روايات

رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الحادي والأربعون 41 بقلم سيلا وليد

رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الحادي والأربعون 41 بقلم سيلا وليد

رواية شظايا قلوب محترقة البارت الحادي والأربعون

رواية شظايا قلوب محترقة الجزء الحادي والأربعون

شظايا قلوب محترقة
شظايا قلوب محترقة

رواية شظايا قلوب محترقة الحلقة الحادية والأربعون

بكيتُ وهل بُكاء القلب يُجدي ؟!
فراقُ أحبتي وحنينُ وجدي ..
فما معنى الحياة إذا افترقنا؟؟
وهل يُجدي النحيبُ فلست أدري؟!
فلا التذكارُ يرحمني فأنسى..
ولا الأشواق تتركني لنومي..
وحتى لقائكِ سأظل أبكي ……وحتى لقائكِ سأظلُ أبكي
توقف عطوة الذي يدعى بهشام وصاح بنبرة غاضبة:
– راجح اتجنِّنت ولَّا إيه، إنتَ ناسي مين اللي واقف قدامك؟!!
اقتربَ راجح منهُ وهمسَ بهسيسٍ مرعب:
-إنتَ اللي تفوق يابنِ الدمنهوري، واعرف حدودك معايا، أوعى تفكَّر اللي واقف قدَّامك دا ضعيف ولَّا مكسور، ولو سكتِّ زمان، فسكتِّ علشان راجح عايز كدا، وتاني مرة لمَّا تتكلِّم معايا تتكلِّم بأدب واحترام، إنتَ حتة عيل
يالا كنت شغال تحت إيدي.
ارتفعت ضحكاتُ عطوة المدعو بهشام، ثم صفَّقَ بيديهِ يحكُّ ذقنه، وخطا خطوةً للوراءِ يغمزُ إليه مع هزَّةٍ طفيفةٍ من رأسه:
-لا برافو، عجبتني ياحضرةِ الظابط المطرود قديمًا..
وصلَ إليه بخطوةٍ واحدةٍ ليطبقَ على عنقهِ ويهمسُ كفحيحِ أفعى:
-أنا أموِّتك من غير مايرفلي جفن يالا، ولا تهمِّني ولا إنتَ ولا اللي مشغلينك، دا أنا حاولت أقتل ولادي، هغلب فيك يابنِ الدمنهوري..
شحبَ وجهُ عطوة، ورفع يديهِ بوهنٍ ليتخلَّصَ من قبضته، دفعهُ راجح ليهوى بجسدهِ على المقعد، يسعلُ بقوة..
ثمَّ جلسَ راجح بمقابلتهِ وأخرجَ سجائره، ينظرُ إليهِ بشفاهٍ ملتوية:
-مش كلِّ اللي يتاكل لحمه، أنا مش رانيا، ومتفكرنيش كنت نايم على وداني، لا..أنا سايبك تلعب براحتك بدل اللعب جاي بمصلحتي..
طالعهُ بعيونٍ تطلقُ شزرًا، اقتربَ بجسدهِ مستندًا على الطاولة، ينظرُ إلى مقلتيهِ وبعيونٍ غاضبة:
-صدَّقني هدفَّعك غالي ياراجح أوي، فوق ماتتخيَّل، قالها ونهضَ منتفضًا ثم أشار إليهِ وأردف بنبرةٍ تهديدية:
-حياتك وحياة ابنك قصاد حياة ولاد أخوك، عايز تعيش جوا مصر معزَّز مكرَّم تتخلَّص من ولاد جمال، ودا آخر تحذير، بعد كدا ماتلومشِ غير نفسك..
نفثَ راجح غبارَ دخانهِ وكأنَّه لم يستمع إلى تهديدهِ وتراجعَ بجسدهِ يفردُ ذراعيهِ على المقعد:
-اتكلِّم على قدَّك ياشاطر، مش راجح الشافعي اللي ياخد أوامره من حتِّة شمَّام، واسمع آخر كلامي، أنا مش هقتل حد، وأعلى مافي خيلك اركبه إنتَ واللي مشغلَّك.
زمَّ شفتيهِ ثمَّ اقتربَ منه بخطواتٍ بطيئةٍ منحنيًا إلى مستواه، يحدِّقُ به قائلًا:
-فيه فيديو حلو هيوصلك بعد شوية، شوفه الأوَّل وبعد كدا قرَّر يا…أه حضرةِ الظابطِ المتقاعد، نمشي كدا دلوقتي…قالها واعتدلَ ناصبًا قامته، ثم رفع هاتفهِ وأرسلَ إليه بعضَ الفيديوهات التي تدلُّ على تورُّطهِ بإحدى العملياتِ الخطيرةِ التي تؤدِّي إلى إعدامه، ثم بعثَ إليه صورةً وهو يدفعُ رانيا بالبحر..
تراجعَ بجسده يلوِّحُ بيدهِ وتمتم:
-إلياس السيوفي!!..توقَّف واستدارَ برأسهِ غامزًا بعينيه:
-مصوَّرك وإنتَ بتقتل رانيا ياراجح، يعني لو مش موِّته هيموِّتك يا..حضرة المطرود..قالها واستدارَ متحرِّكًا، ينظرُ للأمامِ وعيناهُ تنطقُ بالكثيرِ من الشرّ، وصلَ إلى سيارتهِ ورفعَ هاتفه:
-أيوة ياعمِّي، قصَّ له ماصارَ ثم تحدَّث:
-هيوافق متخافش، هوَّ لسة مفكَّر إننا أعداء، خلال يومين هيخلَّص كلِّ حاجة وهيجيب الورق، رتِّب نفسك على كدا، صفِّي كلِّ حاجة قبل مايشك، وخلِّيه منه للروس الكبيرة، إحنا خلاص هناخد حقِّ أبويا ودا اللي اشتغلنا عليه، زمان جمال مات، ودلوقتي هوَّ قتل رانيا، وهيقتل ولاد أخوه، وبكدا يبقى كتب نهايته ونتخلَّص من كلِّ اللي أذونا، لازم أريَّح أبويا، علشان محدش يستجرى يجيب اسمه بكلمة بعد كدا، أبويا اتغدر بيه من حتِّة صياد مايساويش مليم..
-خلاص ياهشام، ارجع السويس وشوف هتعمل إيه، وأنا هخلَّص الكام عملية اللي قدَّامي، وهكلِّمك علشان لو راجح ماتصرفشِ أشوف طريقة تانية..
-إنتَ بتقول إيه ياعمِّي، هنفضل ساكتين لحدِّ إمتى، لازم ينفِّذ من غير ولا كلمة، مش هتفضل مدَّاري وهربان، لازم نخرج من البلد بأيِّ طريقة، والحيوان راجح دا هو اللي هيقدر يشطب اسمك من الممنوعين، مش هتفضل منسوب للمجرمين طول الوقت..
عند إلياس..
وصلَ قبل عدَّةِ ساعات، وتمَّ نقل أرسلان إلى غرفةِ العناية، تحرَّك للخارجِ بعد الاطمئنانِ على حالته، رغم أنَّه مازال بالغيبوبة..
-خرجَ متراجعًا بجسدهِ على الجدار، أطبقَ على جفنيهِ وأحداثُ تلك الأيام يمرُّ أمام عينيهِ كشريطٍ سينمائي..
-إلياس..تمتمَ بها إسلام الذي يتحرَّكُ نحوهِ بلهفةٍ كالطفلِ الذي وجد والديه، اقتربَ ملقيًا نفسهِ بأحضانه، ليفقدَ السيطرةَ على نفسهِ مع دموعهِ التي لم تتوقَّف يتمتمُ بتقطُّع:
-كدا تقلقنا عليك، إنتَ أخ إنت، موِّتنا من الرعب والخوف ياأخي..
تجمَّدَ جسدهِ غير مصدِّقًا ما فعلهُ إسلام، حتى أنَّه لم يشعر بخروجِ إسلام من أحضانهِ ليفيقَ على صوتهِ الممتزجِ بالبكاء:
-إنتَ عارف أنا حسيت بإيه وإحنا مش عارفين نوصلَّك، حسيت إنِّي اتيتمت ومبقاش ليَّا سند، لا، حسيت إنِّي تايه، أنا زعلان منَّك علشان حسِّستني الإحساس دا، واللي أسمعه يقول إنَّك مش أخويا هدخَّل إيدي في زوره وأخلع لسانه..
دقيقة وهو متجمِّدًا بمكانهِ وعيناهُ تتشابكُ بردِّ فعلِ أخيه الغيرِ متوقَّع، وداخلهِ يحدِّثه، هل بداخلهِ جبلًا من الجليدِ ليفقدَ ذلك الشعور، أم أنَّ اختفاءِ أرسلان وخوفهِ من فقدانهِ أنساهُ أخاهُ الأصغر،
أخاه الأصغر..ردَّدها القلبُ قبل العقل، ليرفعَ عينيهِ إليه مع كفَّيه يمسِّدُ على رأسه:
“آسف حبيبي، انشغلت و…”
قطعَ حديثهم دخولُ مصطفى، توقَّف ينظرُ إليه بمشاعر ممزوجةٍ باللهفةِ والاشتياقِ الذي يحملهُ أبٌ فقد طفله، ثمَّ وجدهُ فجأة، عائدًا من أعماقِ الغياب، اقتربَ منه وهناك الكثيرُ من النظراتِ التي امتلأت بالكلماتِ حتى عجز لسانهِ عن نطقها، خرج صوتهِ محمَّلًا بكلِّ ما لم يستطع قوله:
– إلياس…حمد الله على سلامتك.
ابتعدَ إلياس عن إسلام، وقلبهِ يخفقُ بين ضلوعهِ كطائرٍ أخيرًا وجد عشَّه، اقترب من والدهِ الذي كان يحدِّقُ به وكأنَّه يخشى أن يكون مجرَّدُ سراب.. نظراتهِ تحكي الكثيرَ من القلق، عن خوفٍ يثور، وعن شوقٍ كاد يقتله..
– بابا…نطقها بعدما رأى حالةَ والدهِ المتشعِّبة بالألم..
ابتسمَ مصطفى بارتجافة، وفتح ذراعيهِ يريد أن يطمئنَ قلبهِ أنَّه ليس حلمًا، وأردفَ بصوتٍ جعلهُ ثابتًا:
– أسبوعين ياابنِ مصطفى، منعرفشِ عنَّك حاجة!..
