رواية سلانديرا الفصل الثاني والعشرون 22 بقلم اسماعيل موسى
رواية سلانديرا الفصل الثاني والعشرون 22 بقلم اسماعيل موسى
رواية سلانديرا البارت الثاني والعشرون
رواية سلانديرا الجزء الثاني والعشرون

رواية سلانديرا الحلقة الثانية والعشرون
وقفت زافيرا للحظة أطول مما ينبغي، عيناها معلقتان بخاطر، كأنها تحاول أن تحفظ ملامحه عن ظهر قلب، كأنها تخشى أن يكون هذا اللقاء الأخير. لكن الليل لم يكن كريمًا بما يكفي ليمنحهما المزيد من الوقت.
قالت بصوت هادئ، لكنه مشحون بالكثير من المشاعر:
“يجب أن أعود.”
لم يرد خاطر على الفور، أراد أن يمنعها، أن يمسك بيدها، أن يخبرها ألا تعود إلى ذلك المكان، لكنهما كانا يعلمان أن الهروب الآن لم يكن خيارًا.
حين استدارت، لم يتحرك حتى غابت خطواتها وسط الأشجار، ولم تتبقَّ إلا همسات الريح التي تحمل أثر أنفاسها العالقة في الهواء.
عادت زافيرا إلى القصر كما عادت كل ليلة، لكن هذه المرة، لم يكن الظلام فقط من ينتظرها.
ما إن عبرت بوابة القصر حتى أدركت أن هناك شيئًا خاطئًا.
كان الجو مشحونًا، الجنود يقفون في أماكن غير اعتيادية، والخدم يتحركون ببطء، وكأنهم يخشون أن يُسمع أنين خطواتهم.
وحين وصلت إلى جناحها، وجدت الباب مفتوحًا.
دخلت بحذر، لكن قبل أن تتمكن من استيعاب ما يحدث، أغلق الباب خلفها بصوت عنيف.
استدارت بسرعة، ورأت شيفان واقفًا هناك، كتفيه العريضين يسدان الطريق، وعيناه تتقدان بنارٍ صامتة،لم يكن غاضبًا بالصورة التقليدية، لم يكن يصرخ أو يحطم الأشياء. لكنه كان ساكنًا… وسكونه كان أكثر رعبًا من أي عاصفة.
نظر إليها طويلًا، ثم قال بصوت خافت، لكنه مشبع بالسخط المكتوم:
“ظننت أنكِ أكثر ذكاءً من هذا، زافيرا.”
لم ترد. لم يكن هناك شيء تقوله.
اقترب منها خطوة، ببطء، كأنه يزن كل حركة، ثم أضاف:
“هل كنتِ تعتقدين أن أحدًا لن يراكِ؟ هل كنتِ تعتقدين أنني لن أعرف؟”
شعرت بدمها يتجمد. لم يكن يحتاج إلى ذكر اسم خاطر. كانت تعرف أنه يعرف.
لكنه لم يكن يبحث عن إجابة.
رفع يده ببطء، ولمس خصلة من شعرها، كأنه يختبر صبره الخاص، ثم همس:
“كنتِ سترحلين، أليس كذلك؟”
هذه المرة، ردت، بصوت هادئ لكنه مليء بالاحتقار:
“أنت تعرف الإجابة.”
ابتسم. لكنها لم تكن ابتسامة حقيقية، بل كانت كظل ابتسامة، قناع يخفي تحته عاصفة.
ثم استدار وقال بصوت بارد:
“لن تغادري هذا القصر حتى موعد الزفاف.”
زافيرا لم تتوقع أن يسمح لها شيفان بالتحرك بحرية، لكن الحبس بهذه الصورة؟
كانت غرفتها قد تحولت إلى زنزانة، لا يُسمح لها بالخروج، ولا يُسمح لأحد برؤيتها إلا الخدم الذين يحملون الطعام ويغادرون دون كلمة.
حتى النوافذ كانت تحت المراقبة.
أصبحت سجينة في قصرها.
في البداية، حاولت المقاومة، حاولت التحدث إلى الحراس، حاولت حتى أن تجد طريقًا للخروج، لكن كل محاولة كانت تقابل بجدارٍ من الصمت والجليد.
وحين أدركت أنه لا مهرب لها الآن، بدأ شيء آخر في الانكسار داخلها.
مرت الأيام بطيئة، وكأن الزمن نفسه يتعمد تعذيبها.
كل صباح، كانت تستيقظ على نفس الجدران، نفس السكون الثقيل، نفس الحقيقة القاسية: أنها محبوسة هنا، تنتظر يومًا لم تكن تريده أبدًا.
كانت تجلس لساعات طويلة عند النافذة، تنظر إلى السماء البعيدة، تتساءل إن كان خاطر ما زال هناك، إن كان يحاول إيجاد طريقة لإنقاذها، أم إن كان العالم قد قرر أن يخذلهما معًا.
كانت الليالي أسوأ.
في الليل، كان القصر يهدأ تمامًا، ولم يكن هناك شيء سوى صوت أنفاسها المتوترة، والذكريات التي تنبثق من الظلام، ذكريات اللقاءات المسروقة، الهمسات بين الأشجار، اللمسة الخفيفة التي منحتها الأمل للحظات قصيرة.
لكن الأمل، حين يكون محبوسًا، يتحول إلى ألم.
بدأت تشعر أن الجدران تضيق عليها، أن الظلام أصبح أثقل من قدرتها على احتماله.
كانت تقضي ساعاتها بين الغضب واليأس، بين الرغبة في الصراخ والرغبة في الاختفاء.
لكن في كل مرة كانت تصل إلى حافة الانهيار، كانت تتذكر عينيه.
عيني خاطر، حين قال:
“لقد أتيتُ من أجلكِ.”
كان هذا ما يبقيها صامدة.
كان هذا ما يمنعها من الانكسار.
حتى لو كانت سجينة الآن، حتى لو كان شيفان يعتقد أنه انتصر، لم يكن يعلم شيئًا واحدًا:
أنها لن تكون ملكته أبدًا.
وأن خاطر… لن يتركها.
رسالة لم تصل
عاد خاطر الى بيته داخل البحر جوار بيت بتروس وهو يعلم أن لقاءه بزافيرا عند البحيرة لم يكن كافيآ، كانا بحاجة إلى خطة، إلى طريق للهروب قبل أن ينجح شيفان في إتمام زواجه منها.
لكنه لم يستطع الوصول إليها بسهولة، منذ عودته، لاحظ أن القصر قد أصبح أكثر إحكامًا، والجنود أكثر يقظة، والخدم أكثر صمتًا… وكأن شيفان قد شعر بأن شيئًا ما يتغير، وكأن الغريزة البدائية للملوك قد حذرته من أن هناك من يحاول اقتلاع ما يراه ملكًا له.
كان عليه أن يجد طريقة لإرسال رسالة إلى زافيرا، رسالة تخبرها أن عليهما أن يلتقيا مرة أخرى، أن يضعا خطة قبل فوات الأوان.
لكنه لم يستطع فعل ذلك بنفسه، لم يستطع المجازفة بالظهور في الأروقة المزدحمة أو بالقرب من جناحها، حيث يعلم أن شيفان قد أحاطها بحراسة لا تغفل عنها لحظة.
وهكذا، لجأ إلى خادمة بشرية.
كانت نيرا فتاة بشرية نحيلة، بالكاد تجاوزت السادسة عشرة، خادمة جديدة لم يمضِ على وجودها في القصر سوى شهور قليلة. كانت من أولئك الذين ينسابون بين الجدران كالأشباح، لا أحد يلاحظ وجودهم إلا عندما يحتاجون إليهم.
كانت نيرا تخشى الجن كما تخشى الليل نفسه، لكنها لم تستطع رفض طلب خاطر. هناك شيء في صوته، في عينيه، جعلها تثق به رغم أنها تعلم أن ذلك قد يكون نهايتها.
أعطاها ورقة صغيرة، مطوية بعناية، داخلها بضع كلمات فقط:
“زافيرا، سنلتقي مجددًا عند البحيرة. لا تخافي، لن أدع شيفان يأخذك.”
لم تكن الكلمات كثيرة، لكنها كانت كل ما تحتاجه زافيرا.
نيرا، التي كانت تعتقد أن هذا مجرد عمل بسيط، مجرد إيصال رسالة لن يراها أحد، أخذت الورقة وأخفتها بين طيات ملابسها، ثم سارت بخطوات سريعة عبر الأروقة، متجهة نحو جناح زافيرا.
لكنها لم تصل أبدًا.
كانت العيون في كل مكان، والشبكات التي نشرها شيفان لاصطياد أي حركة مشبوهة أكثر تعقيدًا مما تخيل خاطر.
لم تكن نيرا قد ابتعدت كثيرًا عندما اعترضها اثنان من جنود شيفان.
“إلى أين أنتِ ذاهبة؟” سألها أحدهم بصوت كالصقيع، وعيناه تحدقان فيها كما لو كان يرى ما تخفيه في صدرها.
ارتبكت، حاولت أن تتماسك، لكن يديها المرتجفتين خانتاها.
لم يضطر الجنود إلى البحث كثيرًا.
عندما انتزع أحدهم الورقة من ملابسها، نظرت إليهم برعب، وكأنها قد رأت موتها بأم عينيها.
أخذوا الرسالة إلى شيفان.
وقرأها.
ثم ابتسم.
عقاب لا يُغتفر
عندما وقف شيفان في قاعة العرش، والجنود يسحبون نيرا أمامه، كانت عينيه تشعان بقسوة لا تُقارن.
“لقد أظهرتِ ولاءكِ، يا بشرية.” قال بصوت هادئ، هدوء ما قبل العاصفة.
“لكن ليس لي.”
لم تحاول نيرا الدفاع عن نفسها، لم تحاول حتى التوسل. كانت تعرف أن هذا لا يجدي مع ملك الجن.
لكنها كانت ترتجف، ودموعها انسابت بصمت، بينما الجنود يقيدون يديها.
“الخيانة عقابها واحد.” تابع شيفان، ثم أشار إلى الجنود.
“شنقها على سور القصر. ودعوا كل من في هذه المملكة يرون جسدها حتى لا ينسوا ما يحدث لمن يخونني.”
لم يكن هناك جدال.
وفي تلك الليلة، حين رفع القمر وجهه البارد في السماء، كان جسد نيرا يتأرجح على أسوار القصر، وشعرها الأسود يتطاير مع الريح، وعيناها مفتوحتان على اتساعهما، كأنها ما زالت ترى الموت قادمًا إليها حتى بعد أن أخذ أنفاسها الأخيرة.
كانت رسالتها قد وصلت… لكن ليس إلى زافيرا.
بل إلى الشيطان الذي حكم مصيرها.
لم تعرف زافيرا بما حدث حتى رأت الجسد المتدلّي على الأسوار.
تجمدت في مكانها، عيناها اتسعتا بذهول قبل أن يتحول الذهول إلى إدراك مرعب… ثم إلى ألم ممزِّق.
لم تكن تعرف نيرا جيدًا، لكنها كانت بشرية مثلها، فتاة صغيرة لم تفعل شيئًا سوى إيصال رسالة.
لكن شيفان لم يكن يهتم بالذنب أو البراءة، بل فقط بالقوة… والسلطة… وبأن يجعل كل من حوله يخشونه أكثر من أي شيء آخر.
وحين أدركت زافيرا أن هذه كانت رسالة لها… رسالة مفادها أنه لن يسمح لها بالهروب، وأنه لن يتردد في سحق أي شخص يحاول مساعدتها…
حينها فقط، شعرت زافيرا بشيء ينكسر داخلها.
شيء لم تعد تستطيع إصلاحه.
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية سلانديرا)