رواية لأجلها الفصل الخامس 5 بقلم أمل نصر
رواية لأجلها الفصل الخامس 5 بقلم أمل نصر
رواية لأجلها البارت الخامس
رواية لأجلها الجزء الخامس

رواية لأجلها الحلقة الخامسة
وصل إلى المنزل، والشمس يُطل ضياؤها على الأرض باستيحاء في هذا الوقت المبكر من الصباح بعد الفجر، يجرّ أقدامه جرًّا من التعب بعد انتهائه من تلك المشكلة، بتسليم هذا الأحمق لعدد من أفراد عائلته، وشهادته لهم بما حدث، بناءً على رغبة تلك المرأة الجميلة وابنتها، الفتاة التي أذهبت عقل شقيقه من نظرة واحدة. الآن فقط يعطيه الحق بعد أن رأى والدتها.
تنهد بقوة ليسقط بثقله على الفراش، فيتسطح عليه بظهره دون حتى أن يخلع عنه ثيابه، فارداً ذراعيه، وأبصاره للأعلى نحو السقف. جسدٌ منهك، لا يعلم ما الذي أصابه؟ ربما كان ذلك نتيجة السفر والقيادة لمسافات طويلة، وربما الشجار مع هذا الثور، وانفعاله عليه وضربه، وربما هي تلك المشاعر التي عصفت به، كرياح موسمية شديدة القوة، تقلب حتى الثوابت الصلبة في الأرض رأسًا على عقب.
من كان يتصور أن رجلاً مثله، يسقط في فخ النظرة الأولى وكأنه فتى مراهق؟ يشعر أنه قد تفوّق على شقيقه في هذا الأمر. لا يعلم، لِمَ يكتنفه إحساسٌ قوي أن وجهها مألوف إليه رغم انبهاره بجمالها الفاتن؟
فتح عينيه فجأة يتذكّر شقيقه وهذا السكوت الغريب منه، لقد توقّف عن الاتصال به منذ آخر مرة هاتفه بعد أذان المغرب تقريبًا، إنها سابقة غريبة بالفعل، خصوصًا في هذا الوقت والحماس يدفعه دفعًا من أجل الارتباط بحوريته.
حاول رفع رأسه يهمّ بالنهوض لرؤيته، ولكن غلبه التعب لتعود مرة أخرى إلى الوسادة، يغمغم بصوت ناعس:
– بكرة الصبح بجى…… بكرة الصبح…… اشوفك يا واد ابوي.
…………………….
أما عن معاذ، فقد كان في غرفته الآن جالسًا متربع القدمين على السجادة، بعد انتهائه من صلاة الفجر وقراءة القرآن والوِرد اليومي أيضًا، ينتظر مرور الوقت حتى يأتي موعده. وقد كره البلدة وكره البقاء فيها بعد سماع الخبر المشؤوم بخِطبتها. يأمر عقله بعدم الاستسلام لأهواء النفس والتفكير في امرأة لم تعد تحلّ له، ولكن قلبه المُلتاع يغلبه، وشيءٌ ما يخبره أن هناك خَطبًا ما، أملٌ في الطريق، يحاول عدم الانجرار خلفه حتى لا يدخل في دوامة الأوهام، ليجد نفسه في الأخير، وبدون إرادته، يتضرّع بالدعاء:
– ياارب ان كان ليا نصيب فيها فعجل بالفرج او عاطيني إشارة، وأن مكانش، يبقى اصرفني عنها واصرفها عني، وارضيني بنصيبي.
………………..
وعند مزيونة، التي انتظرت انتهاء اللحظات الصعبة بانصراف الجميع، ومغادرتهم ساحبين الأحمق، زوجها السابق، يحمل خزيه وخجله منهم، مع جرح رأسه وكرامته التي يهدرها بتهوره وفعلته الشنعاء بالتهجم عليها وعلى ابنتها، داخل منزل والديها القديم في المنطقة المنعزلة، مستغلًّا عدم وجود رجل أو عائلة أو حتى جيران تحتمي بهم منه. ولكن الله كان له بالمرصاد ليكشفه. لن تنسى أبدًا حرجه الشديد وعدم قدرته على رفع أبصاره في أعين الرجال.
تحمد الله على مرور هذا الغريب في الوقت المناسب بالقرب منهم، كي يُنقذها هي وابنتها، التي عادت للنوم مرة أخرى رغم شكواها من وجعٍ في يدها، لتتولّى هي البدء في ترتيب المنزل حتى يصلح للسكن الآدمي بعد هجره منذ سنوات طويلة، برحيل والديها وسكن شقيقها في منزل آخر.
انتهت من غسيل المرحاض جيدًا، ثم بدأت في إخراج الأواني من المطبخ الخشبي كي تعيد تنظيمه، بقلبه رأسًا على عقب حتى يصلح للعمل به. تعلم أن ما ينتظرها كثير، وهي على أتم الاستعداد للتحمّل. ولكن الآن عليها الإعداد للإفطار، وسوف تُضطر للخروج لابتياع طعام جاهز أو حتى خضروات، أي شيء يصلح لسدّ رمقهم، حتى تتمكن من تشغيل الموقد الغازي أو حتى موقد طيني، لن تُغلَب. لقد تحملت المسؤولية، ولابد أن تكون بقدرها.
– ليلى، بت يا ليلي انتي صحيتي ولا لسة؟
هتفت مناديةً بها وهي تغادر المطبخ، ساحبةً بيدها عباءتها السوداء من أجل ارتدائها والخروج، ولكن أوقفها الفتح المفاجئ للباب الخارجي للمنزل، ودخول شقيقها الوحيد وصفي، ليسارع بإلقاء التحية والتبرير بعد أن انتبه لنظرة الجزع التي احتلت ملامحها:
– معلش لو خضيتك، بس انا فتحت بمفتاحي
…………………..
استيقظ بعد عددٍ قليل من الساعات، مستعيدًا نشاطه بهِمَّة وعزم، محددًا أهدافه جيدًا، متخذًا طريقه نحو غرفة شقيقه، وحين لم يجده نزل إلى الطابق الأرضي، حيث الجلسة اليومية لوالدته وسط أحفادها وعدد من شقيقاته وبنات عمه، هالة وإسراء… وحين انتبه إلى الأخيرة، تذكّر على الفور شقيقه.
– عاملين ايه يا جماعة؟ منورة ياإسراء؟
– دا نورك يا حمزة يا واد عمي، كلك زوق والله يا ابو ريان
أجابته برقةٍ وعذوبة ليست غريبة عنها، فهذا ما يجعل والدته تُصرّ عليها بشدة لتزويجها من معاذ، لعلمها بطبيعة الفتاة. ولكن القلب وما يهوى، ولأنه يعرف جيدًا بهذا الأمر، يساند شقيقه، حتى رغم رغبته هو أيضًا في ذلك، فهي تكاد أن تكون مكتملة المواصفات الجيدة، عكس شقيقتها هالة التي لا تملك إلا الجمال فقط.
ليبادلها الرد بابتسامة لطيفة قبل أن تتدخل والدته بأسئلتها:
– محدش حس بيك يعني لما جيت، انت نمت في البيت ولا رجعت من سفرك الصبح؟
أجابها وهو يقترب، يُصافح شقيقاته وأبناءهن:
– لا رجعت بعد الفجر يا ست الكل وخطفتلي ساعتين نوم ريحت بيهم جسمي اللي كان متكسر، ازيك يا ام ياسين، ازيك يا ام تبارك، عامل ايه يا واد يا ادم؟ انت لسة مطولتش يا حزين؟ جاعد قرد زي ما انت.
– انا قرد برضك يا خال؟ دا انا أطول من ولدك.
– كداب، انا ولدي طالع طويل زيي..
– طب حطنا جمب بعض ونشوف
– تعالي يا سيدي، واد يا ريان خليه يشوف طولك ياض.
تركته حسنية يُشاكس الأطفال ويُمازح شقيقاته، حتى إذا توقّف قليلًا، باغتته بفراستها:
– يعني لحقت تنام وتصحى فى ساعتين، عشان تجوم بدري كدة تتسبح وتلبس الحتة اللي على الحبل، دا باين وراك مشوار مهم جوي.
تبسّم يُرضي فضولها قليلًا:
– هو مشوار مهم ، بس مش سر حربي يعني، ارجع بس واحكيلك على كل حاجة، هو الواد معاذ فين؟ مش جاعد في اوضته.
جاء الرد هذه المرة من هالة، التي بدت وكأنها تتحيّن الفرصة للتحدث معه؛
– معاذ صحي الصبح وفاجأنا انه مسافر أسيوط، جال عشان يستلم الشغل بتاعه، لم شنطته ودلوك تلجاه برا هيركب العربية مع خليفة اللي هيوصله لحد القطر.
– وه
تمتم بها حمزة باستنكار، موجّهًا حديثه نحو والدته وشقيقاته، متجاهلًا من أخبرته:
– مسافر كدة على طول من غير ما يديني علم، الواد دا مخه مفوت ولا عقله طار منه؟
قالها وتحرك بأقدامه متخذًا طريقه للخروج، ليأتي تعقيب والدته من خلفه:
– ما هو من الصبح بيرن عليك والتلفون يديه مغلق، مكانش يعرف انك في الاوضة اللي جمبه.
لم يُعلّق واستمرّ بخطواته السريعة حتى أصبح خارج المنزل، يبحث عنه بعينيه، حتى تفاجأ به داخل السيارة التي تقطع مخرج البوابة الحديدية. فتناول هاتفه على الفور واتصل به، حتى استجاب وردّ بفتور:
– ألوو يا حمزة انت….
– انا إيه يا حمار انت؟ مسافر فين من غير ما تبلغني يا زفت.
وصله زفير أنفاس مشبعة بالإحباط، يجيب بصعوبة:
– يا عم انت مين جالك بس؟ انا اصلا تعبان و حاسس نفسي مخنوق، عايز اسيب البلد واللي فيها، حاولت كتير اتصل بيك لكن كان تليفونك مغلق، بصراحة مقدرتش استنى، انت راجع امتى من سفرك؟
– راجع امتى؟!
تمتم بها بسخرية اختلطت بغيظ شديد، نحو هذا الأحمق الذي لو نظر فقط في مرآة السيارة لَراءه، ليردف مرددًا بعناد:
– راجع وقت ما راجع، غور يا معاذ مطرح ما انت غاير، انا مش طايق خلجتك أساسًا، غووور.
وأغلق الهاتف بوجهه ليتطلع به الاخر بدهشة:
– وه، دا ماله ده؟!
أما عن حمزة، وفور أن أغلق الهاتف، همّ بالرجوع إلى المنزل، حتى وقعت أبصاره نحو القادمة باتجاهه، شقيقته الوسطى منى، التي كانت تقابله بابتسامتها كالعاده، ليتأملها بتفكير وتمعّن، حتى اقتربت منه تشاكسه كعادتها:
– سرحان في ايه يا ابو ريان، لتكون بتحب جديد يا واد ابوي؟
ختمت ضاحكة قبل أن يُجفلها ويسحبها من يدها:
– لا مش بحب بس عايزك في كلمتين.
– وه كلمتين ايه؟ إنت واخدني ورايح بيا فين اصلا؟
أكمل بسحبها قائلاً:
– هفهمك واحنا في الطريق، متقلقيش
جادلت رغم استسلامها لسحبه، بطرافة لا تتخلى عنها، حتى أصبحت سمة تميزها عن الجميع:
– مقلقش كيف بس وانت واخدني مشوار مش عارفاه، ومن غير ما اخد شورة ماي هسبن، منصور، منص جوزي.
دفعها داخل السيارة، كاظمًا على أسنانه:
– يا ختي متشليش هم منص، مشوارنا في البلد اساسا، مش طالعين منها.
لتعلق ضاحكة باستمتاع، وهي تتكئ بظهرها على الأريكة الخلفية، فاردة ذراعيها بأريحية.
– ولو برا يعني هيعمل ايه؟ اااه يا بوي، خلينا نجرب العربية الجديدة.
………………….
وفي الجهة الأخرى، حيث الجلسة التي تجمع مزيونة بشقيقها داخل منزلهم القديم، يخاطبها بعتب وغضب يحاول كبحه:
– دا برضو كلام، اسمع زيي زي الغريب باللي حاصل، طب كلفي نفسك برنة حتى، على الاقل احس انك عبرتيني وعملتيلي قيمة زي الجماعة اللي روحتي وطلبتيهم يحضروا معاكي.
تقبّلت نقده بصدر رحب، قائلة:
– معاش ولا كان اللي يقلل منك يا واد ابوي، بس انت عارف عرفان غشيم إزاي، وأنت عصبي مش هتتحمل، دا غير ان الأمور كلها جات في يوم واحد، يعني كنت هتصل بيك كيف وانت برا المحافظة في شغلك؟
– كنتي اتصلتي يا مزيونة، وانا كنت هاجي واقطع ورديتي، حتى عشان محسش اني خيال مجاتة، ولا كيف الأطُرش في الزفة، وأنا الرجالة بيحكولي دلوك على اللي حُصل، مش شايفاني راجل واقدر احميكي يا خِيتي ولا اجبلك حقك؟
زمت شفتيها باستياء، لتنهض وتجلس مجاورة له ترضيه؛
– انت تعرف عني كدِة برضو؟ هو انا ليا مين غيرك اصلاً بعد اللي راحو؟ دا غير إني اتصلت الصبح بيك متنكرش، اصله كمان كل حاجة جات بسرعة، يعني انا كنت أتوجع مثلا، ان عرفان يطلجني ويحلف عليا مباتش في بيتي، لا انا ولا البت.