احتضنهُ إلياس بقوَّة، ليشعرهُ بحرارةِ هذا الحضن الدافئ، وحرارةِ اشتياقهِ هو الآخر، فأراد أن يخفِّف عنه الحزنُ الذي ينهشُ بصدره، ثمَّ قال بمزاحٍ مختنق:
– علشان أوحشك يا سيادة اللوا، وأشوف أنا غالي قدِّ إيه؟
ضحكَ مصطفى رغم مرارة شعوره، ثم ربتَ على كتفِ ابنه:
– مش لايق عليك الأفيهات ياابنِ السيوفي، على رأي ميرو…آخرك يعيِّنوك على منصةِ الإعدام.
هنا فاقَ من تضاربِ مشاعره، ليشعرَ بنبضٍ يضربُ بقوَّة داخل صدرهِ لاشتياقهِ لمعذِّبةِ القلب، فراحَ يتلفَّتُ حوله، يبحثُ عنها بين الوجوه، متمنيًا أن تخرجَ إليه بحنانِ ذراعيها، أن يجدها كما وجدَ والده، لكن الأمنيات ليست بالضرورة تتحقَّق.
أخرجهُ صوتُ إسلام من دوَّامةِ الاشتياقِ حينما قال:
– ماما قلقانة عليك، لازم تطمِّنها ضروري…يمكن لمَّا تسمع صوتك تهدى..
تذكَّر حالة والدتهِ التي حمَّلتهُ وجعًا آخر، فكم من قلبٍ قد أنهكهُ غيابه؟ قالها إسلام ليقطعَ تكملة حديثهِ صوتُ صفية المرتعشِ بالقلق، قاطعًا كلَّ شيء:
– أرسلان! فين أرسلان ياابني؟
وصلَ فاروق الذي كان يهرولُ وكأنَّه يسابقُ الزمن، يسابقُ خوفهِ على فلذةِ كبده:
– اهدي حضرتك، هوَّ جوَّا…
لكنَّها لم تدعهُ يكمل حديثه، بل تحرَّكت بسرعة إلى الداخل، وفاروق يهرعُ خلفها، يدعو بسريرته أن يطمئنَّ قلبهِ على فلذة كبدهِ الوحيد..
ربتَ مصطفى على كتفهِ بحنوٍّ صامت، فرفع إلياس رأسهِ ببطءٍ نحو والده، وعيناهُ مثقلتانِ بالإرهاق..
– روح ارتاح…وطمِّن مراتك هتتجنِّن عليك.
أومأ إلياس برأسه، ثمَّ تراجعَ للخلف مستندًا إلى الجدار، كأنَّ جسدهِ لم يعد يقوى على الوقوف، وأطلق تنهيدةً عميقةً خرجت من صدرهِ بألمِ مايشعرُ به ثمَّ أردفَ بنبرةٍ مرهقة:
– هطمِّن على ماما…وأعدِّي على الجهاز، دلوقتي أكيد عندهم علم بكلِّ حاجة.
تقدَّم مصطفى خطوة، ونظرَ إليه نظرةً غامضةً تحملُ مزيجًا من القلقِ والتحذير:
– مالكشِ دعوة بالجهاز دلوقتي، أهمِّ حاجة إنَّك ترتاح.
فتح فاههِ للرد، ولكن قاطعهم صوتُ خطواتِ فاروق وهو يقتربُ بسرعة، تطلَّع إلى إلياس بعينينِ تضجُّ بالأسئلة:
– إلياس، لقيت أرسلان إزاي؟
مسحَ إلياس على وجههِ بكفِّه، ثمَّ نظر إلى فاروق بعينينِ زائغتينِ وقال:
-إزاي المخابرات عرفوا بمكاني؟
قطبَ فاروق حاجبيه، وتقدَّم خطوةً للأمامِ متسائلًا بارتباك:
– مش فاهم…!!
اعتدلَ إلياس في وقفتهِ، ورفع رأسهِ كمن تذكَّر شيئًا مهمًّا، وهزَّ رأسهِ ببطء قائلاً:
– خلاص..مفيش حاجة، ربِّنا كان معايا، والدنيا عدِّت على خير، المهم إنِّنا رجعنا..أرسلان في غيبوبة، مضروب في صدره، وكمان في رجله..دا اللي قدرت أعرفه، لازم ننقله مستشفى عسكري.
اعترضَ فاروق بحزمٍ وهو يلوِّحُ بيده:
– مينفعش..هنا كويس، وأنا واخد كل احتياطاتي..وأمرت بنقلِ إسحاق هنا كمان..
اشتعلَ الغضبُ في عيني إلياس، واقتربَ خطوةً وهو يشيرُ بيدهِ بقوَّة:
– حضرتك غلطان، حضرتك متعرفشِ إنُّهم هنا في خطر حقيقي..إسحاق باشا مضروب بالنار من عصابة، أمَّا أرسلان..دا دخل دولة، واضرَّب هناك، وانكشف لبعض الجماعات الارهابية، وخرج بمعجزة! اقترب حتى لم يفصل بينهما شيئا وهمس بصوت خافت
-دا صفى حد مهم ياباشا، وجاي تقولِّي مينفعش؟! أنا حاولت أفهِّمك خطورة اللي بنعمله، بس حضرتك أصرِّيت نجيبه هنا.. حضرتك كده بتقدِّمه للموت بإيدك.
صمتَ فاروق لحظة، ثمَّ ردَّ بنبرةٍ هادئةٍ تُخفي تحتها عنادًا شديدًا:
– أنا شاكر لحضرتك يا حضرةِ الظابط، بس اللي متعرفوش، إنِّي كنت مظبَّط كلِّ حاجة، ومجهِّز نزوله على مصر من زمان، واتأخَّر بسبب وجودك هناك.. مكنشِ ينفع أضحِّي بيك، عملت كلِّ اللي أقدر عليه علشان أوصَّلكم لهنا، فياريت تحترم رأيي..أنا شايف إنِّ هنا أفضل، ومش عايز شوشرة برَّه، ولا ابني ينكشف للجماعات الإرهابية.
ضحكَ إلياس ضحكةً قصيرةً خاويةً من الرُّوح، ثمَّ نظرَ إليه نظرةً طويلةً وقال:
-على أساس إنُّه ما انكشفش!..أشارَ محذِّرًا واستطرد:
-إحنا نزلنا مصر على أساس أنُّه جثة وأنا كنت مزوَّر جواز سفري ياباشا.
حاول مصطفى إنهاءَ الحوارِ بينهما بعدما اشتدَّت نظراتُ إلياس بالغضبِ
فأردفَ بنبرةٍ هادئة:
-خلاص اهدوا أنتوا الاتنين، المهمِّ أنُّه رجع بالسلامة، التفتَ إلى إلياس وتحدَّث:
-متخافشِ عليه ياحبيبي، فاروق أبوه وعمره مايعرَّضه للخطر، وأكيد هوَّ عنده معلومات أكتر مننا..
هزَّ رأسهِ باعتراضٍ قبل أن يتحرَّك مغادرًا المكان..
بعد فترةٍ ليست بالقصيرة، وصلَ إلى منزله..كانت تجلسُ في شرفةِ غرفتها، تتكئُ بجسدها على الجدار، تحدِّقُ في السماءِ التي تزيَّنت بالمصابيحِ الربانية، التمعت عينيها بالدموع، وشحبت ملامحها من بُعدِ حبيبِ الروح والجسد..
قطعَ وصلةِ انسامجها مع النجوم، صوتُ توقُّفِ السيارة، انتفضَ قلبها قبل جسدها، ولا تعلمُ لماذا شعرت بهذا النبضِ السريع، لاحت بنظرها سريعًا ظنًّا أنَّه إسلام، هنا علمت لماذا ارتجفَ نبضُ قلبها، حينما رأتهُ يترجَّلُ من السيارة يتحدَّثُ إلى إسلام ويشيرُ له بيده، فعرفت أنَّه هو…إلياس.
لحظةً واحدةً لتهبَّ واقفةً كأنَّ الحياةَ دبَّت فيها من جديد، هرولت إلى الأسفلِ حافيةَ القدمين، كطفلةٍ تركضُ صوبَ حضنِ والدها بعد فراقٍ موجع، وخصلاتها التي تضربُ ظهرها بقوَّةِ لهفتها، لم تفكِّر، لم تخجل، لم تتردَّد…فقط اشتاقت لحبيبها..
بالخارجِ صعد بضعَ درجاتٍ من السلَّمِ الخارجي لكنَّه تجمَّدَ في مكانهِ حين رأى بابَ المنزلِ يُفتح، وهي تندفعُ نحوهِ والدموعُ تتساقطُ من عينيها فرحًا وحنينًا..همست باسمهِ بصوتٍ متهدِّج:
– إلياس…
نطقتها بتلهُّف، كأنَّ اسمهِ أعادها للحياة، ثمَّ اندفعت إلى حضنهِ تبكي بشهقاتٍ مرتفعة، تلف يدها حول عنقه، تمزج ُبين الفرحِ والحنينِ والألم..عانقها بشوقٍ كاد أن يحرقَ قلبه، وكأنَّه يحاولُ أن يعوِّضها عن كلِّ لحظةٍ غاب فيها عنها، أشار بيدهِ للحرسِ أن يغادروا المكان بعدما وجدها بتلك الحالة، ثم تحرَّك بها ببطء، وهي متعلِّقةً بعنقه، لا تريدُ أن تفلتَ منه، وكأنَّ ذراعيهِ هما موطنها، وسكينتها، وملاذها الأخير..دخل إلى البيتِ بصمت، ورائحةُ عطرها تملأُ صدره، فتزيدُ شوقهِ واحتراقه.
أغلقَ البابَ بقدمه، وهو يحاول جسدها، توقف خلف الباب ثمَّ أوقفها برفق، وأمسكَ وجهها ب حنان، يرسمها كفنَّانٍ يذوبُ بلوحتهِ هامسًا بحنين:
-وحشتيني…
قالها بهمسٍ عميقٍ ليشعرها بأنَّها أغلى من كلِّ كلماتِ الدنيا…كلمةٌ وحيدةٌ جمعت معاني الاشتياق بالنسبةِ اليهما، لم تنتظر أكثر، لترفعَ رأسها إليه، وقبَّلتهُ بشغف..
غاصَ معها في تلك اللحظة، ناسيًا كلَّ شيء…ناسيًا مامرَّ به، فقط يريدُ أن يروي قلبهِ المتلهِّف، ضعفت وخارَ جسدها بين ذراعيه، لم تعد تقوى على الثبات، فأمسكَ بكفِّها، وقادها بصمتٍ إلى أعلى، دون حديث..
بلندن وخاصَّةً بمنزلِ رحيل..
دلفت والدتها اليها، وجدتها تجلسُ بجوارِ النافذة تنظرُ للخارج، تقدَّمت نحوها تطالعُ ابنتها بعيونٍ حزينةٍ على ماصار بها..
توقَّفت خلفها وبسطت كفَّيها تمسِّدُ على خصلاتها قائلة:
-قافلة على نفسك ليه من وقت مارجعتي حبيبتي؟..أزالت دموعها سريعًا، ثمَّ اعتدلت تنظرُ إلى والدتها:
-مفيش حبيبتي، عندي مشروع وبفكَّر فيه، بحاول أجمع ميزانية كويسة علشان أرجع أقف على رجلي تاني..
سحبت مقعدها وجلست بمقابلتها وتعمَّقت بالنظرِ إليها:
-خلاص يارحيل قرَّرتي تسيبي كلِّ تعب أبوكي لابنِ راجح؟..
مسحت على وجهها تزفرُ بألمٍ كاد يهشِّمها كالزجاج، ثم تراجعت بجسدها على المقعدِ تنظرُ لوالدتها:
-ماما أنا اتنازلت عن كلِّ مايربطني بمصر، وأنا قولت لك ظروفي وحياتي، والحمدُ لله عندنا دخل كويس وعملت شراكة كويسة مع شركة محترمة، ادعيلي بس ياماما، وعايزة من حضرتك تنسي كلِّ حاجة مرتبطة بمصر، ولو على خالو يبقى هخلِّيكي تُزوريه كلِّ فترة بس مستحيل أرجع مصر تاني ياماما….
-طيب حبيبتي دلوقتي إنتي حامل، وأبو الطفل لازم يعرف بيه، مينفعشِ اللي إنتي ناوية تعمليه دا..
-ماما لو سمحتي..مش عايزة من حضرتك تفتحي الموضوع دا تاني، وتأكَّدي لو مش حرام كنت سقَّطه، أنا هربِّي ابني من غير أبوه مايعرف، ولا عايزة أفتكره أصلًا، أرجوكي لو بتحبِّيني بلاش تفتحي الموضوع دا تاني..قالتها ببكاءٍ فتَّت قلبَ والدتها، لتقتربَ منها وتجذبها لأحضانها تمسِّدُ على ظهرها بحنانٍ أمومي:
-حاضر حبيبتي، بس خايفة عليكي من المسؤولية الكبيرة دي، إنتي لوحدك يابنتي، والدنيا مابترحمش..
ارتفعَ بكاءها تدفنُ نفسها بأحضانِ والدتها:
-أنا تعبانة ياماما، قلبي مولَّع نار، نفسي أرتاح من كلِّ دا، نفسي أرجع زي زمان، ليه الدنيا ظلمتني أوي كدا..
أخرجتها والدتها من أحضانها واحتضنت وجهها:
-حبيبتي يابنتي اسمعيني كويس، إنتي لسة صغيرة ولسة ياما هتشوفي، أنا معرفشِ إيه اللي حصل بينك وبين جوزك، بس قلبي بيقولي أنُّه ابنِ حلال، بغضِّ النظر على اللي عمله بس هوَّ فيه بذرة كويسة..
ابتعدت عن أحضانِ والدتها وأزالت دموعها متوقِّفة:
-ربنا يسهلُّه ياماما، بس أنا خلاص مبقاش ينفع أرجع له أو أتقبله في حياتي، بعد إذنك هدخل آخد شاور علشان عايزة أنام عندي ميتينج الصبح بدري..
توقَّفت والدتها تهزُّ رأسها وأردفت:
-حاضر حبيبتي، أنا هصلِّي القيام وأقعد أقرأ شوية في المصحف لو احتجتي حاجة عرَّفيني..
بمنزلِ زين الرفاعي..
كانوا يجلسونَ يتناولون العشاء، رفعَ زين رأسهِ إلى إيلين التي تتلاعبُ بطعامها دون أن يمسُّه فمها:
-إيلين مابتكليش ليه حبيبتي؟..تطلَّعت إليه بعدما وضعت شوكتها:
-خالو ليه بابا اتجوز سهام؟..اللي أعرفه أنُّه كان متجوز ماما بعد قصِّة حب..
جذبَ زين محرمتهُ ومسح فمهِ ثمَّ نهضَ من مكانهِ وعيناهُ على آدم:
-خلَّص أكل واجهز علشان هنروح نشوف عمِّتك فريدة، عرفت إنِّ ولادها رجعوا بالسلامة.
أومأ له دون حديث، خطا زين إلى مكتبهِ تبعتهُ إيلين بعدما أمرت الخادمة بجلبِ قهوته..
جلسَ خلف مكتبهِ وأشارَ إليها بالجلوس، جلست بمقابلتهِ وانتظرت حديثه، فتح درجَ مكتبهِ وارتدى نظَّارتهِ يقلِّبُ بين أوراقِ خزنته، ليصلَ إلى ورقةٍ وضعها أمام إيلين:
-اقرأي الورقة دي وإنتي تعرفي ليه باباكي اتجوِّز على مامتك..
قرأت مايدوَّنُ بالورقة، رفعت عينيها قائلة:
-مش فاهمة حاجة، دا عمُّو جمال جوز طنط فريدة..
أومأ لها ثمَّ نهضَ من مكانهِ وجلسَ على الأريكةِ يشيرُ إليها أن تقترب؛ جلست بجوارهِ ليقومَ بقصِّ ماصار قديمًا:
-جمال كان بيحبِّ فريدة، وكان له صديق وأمِّك الله يرحمها كانت شايفة في صديقه فتى أحلامها، جدِّك حس بنظرات والدتك للراجل دا، في الوقتِ دا أبوكي كان له مركب صغيرة وقال لجمال إيه رأيك تبيع مركبك وأبيع مركبي ونشتري واحدة كبيرة، والرزق بالنُّص، جمال رفض الفكرة في الأوَّل، لأنُّه كان بيدرس وبيشتغل يصرف على نفسه وعلى كليِّته، المهمِّ راح حكى لجدِّك، جدِّك كان مبسوط من حماس أبوكي أوي، والصراحة أبوكي كان شاطر وبيعرف يجيب القرش كويس، جمال خلَّص كليِّته واهتمّ بمحلِّ أبوه والرزق بقى حلو معاه، بس في ليلة واحدة صحي من النوم لقي المركب بتاعته ولَّعت..زعل عليها أوي، جدِّك وقتها وقف معاه وكمان أبوكي، أنا كنت في آخر سنة وعمَّال أزنِّ على جدِّك علشان أسافر أكمِّل تعليمي برَّة، وكان جدِّك له صاحب ابنِ حلال وفضل يقولُّه هوَّ فيه حد يبقى عنده ولد في كلية هندسة وشاطر كدا وماتسفروش، المهم أقنع أبويا في الوقتِ دا، وبدأت أجهِّز ورقي..
سحبَ نفسًا وذكرى الماضي تروادهُ واستأنف:
أبوكي وقف مع جمال لحدِّ مااشتروا مركب كبيرة والدنيا مشيت معاهم كويس، بس صاحب جمال دا مكنشِ عجبه فكرة الشراكة بينهم، وفضل يوقَّع بينهم، فاكر قبل سفري بيوم.. جدِّك بعتلي وقالِّي جمال طالب إيد فريدة إنتَ إيه رأيك؟..
-قولت له جمال راجل يابا، والراجل اللي يعرف ربُّه ميتخافشِ منُّه، سألني يعني أمشي على خيرةِ الله، قولت له لو هيَّ موافقة وافق، بس وقتها قالِّي طيب أختك نورا عينها من صاحبه، وأنا الواد دا مش مرتحله، أنا ضحكت وقولت له نورا إيه دي يابا دي لسة في أولى ثانوي، وسمير كبير عليها الفرق بينهم مش أقلِّ من تمن سنين، لا دي عيِّلة ومع الوقت هتنسى، المهمِّ سافرت على طول بعد خطوبة جمال وفريدة، ومرِّت السنين وجدِّك مات وأنا نزلت بعد موته، فريدة كانت متجوِّزة في الوقتِ دا وحامل، ووقتها مامتك كانت في أولى جامعة، وعرفت إنِّ أبوكي عايز يتقدملها، أنا رفضت في البداية علشان هوَّ كان معاه دبلوم، وأمِّك تعليمها عالي، المهمِّ سافرنا أنا وهيَّ وخالتك، في الوقتِ دا كنت عملت قرشين كويسين، واتعرَّفت على مالك العامري، عرض عليَّا شراكة وعملنا شركة صغيرة وربنا كرمنا والشركة كبرت، واتعلَّقت بأخته، واتقدمت لها، بس هيَّ شرطت عليَّا نعمل الفرح في مصر، نزل مالك قبلنا بكام شهر و اشترى البيت دا، وأمِّك نزلت كمِّلت تعليمها في القاهرة، ومعرفشِ قابلت محمود فين تاني، وإيه اللي حصل بينهم، لقيته جايلي في الشركة وبيطلبها منِّي تاني، بس المرَّة دي والدتك وقفت في وشِّي وقالت لي هتتجوِّزه، اضطريت أوافق لمّّا شوفتها متمسكة بيه، عدى سنتين من جوازهم وكانت الدنيا بينهم حلوة، وأنا سافرت كام سنة ولمَّا رجعت شوفت الحياة الوردية اللي كانت بينهم ضاعت، بس أمِّك ماكنتشِ بتحكي حاحة، ومرِّت سنين كتيرة لحدِّ ما رجعت واستقرِّيت هنا وعرفت اللي حصل لجمال وطبعًا الباقي إنتي عرفاه، بس قبل ماوالدتك ماتموت بكام سنة حصل خناقة كبيرة في بداية تعبها، وقتها عرفت إنِّ محمود لقي الورقة دي في كتب أمِّك، وطبعًا الجواب كلُّه حب وعشق زي ماإنتي قرأتيه كدا، محمود أخدها على رجولته إزاي تتجوِّزيني علشان تنسي واحد تاني، وأقسم ليدوَّقها الويل..
-بس ماما إزاي تعمل كدا؟..والجواب دا عمُّو جمال شافه؟..
-الجواب دا فيه حاجة معرفتش أوصلَّها، ليه هيَّ كتبته لجمال، وإيه اللي حصل بين سمير وجمال؟!..
أنا معرفشِ بس اتفاجأت من كلام والدتك وهي بتقولِّي اسأل جمال،
.يعني تفتكر عمُّو جمال عرف حاجة عن صاحبه دا وهوَّ السبب، أنا مش فاهمة حاجة..
-معرفشِ لأن جمال مات، ومتقابلناش، ولمَّا نزلت السويس عرفت إنِّ سمير دا بقى غني أوي، بس زي ماجدِّك قال عليه زمان، مشيُه كان غلط، وفعلًا كان هربان من الحكومة، فيه الِّلي يقول كان بيتاجر في المخدرات، وفيه اللي يقول لا دا كان بيموِّل سلاح وبيتاجر في الأعضاء، بس اللي متأكِّد منُّه بعد اللي حصل دا..إنِّ الراجل دا هوَّ السبب في اللي حصل لجمال..
نظرت إلى الورقة وبدأت تعيدُ قراءتها، ثمَّ رفعت عينيها إلى زين:
-يعني بابا عرف أنُّه هوَّ اللي كان مقصود إنَّها هتتجوِّزه علشان تنسى سمير دا؟!..
-للأسف أه، علشان أبوكي كان بيحبَّها جدًا، ورفض الجواز، بس لمَّا قرَّب منها واتجوزوا عرف إنَّها كانت بتحبِّ سمير
-خالو أنا مبقتشِ فاهمة حاجة، إيه الحوارات دي كلَّها!!
هزَّ رأسهِ ممتعضًا وأردفَ قائلًا:
-وسهام كانت بنتِ مرات أبو سمير
برَّقت عينيها تطالعهُ بصدمة:
-يعني إيه، أوعى تقولِّي كانت بتحبِّ بابا علشان كدا اتجوِّزته تنتقم منُّه ومن ماما؟..
نهضَ من مكانهِ متَّجهًا نحو مكتبه:
-حبيبتي ماتشغليش نفسك بالماضي، حاولي ماتسأليش، قومي شوفي جوزك علشان لازم نخرج وجهزي نفسك، عايزك تقربي انت ومريم من عمتك فريدة، هي كويسة جدًا، غير اللي راجح قاله زمان عليها
-ماما برضو مصدقتش ولا كلمة ..
ربت على كتفها وأشار إليها بالخروج
مرّت أسابيعٌ ثقيلة، لم يتغيَّر فيها شيء سوى استعادةِ إسحاق بعضًا من عافيته، لكنَّه ما إن علمَ بما حدث لأرسلان ليشعرَ بزيادةِ آلامٍ أقوى من آلامِ المرض، حاول النهوض رغم تحذيرِ الأطباء ولكنَّه لم يستمع لتحذيراتهم، نهض بصعوبةٍ من سريره رغم آلامه، وكأنَّ أبوَّتهِ وحدها هي التي تقودهُ للوصولِ إلى أرسلان..
ساعدتهُ دينا والممرِّضات في الوصولِ إلى غرفة فلذةِ كبده، دلف إلى الداخل، وقعت عيناهُ على غرام، التي كانت تغفو على المقعد بجوارِ السرير، دقَّقَ النظرَ بملامحها الشاحبة، وعيناها المتورمتين من البكاء حتى حاولت الهروبَ منه بالنوم، نزل ببصرهِ على بطنها التي بدأ يظهرُ عليها آثارُ الحمل..
شعرت بدخولِ أحدهم، فانتفضت متأوِّهة، رفعت رأسها بسرعة، وحين رأتهُ تجمَّدت في مكانها، وكأنَّ رؤيتهِ أعادت الأمل..ردَّدت اسمهِ بدموعٍ تهوي على وجنتيها بلا توقُّف، خنقت شهقتها وهي تهمسُ بصوتٍ متهدِّج:
“عمُّو إسحاق..!”
رفعَ إسحاق نظرهِ إلى دينا، مشيرًا إليها أن تدفعَ كرسيهِ للاقترابِ من السرير، ورغم أنَّ الحركة كانت تؤلمه، لكنَّ الوجعَ الأكبر كان ذاك الذي يتمدَّدُ على الفراشِ كالجثُّةِ الهامدة، هنا شعرَ بقلبهِ يعصفُ كنيرانٍ متأجِّجة، دنا من أرسلان، ثمَّ التفتَ إلى غرام وأشارَ إليها أن تقترب..
خطت نحوهِ ببطء، تشعرُ بأنَّ قدميها مقيَّدتانِ بثقلِ الحزن، ودموعها لا تزال تنسابُ بلا إرادةٍ منها، اقتربت أكثر، حتى باتت قريبةً بما يكفي لرؤيةِ الألمِ المنعكسِ في عينيه، رغم ما يشعرُ به إلَّا أنَّه رسمَ ابتسامةً واهنة، بعينينِ تلمعانِ بالرجاء، ثمَّ همسَ بصوتٍ مبحوح:
– “هيفوق..متأكِّد من كده..”
شهقت غرام، تضع كفَّيها المرتجفتينِ على فمها، وابتعدت قليلًا وكأنَّها تخشى أن تمنحها كلماتهِ أملًا يخونها..أمَّا إسحاق، فقد أخذَ كفَّ أرسلان بين يديه، ضمَّهُ بقوة، ثمَّ رفعهُ إلى شفتيه، يطبعُ عليه قبلةً عميقة، وكأنَّ قبلتهِ رجاءً خاصًّا يرجوهُ أن يعود، ليهمسَ بخفوتٍ وقلبٍ يأنّ:
– “حبيبي..ألف سلامة عليك..يا ريت أنا الِّلي كنت مكانك..”
انفجرَ بكائهِ كعاصفةٍ اجتاحت حصونهِ التي ظنَّها منيعة..لأوَّلِ مرَّة أمام دينا، التي رأت تهاوي الرجلُ الذي لم ينحنِ يومًا، الرجلُ الذي لم يعرف للضعفِ طريقًا، لكنَّه الآن مجرَّدُ أبٍ تخلَّت عنه قوَّته، ينهارُ أمام ابنهِ المسجَّى، يراقبُ حياتهِ تتسرَّبُ من بين يديهِ كحفنةِ رملٍ تتتسرب من بين انامله
شهقَ شهقةً مكتومة، و الألمُ يسحقُ صدره، يشعرُ بأنَّ الضلوعَ تضيقُ على قلبهِ في محاولةٍ لكتمِ نحيبه، لكنَّه لم يستطع، استندَ بكفِّه يتألَّم، ليصلَ إلى جبينه، ولكنَّه سقطَ على ركبتيهِ بجوارِ السرير، لترتفعَ شهقاته، اقتربت دينا وغرام سريعًا منه، ولكنَّه أشارَ لهما بالابتعاد، ثمَّ بسطَ يديهِ وأمسك ِبيد أرسلان الباردة، ضمَّها إلى وجنتيهِ ودموعهِ تتساقطُ فوقها كرجاءٍ أخير.. “أرسلان..حبيبي آسف ياحبيب عمَّك، كنت عارف الموضوع صعب، وعارف حياتك هتكون في خطر ورغم كدا بعتَّك هناك، حبيبي متعملشِ فيَّا كدا، يالَّه حبيبي فوق، عمَّك هيموت من غيرك، لسة فيه حاجات كتيرة عايز نعملها مع بعض..
دلفت فريدة يجاورها إلياس، ولكنَّها
توقَّفت في مكانها، وكأنَّ الزمنَ قد توقَّف من حولها، ترى ذلك المشهدَ بقلبٍ مضطربٍ وعينينِ غارقتينِ في الدموع، هل هذا اسحاق الذي كان يهدِّدها، الآن هو جاثيًا على ركبتيهِ بجوارِ ابنها، الرجلُ الذي يهابهُ الجميع، الرجلُ الذي لم يُرَ يومًا إلَّا واقفًا شامخًا، صلبًا كالصخر، يركعُ الآن بقلبٍ خاضعٍ منكسرٍ بحزنٍ أمام صغيرها..
تسارعت أنفاسها وهي تراقبُ تلك اللحظةِ التي لم تكن تحلمُ برؤيتها، لحظة سقطت فيها الأقنعة وظهرَ الوجهُ الآخر للرجل..الذي اعتقدت يومًا أنَّ الرحمةَ لا تعرفُ طريقًا إليه، امتلأت عينيها بالدموع، لكنَّها لم تكن دموعُ خوفٍ أو صدمة، بل كانت دموعُ امتنان، دموعُ أمٍّ رأت لطفَ اللهِ يتجلَّى أمامها في أبسطِ صورةٍ وأعمقها في آنٍ واحد.
خطت خطوةً بالقربِ منهما، وقلبها يعتصرُ بين الألمِ والدهشة، رفعت يدها المرتعشةِ تغطِّي فمها، وكأنَّها تمنعُ شهقةً كادت تفلتُ منها، وهي تستمعُ إلى رجاءِ وتوسُّلاتِ اسحاق لابنها، صغيرها الذي لطالما خشيت عليه من بطشِ الزمن، ها هو اليوم ينالُ حنانًا من رجلٍ لم تكن تظنُّ أنَّه يملكه.
تذكَّرت الليالي التي أمضتها تدعو الله بحمايةِ أولادها، أن يضعَ في طريقهم من يخشى عليهم كما تفعل هي..
واليوم..ترى الإجابة أمامها، في مشهدٍ لم تكن تتخيَّلهُ حتى في أعمقِ أحلامها.
بصوتٍ مرتعش، بالكادِ استطاعت أن تهمس:
“سبحانك ربي..كم أنت رحيمٌ بعبادك!”
نظرَ إليها إلياس، كأنَّه قد وجدَ نفسهِ في انعكاسِ دموعها..لم يقل شيئًا، لكنَّه كان يعلمُ أنَّ الله أحنُّ على عبده من الأم…نعم عزيزي القارئ
فحبُّ الله لعبادهِ ورحمتهِ بهم لا حدودَ له، وهو أقربُ إليهم من أنفسهم، يسمعُ دعاءهم، ويعلمُ خفايا قلوبهم، ويغفرُ زلاتهم إذا تابوا…قال تعالى: “ونحن أقربُ إليه من حبلِ الوريد” فاللهُ أقربُ إلينا بعلمهِ ورحمته، فلا يحتاجُ العبدُ إلى وسيطٍ بينه وبين ربِّه..
ومن رحمتهِ أنَّهُ يفتحُ أبوابَ التوبةِ في كلِّ لحظة، يقولُ النبي ﷺ: “إنَّ الله يبسطُ يدهِ بالليلِ ليتوبَ مُسيءَ النهار، ويبسطُ يدهِ بالنهارِ ليتوبَ مسيءَ الليل” (رواه مسلم).
إذا ضاقت بك الدنيا، فاذكر أنَّ اللهَ معك، يسمعُ أنينك، ويرى دموعك، ويرحمُ ضعفك، ويفرِّجُ كربك..فهو الرحمنُ الذي لا تتبدَّلُ رحمته، وهو الغفورُ الذي لا ينفدُ عفوه، وهو الودودُ الذي يحبُّ عبادهِ أكثر مما يتخيَّلون.
اللهمَّ اجعلنا من الذين يحبونكَ ويأنسونَ بقربك، ولا تحرمنا لذَّةَ مناجاتكَ ورحمتكَ الواسعة.
اقترب منه إلياس يربتُ على كتفه، ثمَّ ساعدهُ بالجلوسِ على مقعده، لم يقل شيئًا سوى:
-رجَّعوني أوضتي…قالها ليدفعَ المقعد إلياس، بينما اقتربت غرام من فريدة تبكي بشهقاتٍ مرتفعة، ضمَّتها فريدة تمسِّدُ على ظهرها بحنانٍ أمومي قائلة:
-أرسلان هيفوق صدَّقيني، عمره ربِّي ماخذلني، أنا واثقة في رحمة ربِّي حبيبتي، ادعي وقولي يارب عبدك بين رحمتك، فارحمه، ماهو إحنا عايشين برحمة ربِّنا، ربِّنا أحنّ على عبده أكتر من أيِّ حد…قالتها بشرودٍ ومشاهدُ الماضي من خطفِ أبنائها تمرُّ أمامَ عينيها..
عدَّةَ أيامٍ أخرى والوضعُ كما هو…
ذهب إلياس إلى عمله، وقلبهِ مثقلًا بالهموم، وكأنَّهُ منشطرٌ نصفينِ بين ألمِ أمِّه الساكنة بجوارِ أرسلان، وغضبه المكبوتِ تجاه كلِّ ما يجري حوله.. ثلاثةُ شهور وأرسلان لا يزال في غيبوبة، محنةٌ لا يعلمَ إن كانت ستنتهي أم لا..زفرَ بضيقٍ وهو يركنُ سيارتهِ أمام عمله، نزلَ منها بخطواتٍ مثقلة، وكأنَّ الأرض تلتصقُ بقدميهِ، لا يريدُ أن يصابَ بفراقِ أخيه..
وصل إلى مكتبهِ وباشرَ عملهِ محاولًا الالتهاءَ بقضاياه، ورغم انشغاله، لكنَّ عقله ظلَّ معلَّقًا بحالةِ أرسلان، قطع شرودهِ رنينُ هاتفهِ الحاد، نظر إلى الشاشةِ بجمودٍ قبل أن يجيبَ بلهجةٍ مقتضبة:
– خير؟ في حاجة؟
أتاهُ صوتُ أحدِ رجاله متردِّدًا:
– مدام رانيا مش مبطَّلة تخبيط على الباب من الصبح، ومن امبارح رافضة الأكل خالص.
أغمضَ عينيهِ للحظة، لكن سرعان ما اكتسى وجههِ بجمودٍ قاسٍ..فرك جبينهِ بتوتُّرٍ قبل أن يتمتمَ ببرودٍ متصنِّع:
-خلِّيها تموت، مش ناقص قرف على الصبح.
قالها وهو يغلقُ الهاتف بعنف، ثمَّ التقطَ هاتفًا آخر واتَّصل بأحدِ رجاله:
– إيه آخر أخبار راجح؟
أتاه الردُّ سريعًا:
– مفيش يا باشا، بيبني مصنع جديد للمجمَّدات، من الشغلِ للبيت، والخدَّامة بتقول إنُّه بقى قليل الخروج جدًا، عكس الأوَّل..
قبضَ إلياس على القلم في يدهِ بقوَّة حتى كاد ينكسر، أخذ نفسًا عميقًا وأردفَ بحزم:
– فتح عينيك كويس، أيِّ خبر حتى لو تافه عايز أعرفه.
أنهى المكالمة وألقى الهاتف على المكتب، ثمَّ أسند ظهرهِ للكرسي وحدَّق في السقفِ بشرود..همس لنفسهِ بسخريةٍ مريرة:
– يا ترى بترتب لإيه يا راجح؟ هل هتسمع كلام ابنِ الدمنهوري وتقتلني، ولَّا أخيرًا هتعمل حاجة صح في حياتك؟
قاطعهُ طرقاتٍ على الباب ليدخلَ شريف دون انتظارِ إذن، متوجِّهًا إلى مكتبهِ وجلس قبالتهِ وهو يسأل باهتمام :
-أرسلان عامل إيه؟
هزَّ إلياس رأسه، ومسحَ على وجههِ بتعبٍ وردَّ بصوتٍ خافت:
-زيِّ ماهو، مفيش جديد…
لم يعلِّق شريف، لكنَّ الحزنَ في عينيهِ كان كافيًا، وكأنَّ الكلام صار بلا فائدة.. اعتدل في مقعدهِ وحدَّق فيه بحدَّة وأصدرَ أمره:
– عايزك تنقل طارق الشافعي في حبس منفرد، وممنوع زيارات، حتى من راجح نفسه.
تجعَّد جبينُ شريف بقلق وهو يسألُ مستنكرًا:
-ليه؟!
نظر إليه بجمودٍ وقال بصرامةٍ قاطعة:
-من غير ليه، نفِّذ وبس.
اكتفى بإيماءةٍ صغيرةٍ ونهضَ مغادرًا، تاركًا إلياس ليعودَ إلى عمله وهو يهمسُ لنفسه:
-لمَّا أشوف أخرتها معاك إيه ياعمِّي..
بعد عدَّةِ ساعاتٍ عاد إلياس إلى فيلا السيوفي، بدا عليهِ الإرهاق رغم محاولاتهِ الصارمة لإخفائه، دلفَ إلى الداخل وجدَ ميرال بانتظاره، تطلَّع إليها بعينينِ تنبضانِ بالقلق، من وقفتها وتوتُّرها الواضح..
رفعَ حاجبيهِ متسائلًا بحذر:
– خير..رايحة فين؟!
ردَّت بعينينِ مليئتينِ بالغضب والضيق:
– عايزة أروح لغرام..ماما كلِّمتني وقالت إنَّها تعبت، وإسحاق أجبرها على مغادرة المستشفى..
شهقت وهي تحاولُ تهدئةِ أنفاسها، وتابعت بصوتٍ مختنقٍ بالاستنكار:
– انهارت طبعًا، مش عايزة تسيب جوزها..إزاي يعمل كده؟!..إزاي يبعدها عنُّه وهوَّ في الحالة دي؟!
نظرَ إليها إلياس بصمتٍ لوهلة، ثمَّ زفر ببطء، يحاولُ امتصاصَ ثورةِ غضبها:
– اطلعي غيَّري هدومك..مفيش خروج.
قالها بصوتٍ منخفضٍ لكنَّه حازم بجملةٍ لا تحتملُ النقاش..واستطردَ بوضوح:
– كويس اللي إسحاق عمله، ثمَّ تابع ببرود، متجاهلًا رعشةَ الغضبِ التي بدأت بالوضوحِ على ملامحها:
– لازم يأمِّن المستشفى كويس..أرسلان دلوقتي مكشوف لناس ماكانشِ ينفع يظهر قدَّامهم..فكده أحسن، كفاية عليه خوفه على أرسلان، ميبقاش الاتنين.
فتحت فمها بدهشة، تكادُ لا تصدِّقُ ما تسمعه، ثمَّ ضاقت عينيها بانفعالٍ وهي تهتف:
– أكيد بتهزر؟!..
حدقها بنظرةٍ قاتلةٍ كانت كافية لصمتها..لكنَّها رفعت ذقنها بتحدٍّ، محاولةً أن تكبحَ رعشةَ الغضبِ في صوتها:
– غرام مش بخير..كلِّمتها عشرين مرَّة وما بتردش!!ملك قالت لي إنَّها منهارة، بتعيَّط ومش قادرة تستوعب اللي بيحصل، إزاي توافق إنُّه يبعدها عن جوزها بالقوة؟!
توقَّفَ في منتصفِ خطواته، واستدار إليها ببطء، يطالعها بنظراتٍ تدلُّ على رفضهِ القاطعِ بملامحهِ الجامدة، وردَّ بنبرةٍ لا جدالَ بها:
– ولو قولت لأ؟ هتعارضيني ياميرال؟!
همست بارتباك، وصوتها ينخفضُ رغمًا عنها:
– إلياس..مش قصِّة معارضة، دي غرام!! مش هقدر أسيبها لوحدها في اللي هيَّ فيه..
قالتها وهي تستجديهِ بعينيها للحظة، لكنَّه لم يكن رجلًا يُقادُ بالعاطفة..ظلَّ يتابعها بنظراتٍ صامتة.
تقدَّمت نحوهِ خطوةً أخرى، أمسكت بكفَّيهِ بين يديها، نظرت إليه بتلك بنظرة مشوبة بالرجاء
– حبيبي، اسمعني..خدني معاك، لمَّا تروح لأرسلان، عدِّي بيا على غرام.. أطمِّن عليها، وبعدها نرجع سوا..
شيء ما في ملامحه تغيَّر، لكنَّه لم يكن ما تمنت..نظر إلى كفَّيهِ المحصورينِ بين راحتيها:
-حبيبك..طيب ياروح حبيبك أكيد مش هغيَّر كلامي، وبلاش شغلِ المراهقين دا، إحنا مش في أوضةِ النوم..قالها مبتعدًا يسحبُ كفَّيه، واستأنفَ حديثه:
-بكرة هوديكي بس دلوقتي صعب أوي تمام..قالها وصعدَ إلى غرفتهِ دون إضافةِ شيئًا آخر..
توقَّفت تطلَّعُ إلى صعودهِ بقلبٍ مضطرب، شعرت بما يشعرُ به، نعم هي تعلمُ أنَّه تحمَّلَ فوق طاقته، جلست لبعضِ الدقائق تسحبُ أنفاسها عدَّة مراتٍ حتى تتحكَّمُ في موجةِ غضبها، ثم نهضت متَّجهةً إليه،
دلفت للداخلِ بخروجهِ من الحمَّام متوجِّهًا إلى غرفةِ ثيابه، تقدَّمت نحوه تفركُ كفَّيها والكثيرُ من الكلماتِ تتوقَّفُ على شفتيها، لا تعلمُ أهي كلماتُ عتابٍ أم رجاءٍ أم غير ذلك، توقَّفت خلفهِ مباشرةً تهمسُ اسمهِ بخفوتٍ متقطِّع..
جذبَ كنزتهِ مستديرًا إليها وأشار بسبَّباته:
-ميرال أنا تعبان ومش قادر أجادل، هتسبيني أرتاح شوية ولَّا أروح المستشفى..
تحرَّكت إلى أن التصقت بجسدهِ تلفُّ ذراعيها حول خصره، ووضعت رأسها بأحضانه:
-أسفة عارفة ضغطت عليك بكلامي، بس واللهِ غرام صعبت عليَّا مش أكتر، وإنتَ عارف أختها صغيرة غير إنَّها عايشة بعيد جدًا عن أهلها، حسِّيت بوحدتها وحبيت أخفِّف عنها، بس بدل إنتَ شايف مينفعش خلاص مش هروح..
رفع كفَّيهِ فوق خصلاتها يمسِّدها، ثمَّ طبع قبلةً فوقها وأردف:
-أنا كمان اتعصبت عليكي، متزعليش منِّي، حقيقي محتاج أنام ساعتين مش قادر أصلب طولي..
رفعت رأسها وطبعت قبلةً على وجنتيه، وابتسمت تنظرُ إليه بعيونٍ لامعةٍ بعشقهِ قائلة:
-ارتاح وأنا هنزل أعملَّك الغدا بإيدي، وكمان أجهز حاجة لماما فريدة..
احتضنَ رأسها مغمضَ العينينِ وتحدَّث:
-مش عايز آكل ولا عايز حاجة غير أنام وبس، وأتمنَّى مراتي هيَّ اللي تنيِّمني..
سحبت كفِّهِ وتحرَّكت إلى السرير، ثمَّ أشارت إلى المنشفة:
-هتنام بالفوطة، يالَّه البس هدومك، وأنا هغيَّر وأرجعلك..قالتها وانسحبت متَّجهةً نحو خزانة ثيابها، دقائقَ معدودة حتى عادت إليه وجدتهُ غارقًا بنومه، اقتربت تجذبُ الغطاءَ فوقهِ بعدما نظرت إلى حرارةِ المكيف، ثمَّ دثَّرت نفسها بأحضانهِ تضعُ رأسها على صدرهِ محتضنةً ذراعيه:
-ربنا يخلِّيك ليَّا يارب، قالتها ثمَّ قبَّلت وجنتيه..ظلَّت بجوارهِ لبعض ِالوقت، بعد فترةٍ نهضت متَّجهةً إلى المطبخ لإعدادِ وجبةِ طعامه.
بمنزلِ يزن..
جلس على طاولةِ الطعام ينظرُ إلى أختهِ التي تتلاعبُ بالطعام، حمحم وهو يلوكُ طعامه:
-كريم كلِّمك النهاردة؟..هزَّت رأسها ثمَّ رفعت عينيها إلى أخيها الأصغر:
-معاذ عايز يقدِّم في النادي لتدريب الكرة، وقالِّي أقول لحضرتك..
مضغَ طعامه، ثمَّ تطلَّع إلى أخيهِ وتمتم:
أشوف نتيجتك الأوَّل، لو كويسة هقدملَّك في النادي، أمَّا لو ماقفلتش انسى حتى اللعب في الشارع،
اتَّجهَ إلى أخته:
-عاملة إيه في الكلية؟..
-كويسة الحمدُ لله، هزَّ رأسهِ عدَّة مرَّات، ومازال يتابعُ هروب عينيها ليهتفَ مردِّدًا:
-زعلانة ليه من كريم؟..
رسمت الذهول ثمَّ جذبت الخبزَ متصنِّعةً انشغالها بالطعام..قطب جبينهِ من صمتها فأردفَ متسائلًا:
-أنا اللي أجِّلت الخطوبة السنة دي، أوَّلًا خال كريم اللي اتوفى، ثانيًا حالة أرسلان، ثالثًا والأهم عايزك تاخدي سنتين على الأقلِّ في الكلية، لأنِّي متأكِّد وقت ماكريم يكتب كتابه هيقول عايز يتجوِّز، ومش هقدر أقولُّه لا..فهمتي قصدي؟..
فركت كفَّيها تهزُّ أكتافها باعتراض:
-أنا مش زعلانة علشان كدا، مين اللي قالَّك الكلام دا؟!.
-كريم..
جحظت عيناها تطلَّعُ إليه مصدومةً بما فعلهُ كريم، نهض من مكانه:
-اعمليلي شاي وتعالي على أوضتي عايز أتكلِّم معاكي شوية، وإنتَ يامعاذ اطلع العب شوية مع صحابك..لمَّا أخلَّص كلامي مع أختك علشان تيجي معايا المستشفى.
مرّت أيَّام أخرى، والحال كما هو… أرسلان لا يزال غائبًا، معلَّقًا بين الحياةِ والغيبوبة..بغرفة فريظة
تجمَّعَ أولادها حولها في المستشفى، يحاولونَ التخفيفَ عنها، وكلًّا منهم يُخفي وجعهِ خلف ابتسامةٍ باهتة.
وفي المساء دلف زين برفقةِ آدم وإيلين، وجوههم مشبعة بالشوقِ والقلق.
اقتربَ زين الذي يطالعها بنظرةٍ حزينة، ينطقُ بصوتٍ دافئ:
– حمدَ الله على السلامة يافريدة.
ابتسمت له ابتسامةً واهنة، وكأنَّها تُجاهدُ لتظهرَ قوَّتها:
– الله يسلمك يابنِ عمِّي.
تقدَّم َمصطفى من خلفهم، احتضنَ كفَّ زين برفق، ثم تنحَّى جانبًا ليتركَ المجال لإيلين..
اقتربت إيلين واحتضنت فريدة بحنان، وهمست بقلبٍ مفعمٍ بالحب:
– ألف سلامة عليكي يا عمِّتو…الحمدُ لله إنك عدِّيتي الأزمة، احنا جينا لحضرتك قبل كدا، بس الدكتور كان مانع الزيارة، انا اتكلمت مع الدكتور، طمني الحمد لله ،بس بجد، لازم تاخدي بالك من نفسك، قلبك مش ناقص وجع أكتر من كده..
تكوَّرت الدموعُ في عيني فريدة، ولم تستطع الرد سوى بهمسةٍ مبحوحة:
– تسلميلي يا حبيبتي…
ثمَّ لاحظت بطنَ إيلين المنتفخة قليلًا، فذهبت ببصرها نحوها وربتت على كفَّيها المتشابكتينِ فوقها، وهمست بدهشةٍ دافئة:
– إنتي…حامل؟!..
قاطعهم آدم وهو يسحبُ مقعدًا ليجلسَ بجانب فريدة:
-عاملة ايه ياعمتو، إنما اللي بيتححز في المستشفى بيحلو كدا
شقت شفتيها ابتسامة، لترفع عيناها إلى زين
-آدم فيه كتير منك يازين ..!!
اومأ زين برأسه قائلًا:
-علشان كدا هيسمي ابنه زين…نقلت فريدة بصرها إلى ايلين قائلة
– مبروك ياحبيبتي؟
ابتسمت إيلين ابتسامةً خجولة، ودمعةٌ فرَّت من عينيها:
– الله يبارك فيكي عقبال ماتفرحي بابنِ أرسلان يارب..
هنا لم تقوَ فريدة على كبحِ دموعها، وبكت بحرقة، قائلةً من بين بكائها:
– ربنا يتمملك على خير يا بنتي… وتفرحي بيه، وتعيشي اللي محروم منُّه قلبي.
اقترب زين، ووضعَ يدهِ على كتفها:
– إن شاء الله أرسلان هيقوم..ويحضر كلِّ لحظة حلوة جاية، أنا واثق من كدا..
ردَّ مصطفى بيقين:
– وأنا متأكِّد من كدا..
سادَ صمتٌ مليء بالرجاء، قبل أن تهمسَ فريدة:
– كلِّمته كتير يا مصطفى، وهوَّ مش حاسس بيا، قولت أروح له أشكي له وجع قلبي يمكن يسمعني، يمكن قلبه يرد عليَّا ويفوق لمَّا يعرف أمه هتموت عليه..
قاطعتها إيلين وهي تمسكُ يدها:
– هوَّ أكيد سامعك…والأمل جواكي هو اللي هيصحِّيه، إن شاءالله ياعمِّتو هيفوق..
-تفتكري بعد الوقت دا كلُّه هيفوق..
قالتها فريدة توزع نظراتها بينهما
ساد الصمتُ في المكانِ لوهلةٍ بعد كلماتها التي لامست قلوبُ الجميع، وامتزجت نظراتهم بالحزن، وارتسمت على وجوههم علاماتُ الشجن، حتى قاطعهم دخولُ إلياس بهدوءٍ مرسومٍ رغم ثقلِ تحرُّكِ قدميه..دلفَ ولكن ليس كطبيعتهِ كأنَّهُ يجرُّ ساقيهِ رغمًا عنه..
تجوَّل بنظرهِ بينهم، ثمَّ قال بصوتٍ خافت:
– مساء الخير…؟!
التمعت عينا فريدة ببريقٍ لامع، رغم انطفائها منذ سفر أرسلان، تلاقت نظراتها بإلياس، فبادرته بهمسةٍ دافئةٍ اختلط فيها الحبُّ بالحنانِ الأمومي:
-مساء النور عليك…ياحبيبي.
أوقفَ آدم وزين حديثهما مع مصطفى ليردَّا التحية، اقتربَ إلياس وجلس بينهم،أمَّا ميرال اتَّجهت إلى فريدة وانحنت تطبعُ قبلةً حنونةً فوق جبينها:
-عاملة إيه النهاردة ياستِّ الكل، لم ترد على ميرال ولكن عيناها كانت تتأمَّلهُ وكأنَّها تخشى أن يختفي مثل أخيه، شعرَ إلياس بثقلِ تلك النظرات، فابتسمَ بخفَّةٍ ونهض يقتربُ منها، ثمَّ مدَّ يدهِ نحو كفِّها برفق، وهو يقولُ مازحًا:
-لحظة يا ميرال، علشان مدام فريدة راجعة تاني بنظرات السهوكة دي..
ضحكت ميرال رغم الألم، ونظرت إلى فريدة ممازحة:
– لو ماقالش “مدام فريدة” يبقى ابنك أكيد عيان..
تشابكت أصابعها بكفِّه، ثمَّ نظرت إليه بعمق، وتمنَّت أن تضمُّه، علَّها تجدُ به رائحةَ أخيه، ولكن خاب تمنِّيها حينما جلسَ بجوارها وتحدَّث بنبرةٍ ثابتةٍ علَّه يخرجُ حزنها:
-مش لايق عليكي الرقدة دي، إحنا عدِّينا الليفل دا، يعني دا كان زمان علشان تتأكِّدي إننا خايفين عليكي، دلوقتي ليه الضعف والبؤس اللي حضرتك بتحاولي تبينيهم!!
-إلياس إيه اللي بتقوله دا؟!…نطقتها ميرال بنبرةٍ غاضبة، ولكنَّه لم يهتم ومازالت نظراتهِ صوبَ فريدة وتابعَ مستطردًا:
-فريدة السيوفي مش ضعيفة للنوم دا، لازم توقف على رجليها..قاطعته عندما ألقتهُ بسؤالها الذي جعلهُ
عاجزًا عن الرد:
– لمَّا رحت لأخوك…كان زي ما هوَّ، يعني إنتَ ما اتكلمتش معاه؟..قالتها بانسيابِ دموعها..
صمتَ لبعضِ اللحظات..ودارت نظراتهِ بالغرفة يتهرَّبُ من النظرِ لدموعها التي أضعفته، حتى وقعت عينيهِ على مصطفى وزين اللذان كانا منشغلانِ بأحاديثهما الجانبية، لفَّت وجههِ بعدما علمت بثقلِ كلماتها عليه، ثمَّ تساءلت مرةً أخرى:
-مش بتردِّ على أمَّك ليه يابنِ جمال؟..إنتَ مفكَّرني مش حاسة بيك، انحنى ليطبعَ قبلةً دافئةً على جبينها، وقال بصوتٍ مكسوٍّ بالأسى:
– ماما…أرسلان اتصاب قبل ماأسافر، يعني لا أنا شُفته…ولا هوَّ شافني.
هزَّت رأسها بدموعها قائلة:
– قولت لك قلبي وجعني عليه، بس إنتَ قولت إيه وقتها، بطَّلي ترسمي الدور، قولِّي أعمل فيك إيه دلوقتي..
-اللي إنتي عايزاه…لفظها متوقِّفًا ثمَّ توجَّهَ بنظرهِ إلى زوجته:
-عندي شغل مهم، ماتخرجيش من غير حراسة، وخلِّي بالك من يوسف…قالها واستدارَ معتذرًا من الجالسين وغادرَ المكان..
نهضَ مصطفى بعدما شعر بالأسى بخطواته، واتَّجهَ إلى فريدة وميرال:
-إلياس مشي ليه؟!..
ضغطت ميرال على شفتيها تمنعُ دموعها، الآن شعرت بكمِّ الألمِ الذي يحملهُ فوق طاقته..هزَّت رأسها قائلة:
-هشوف النانا برَّة مع يوسف..قالتها وتحرَّكت سريعًا خلفهِ علَّها تلحقُ به..
بالخارجِ وصل إلى سيارتهِ فتحها ولكنَّه توقَّفَ حينما استمعَ لصيحاتها باسمه:
-إلياس..تلفَّتَ ظنًّا أنَّ بها شيئًا..ولكنَّها هرولت إليهِ ولم تكترث لوجودِ بعض الأشخاصِ وألقت نفسها بأحضانهِ تهمسُ إليه:
-متزعلشِ من ماما، عارفة أنا ضغطت عليك من شوية وكمان ماما..
تراجعَ يُخرجها من أحضانهِ بعدما وجد النظراتِ مصوَّبةً عليهما ثمَّ تحدَّث:
-مش زعلان..خلِّي بالك منها، وعدِّي على أرسلان، روحت أشوفه لقيت طنط صفية هناك، اتحرجت، يبقى ألقي نظرة عليه، وخلِّي بالك من الممرضات متثقيش في أيِّ مخلوق..
أومأت لهُ وتراجعت للخلف
بفيلا راجح..
دلفت الخادمة إليه مردفة:
-زين باشا برَّة عايز يقابل حضرتك ياباشا.
لوَّح بيدهِ بالانصراف دون حديثٍ ثمَّ أغلقَ حاسوبهِ ينظرُ بغموض:
-ياترى إيه اللي جابك يازين بعد خناقتك الأخيرة معايا؟..نهضَ من مكانهِ وتحرَّكَ للخارج وجدهُ يقف ينظرُ للحديقة، اقترب منهُ قائلًا بنبرةٍ تشوبها الغرابة:
-زين واقف برَّة ليه، إيه خلاص بنيت عدواة معايا ومش عايز تدخل؟!..ماهو راجح بقى الوحش في العيلة؛ بعد ماصدَّقت مرات جمال ومشيت ورا كلامها..
استدارَ إليه زين يرمقهُ بنظرةٍ غاضبة:
-راجح ماتستخفش بزين، أنا جاي بسأل سؤال وتجاوب عليه..اقتربَ يحدجهُ بنظرةٍ ناريةٍ واستطرد:
-فين رانيا، وإزاي تدفن أختي من غير ماأشوفها، إيه البجاحة اللي إنتَ فيها دي؟!..
قطبَ جبينهِ يردِّد جملته، ثمَّ تراجعَ يضعُ كفوفهِ بجيبِ بنطاله..ويلتفتُ بنظراتهِ بجميعِ الاتجاهاتِ قائلًا:
-إيه، كنت عايزني أسيب الجثة تتعفن، حضرتك مكنتش موجود؛ وأنا روحت لابنك لحدِّ عنده حتى طلبت أنُّه يساعدني في الإجراءات، أكيد ابنك قالَّك..
-راجح ماتلفش وتدور، ليه مااتصلتش بيا وأنا كنت أنزلك على أوَّل طيارة؛ إنتَ استغليت سفري لرحيل اللي حضرتك فضلت وراها لحدِّ ماطفشتها من البلد..
-لا..لا استنى يازين أنا مش هسمح لك إنَّك تتهمني بسفر رحيل، روح اسأل الواد الصايع اللي كانت متجوزاه عمل فيها إيه..
-راجح، قولت لك بلاش تستهبل زين، أنا عرفت كلِّ حاجة، عرفت تهديدك وخطف أختِ الواد علشان يطلَّق رحيل، عارف كلِّ بلاويك..
-أنا معملتش حاجة، لو عندك إثبات قدِّمه.
-بقى كدا..أخرجَ سيجارهِ ينفثهُ بالهواءِ الطلق، ثمَّ رمقهُ يهزُّ رأسهِ باستخفاف:
-أه كدا..وصل إليهُ زين وحدجهُ بتعمُّق:
-بتغلط وهتندم ياراجح ..قالها وتحرَّكَ مغادرًا المكان..لحظات واستمعَ الى رنينِ هاتفه:
-أيوة ياراجح، الدنيا تمام، وجه الأمر من فوق، لازم تصفِّي الواد اللي هبعتلك صورته حالًا، والليلة دون تهاون بالأوامر، ياإمَّا كدا، ياإمَّا تقول على نفسك يارحمن يارحيم.
أغلقَ الهاتف، يطبقُ عليهِ بقوَّة، يجزُّ على أسنانهِ يهتفُ بفحيح:
-نفسي أخلَّص عليكم وأنتهي من قرفكم بقى، شوية أجناس حقيرة..استمعَ إلى رنينٍ بوصولِ رسالة، فتحَ الهاتف، ينظرُ بالصورة لتجحظَ عيناهُ بذهول:
-جمال!!..دقائق واقفًا بجسدٍ مشدودٍ وذكرياتُ الماضي تصفعهُ بقوَّة، ذكرى مؤلمة مرَّت أمامَ ناظريهِ كفيلم سينمائي حينما علمَ سببَ موت جمال لأوَّل مرَّة، وتمرُّ سنوات إلى أن يصلَ الأمر إلى موتِ ابنه..دارَ حول نفسهِ يحدِّثُ نفسه:
-يعني عرفوا أنهم ولاد جمال، طيب هتموُّته ياراجح، طب المرَّة اللي فاتت مكنتش تعرف، إيه..هتسمع كلامهم، هتموِّت ابنِ أخوك، لا، لا، فوق ياراجح، إنتَ تهدِّد أه، بس تموِّتهم لا..
ظلَّ دقائق يحدِّثُ نفسهِ كالمجنونِ الذي فقدَ عقلهِ إلى أن وصلت سيارة لبعضِ الأشخاص، ترجَّل منها أحدهم:
-الأوامر اللي عندنا نتحرَّك بعد دقايق، قدَّامنا خماستشر دقيقة داخل المستشفى، علشان في الوقتِ دا رجالتنا تعرف تتعامل كويس..
-ولو رفضت العملية؟..نطق بها راجح اقتربَ الرجلُ قائلًا:
-اتِّصل وعرَّفهم، معنديش أوامر بكدا، أنا هنا تحت أوامر معاليك ياراجح باشا، ظلَّ يدقِّقُ في الرجلِ بشرودٍ إلى أن رفع هاتفهِ مرةً أخرى يتحدَّثُ مع أحدهم:
-طارق خلال يومين يبقى برَّة السجن، وأكيد إنتَ عارف أنا هموِّت مين..
ارتفعت ضحكاتُ الآخر ثمَّ قال:
-معلش ياراجح بتحصل في أحسن العائلات، ماهو ياروحك ياروحهم..
عند إلياس..
ظلَّ عدَّةَ ساعاتٍ منكبًّا على عملهِ إلى أن أُنهكَ جسده، أمسكَ هاتفه وتحدَّثَ إلى الأمنِ الخاص به ليطمئنَّ على الجميع، أجابهُ أحد أفرادِ الأمن:
-كلُّه تمام ياباشا، مدام ميرال رجعت البيت مع إسلام باشا ويزن باشا كان معاهم، وإسحاق باشا لسة خارج من حوالي دقيقتين بالظبط، قال هيروح يغيَّر هدومه ويرجع تاني، ومصطفى باشا في أوضة فريدة هانم..
سحبَ نفسًا وزفرهُ بهدوء، ثمَّ نظرَ بساعةِ يدهِ قائلًا:
-قدامي ساعة وأكون عندك، فتَّح عيونك كويس، ماتقوفشِ تحت وبس، كلِّ عشر دقايق تطلع فوق، خلِّي بالك من أوضة فريدة هانم وأرسلان..
-عُلم ياباشا..قالها وأغلقَ الهاتف، ليعودَ إلياس إلى عملهِ مرَّةً أخرى، بعضُ دقائق منهكة إلى أن عادَ بجسدهِ مغلقًا عينيهِ يتنفسُ بهدوء، حتى غفا لدقائقَ معدودة بمكانه..
توقَّف يستندُ برأسهِ على الزجاجِ الشفَّاف، ينظرُ إلى الطبيبِ الذي يحاولُ إنعاشَ جسدِ أخيه، دقيقة خلف دقيقة، وكأنَّه يسيرُ فوقَ فجوةٍ بركانيةٍ ينظرُ إلى الطبيبِ بقلبٍ ينتفض، إلى أن وضعَ الطبيبُ جهازَ الصدماتِ متَّجهًا ينظرُ إليه بأسى:
البقاء لله…
كلماتٌ ماهي سوى حروفٍ باهتة، لكنَّها شقَّت صدرهِ كما لو أنَّها خنجرًا في خاصرته..
قالها الطبيب ومضى، أمَّا هو…وقفَ كمن سُلبت روحه، عيناهُ تبحثُ في الفراغِ عن معنى الكلمة التي أحرقتهُ
كأنَّ الأرضَ تبدَّلت فجأة..وشعر بثقلٍ بصدره، كأنَّ الهواءَ أثقل من أن يُتنفس.
كيف لفقدٍ واحدٍ أن يُطفئَ كلَّ أضواءِ الدنيا؟!..
كيف لحياةٍ كانت تمضي بثبات، أن تتهاوى فجأةً تحتَ وطأةِ الفراق؟!
لم يعد يسمع من حوله، لا بكاء، لا مواساة،
كلُّ شيءٍ بدا بعيداً…إلَّا صدى من رحل، لا يغيب، لا يهدأ.
توقَّف بجمودٍ لايبكي، لايصرخ،
لكنَّه ينهارُ بصمت، كمن يحملُ جبلاً من الحزنِ فوق صدره،
ولا أحد يشعرُ به سوى الذي مرَّ بتلك التجربة…هبَّ من نومهِ مستغفرًا ربه، بسطَ كفِّهِ الذي ارتعشَ رغمًا عنه يرتشفُ بعض قطراتِ الماءِ بصعوبة، ثمَّ نهضَ من مكانه يحملُ سلاحه، وتحرَّكَ سريعًا للخارج..
وصلَ إلى المشفى خلال دقائقَ معدودة، أنفاس سريعة متلاحقة، وعيناهُ تنبضُ بالقلق، ترجَّلَ من سيارتهِ يتلفَّتُ حوله، يراقبُ كافةَ الاتجاهات.. استقبلهُ رجلَ الأمنِ الخاص به، وقال بصوتٍ يحملُ مزيجًا من الاحترام :
-حمدَ الله على السلامة ياباشا.
أومأَ برأسهِ دون حديث، ومضى كالعاصفة، بخطواتٍ واسعة، كطائرٍ فقدَ عشُّهِ ويحاولُ اطمئنانَ قلبه، وصل إلى غرفةِ والدته، فتح بابها ببطء، وجدها نائمة، يسكنها الهدوء، فزفرَ بحرقة، حينما وقعت عينيهِ على المقعدِ الذي بجوارها، ليجد والدهِ غارقًا في النوم، رأسهِ مائل ويداهُ متشابكتانِ على صدره، كأنَّه غفا رغمًا عنه.
تراجعَ بهدوء، وعيناهُ معلَّقتانِ عليهما، ثمَّ اتَّجه نحو غرفةِ أرسلان..
دلفَ بخطواتٍ مرتجفة، وقلبًا يئنُّ بالألم، استمعَ إلى صوتِ الأجهزة الذي يملأُ الغرفة..
اقتربَ من السرير، وعيناهُ تحترق.. جسدهِ على ذاك الفراشِ الأبيض، كأنَّ الموتَ مرَّ عليه ثمَّ قرَّر أن يمنحهُ مهلة..
اقتربَ ثمَّ انحنى لأوَّل مرَّة، وطبع قبلة فوق جبينهِ بدموعٍ متحجِّرة في عينيه:
– أرسلان…طوِّلت أوي…مش متعوِّد منَّك على كده..فوق بقى.
شهقَ بخفوت، وكأنَّ صوتهِ كسرَ شيئًا في داخله:
– إيه!! مش ناوي تقتل راجح؟ طيب، قوم…واللهِ لأخلِّيك تقتله، يلا فوق، أنا ماصدقت اتلمينا..
جذب المقعد بعدما أخرج سلاحه يضع بجوار الفراش، وجلس يتطلع إليه ارتجفت أهدابُ أرسلان، وتحرَّكت شفتيهِ الجافتينِ بصوتٍ يكادُ يُسمع:
-أشرب…
اتَّسعت عينا إلياس، وفاضت ضحكةٌ صغيرةٌ من بين دموعه، ضحكة امتزجت بالذهولِ والفرحةِ والاشتياق، نهض من مكانه، وضعَ جبينهِ فوق جبينِ أخيه، ونطقَ بهمس:
-يخرب بيتك…ما تقومش غير لمَّا قولت لك هتموِّت راجح؟! ياريتني قولتلك من زمان…قالها بابتسامة..
فتحَ أرسلان عينيه، ثم أغمضهما، ثمَّ أعادَ فتحهما، يقاومُ الإضاءة..
مسحَ إلياس على رأسهِ بحنانٍ جارف، كأنَّه يطبطبُ على جرحهِ قائلاً:
– حمدَ الله على سلامتك…إنتَ كويس؟ هكلِّم الدكتور حالًا..
تلفَّتَ أرسلان بعينيهِ بالغرفة:
– أنا فين؟…إنتَ جيت إزاي؟..همس بها بصوت خافت متقطع من أثر التعب
– اسكت دلوقتي، هشوف الدكتور… وراجعلك.
مدَّ يدهِ لفتحِ الباب، لكن صوتَ اندفاعِ الباب قاطعه، اندفعَ ثلاثةُ رجالٍ بقوَّة للداخل، يرتدون زي الاطباء، طالعوه مذهولين،من وجوده، لأنهم يعلمون أنه بالمكتب…انتاب إلياس ريبة من اشكالهم، فاقترب يوزع نظراته بينهم
-انتوا مين، لكن لم تكن لديهم فرصة للجواب إذ أخرجَ أحدهم سلاحه، ولكن دفعَه إلياس وأسقطهُ، ونشبَ صراعًا بينهما، اقتربَ أحدهم،، بيدهِ إبرة يتَّجهُ بها نحو أرسلان؛ ليهتفَ الآخر الذي يقاتلُ إلياس بعد دفعهِ للآخر:
– خلَّص عليه بسرعة لازم نتحرَّك..
لكن إلياس كان أسرعُ منهم، ليصدمَ أحدهم بالجدار، ويركلَ الآخر ليصلَ إلى ضربِ “الطبيب” برأسهِ بقوَّةٍ على الحائط، ثمَّ عاد إلى خصمهِ الأوَّل في اشتباكٍ دامٍ، عنيف، صراع على الحياةِ والموت، لإنقاذِ أخيه..
حاولَ أرسلان النهوض، ولكن جسدهِ ثقيل، خانتهُ عضلاته، خانتهُ قوَّتهِ الضعيفة، كلَّ مااستطاعهُ هو أن يراقبَ أخاهُ يقاتل لأجله، وقعت عينيهِ على سلاحِ إلياس الذي وضعهُ على الكومودينو بجوارِ الفراش، أرادَ أن يصلَ إليه…لكنَّه لم يستطع، حاول الاعتدالَ بصعوبة، بسطَ كفِّهِ يزحفُ بجسده حتى وصل إليه يلتقطهُ سريعًا، حملهُ بيدٍ مرتعشة، ورغم شعورهِ بألمٍ يفتكُ به، رفعهُ مع ارتعاشِ جسدهِ بالكامل، ويطلقُ رصاصتهِ ولكن لم تصب هدفها، ليصلَ الرجلَ الذي أسقطهُ إلياس أرضًا إليهِ ويقومَ بضربهِ بقوَّةٍ على صدره؛ لم يحتاج أرسلان إلى الكثير ليتألم كاملَ جسدهِ يصرخ، مع اندفاعِ الدماء من صدرهِ وغمامةً تضربهُ بقوَّة، لتسودَ عليه صورةُ إلياس وأحدِ الرجالِ يقومُ بطعنه..
طعنةٌ مباغتة اخترقت جنبهِ بعدما قام بإلواءِ عنقِ أحدهم ليقعَ صريعًا حتى يصلَ إلى إنقاذِ أخيه، ولكن طعنةَ الغدرِ شقَّت جنبه، يتلوَّى، يتألَّم، والدمُ ينزفُ بقوة..لم يرحمهُ الرجل
بل رفعَ سلاحهِ الأبيض من جديد، عندما حاولَ إلياس الدفاعَ عن نفسه، لكن ترنَّحَ جسدهِ وفقدَ السيطرة مع كلماتِ الرجل:
– جيت أقتل واحد، بس دلوقتي… هقتل الاتنين.
همسها وهو يرفعُ السلاح بطعنةٍ غادرةٍ أخرى ليهوى بجسدهِ كاملًا؛ يضربُ الأرضيةِ مع اندفاعِ إسحاق يصدحُ صوتهِ مع رجلِ الأمنِ الخاص:
– إلياااااااس!

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية شظايا قلوب محترقة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *