يتوقف نز’يفه:
_معقولة يا “رمـزي” نسيت كُلّ حاجة قولتهالِ، نسيت الرسول ﷺ قال إيه للسيدة “فاطمة” ولسيدنا “عُمر”؟ طب هفكرك تانِ يمكن الشيطان أستغلك ونَسْاك، الرسول ﷺ قال للسيدة “فاطمة”، يا “فاطمة” إصبِري على مرارة الدنيا لنعيم الآخرة، ومرَّة قال لسيدنا “عُمر”، يا “عُمر” إنَمَا هي أيَامٌ تَمْضِي لا تَحزَن، يعني الدنيا دي فانية مش دايمة ولا تستاهل إننا نحر’ق نفسنا فيها وإحنا مستنينا حياة أبدية تانية أحلى بكتير، مفيهاش و’جع ولا غد’ر ولا قسو’ة، ولا فيها نفوس و’حشة، فيها الراحة والحُب والسكينة، فيها اللِ كان نفسنا نعيشه هنا، نسيت لمَ مرّيت بأصعـ.ـب مِن كدا وعديت وأنتَ واقف على رجليك مو’قعتش، فين تحليك بصبر “أيوب”؟.
شَعَر وكأنها تُعاتبه، أو رُبما تلومه، فكان هو مَن يقول لها ذلك في الأمس ويُشجعها على التحلي بالصبر كما كان صبر “أيوب” ويقينه بالله كبيرًا، بدأ يعود إلى شخصه الذي يعهده هو بعد أن أستـ.ـغله الشيطا’ن في لحظة ضـ.ـعفه، ولأنها جزءًا مِنْهُ تعلم جيدًا كيف يعود إلى رُشده أضافت آية قرآنية تطمئن قلبه وتُد’اوي جرو’حًا تُشـ.ـفى بحديث المولىٰ عز وجل:
_﷽《 أَلَم نَشرَح لَكَ صَدرَكَ ۞ وَوَضَعنا عَنكَ وِزرَكَ ۞ الَّذي أَنقَضَ ظَهرَكَ ۞ وَرَفَعنا لَكَ ذِكرَكَ ۞ فَإِنَّ مَعَ العُسرِ يُسرًا ۞ إِنَّ مَعَ العُسرِ يُسرًا ۞ فَإِذا فَرَغتَ فَانصَب ۞ وَإِلى رَبِّكَ فَارغَب》.
محظوظًا مَن يَملُك زوجة كـ “تسنيـم”، تعلم كيف تُد’اوي جرو’ح القلب وآلآ’م الرو’ح، هذه المرَّة كانت هي المُدا’وية لجرو’حه بكلمات الله عز وجل، تُذكّره إن تعسرت تيسرت، فقد تعسرت كثيرًا وتيسرت بعدها ورضى بما أعطاه الله لهُ حامدًا وشاكرًا، تأثر “يعقـوب” كثيرًا بحديثها وأسلوبها لأحتواء زوجها ومؤازرته، فلم تستعن بكلماتٍ تُزيد مِن حِدَّ’ة الأ’لم، بل أختارت كلماتٍ تُدا’وي رو’حه وتشفي جر’وحه وتُربّت على قلبه المو’جوع..
_يا أخي دا أنتَ ربنا مديك نعمة تفضل تشكره عليها لحد ما ترو’حله، شوفت، الطيبات للطيبين وأنتَ ربنا رزقك بزوجة تتشا’ل فالعين واللهِ أنا نَفسي دمعت وكلامها لَمَـ.ـس قلبي دي هَونت عليك لـ ٣ أسابيع قدام.
ما ألطفك يا “يعقـوب”، وما أحنك، فقد أراد أن يكون جزءًا مِن أحتواء صديقه في مـ.ـصيبته حتى يرضى عن نفسُه وينعم بالراحة بعدها، أبتعد “رمـزي” عنها يمسح وجهه بكفيه بعد أن شَعَر بالسكينة تُسكن قلبه مِن جديد، والراحة عادت إلى ر’وحه تُعيدها مجددًا إلى الحياة، لم يخجل حينما قرر أن يشكرها على إيقاظها لهُ مِن ها’وية الظلا’م التي كادت تبـ.ـتلعه وأعادته مجددًا إلى سابق عهده قويًا، أقترب مِنها يُلثم جبينها بامتنانٍ ثمّ ضمها..
الد’فء والطمأنينة كانا يسكنان هذا العناق الحنون، عَلِمَت أن هذا هو زوجها، عاد مجددًا يقف على قدميه بعد أن تلقى ضر’بةً قو’ية فوق رأسه كادت أن تُسـ.ـقطه إلى الأبد فما رآه لم يكُن هينًا عليه حتى وإن أثبت العكس، أبتعد عنها ينظر إلى عينيها مباشرةً نظرة تُغلفها الحُبّ والعاطفة والامتنان، فكلاهما يُكملان بعضهما فلا يعيش المرء بنصـ.ـف قلب ..!!
_”يعقـوب” كلامه صح، أنا كـ “يـوسف” اللِ مبيتأ’ثرش بسرعة أتأ’ثر.
_قصدك كـ “جعفـر” الجبلة معدو’م المشاعر اللِ شبه التو’ر الها’يج فالميدان.
رد “يعقـوب” مصححًا قول صديقه الذي نظر لهُ نظرةٍ قا’تلة دون أن يتحدث، جاء قول “رمـزي” الذي نظر لهما وتبسم ضاحكًا:
_عنده حق بصراحة متبصلهوش كدا، أنتَ محتاج مراية عشان تشوف نفسك لمَ “جعفـر” بيحضر بتبقَ صعـ.ـب أوي يا صاحبِ.
أتسعت بسمةُ “يعقـوب” التي أظهرت أسنانه البيضاء المتراصة ونظر إلى “يـوسف” الذي قال بنبرةٍ ساخرة ردًا على قول “يعقـوب”:
_أصمالله يا رو’ح أمّك عليك ملاك بجنا’حات، دا أنتَ بتبقَ شبه المختـ.ـل لو حد بس د’اسلك على طرف، آخر مرَّة أتخا’نق فيها كان شبه الضبا’ع الصعـ.ـرانة اللِ بتاكل فبعضها.
سـ.ـدد لهُ لكـ.ـمة خفيفة على ذراعه وهو يضحك لينظر لهُ “يـوسف” متشفيًا بعد أن راضى نفسُه وشخصه الآخر، أقترب “يعقـوب” مِن “رمـزي” معانقًا إياه مبتسمًا ليُبادله “رمـزي” عناقه وهو يسمعه يقول بنبرةٍ هادئة:
_عارف إنك أتو’جعت وحقك أنتَ عُمرك ما أذ’يت حد بس صدقني يا “رمـزي” هتبقَ بتر’تكب أكبر غـ.ـلط لو سكتله، لازم تاخد موقف على الأقل قوي مينفعش يغـ.ـلط ويتما’دى وإحنا نسكُتله.
أخرج “رمـزي” زفيرة عميقة ثمّ قال بنبرةٍ هادئة:
_أعمل إيه طيب يا “يعقـوب”.
أبتعد الآخر عنهُ ينظر لهُ في هذه اللحظة مجيبًا إياه مبتسمًا بسمةٌ سوداء لا تَنُم على الخير:
_هنعمل، هنعمل كتير أوي، إن ما قال حقِ بر’قبتِ مبقاش “يعقـوب”.
كان هو البداية والنهاية، كان العمو’د الفقـ.ـري لتلك المعر’كة، إن غفـ.ـل قليلًا وأغو’اه الضلا’ل فسيأتِ الغـوث يكـ.ـسر حِدَّ’ة ظلا’مه بنوره الوهج يُعيده إلى حيث عهد هو نفسه.
_______________________
<“حاول إصلاح الأمور، فجعلها أسو’أ.”>
كانت بعيدة، بعيدة عن عمـ.ـدٍ، وكأنها تتلذذ بتعذ’يبه،
كان كلما حاول الاقتراب مِنها والتحدث معها تختلق أعذارًا كا’ذبة وتتهر’ب مِنْهُ وكأن و’حشًا يُطا’ردها ويسعى للنَيـ.ـل مِنها، واليوم كانت تجلس وحيدة في الكافيه الخاص بالشركة بعد أن شَعَرت بالاختنا’ق يكاد يقتـ.ـلها وقررت ترك كُلّ شيءٍ والجلوس وحدها تنعم بالهدوء الذي باتت تفتقده..
كان يُرا’قبها طيلة الوقت، عيناه لم تغفـ.ـل عنها وكأنه إذا فعل ذلك ستختـ.ـفي وكأنَ لم يكُن لوجودها إثرًا، حاول هذه المرة التقرُب مِنها والتحدث فقد شَعَر بحاجة للتحدث وإخراج ما في جعبته حتى يشعُر بالحُـ.ـرية التي كانت مسلو’بةٌ مِنْهُ ويبحث عنها بلا فائدة فلن يستمر في دائرة العُزلة هذه لوقتٍ طويل، وبعد التردد والخو’ف الذي كان يُلا’زمه قرر تحدي نفسُه وكـ.ـسر هذا الشعور الذي يأبى تركه..
تقدّم مِنها بخطى هادئة برغم توتره البائن على وجهه وحركات جسـ.ـده وخطواته، لن يخو’ض حر’بًا ويخسرها هذه المرة يُريد أن ينعم بلذة الانتصا’ر وإن كان لمرة واحدة فقط، جذب المقعد الذي يُقابلها وجلس فوقه بهدوءٍ ظاهري دون أن ينبث بحرفٍ واحد، اصطدمت عيناها بعينه التي كانت متو’ترة بعض الشيء وتخـ.ـشى الر’فض مِنها هي هذه المرة، ولأنها ماهرة في لغة الأعين لم تر’فض وجوده هذه المرة بل تركته حتى يقول ما يُريد بدون أيا تدخلاتٍ مِنها..
تثا’قلت أنفاسه وتندى جبينه وتهر’بت عيناه مِن المُلتقىٰ فلا يعلم كيف يبدأ، فلا يغرنكَ مظهرها المُرتب خارجيًا لأنَّهُ مبعثرًا مِن الداخل ولا يعلم كيف يُعيد ترتيب نفسُه مِن جديد، أخرج زفيرة قوية لعل هذا الثقـ.ـل الذي بقلبه يقل ولو قليلًا:
_”ريم” بصراحة أنا، أنا مش عارف مالِ، معرفش ليه جيت أقعد معاكِ، بس حسيت يعني إنك مضا’يقة مِن الصبح ومش على عوايدك، قولت يعني بما إنِ قاعد لوحدي ودماغِ مش ر’حمانِ أجي أقعد معاكِ، يمكن نشغل بعض ومديش فرصة لدماغِ تودينِ وتجبني أكتر مِن كدا … لو حابة تتكلمِ أنا سامعك.
حاول جذبها إليه وخلق أحاديثٍ لا تُناسب ما كان منتويًا عليه، فيُريد أن يبدأ الطريق صحيحًا هذه المرة حتى تُتيح إليه الفرصة للعيش مجددًا مثلما تمنىٰ، فكرت قليلًا بينها وبين نفسها في الأمر لترى أنها بالفعل تُريد أن تتحدث فإن ظلت صامتة أكثر مِن ذلك ستفقـ.ـد عقلها، أعتدلت في جلستها واسندت بذراعيها على سطح الطاولة ونظرت لهُ هُنَيْهة ترى تركيزه أنصب عليها منتظرًا سماعها، تركت نفسها هذه المرة للأموا’ج تُحركها كيفما تشاء بدون أن تُرتب الكلمات مثل كُلّ مرَّة فقد أر’هقها الكتما’ن:
_مِن صُغري وأنا دلوعة بابا، اللِ أقوله بيتنفذ على طول سواء طلبت حاجة أو ر’فضت حاجة، كُنت الحُبّ كُلّه، ماما كانت ساعات بتضا’يق وبتغير بس بابا كان بيعرف يراضيها، لمَ كبرت ودخلت الجامعة ومصاريفِ زادت أشتغل بدل الشُغلانة ٢ كان بيقضي الليل فالشغل وييجي ٦ الصبح ينام ٥ ساعات ويصحى تانِ عشان يروح الشغل التانِ، محر’منيش مِن حاجة خالص ولا فرض رأيه عليا خالص، بعد ما أتخرجت ابن عمّي اتقدملِ، أنا مكُنتش بحبُه فر’فضته وقولت لبابا أنا مبحبهوش، بابا قاله كُلّ شيء قسمة ونصيب مش هيقوله بنتِ بتكر’هك، أشتغلت فشركة وابن صاحب الشركة أُعجب بيا وأتقدملِ، وقتها حسيت بحاجة لِيه فوافقت، مكُنتش أعرف إنِ ساذجة بالطريقة دي..
_ابن عمّي مسكتش وكان مضا’يق ومغـ.ـلول وقعد يتو’عدلِ وأنا كُنت بروح أقول لبابا، لدرجة إن بابا أتخا’نق مع أخوه بسببه وقـ.ـطعوا بعض عمّي دا أصلًا بتاع مصلحته لِيه عندك مصلحة تبقَ حبيبُه تخلص المصلحة شكرًا، مكملتش الخطوبة وفركشت عشان كان غيور بطريقة أوڤر وبيتعـ.ـصب على أقل حاجة، ابن عمّي كان فرحان أوي وحاول معايا تانِ بس أنا كُنت بصـ.ـده، هو كان معجب بس بشكلِ الخارجِ، حلوة وجاية على مزاجه، أنا كُنت عايزة يحبني مِن جوايا، يقبل “ريم” كروح مش كجسـ.ـم، بدأ يضا’يقني فالرايحة والجاية ويحاول يقرّ’ب مِني، كُنت بخا’ف مِنُه وبهر’ب مِن المكان اللِ هو فيه وبر’فض أروح مكان هو فيه..
قا’طعها صوته الذي تدخل مُعبرًا عن غيظه مِنْهُ بقوله الحا’د:
_أنا عارف الفصيلة دي كويس، بتسعى لإرضاء نفسها حتى لو على حساب غيرها، بس أقولك على حاجة أنا ر’اجل زيي زيُه بس هو ر’اجل بيشوف الأ’نثى على إنها فر’يسة وهو الصيا’د بيعرف يلف عليها ولو صـ.ـدته مبييأسش غير لمَ ياخدها.
أبتسمت ساخرة بزاوية فمها بعد أن أفصح عن ما كانت ستقوله بعدها، نظرت لهُ ونطقت بنبرةٍ تهكمية:
_شكلكم حافظين بعض كلكم.
أخرج “حليـم” زفيرة هادئة ثمّ تراجع إلى الخلف وأسند ظهره إلى مسند المقعد ونظر إليها بأهتمامٍ أشـ.ـد وجاوبها بنبرةٍ سلسة:
_دي حاجة مفروغ مِنها، زي ما أنتم كستات بتفهموا بعض برضوا ولا هو حلو ليكم ووحش لينا يعني؟.
ردت عليه تتجا’هل قوله حينما شَعَرت أنَّهُ سيُخلق جدلًا لا آخر لهُ بقولها:
_تمام مش هنختلف كتير المهم، حاولت أهر’ب مِنُه كتير بس للأسف جَت لحظة أنا لسه لحد دلوقتِ بعتبرها أسو’أ لحظة فحياتِ وهتفضل كدا لحد ما أمو’ت، حا’دثة بشـ.ـعة د’مرتني، خلتني أخا’ف مِن العلا’قات والر’جالة بشكل عمومي، كُنت فالبيت لوحدي كلهم وقتها سابوني وراحوا يزوروا عمّي التانِ عشان كان تعبا’ن وأنا مقدرتش أروح معاهم فاليوم دا، عارف يا “حليـم” لمَ تبقَ فاكر إنك قاعد فبيتك يعني الأمان كُلّه ومش بتفكر فالأذ’ىٰ وأنتَ جواه لأن دا سكينتك، هو مكان كدا بالنسبة لي بعدها، معرفش دخل أزاي وجه أوضتِ مِن غير ما أحس بيه أزاي مش عارفة، فجأة لقيت اللِ بيهجـ.ـم عليا وأنا عقلِ وقتها خد رد فعل سريع وبقيت بدا’فع عن نفسي وبحاول أبعده عنّي، كان نفسي أهر’ب بس معرفتش، حصل اللِ حصل وهر’ب بعد ما الجيران أتـ.ـلمت، كانت لحظة صـ.ـعبة أوي وأنا ضعـ.ـيفة ومر’مية عالسرير بتمنىٰ المو’ت فاللحظة دي..
_أنا كُنت هدا’فع عن نفسي وههر’ب بس الفرصة مكانتش عندي للأسف، حب يند’مني ساعتها ويا ريتني مو’ت قبلها على الأقل همو’ت شـ.ـريفة، الجيران خدوني عالمستشفى وأهلي عرفوا وأتفتح محضر وهو هر’ب زي الكـ.ـلب الجبا’ن، جاتلِ حالة هلـ.ـع بعدها بقيت أخا’ف مِن حد يقرّب مِني خصوصًا لو ر’اجل، صوتِ أتنبـ.ـح يوم الحا’دثة مِن صر’يخِ اللِ موقفش وبدعِ ربنا وأناجيه وأقوله يا ربّ نجيني، يا ربّ أتوسل إليك نجيني، قعدت فترة زي المجنو’نة حرفيًا، مرَّة كُنت هقتـ.ـل بابا عشان قرّب مِني وكان عايز يحط البطانية على جسـ.ـمي عشان الجَو كان ساقع، ها’جمته كأنه هو اللِ قدامِ وشا’لوني بالعافية، روحت بقى لدكتورة نفسية عشان ابدأ اتعالج بس كُنت بنها’ر كتير أوي وأقعد أعيط كُلّ ما أفتكر، لحد دلوقتِ بروحلها، بس بجد أنا صعبا’ن عليا نفسي أوي، أتكـ.ـسرت مِن جوايا ولحد دلوقتِ محدش قابل بيا مع إنِ كُنت ممكن أغـ.ـشهم وأروح لدكتورة وكأن محصلش حاجة بس مردتش، وبصراحة أنا مش حابة خلاص، خو’فت أوي.
كلماتها الأخيرة لا’مستان فؤاده، كانت نبرتها تضـ.ـعف تدريجيًا، تُعلن عن فشـ.ـلها، وعن خو’فٍ سكنها منذ هذا اليوم، لم يكُن مجرد حا’دث عا’بر، بل كان حا’دث ذا و’صمة في رو’حها، تلك الرو’ح النقـ.ـية طُـ.ـعنت وسكن الأ’لم تدريجيًا في قلبها، كالمر’ض الملعو’ن الذي يتسـ.ـلل ببطءٍ داخل الجسـ.ـد، حاولت أن تكون قوية، أن تتحلىٰ بشجاعة زا’ئفة أمامه، ولكن كان الضعـ.ـف رفيقًا لها..
صمتٌ يخـ.ـنق المكان، لكن بداخلها صر’خات تعـ.ـصف بها، بينما كان هو حاضرًا، يُعذ’ب مثلها بعد أن صوّر لهُ العقل هذا المشهد المؤ’لم، شَعَر بأن صدره يضـ.ـيق، وتتثا’قل أنفاسه، صدره يعلو ويهبط، وكأن الهواء أصبح ثقيـ.ـلًا يستحـ.ـيل استنشاقه، قبـ.ـضة يَده تر’تجف برغم ثباتها الظاهري، نبـ.ـضه يتسارع وكأنما يخوض حر’بًا بين الغضـ.ـب والأ’لم، عيناه برغم ثباتهما ولكن كانت الكسـ.ـرة في أعماقها..
بكت هي بعد فشـ.ـلها في التماسك بحبا’ل الأمل الذ’ابلة، هي أضـ.ـعف مِن ذلك، ليست بهذه الشجاعة التي تظنّها هي، حاولت وكانت مجاولاته تبوء بالفشـ.ـل في كُلّ مرَّة وكأنها تُعا’ندها، وما عر’كل سير الأمور إفصا’ح حقيقتها أمام هذا الغريب، ولكن برغم ذلك، كانت تُريد أن تبوح عمَّ في جعبتها بأيا طريقة كانت، وحتى لا يضع أملًا ميئو’سٌ مِنْهُ بها، كان الصمت بينهما قائمًا، وكلاهما في صرا’عاتٍ داخلية مختلفة..
تحرك بنصفه العلوي إلى الأمام مسندًا بمرفقيه إلى سطح الطاولة وهو ينظر لها، لم تكُن نظرة نفو’ر، أو نظرة غاضبة، كانت لينة في التحديق بها، ود’افئة في أحتواءها لها وكأنها قطعة ألماس ثمينة يخشى سقو’طها، أشرقت الشمس ونشرت وميضها بين ظلا’م الماضِ، تُخبرهم أن الحياة مازالت تنتظرهما، لا يجب أن نقف عند المحطة السو’دا’ء ونُعلن أستسلا’منا، فبإمكاننا أن نتخطى ونمضي قُدُمًا، بسمةٌ حنونة أرتسمت على ثَغْره ود’فئًا في نبرة صوته لم تشعُر بها مِن قبل عندما قال:
_الحياة مليانة دروس وعِبر، مش كُلّها حلوة وبتضحكلنا، ولا كُلّها و’حشة ومبو’ذة، في كفتين عايزين يتطابقوا ودي مش سهلة لأي إنسان، زي المعادلة تقدري تكافئي بين إنك تشتغلِ فالشركة وتروحِ البيت تكملِ شغل هناك؟ أكيد لا في استراحة، في محطة نقف ناخد نفسنا فيها عشان نرجع نكمل بشغف تانِ، وأنتِ مينفعش تكملِ فالنكـ.ـسة دي كتير، دا أسمه أنتقا’م النفس لنفسها حاولِ تعيشِ، حاولِ تحبّي الحياة وتعيشِ تانِ، هو فرح لمَ قدر يكسـ.ـر عينك، بس أنتِ قادرة دلوقتِ تكسـ.ـريه هو شخصيًا، ترجعِ لحياتك تتقبلِ الواقع اللِ بقيتِ فيه ولو في قضا’يا بينكم كملِ فيها خلّيه يتسجـ.ـن وخُدي حقك، دي أكبر مكافأة تقدري تكافئي بيها نفسك يا “ريم”، أنتِ قدها أنا واثق فيكِ.
تحفيزٌ قو’ي، عزيمة لا آخر لها، قوة وتشجيع لا مثيل لهُ، حاول إعادتها للحياة مِن جديد، حاول أن يبث فيها رو’حها المفقو’دة، فلن يقبل استسلا’مها ذاك اليوم بل يُريدها أقوى، وبين ظلا’مها الحا’لك ذاك وميض قو’ي كسـ.ـره وانتشـ.ـر حولها، يُخبرها أن الحياة لا تقف في محطة واحدة، بل قطارها يظل مستمرًا في السير ولا يقبل التوقف مهما كانت الظروف عـ.ـصيبة مِن حوله..
مسحت على صفحة وجهها بكفيها تُخـ.ـفي أثا’ر البُكاء بعد أن حفزتها كلماته وغر’زت بداخلها العزيمة والأصر’ار، كانت محطة سو’د’اء وأخذت ما يكفيها مِن الوقت، الآن حان وقت الاستمرارية، نظرت لهُ لتصطدم عيناها بعينيه بمشاعر مختلفة، هذه المرة كان الفضل لهُ لأنه وحده مَن أستطاع إخترا’ق ظلا’مها هذا وإنتشا’لها نحو الطريق الصحيح:
_أنتَ أزاي كدا؟ بتتكلم عن القوة وعدم اليأس والاستمرارية وأنتَ متقلش حاجة عنّي، زيك زيي، بتتعالج نفسيًا بسبب والدك وحياتك شبه مد’مرة، واللِ يشوفك بتنصحني دلوقتِ يقول إنك أخصائي فالطب النفسي.
أتسعت البسمةُ على ثَغْره حتى برزت أسنانه البيضاء المتراصة، أخرج زفيرة عميقة وقال بنبرةٍ هادئة:
_متعلمتش ببلاش يا “ريم” صدقني، الدرس كان قا’سِ أوي عليا و ٤ سنين مِن حياتِ ضا’عوا وأنا فالمصـ.ـحة بتد’مر فيها كُلّ يوم، منكـ.ـرش إن الد’مار جوايا كبير، بس لسه عايش وبحاول ألحق الحياة وأعيش معاها اللحظات الحلوة، فالطب النفسي بالذات الموضوع فيه صعـ.ـب ومحتاج وقت، التعافي مش مستحـ.ـيل، بس إيه اللِ مستنينا بعد التعافي؟ سؤال مهم محتاج إجابة صريحة، وعشان كدا قررت اكسـ.ـر عين اللِ كسـ.ـرنِ وأخلّيه يند’م طول حياته لحد ما الند’م يقـ.ـتله مكانه، هو نجح يو’قعنِ، بس مقدرش يكسـ.ـرنِ، وأنا مش حابب أستسـ.ـلم، عشان أنا عارف إنِ قد التحدي وقادر إنِ أخلّيه يعيط بدل الدموع د’م، هي دي العزيمة، ودا الإصرار
نظرت إليه نظرة مطولة قبل أن تسأله قائلة:
_للدرجة دي أنتَ كا’ره باباك.
أصبحت نظرته في هذه اللحظة باردة، ونبرته قد خَلَت مِن المشاعر حينما جاوبها قائلًا:
_أبويا ما’ت مِن زمان، أنا معنديش أب.
برغم بساطة الكلمات ولكنها مو’جعة بشـ.ـدة، خرجت مِنْهُ بصدقٍ تام، هكذا هو بالنسبة لهُ، وهكذا أنهى الموضوع متعهدًا لنفسُه عدم التحدث في هذا الأمر مجددًا، نظرت لهُ نظرةٍ تكسوها الحزن الد’فين وقالت:
_خلاص أنسى، خلّينا نغيّر الموضوع دا خالص ونتكلم فحاجة تانية أنا مش أقل مِنك فحاجة يعني.
أتسعت البسمةُ على ثَغْره ثمّ أصبحت ضحكات خفيفة وجاوبها:
_على رأيك، أتلم المتعوس على خايب الرجا.
ضحكت أخيرًا على كلماته وأسلوبه في التحدث، تدريجيًا بدأت تعتاد على تواجده معها في الشركة، حاولت أن تُعطي لنفسها فرصة جديدة للعيش، حاولت أن تلحق بالجميع وتعود إلى سابق عهدها حتى وإن تطلب الأمر مِنها الوقت فلا بأس، فأن تأتِ متأخرًا خيرًا مِن أن لا تأتِ.
________________________
<“ها’جمهم كالو’حش المصعو’ر ولم يعبأ لأحدٍ.”>
كانوا جميعهم يجتمعون مع بعضهم كعادتهم،
اليأس لم يغلب “يعقـوب” ولم يستسـ.ـلم مِن محاولاته مع “سـراج” الذي مازال يتجنبه وير’فض التعامل معهُ، وبين تلك الأحاديث شرد عقله قليلًا بعيدًا عنهم، جاءته الرؤية، ولكن هذه المرة كانت لـ “نورهان”، حينما ها’جمها “فتـوح” وحاول قتـ.ـلها، هربت بعيدًا وركضت لمسافات بعيدة ولكن وصل لها مِن جديد عاز’مًا على قتـ.ـلها..
نظر إلى أصدقائه بعد أن قرر بينه وبين نفسُه أن يتحرك لإغا’ثتها قاطعًا أحاديثهم بقوله المتو’تر:
_عايز أروح المنيا دلوقتِ حالًا.
أنتبهوا لهُ جميعهم والتعجب باديًا صفحات وجوههم جميعًا، ولكن كان هو بينهم يعلم جيدًا لِمَ طلب رفيقه هذا الطلب تحديدًا ولذلك تحدث بنبرةٍ هادئة وقال:
_عايز تروح ليه، شوفت حاجة؟.
نظر لهُ “رمـزي” وجاوبه بنبرةٍ هادئة قائلًا:
_آه، “فتـوح” مش هيعديها بالساهل كدا لا، دا مش هيسكت غير وهو عامل مصـ.ـيبة سو’دة، هيقتـ.ـل مراته ابن المجنو’نة.
نظر لهُ “يعقـوب” وقد تذكّر رؤيته لهُ في باكورة الصباح يستعد للرحيل ولذلك قال بنبرةٍ جادة:
_أنا شوفته الصبح وهو بيستعد عشان يمشي، هو لسه ماشي مِن شوية بس هيروحها مواصلات يعني عُقبال ما يوصل هياخد وقت.
رد عليه “يـوسف” بنبرةٍ هادئة بعد أن أتخذ قراره قائلًا:
_طب تعالى نتحرك مع بعض يلا.
_وأنا هاجي معاكم، أنا عارف “فتـوح” بيفكر فإيه وهيعمل إيه.
نظرا لهُ سويًا ليأتِ القول هذه المرة مِن “مُـنصف” الذي قال بنبرةٍ جادة:
_طب أتحركوا يلا مستنيين إيه، ألحـ.ـقوها بسرعة.
نظر “رمـزي” إلى رفيقه وقال بنبرةٍ هادئة لهُ:
_خلّينا نتحرك طيب.
تحركوا ثلاثتهم إلى السيارة تحت نظرات البقية لهم وحتى تحرك “يـوسف” بالسيارة راحلًا، تركهم “مُـنصف” واقترب مِن زوجته التي كانت تزور “فاطمة” يأخذ صغيرته مِنها، قرّبها مِنْهُ يُلثم خَدِّها الصغير بحنوٍ ثمّ حاوطها بذراعيه وهو ينظر لها مبتسم الوجه، تحدثت “شيرين” بنبرةٍ هادئة وهي تنظر لهُ:
_هتطلع ولا هتفضل معاهم شوية.
_لا أنا هفضل قاعد أطلعِ أنتِ.
كان مندمجًا مع صغيرته التي كانت تضع كفها الصغير الناعم على لحيته الخفيفة تجذبها برفقٍ بقبـ.ـضة يَدها الصغيرة، اقتربت مِنْهً وهي تَمُد كفيها نحو الصغيرة استعدادًا لأخذها ليوقفها هو بقوله:
_سيبيها معايا، خلّيها تشوف الشارع بدل ما هي فالبيت على طول وأطلعِ أنتِ.
زفرت هي بهدوءٍ ثمّ أبتسمت لهُ ورحلت إلى شقتها تاركةً الصغيرة معهُ، بينما عاد هو إلى أصدقائه ومعهُ صغيرته التي رنت ضحكتها وتوهجت لمعة عينيها حينما رأت “لؤي” أمامها، أقترب هو وأخذها مِن صديقه وهو يُلثم خَدِّها الصغير قائلًا بنبرةٍ ضاحكة:
_حبيبة قلبِ، وحشتيني يا سُكّر أبوكِ قافل عليكِ ما صدق.
ألتفتت الصغيرة برأسها تنظر إلى أبيها الذي كان يبتسم وهو يُتابعها بعيناه لتتسع ضحكتها وتعود إلى “لؤي” تضع كفها على لحيته التي أصبحت دُمية بالنسبةِ لها، تحدث “حسـن” مبتسمًا بنبرةٍ هادئة:
_ربنا يباركلك فيها زي القمر.
قبل أن يُجيبه صدح رنين هاتفه عاليًا يُعلنه عن أتصالٍ هاتفي مِن والدته ولذلك أستأذن مِنهم وأبتعد مجيبًا على هاتفه، جلس “لؤي” فوق المقعد الخـ.ـشبي وهو يُلاعب الصغيرة بينما أستأذن “سـراج” مِنهم ورحل حينما أخبرته زوجته بعودته عندما شَعَرت بالإر’هاق، جاور “حسـن” رفيقه يُشاركه ملاعبة الصغيرة حتى يعود رفيقهم ويجالسهم..
في منزل بعيد كُلّ البُعد عنهم،
في محافظة المنيا،
وبعد مرور ٤ ساعات،
كانت تجلس فوق مقعد الطاولة المستديرة المتواجدة في المطبخ شاردة الذهن تُفكر في حياتها المقبلة وما سيلحق بها، ومِن جهةٍ أخرى كانت تخشىٰ وصوله لها في أيا لحظة ومحاولته لإيذ’اءها ولذلك كانت تستعد في كُلّ لحظة للهر’ب إن ها’جمها، ولكن ما كان يجعلها مطمئنة وجود أخيها معها في المنزل..
كانت لحظات مِن الهدوء والسكينة التي تسبق العاصفة، كانت تجلس فوق فراشها بغرفتها تشاهد التلفاز، وكان أخيها يجلس في غرفة المعيشة يُراجع أوراق العمل الخاص بهِ، لحظة وكـ.ـسر حِدَّ’ة الصمت هذا طرقات فوق باب الشقة، نهض واقفًا يطمطأ ثمّ اقترب مِن الباب بخطى ثابتة يفتحه ليتفاجئ بالذي يهجـ.ـم عليه يُسـ.ـدد لهُ لكـ.ـمة قوية في وجهه..
_فاكرني هخا’ف واجيب ورا؟ مش “فتـوح الجز’ار” اللِ يتهـ.ـدد أنا بعمل اللِ عايزُه، هي فين ..!!
وصلها صر’اخه في الخارج لتنتـ.ـفض واقفة برُ’عبٍ، تسارع نبـ.ـضها وأصا’بها الخو’ف بشـ.ـدة، نظرت حولها تبحث عن مخرجٍ للهر’ب قبل أن يُمسك بها لتتجه بخطى واسعة إلى باب غرفتها الخلفي، وهو بابٌ يؤدي إلى الحديقة الخلفية للمنزل، خرجت ها’ربة كما أمرها أخيها إن ها’جمهم في أي وقت، ركضت في شوارع قريتها وهي لا تعلم أين هي ذاهبة، ولكن كُلّ ما تعرفه الآن أنها يجب أن تهرُ’ب وتنجـ.ـو بحياتها وحياة صغيرتها..
في المنزل، نهض أخيها يراه يبحث عنها في أرجاء المنزل متو’عدًا لها ليبتسم ساخرًا بزاوية فمه دون أن يتحدث، بينما كان “فتـوح” يبحث عنها كالثو’ر الها’ئج حتى باءت محاولاته بالفشـ.ـل، كان يتنفس بعـ.ـنفٍ وصدره يعلو ويهبط، شيطا’نه هو المتحكـ.ـم بهِ كالمعتاد وهذا ما يجعله يأخذ قراراتٍ متهو’رة تُفسـ.ـد كُلّ شيءٍ لهُ..
عاد إليه مجددًا بخطى واسعة وهو يصر’خ بهِ بإنفعا’لٍ شـ.ـديد:
_هر’بت مش كدا؟ بس عايزك تعرف كويس أوي إنِ هجيبها، هجيبها حتى لو كانت تحت الأر’ض وساعتها مفيش حاجة هتنجـ.ـدها مِني لا أنتَ ولا حتى العفـ.ـريت الأزرق ..!!
وقف الآخر أمامه شامخًا، لم يها’ب حالته ولم يهتـ.ـز حتى بداخله، أرتسمت بسمةٌ صفـ.ـراء على ثَغْره ونظر لهُ نظرةٍ باردة وقال بنبرةٍ هادئة للغاية:
_أعلى ما فخيلك أركبه ود’لدل رجليك يا “فتـوح”، الر’جالة مبتقولش، بتعمل يا حبيبِ، ولو هتعرف تجيبها جيبها ولو جيبتها مش هتقدر تعملها حاجة، وأنا اللِ قولتلها تهر’ب د’كر هاتها.
تحد’اه ولم يها’به، فكان قويًا بما يكفِ في هذه اللحظة للوقوف أمامه، فهذه ليست شقيقة، بل إبنته التي تربت على يَديه ولن يسمح لأحدٍ مِنهم أن يمـ.ـسها بسو’ء مهما كان، فبرغم أن الخيول حُـ.ـرة كانت تعلم كيف تروض خيّالها
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية جعفر البلطجي 3)