غمغم بغضب ردًا عليها:
– قليل الاصل الدون، بيرمي مرته وبِته في أنصاص الليالي،وكمان ياجي يتهجم عليهم زي ما سمعت، انا دِلوك بس عرفت باللي عِمله، لولاش بس الفضيحة وإني مش عايز مدبحة بين العيلتين، لكت خلصت عليه في بيته، بس اني راجل واعرف العيبة مش زيه.
مالت لتطبع قبلة فوق كتفه العريض، متمتمة بتأكيد:
– طبعا راجل وسيد الرجالة، بس انت مش مِحتاج تأدبه، كفاية عليه اللي هو فيه، دا انت لو شوفت منظره والرجالة مسنداه امبارح طالع من البيت زي العيل اللي عاملها على نفسه.
– احسن يستاهل الكسوف بعد عملته المهببة.
سكت برهة ليتابع بعدها:
– بس انتي ملكيش جعدة هنه، جومي هاتي خلجاتك اللي لسه في شنطهم وتعالي معايا على بيتي.
عارضته بلطف لا يخلو من حزم:
– معلش يا وصفي، بس اني مش هتعتع من مكاني دِه ولا هروح اي حتة تانية، دا بيت ابوي يعني جنتي وحريتي اللي ما صدقت طولتها.
– وبيت اخوكي، ما هو برضو بيتك وجنتك انت وبتك يا مزيونة، ولا عندك شك فيها دي؟
أمام إصراره الشديد، علمت أنها لن تجد فرصتها إلا بالانفجار:
– لا معنديش يا وصفي، بس انا مش هلاقي راحتي غير هنه، وانا مش عايزة أحس إن حمل تقيل على حد، يعني بلاش تضيق عليا الله يرضى عنك، نفسي بقى انفذ قرار انا عايزاه ولا هفضل طول عمري كِدة مليش كلمة حتى على مصيري.
سمع منها، ليُغمض عينيه، لاطِمًا كفيه ببعضهما، مرددًا بقنوط، وقد فطن إلى ما ترمي إليه عن ذلك الذنب القديم، والقضاء على طفولتها بالزواج المبكر:
– تاااني يا بت ابوي، تاني يا مزيونة بتفتحي في الجرح القديم، ما انتي شهدتي وشوفتي بنفسك، ابونا عاش لحد ما مات واكله الندم بذنبك، وانا نفسي بعمل كل اللي يرضيكي عشان اعوضك، نعمل ايه تاني بس؟
– متعملش حاجة يا وصفي، عشان انت عارف إني مسامحة، انا بس طالبة تسيبني علي حريِتي مش أكتر.
تنهد، يمسح بكفيه على صفحة وجهه بتعب، بعد حصارها له، وحشره في تلك الزاوية، زاوية الندم إن صمّم وأجبرها على ما يريد، والتي لا يوجد منها هروب سوى الموافقة، حتى وإن كانت على غير إرادته:
– ماشي يا مزيونة، هسيبك براحتك، بس تقدري تقوليلي لو رجع عرفان واتهجم عليكي تاني هتعملي ايه؟
أجابته بثقة:
– مش هيقدر يعمل حاجة، بعد ما اسود وشه بعملة امبارح، دا غير ان انا كمان هكون مستعديه ليه ولغيره، هطلع بندقة ابويي النهاردة وانضِفها، والعيار اللي يطلق في الهوا حتى لو مصابش، يكفي انه يخوف ويصد أي مخلوق انه يهوب نواحينا.
توقف هذه المرة يتابعها بتأمل، لقد كبرت شقيقته، ونضجت لترمّم جراحها. والسبب الرئيسي الذي عاشت من أجله هو الدفاع عن صغيرتها ومستقبلها، حتى لا يتكرر لها ما حدث معها.
بنبرة دافئة تحمل في طيّاتها الكثير من المشاعر، دون أن يُفصح بها اللسان، تحدّث بتسامح:
– خلاص جومي طيب صحي البت ليلى خليني اصطبح بوشها الحلو وابوسها قبل ما اطلع اجيب الفطار، واجضي اليوم معاكم، انا عارف البيت محتاج شغل كتير، وعايز يد راجل، خلينا نعدله زين، دا ريحة الحبايب.
هبّت تقفز منتفضة من مكانها بجواره، بلهفة وحماس طفلة في الخامسة من عمرها:
– تسلملي وما يحرمني منك يا قلب اختك، وليك عليا اعملك من يدي احلى وكل، نتغدا ونتعشى مع بعض كمان..
تبسّم لها برضا، لتتحرك من أمامه نحو الغرفة التي نامت بها ليلتها مع صغيرتها، لتتفاجأ بالأخيرة جالسة على الحصيرة التي نامت عليها، متقوقعة بصورة أثارت قلقها.
– بت يا ليلى مالك؟ انتي في حاجة وجعاكي؟
توجّهت إليها بالسؤال لتُفاجأ بها، حينما رفعت وجهها المُغرَق بالدموع بصمتٍ أثار هلعها، فهرعت إليها بفزع.
– يا مري، اللي صايبك يا حزينة؟
رفعت إليها ذراعها الذي كانت تُخفيه عنها أسفل الغطاء، فسقط قلب الأخرى من الرعب، وهي تُخبرها بشهقاتٍ متقطعة:
– دراعي من ساعة العركة مع ابوي وهو واجعني، ودلوك حساه وارم.
– دلوك ! دلوك بس اللي حسيتي انه وارم يا ليلى؟
صرخة خرجت من حَلقها حتى أتت بشقيقها من خارج الغرفة ليستكشف الأمر.
– ايه ف ايه؟ ايه اللي حُصل؟ مالك يا ليلى؟
جاء سؤاله الأخير وقد انتبه هو الآخر، ليسقط بجوارهم، يتفحّصها بقلق أصابه، فانطلقت مزيونة تضرب على فخذها شاكية:
– شوف بنفسك يا واد ابوي، البت وابوها هيموتوني ناقصة عمر، هو يجدحها على دراعها و يكسره ساعة ما كنا بنتعارك معاه، وهي تخرص وتفضل كاتمة على الوجع لحد ما ورم زي ما انت شايف، وانا اللي مفكراها نايمة طب تقولي، كنت اتصرفت.
انطلقت ليلى في نوبة من البكاء، تبرّر فعلها.
– والله كنت فاكراه وجع وهيروح، ما كنتش أتصور انه هيوصل لكدِة.
ضمّها وصفي إليه ليهدّئ من روعها، آمِرًا شقيقته المرتعبة هي الأخرى بحزم، حتى تكفّ عن المزيد من الندب.
– خلاااص حُصل اللي حُصل، ملحوقة ان شاءالله، انا هاخدها دلوك على اقرب دكتور يشوفها، بس انتي لبسيها حاجة غير العباية البيتي دي، على ما اتصل اشوف حد يوصِلنا، يا اما اسحبكم معايا على الجسر اللي ورانا وأي عربية نوجفها توصلنا.
……………………….
وفي داخل السيارة التي كان يقودها برفقة شقيقته، وبعد أن قصّ عليها ما حدث والمطلوب منها الآن، صدر ردّها باستهجان:
– يعني عايزني ادخل على واحدة معرفهاش يا حمزة، دا برضو كلام؟
– بقولك حالة انسانية يا منى، الست مع بتها في البيت لوحديهم، شكلهم ساكنين جديد، هتدخلي تطمني عليهم وتشوفي دنيتهم إيه؟ ليكون الراجل طليقها اتعرضلهم تاني ولا عمل اي حاجة تضايجهم.
تمتمت خلفه بدهشة:
– يعني هيكون لحق في اللحظة اللي نمتها ولا هتقومله قومة تاني بعد ما جرب راسك الناشفة دي يا حمزة، دا اقله ان ما رقد فيها شهر.
رمقها بضيق، مشددًا عليها:
– مش لازم يكون عشانه، انا عايزك بس تطمني وتتعرفِي عليهم، انا راجل ودخلتي تقيلة ومتنفعش على اتنين حريم، ما تفهمي بقى يا منى.
لم تعلق هذه المرة، وقد اكتفت بمطالعته بنظرة كاشفة وابتسامة خبيثة فهم عليها، حتى أثارت استفزازه.
– عليا النعمة يا منى لو زودتي في الحديت هنزلك هنه وخلي الغندور بتاعك ياجي يستلمك من نص الطريق.
سمعت منه لتردد ضاحكة:
– منص، ما انت عارف انه ما هيصدق يلاقيني بطولي من غير العيال عشان ياخدني يفسِحني ويتفسح معايا، عقله خفيف وانا اخف منه.
حدّجها بغيظ شديد لتعود مصحّحة:
– خلاص يا عم متزعلش، هروح وادخل ع الست واعمل الواجب، حتى عشان اشوفها بالمرة، واعرف ايه سر إهتمامك بيها.
تمتمت الأخيرة بصوت خفيض حتى لا يصل إليه، وينقلب عليها. وما هي إلا دقائق قليلة حتى وصلوا بالقرب من المنزل القديم، وقبل أن تصدر استفسارها، وجدت الباب يُفتح أمامهم، ويخرج منه أحد الرجال، ما جعل حمزة يغمغم متسائلًا:
– دا مين دِه كمان؟
– انت متعرفوش؟
تساءلت بها من خلفه، ليرمقها بنظرة محذرة جعلتها تغلق فمها، حتى وقعت عيناها على امرأة جميلة تخرج خلف الرجل، تسحب فتاة صغيرة لا تبدو على ما يرام.
– وه ليلى
– ليلى مين؟
صدر سؤالها بعدم فهم، وقد أجفلها بالترجل من السيارة، يهرول نحو المذكورين باهتمام جعله يغفل عن وجودها معه، وكأنه نسيها، لتتبعه هي الأخرى مغمغمة بحنق:
– قلة زوق.
……………………….
أما هو، وفور أن وصل إليهم ليفاجأ الثلاثة بحضوره، قائلاّ:
– ايه الحكاية يا جماعة؟ ليكون حُصل حاجة بعد ما انا مشيت؟ الراجل ده اتعرضلكم تاني؟
طالعه وصفي باستغراب واستفهام، فهمت عليه شقيقته، لتسارع بالتعريف به:
– دا الاستاذ حمزة القناوي يا خوي، اللي وقف لعرفان ساعة ما اتهجم على البيت .
أومأ وصفي برأسه بتفهم ليتكفل بالرد عليه:
– الف شكر يا أستاذ حمزة على معروفك، انا لو هشكرك من هنا للصبح مش هيكفي، جميلك ده هيفضل دين في رقبتي لحد ما اموت، ثم تابع معرفاً نفسه:اني ابجى وصفي اخوها.
– بعد الشر عليك يا عم وصفي، انا معملتش اكتر من الواجب، لكن انتوا برضو مقولتوش، البنية الصغِيرة دي مالها؟ ماسكة دراعها كدِة ليه؟
قال الأخيرة بإشارة نحو ليلى التي كانت تتوجع بصمت، لتجيب عنها والدتها:
– منه لله ابوها، زاحها ووجعت عليه ساعة ما كان بيتهجم علينا، صحينا لقيناه وارم، قولنا نروح نكشف لها ونشوف:
أضاف عليها وصفي:
– اكيد مفيش دكتور فاتح دلوك في البلد، انا هاخدها اقرب مستشفي في المحافظة.
– هتاخدها كيف؟ معاكم عربية؟
– لا طبعا، بس الجسر قريب منينا، اي عربية نوجفها توصلنا .
– توجف عربية وانا موجود؟
قالها حمزة ليردف بإنفعال:
– أمال عربيتي دي ايه لزمتها؟ ياللا يا عم وصفي تعالوا اوصلكم في سكتي،
– يا سيدي مش عايزين نتعبك دي …….
– لا يا عم إيه اللي انت بتقولوا ده؟ والله ما ينفع، البت عيانة انتو لسة هتستانوا؟
كان متشددًا بإصراره حتى أضحض اعتراضهم وأجبرهم على الانضمام معه في السيارة، أمام منى التي قد نساها بالفعل، وقد كان على وشك الذهاب، حتى لوحت له هي بيدها من خلف زجاج النافذة الأمامية، ليتذكر ويقدمها لهم:
– ااه صُح، تعالي يا منى، دي الحاجة منى اختي يا جماعة، كانت جاية تتطمن عليكم بنفسها، تعالي يا منى عشان تروحي معانا.
دلفت تنضم إلى الكنبة الخلفية بجوار ليلى ووالدتها، لتصفق الباب بقوة وغيظ، مرددة:
– لا مؤاخذة يا جماعة .
…………………….
في منزل عرفان الأشقر، والذي يتخذ الصمت منذ الأمس منهجًا، أمام النقد والتوبيخ الذي يتلقاه من أفراد عائلته الصغار قبل الكبار، حتى زوجته صفا، هي الأخرى لا تقصر، ولكن بخبث اعتادت عليه، حتى تتجنب العقاب.
دلفت إليه داخل غرفة نومه وقد كان شاردًا فيما حدث، لتلقي بكلماتها السامة:
– اخبار راسك ايه دِلوك يا عرفان؟ على الله بس تكون راقت من اللي فيها.
اعتدل هذه المرة ، يعقب سائلاً:
– قصدك ايه يا ست البرنسيسة؟ وضحي بلاش الكلام المتنتور، شغل الحيايا دا جني وزويلي.
امتقعت ملامحها بضيق شديد ردًا على كلماته:
– دلوكيت بجيب حيا ومش حاملي كلام، بعد ما رجعت السوسة دوكها تحلو في عينك وتسود عيشتك، بجالك سنين متهني في حضن صفا اللي قايدالك صوابعها العشرة شمع، وخلفتلك بدل العيل تلاتة، صياناك ومدلعاك من كله، لكن هي خدت منها ايه غير المرض ووجع القلب، وفي الاخر ختمت بالفضايح والإهانة ، خلت سيرتك على كل لسان .
وكأنه لم يتأثر بثورتها، تركها تخرج كل ما في جعبتها، محتفظًا بملامح جامدة، خالية من أي تعبير، لينهض فجأة عن فراشه مقتربًا منها، بسكون الاندهاش، حتى باغتها على حين غرة بكفه الكبيرة تحط على خدها الأيسر بقوة أسقطتها أرضًا، صارخةً واضعةً كفها على مكان اللطمة مرددة:
– بتضربني يا عرفان، سايب اللي خلت سيرتك على كل لسان وجاي تتشطر عليا ، انا يا عرفان اناااا.
ظل محتفظًا بجموده، يطالعها دون أدنى تعبير، ثم اتخذ طريقه للخروج مغادرًا، يتركها في نحيبها وبكائها ودعواتها.
– ان شاالله يدك تتشل يا بعيد.
…………………………..
وفي داخل المحافظة، توقفت سيارة الشقيقين لتزويدها بالوقود، وتكفل خليفة بشراء المشروبات الغذائية من بقالة المحطة، تاركًا شقيقه المكتئب، عكس طبيعته الفوضوية، واقفًا بجوار السيارة متأففًا بحنق متعاظم، حتى علق فور رؤيته:
– تلت ساعات بتشتري علب كنز وبسكويت يا خليفة، ما كنت بيت احسن في المحطة، وبلاها اسافر انا النهاردة خالص.
رد خليفة ببساطة:
– ومالوا، يعني هيحصل ايه؟ هيفوتك الامتحان مثلا؟ خد يا واد ابوي وروق نفسك، مفيش حاجة مستاهلة، اموت واعرف ايه اللي مضايقك بس .
تناول معاذ منه عبوة المياه الغازية، يتجرع منها بكثرة، ليقول بضيق:
– حتى لو خلصت امتحانات، برضو عايز اسيب البلد واهج، لو حصلت اعمل دراسات عليا واشتغل هناك عشان معتبش البلدي دي هعملها، بلا وجع قلب وقرف
اومأ خليفة يحرك رأسه باستدراك:
– اااه يا بوي، مدام جيبت سيرة القلب، يبقى هو ده السر، كبر مخك يا حبيبي، ياما غيرك حب ومطالش، رضي بنصيبه، وياريت نصيبه راضي بيه.
قطب معاذ يطالع شقيقه الأوسط بتساؤل، عن مغزى الكلمات المبهمة، هل يقصد ذاته بهذه الكلمات؟ ولما؟ وهو الذي اختار هالة ابنة عمه، زوجة له، بعد رفض حمزة الزواج منها.
– دي عربية حمزة؟
قالها خليفة لتلتف رأس الآخر نحو السيارة المألوفة، التي تمر في الاتجاه الآخر، وفي الأمام رجل لا يعلمه بجوار شقيقه، أما في الكنبة الخلفية شقيقته منى و… اللعنة، هل ما يراه حقيقة أم محض خيال؟ أيعقل أن تكون ليلى ووالدتها معه، أم أن المرض زاد به حتى أصبح يتوهم أشياء لن تحدث؟
– دي اختك منى، ومين البتين الحلوين اللي راكبين معاها دول كمان من ورا؟
– راكبين معاها، يعني انا مبخرفش ولا بتوهم، وأنت شايفهم زي ما انا شايفهم؟
صاح بالكلمات معاذ أمام شقيقه الذي نهره بضيق:
– ايِوه يا عمنا، ، مالك انت هتخرف ولا ايه بس؟ شايفهم زي ما انت شايفهم، وهما مين دول اساسا؟
ردد من خلفه معاذ بعدم تصديق، وكلمات غير مترابطة:
– لا والله ما خرفت، بس مستعجب انهم راكبين مع حمزة ومنى معاهم كمان و….. استنى هنا…….
توقف فجأة يمسكه من تلابيب ملابسه بعنف مردفًا بتحذير:
– انت كيف صُح تعاكس بنات الناس وتقول عليهم حلوين؟ عيب عليك يا خليفة احترم نفسك.
……………………..
بعد قليل، وبداخل المشفى، كانت ليلى جالسة على مقاعد الاستراحة بعد أن شخص الأطباء حالتها مبدئيًا وقاموا بعمل الأشعة اللازمة لغرض التأكد قبل اتخاذ أي خطوة.
تضمها والدتها إليها كي تهون عليها، رغم وجعها المضاعف بسبب ألم ابنتها، ربما تخفف عنها.
– خلاص يا نور عيني، كل حاجة هتخلص النهاردة وبعدها ماهتحسيش بأي حاجة، هي بس لحظة الوجع تمر وبعده كله يروح.
– يارب ياما يارب، انا تعبت جوي.
زادت من ضمها تقبل رأسها:
– سلامتك يا حبيبتي الف سلامة.
تدخل وصفي الجالس بجوارهم:
– ليلى جدعة، وبألف راجل زي أمها، صح يا بت اختي الغالية؟
أومأت بتحريك رأسها بعينين دامعتين، رغم الألم الساكن في ملامحها الجميلة، لتزيد على تعب والدتها التي تمنع دموعها بصعوبة. منتبهًا لها، ذلك المراقب من الجهة المقابلة حيث كان جالسًا بجوار شقيقته التي كانت تتابعهما بتأثر، لتفاجئه بقولها:
– على فكرة انا عرفتها، الأول كانت تايهة عني بس دلوك اتأكدت
– هي مين؟
– مزيونة.
التف نحوها باهتمام فور أن استمع للاسم:
– عرفتيها ازاي؟ وكيف؟
ردت تجيبة بهمس وحرص:
– كانت معايا ايام الاعدادية، بس انا كنت سابقاها بسنة، بس اللي عرفته انها مكملتش الشهادة، سمعت انهم جوزوها على تلتاشر سنة.
– تلتاشر !
غمغم بها مندهشًا، كاد صوته أن يعلو، لكنه تمالك نفسه متسائلًا بعدم تصديق:
– انتي بتتكلمي جد ولا بتهزري؟
تنهدت، تدير عينيها في حرص، تراقب الجهة المقابلة لتتأكد من أن الصوت لن يصل إليهم.
– براحة عشان محدش ياخد باله، انا مش بهزر، مزيونة كانت ماشاء الله عليها طالعة فايرة وزي ما انت شايف زي القمر، كل العيون كانت طمعانه فيها رغم سنها الصغير، احنا نفسنا مستغربناش لما اتجوزت، بالعكس، دي البنات كانت بتحسدها عشان اتجوزت قبل الكل، المهم انا من ساعتها معرفش حاجة عنها، عشان كده مفتكرتهاش غير دلوك لما بصيت فيها كويس.
بدأ يظهر عليه شيء من الاقتناع والاستيعاب أخيرًا. لم يكن أعمى حين أخطأ وظن أنها بالفعل لم تتزوج، ولكن كيف لها أن تعاشر مثل هذا الشخص؟ وكيف تحملت أن تُسرق براءتها، وتتحمل مسؤولية كبيرة كهذه في سنها الصغير؟
•يامُري دا جِه صُح!
قالتها منى ليلتفت نحو الجهة التي تنظر إليها، فيفاجأ بشقيقه الأصغر قادمًا نحوهم بخطوات سريعة، محددًا هدفه:
– دا ايه اللي جابُه دِه؟ وعرف منين مكانا؟
تسائل بها نحو منى التي أجابته بتشتت:
– اتصل بيا من شوية كان عايز يعرف إحنا فين؟ باينه هو كمان عارف بالجماعة اللي بنتكلم عنهم، انا مش فاهمة ايه حكايتكم.
برقت عينا حمزة بهلع وترقب، مستدرجًا إياها لمعرفة المزيد:
– وانتي قولتيله ايه؟
– قولتله الحقيقة ووضع ليلى، هي ايه الحكاية اصلا؟
جاءت إجاباتها ببراءة كادت أن تجلطه، بينما كان يرى ذلك الأحمق يتجه نحو المذكورة باندفاع.
– مالك يا ليلى ايه اللي حصلك؟
بالطبع، لم يجد ردًا فوريًا سوى نظرات الذهول من الثلاثة، قبل أن يستوعب وصفي الموقف أولًا ويسأل:
– انت مين يا أخينا؟
كاد أن يجيبه بردٍ أحمق يسأل عن صفته، ليفاجأ بمن تكفل بالرد عنه:
– دا اخويا المهندس معاذ؟ اكيد جاي يطمن بعد ما عرف من منى عن مكانا، عن اذنكم يا جماعة، هاخده ف كلمة على جمب.
تحرك بدون إنتظار، دافعًا إياه بعيدًا عنهم حتى وصل به إلى مسافة آمنة، ليأتي رد معاذ بسخط:
– بتبعدني ليه؟ انا عايز اطمن على ليلى، هي ايه اللي حُصل لها؟ مش كانت خطوبتها امبارح.
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية لأجلها)