روايات

رواية سلانديرا الفصل التاسع عشر 19 بقلم اسماعيل موسى

رواية سلانديرا الفصل التاسع عشر 19 بقلم اسماعيل موسى

رواية سلانديرا البارت التاسع عشر

رواية سلانديرا الجزء التاسع عشر

سلانديرا
سلانديرا

رواية سلانديرا الحلقة التاسعة عشر

ظلت زافيرا تحدّق في الفراغ الذي تركه خاطر بعد اختفائه، عيناها لم ترفّا، وكأن روحها علقت بين الواقع والوهم، بين الحاضر والماضي. كانت أصابعها ما تزال تشعر بحرارة لمسته الأخيرة، لمسة وعدٍ أقسم أن يفي به، لكنه رحل قبل أن تمنحه الكلمات التي كانت تحترق بين شفتيها.
شيفان كان يقترب. خطواته فوق الدرج الحجري للقبو كانت ثابتة، لكنها لم تحمل تلك القوة التي عرفتها فيه من قبل. لقد شعر بأول طعم للهزيمة اليوم، ولأول مرة، لم يكن المنتصر المنتشي، بل كان مجرد أمير جريح يحاول أن يخفي ارتباكه خلف قناع الكبرياء.
لكن زافيرا لم تعد تهتم.
وقفت أمامه، نظراتها باردة، لم تنحنِ، لم تبتسم، ولم تبادر بأي كلمة ترحيب كما اعتادت. كانت تفكر فقط بخاطر.
“أين هو؟” سأل شيفان، نبرته متوترة رغم محاولته إخفاء ذلك.
رفعت زافيرا حاجبًا، وكأنها لم تفهم السؤال. “من؟”
زمجر شيفان وضاقت عيناه، لكنه لم يجد أثرًا للبشرى في القبو. لم يكن يستطيع أن يتهمها مباشرة، لكنه كان متأكدًا من أن خاطر لم يخرج من القصر وحده.
اقترب منها، قبض على ذراعها، لكن لمساته لم تحمل عنفًا، بل شيئًا آخر… شيئًا لم تفهمه تمامًا. هل كان ارتباكًا؟ خوفًا؟ أم غضبًا لأنها لم تعد تبادله الاهتمام؟
“أنتِ لي، زافيرا.” قالها بصوت خافت، وكأنها حقيقة يجب أن تستسلم لها.
لكنها ابتسمت، ابتسامة لم تكن سعيدة، بل كأنها تنظر إلى طفل يكرر كذبة صدّقها.
“وهل يؤخذ القلب بالقوة يا أمير الجان؟” همست، قبل أن تتخلص من قبضته بسهولة، متحاشية عينيه وهي تغادر القبو.
لكنه شعر بها تهرب منه، ليس بجسدها فقط، بل بروحها أيضًا.

في مكان آخر، حيث الظلال تخفي الأثر، جلس خاطر داخل غرفة صغيرة لا يُعرف لها باب واضح. ضوء القنديل الشاحب كشف عن ملامحه المتعبة، جسده كان يتعافى بسرعة، لكن قلبه… قلبه لم يجد راحته بعد.
أغمض عينيه، فصورة زافيرا لم تفارق ذهنه، نظرتها الأخيرة، نبرتها حين قالت اسمه، رعشة يدها بين يديه. كان يعرف أنها قوية، لكنها محاصرة. يعرف أنها تستطيع أن تواجه شيفان، لكنها وحيدة بين أعدائها.
وعدها، كلماته التي أقسم بها، كانت تطرق قلبه كجرس لا يهدأ.
زافيرا…
فتح عينيه ببطء، وعرف شيئًا واحدًا فقط.
حين يحين الوقت، حين تناديه، لن يتركها وحيدة.
حتى لو كان عليه أن يواجه جيوش الجان كلها.
حين يثور الحب كالعاصفة
في تلك الليلة، لم تنم زافيرا.
وقفت على شرفتها، حيث تمتد المدينة تحتها كحديقة من الظلال والأضواء، لكن عينيها لم تريا المباني ولا الشوارع، بل صورة خاطر وهو يقف في الحلبة، جسده ينزف لكنه لم يسقط. تذكرت كيف تألقت عيناه بالغضب، كيف كسر قيود جسده الواهن، كيف وقف رغم كل شيء… فقط ليواجه شيفان.
تذكرت صوته.
“أعدك أن لا تتزوجي شيفان إلا بإرادتك.”
كيف يمكن لوعد أن يُشعل القلب بهذه القوة؟ كيف يمكن لكلمات قليلة أن تزرع الطمأنينة في قلبها، وتجعلها تشعر، لأول مرة، أن هناك من سيقف معها، ليس كأمير أو ساحر أو محارب… بل كرجل لم يخشَ الجحيم لأجلها؟
رفعت يدها إلى صدرها، حيث كان قلبها ينبض بسرعة غريبة. لم تفهم هذه المشاعر من قبل، لم تُمنح الفرصة لتتعلمها، كانت أميرة الجان، وكانت حياتها دومًا سلسلة من الواجبات، من الاتفاقيات، من الصفقات.
لكن خاطر…
خاطر كان مختلفًا.
شعرت به في روحها، كأنه موسيقى لم تسمعها من قبل، لكنها تعرف أنها خلقت لأجلها.

في الجانب الآخر من المدينة، كان خاطر يتقلب في فراشه، لكنه لم يكن يعاني من الألم، بل من شيء آخر… شيء لم يكن يعرف كيف يسميه.
كانت أنفاسه ثقيلة، وكأن قلبه يركض إلى مكان بعيد عنه، إلى مكان يعرف أنه لا يمكنه الوصول إليه الآن.
زافيرا…
كيف أصبح هذا الاسم جزءًا من كل أفكاره؟ كيف أصبح وجهها يطارد أحلامه، ويختبئ خلف كل نبضة في صدره؟
لقد أقسم لها، أقسم أن يأتيها حين تناديه.
لكن الحقيقة كانت… أنه لم يكن يريد انتظار نداءها.
كان يريدها الآن، كان يريد أن يشعر بوجودها، أن يرى عينيها وهما تعكسان نور القمر، أن يسمع صوتها يتهامس مع الليل، أن يشعر بيدها تلمس كتفه كما فعلت في القبو، ليس طلبًا للحماية، بل كاعتراف بأنها تثق به…
بل تحبه.
لكن… هل تحبه؟
أغمض عينيه، وأطلق زفرة طويلة. لم يكن يعرف، لكنه كان متأكدًا من شيء واحد—إن كان الحب نارًا، فهو الآن يحترق بالكامل.

في اليوم التالي، حين وقفت زافيرا أمام المرآة، نظرت إلى نفسها طويلًا.
رأت في عينيها شيئًا لم يكن موجودًا من قبل.
شوقًا…
شوقًا عميقًا، قاتلًا، لرجل لم يكن عليها أن تفكر فيه، لكنها لم تستطع منعه من احتلال روحها.
ثم همست، همسة بالكاد سمعتها هي نفسها، لكنها حملت في طياتها كل المشاعر التي كانت تحاول إنكارها:
“خاطر…”
وبعيدًا عن القصر، في ذلك المكان المخفي، حيث كان خاطر يجلس في العتمة، انتفض جسده فجأة.
كأن شيئًا ما في روحه قد استجاب لندائها، كأن وعده لم يكن مجرد كلمات، بل صلة تربطهما، لا تحتاج إلى أصوات ولا إلى مسافات.
لقد شعرت به، وشعر بها.
كان شيفان يراقبها.
منذ أيام وزافيرا ليست كما كانت. شرودها أصبح جزءًا منها، عيناها لم تعد تلمع بذلك البريق الملكي الذي اعتاده، بل بات فيهما ظل شيء آخر… شيء لم يفهمه في البداية، لكنه بدأ يخيفه.
الحب.
كان يراه في كل حركة تقوم بها، في النظرة التي تفقد تركيزها وهي تحدق في اللاشيء، في الأصابع التي ترتجف عندما تفكر، في الشحوب الذي بدأ يغزو وجهها، وكأن قلبها لم يعد ملكًا لها، وكأن روحها تحترق في نيران شوق لا تهدأ.
شيفان لم يكن أحمقًا.
لقد ظن أن خاطر مات، وأنه سحقه تمامًا أمام الجميع، لكنه لم يمت. بل الأسوأ من ذلك… لقد اختفى. وزافيرا؟ زافيرا لم تعد الشخص الذي يعرفه.
في كل مرة يتحدث معها، كانت كلماتها قصيرة، نظراتها هاربة، وصمتها… صمتها كان يعذّبه.
لم تعد تناقشه، لم تعد تغضب منه، لم تعد حتى تحاول إخفاء ما تشعر به. وكأنها استسلمت أمام تلك النار التي تلتهمها ببطء، وكأنها لم تعد ترى فيه سوى حاجز بينها وبين شيء تريده بشدة.
وخاطر…
ذلك البشرى الحقير…
هل يُعقل أنه لم يكتفِ بالنجاة؟ هل امتلك قلبها أيضًا؟
الجنون دبّ في شيفان. لأول مرة في حياته، شعر بالخطر، لكنه لم يكن خطرًا عسكريًا، لم يكن خطر انقلاب أو تمرد… بل كان خطرًا من نوع آخر، خطرًا يمس شيئًا لم يكن يعتقد أنه يمكن أن يُنتزع منه.
زافيرا كانت له.
كان يجب أن تكون له.
وسيضمن ذلك، بأي ثمن.
الطريق إلى العرش… والدماء التي ستُسفك
لكن قبل أي شيء، هناك خطوة يجب أن تُنفَّذ أولًا.
لابد أن يصبح الملك.
لم يكن الأمر مجرد رغبة، بل أصبح ضرورة. عمه، الملك الحالي، لم يكن سوى عقبة في طريقه، رجلٌ عجوز يقف في وجه مستقبله، يمنعه من فرض سلطته، من كسر أي مقاومة، من امتلاك زافيرا دون أن يكون لأحدٍ رأي في ذلك.
لابد أن يختفي.
كان المرض قد بدأ ينهش جسد الملك، لكنه لم يكن كافيًا. كان بطيئًا، وكان شيفان رجلًا لا يؤمن بالانتظار.
في تلك الليلة، جلس مع مستشاريه الأكثر ولاءً، أولئك الذين لا يخافون الدم، والذين يعرفون جيدًا كيف تُصنع الممالك.
“لابد أن يموت الملك خلال الأيام القادمة،” قالها بصوت بارد، لم يرتجف، لم يرمش حتى.
تبادل الرجال النظرات. ثم تحدث أحدهم بصوت خافت، كأنه لا يريد حتى للجدران أن تسمعه.
“أخبرنا كيف تريد أن يحدث الأمر، يا سمو الأمير.”
ابتسم شيفان. ابتسامة لم تحمل أي أثر للرحمة.
“اجعلوه يبدو طبيعيًا.”

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية سلانديرا)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *