رواية فوق جبال الهوان الفصل الثلاثون 30 بقلم منال سالم
رواية فوق جبال الهوان الفصل الثلاثون 30 بقلم منال سالم
رواية فوق جبال الهوان البارت الثلاثون
رواية فوق جبال الهوان الجزء الثلاثون

رواية فوق جبال الهوان الحلقة الثلاثون
كان من الأفضل ألا يعرض نفسه للخطر بعودته إلى التَبَّة العالية مثلما أمره شقيقه عندما تتعقد الأمور ويحدث ما لا يُحمد عقباه، إلا أنه تخلى عن حذره، وجازف مسرعًا إلى هناك على أمل أن يجده، خاصة بعدما علم بتعرضه للإصابة أثناء المطاردة مع الشرطة؛ لكن عيونه المتربصة بأطراف المكان أعلمته بوجود عدة كمائن تنتظر لحظة الإيقــاع به في الأرجاء، لذلك اضطر للتراجع، والالتفاف عبر الطرقات بغير هدى. ضرب “زهير” بيده في عصبيةٍ على تابلوه السيارة، وصاح في تعصبٍ:
-يعني هيكون راح فين؟
نظر “سِنجة” تجاهه، واقترح مجازًا:
-ممكن عند بيت “توحيدة”!
برقت حدقتاه بالتماعٍ متحمس، وهتف يأمره في الحال:
-طير على هناك.
استجاب لمطلبه، وضغط على دواسة السيارة لينطلق عائدًا إلى وجهته السابقة دون إضاعة الوقت.
……………………………
الرغبة في الانتقــام، راحت تنهش فيها يومًا بعد يوم، فبعدما كانت صاحبة المقام والكلمة العليا، غدت بين عشية وضحاها أقل من خادمة وضيعة في بيتها، وأصبحت حريتها منوطة بمن لا تكف عن إذاقتها صنوف الهوان، لهذا أخذت تفكر في وسيلة لرد اعتبارها ممن اعتبرتهم سلبوها مركز قوتها وسطوتها.
تنصت “توحيدة” خفية على المكالمة التي جاءت لمن تبغض بشدة، وعلمت بقدوم “الهجام” إلى المنزل، لهذا اتجهت إلى غرفتها الموجودة في آخر ركن بالبيت، لتخرج ذلك الشيء الذي خبأته، وواظبت على شحذ طرفه كل ليلة لتضمن بقائه حادًا، وقاطعًا.
فيما أسرفت “وِزة” في نثر معطر الجو في الأرجاء لتبدو رائحة الهواء جيدة، خاصة أنها تعد الزيارة الأولى له بعد توليها مهام إدارة جميع من في هذا البيت. ظلت بين الحين والآخر تتأمل هيئتها في انعكاس أي مرآة تقابلها إلى أن أعلمها إحدى الفتيات بنبرة عالية:
-“الكوبارة” جه يا ست “وِزة”.
ناولتها زجاجة المعطر، وصفقت بيدها صائحة بتحفزٍ:
-طب إخفوا أوام لحد ما أنادي عليكم…
ثم أشارت بإصبعها لإحداهن تأمرها بلهجةٍ لا ترد:
-واللي ما تتسمى “توحيدة” هي ودلدولتها مايظهروش.
أومأت الشابة برأسها قائلة في طاعة:
-عينيا يا أبلتي.
تنفست بعمقٍ، وقالت في رجاءٍ:
-يا رب يجعل قدمي قدم الخير.
تغنجت بخيلاءٍ في مشيتها، ووقفت أمام الباب الموارب وهي تطرح على كتفيها شالًا حريريًا مزركشًا، ثم اشرأبت بعنقها محاولة مطالعة من يصعد على سلم الدرج، لما لمحته قادمًا، راحت تهتف في حماسٍ لترحب به بحرارةٍ وحفاوة:
-منور المكان كله يا سيد الناس والحتة كلها.
وحين ظهر نصب عينيها رأت الدماء الداكنة تغرق ثيابه، فلطمت على صدرها صارخة في جزعٍ شديد:
-يا نصيبتي! إيه اللي حصل؟
تقدم “عباس” في خطاه، ودفعها بخشونةٍ من كتفها هادرًا بامتعاضٍ:
-إنتي هتفضلي واقفة على الباب متسمرة كده كتير، خديلك سكة.
في التو تراجعت للخلف قائلة في خنوعٍ:
-حاضر.
ظلت تتابع بعينين قلقتين الاثنين وهما يلجان إلى صالة البيت، لتغلق بعدها الباب، وتسرع إليهما، والحيرة قد بلغت مبلغها منها. رأت “كرم” يجلس بألم على الأريكة، وتكاد أنفاسه تثقل، شردت في تأملها، لذا صاح “عباس” بغير صبرٍ يأمرها حينما وجدها جامدة في مكانها كالصنم:
-شوفلنا أوام حاجة نكتم بيها الجرح.
انتفضت على إثر صراخه، وقالت ممتثلة له:
-عينيا.
لم تكن إصابة “كرم” بالهينة، بل عانى من فقدانه للدماء، ورغم هذا كابر وتساءل في توجسٍ:
-“زهير” فين؟
سكت للحظةٍ، كأنما يحاول التماسك، ثم انتقل لسؤاله التالي:
-وصله خبر باللي حصل؟
في التو أجابه “عباس” وهو يومئ برأسه:
-أيوه، والمفروض يجي على هنا يا ريسنا.
مد “كرم” يده ليمسك به من منبت كتفه، وتكلم بصعوبةٍ ظاهرة في نبرته:
-لأحسن يكون راح التبة، المكان مش متأمن، والدبابير لابدة هناك.
ظهرت الحيرة على وجه تابعه، فأضـاف “كرم” مشددًا:
-اطلبه وخليه يطلع على مُكنة من بتوعنا اللي محدش عارف عنها حاجة، وأمن السكة علشان نحصله.
علق عليه في جديةٍ:
-نطمن بس عليك يا كبيرنا، وكل اللي إنت عايزه هيتم…
ليلتفت بعدها برأسه للخلف مغمغمًا في استياء:
-بتعمل إيه البت دي في كل الوقت ده؟
ثم عاود التحديق في وجهه متحدثًا:
-عن إذنك يا كبير هشوف الفقرية دي اتأخرت ليه.
قال بتعبٍ واضح وهو يريح رأسه على الجانب:
-انجز.
……………………….
على الجانب الآخر، حينما تأكدت من قدومه، تأهبت “توحيدة” واستعدت لشيء واحد بعينه، كانت حريصة على عدم انكشاف أمرها، وتوارت عن الأنظار، ثم بدأت تتحين الفرصة المناسبة للثــأر ممن أذاقها ما هو أسوأ من الموت، معايشة الذل والمهانة، والانكسار. غشت رغبتها في الانتقـــام عينيها، وغطت كليًا على أي منطق لديها، فأخذت تعد العدة لتنفيذها بشجاعة، وما عزز من الإقدام على تلك الخطوة المصيرية هو حالة الإعياء التي كان عليها، حتمًا لن يكون قادرًا على مجابهتها بأي حال.
انتظرت على أحر من الجمر أن يغدو بمفرده، فحينما غادر “عباس” مسرعًا خلف الملعونة الأخرى، تلك التي تبغضها من أعماقها، هرعت في خطاها، ويدها قابضة بإحكامٍ على سكينة المطبخ، هاجمته من الخلف بلا ترددٍ، وسددت له طــعنة نافذة، اخترق فيها النصل الحاد ظهر الأريكة الإسفنجي، ليصل طرفها المدبب إلى جسده، فتأوه من الألم المباغت الذي عصف به، وقبل أن يستفيق من الصدمة، وجد “توحيدة” أمامه، وعيناها تنضحان بالشر الخالص، لتخاطبه في ابتسامةٍ شيطانية متشفية:
-جه وقت سداد الدين يا كبيرنا.
تحفز في جلسته، وانقض بيده ناحيتها ليمسك بها مرددًا في صوتٍ مطعم بالألم:
-إنتي اتجننتي يا بنت الحــــرام؟!!
سحبت السكين من موضعه في مرة واحدة، فتأوه بشدة، لتحز به صدره بنفس القدر من القوة، تلك التي باتت مدفوعة بها فبرزت عيناه على اتساعهما في ذهول، وصوتها الشامت يتسرب إلى أذنه:
-ما هو كله سلف ودين!
عاودت سحب السكين، ورفعته في الهواء تمهيدًا لتكرار فعلتها بلا أدنى ذرة ندمٍ.
على إثر صوته المرتفع جاء “عباس” من الداخل في عجالةٍ، وبيده قطعة من القماش، وبعض المطهر، ومن ورائه تبعته “وِزة” لتتفاجأ بالمشهد الدمـــوي الصارخ، فهدرت في ارتعابٍ وهلع وهي تدق على صدرها:
-يا لهوي بالي!
ليركض “عباس” تجاهها منتزعًا السكين من يدها قبل أن تدبه في صدره وهو يلعنها في غضبٍ عظيم:
-عملتي إيه يا ……!!
ثم وكزها بقسوةٍ من كتفها بعدما صفعها على وجهها ليطرحها أرضًا، فيما واصلت “وِزة” الندب والعويل وهي تضرب بكفيها تارة على صدرها، وتارة على وجنتيها:
-يا نصيبتي! يا نصيبتي! يا نصيبتي!
صوت الطرقات المتلاحقة على الباب جعل بدنها ينتفض أكثر، فاستدارت تنظر تجاهه في جمودٍ مشوب بالفزع، لتستمع إلى صوت “زهير” المألوف يأمر من الخارج:
-افتحوا الباب.
بالكاد تمكنت من استعادة قدرًا محدودًا من جأشها لتستجيب لأمره، هرعت ناحيته، وفتحته وكل ما فيها يرتعش، ليدفعها “زهير” بغلظةٍ مقتحمًا المكان، وعيناه لا تصدقان ما تبصراه، خــرَّ على قدميه أمام شقيقه، الذي يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة يسأله في خوفٍ كبير، وهذه الانقباضة الموجعة تعتصر قلبه:
-حصلك إيه يا “كرم”؟
لدهشته أتت الإجابة من “توحيدة”، فضحكت أولًا بهيستريةٍ، وأخبرتهم بفخرٍ، وكأنها نالت جائزة شرفية لإقدامها على ذلك الفعل الشنيع:
-خدت حقي منه، دلوقت أنا ارتحت.
بلا ندمٍ، أو حتى لحظة تفكيرٍ، استل “زهير” السكين من يد “عباس” ليدبها في صدرها وهو يلعنها بكل حنقٍ وحقد:
-يا بنت الـ …..!!!
صرخة مكتومة انحشرت في جوف “توحيدة”، قبل أن تفارق الحياة، ويد “زهير” لا تتوقف عن طـــعنها بلا رحمة. حاول “عباس” إيقافه؛ لكنه فشل أمام اندفاعه وعنفوانه، لتولول “وِزة” من الخلف في حسرةٍ وارتياعٍ:
-يادي المصايب اللي جاية ورا بعض!!
أخرسها “عباس” بزمجرةٍ جعلت الدماء تفر من عروقها:
-ولا نفس!!
كتمت بيدها فمها، لتجبر نفسها على عدم الصراخ، وقد باعدت عيناها عن الجثة التي تفجرت الدماء من صدرها لتغرق الأرضية من حولها.
…………………………………
في عالم يبدو وكأنه ببعدٍ زمني آخر، راح بين الفنية والأخرى يتطلع إليها بنظراتٍ مختلفة تمامًا عن تلك التي اعتاد أن ينظر إليها في صغرها، وكأن الزمن قد منحها جرعة زائدة من الجمال، فازدادت حلاوة ونضارة بالرغم من علامات المرض المستحوذة عليها مؤخرًا.
نظر “فارس” إلى ابنة عمه التي يضمها بين ذراعيه بتركيزٍ واهتمام، كما لو كان يريد لعقله بأن يحتفظ بأكثر صورة مقربة لوجهها، لتظل هذه الذكرى محفوظة في ذهنه لفترة زمنية، إلى أن تتبدل الأقدار، وتتغير الظروف، ويحظى بفرصةٍ طيبة معها، هذا إن سمحت له بالتودد إليها!
علم أن شقاوته في الصغر، وميله للتصرف بتهورٍ ورعونة لن يعطيه الأفضلية لديها، خاصة مع تاريخه الحافل بالمشاحنات، والمعاقبة بالاحتجاز، بجانب ما خلفته ذكريات ارتباطها بذلك اللعين ربيب السجون، ومع ذلك لم ييأس، وترك شعوره بالأمل يناوشه، ويمنحه رغبة يتمنى حدوثها.
بذل الجهد ليبدو وجهه غير مقروء التعبيرات، خاصة حينما كانت تحدثه زوجة عمه، وتطلب منه تركها، أيعقل أن يفعل ذلك بهذه البساطة؟ تحجج بعدم نظافة المكان، ليظل محافظًا على قربها منه، وقلبه يشدو المزيد من ذلك القرب؛ ولكن بشكلٍ مغاير كليًا!
……………………………
فضح وجهها تلك الصدمة المتعاظمة التي شعرت بها أمام هول المفاجأة التي هبطت على رأسها كالصاعقة، مضت “إيمان” تنظر إلى زوجة حارس البناية بعينين شاخصتين، تكاد لا تصدق ما ألقته على مسامعها قبل لحظاتٍ، عاودت سؤالها بصيغة أبطأ، كأنما تريد التأكد مما فاهت به:
-مش فاهمة؟ يعني إيه الكلام ده؟
زمت “أم عبده” شفتيها مرددة باستهزاءٍ مبطن وهي تشير بيدها:
-هو أنا بتكلم باللاوندي؟ سي “راغب” فضى الشقة من العفش أديله كام يوم، وعارضها للبيع…
لتبدو نظرتها بها لمحة من الفضول المغلف بالاستهجان تجاهها وهي تختتم جملتها:
-هو مدكيش خبر ولا إيه يا ست “إيمان”؟
تولت “عيشة” الرد عليها، فصاحت باستنكارٍ:
-وهو احنا لو كان عندنا خبر ده كان هيبقى حالنا؟!!
بينما تساءل “فارس” مستفهمًا في لهجةٍ لائمة:
-جوزك عمل الدنيئة ولا إيه؟!!!
أنكرت الحقائق البينة، وصاحت في احتجاجٍ، وهي تخرج هاتفها المحمول من حقيبة يدها:
-أكيد في حاجة غلط في الموضوع! “راغب” استحالة يعمل كده!!
طلبت منها والدتها في شيءٍ من الاستجداء:
-كلميه يا بنتي افهمي منه.
اكتفت بهز رأسها، فيما أمرت “عيشة” زوجة حارس البناية:
-امشي إنتي دلوقت، ولما هنعوزك هنناديكي.
تصعبت بشفتيها مرددة في بأسلوبٍ يميل للسخط قبل أن تهم بالمغادرة:
-أه، وماله.
اضطربت “إيمان”، وتلبكت، وشعرت بالتخبط العارم، ألصقت الهاتف بأذنها، لتقول بشفتين مرتعشتين بعد لحظة من السكوت المهيب:
-موبايله مش بيجمع.
اقترحت عليها أمها بجديةٍ:
-مقدمناش غير نطلع على أمه، جايز يكون عندها.
في التو وافقت على ما قالت مضيفة عليها:
-أيوه، فعلًا، هو كمان ما بيخبيش حاجة عنها.
هسهست أمها مع نفسها بخفوتٍ:
-استرها يا رب.
في تلك الأثناء، بدأت “دليلة” في التململ بجسدها، لينتبه إليها “فارس”، فاستطرد وقد تحفز في وقفته المنتصبة:
-الظاهر “دليلة” بتفوق.
ما هي إلا لحظة، وفتحت عينيها لتنظر إلى ذلك الوجه القريب منها، انتابتها حالة من الفزع والهيجان، فصرخت به، وهي تحاول الإفلات من بين قبضتيه المحكمتين حولها:
-ابعد عني، إنت ماسكني ليه؟
رد بهدوءٍ محاولًا امتصاص نوبة انفعالها المبررة:
-اهدي بس.
تمكنت من الخلاص منه بعدما وكزته بقـوةٍ في صدره، ليتركها، وهو يطالعها بنظراتٍ متعجبة، لتتدخل والدتها لتهدئتها قائلة وهي تسحبها من كتفيها لتضمها إليها:
-متخافيش يا بنتي، إنتي كنتي تعبانة.
حملقت فيها متسائلة بتوترٍ:
-هو إيه اللي بيحصل؟ واحنا مش في البيت ليه؟
ربتت على جانب ذراعها مرددة:
-دلوقت هنفهمك كل حاجة.
خرجت “إيمان” من بيتها وهي تكاد لا ترى أمامها، لتلحق بها والدتها، وهي تسحب ابنتها الأخرى معها؛ لكنها ترنحت أثناء محاولتها الحركة، لتسألها أمها في جزعٍ:
-تقدري تمشي؟
رفعت رأسها لتنظر نحوها مرددة:
-أيوه.
تكرر الأمر، وشعرت بشيءٍ من الدوار يجتاحها، فهرع إليها “فارس” لإسنادها؛ لكنها صرخت فيه بنفورٍ صريح:
-ما تقربش مني.
تخشب في موضعه متفاجئًا من ردة فعلها، وحادث نفسه في وجومٍ مستنكر:
-إنتي واخدة موقف مني ليه بس؟!!
اتجه الجميع إلى المصعد، و”دليلة” تتساءل في اندهاشٍ:
-مال شقة “إيمان”؟ فين العفش؟
تنهدت “عيشة” قائلة بحيرةٍ لا يمكن إنكارها:
-احنا مش عارفين حاجة لسه.
فيما وقف “فارس” خلف الثلاثة، وعيناه ترتكزان تحديدًا على “دليلة” التي أشعرته بمدى كرهها له دون مبرر واضح لذلك. لاحظت “عيشة” صمته المريب، فاستطردت تخاطبه:
-تعالى يا “فارس” يا ابني، مدوخينك معانا.
حدق ناحيتها قائلًا بابتسامةٍ باهتة:
-ما تقوليش كده يا مرات عمي…
لتختفي بمجرد أن أشاحت بوجهها بعيدًا، وهذا الصوت يتردد في رأسه:
-واضح كده إن جوز “إيمان” طلع مقلب!
………………………………
استفاق من حالة الجنون التي استحوذت عليه، ليجد جثمان “توحيدة” مسجي أمامه، وعيناها جاحظتان في رعبٍ جلي؛ ومع ذلك لم يبدُ نادمًا على ما اقترفت، وانتفض قائمًا ليتجه إلى شقيقه الذي كان يلقف أنفاسه بصعوبةٍ بالغة، هزه برفقٍ وهو يتوسله بصوتٍ شبه مختنق، ويداه تقطران دمًا:
-فوق يا “كرم”، فوق يا خويا!
بصوتٍ واهن، ونظرات زائغة خاطبه:
-ملحقتش أحميك.
احتضنه الأخير قائلًا بتصميمٍ:
-أنا مش هسيبك….
ثم استدار موجهًا أمره النافذ إلى “عباس”:
-جهز العربية أوام، خلينا ننقله على مستشفى من اللي تبعنا، مش هسيب أخويا يتصفى كده وأنا عاجز عن إني أنقذه.
رد في طاعة بعدما خطا من فوق جثمان “توحيدة” متجهًا إلى الباب:
-حاضر يا كبيرنا.
همهم “كرم” بصوتٍ متحشرج، كأنما يملي عليه وصيته:
-خد بتاري من اللي غدروا بينا، سامع؟
أخبره في طاعةٍ:
-كل اللي إنت عايزه هعمله.
استوقفت “وِزة” زوجها تسأله، وقد تعلقت بذراعه، والذعر يملأها من رأسها لأخمص قدميها:
-إنت رايح فين يا سي “عباس” وسايبلي البلوى دي؟!!
نفض ذراعها عنه، وقال ببرودٍ:
-“سِنجة” هيجي يتاويها، إنتي تلمي الدور خالص، وتكفي على الخبر ماجور.
شخصت ببصرها محتجة في استهجانٍ:
-دي قـ.. قتـــيلة.. مش حاجة عادية.
وكزها ليكمل مشيه نحو الخارج متمتمًا بسخطٍ:
-مش وقتك خالص!
ظلت باقية في مكانها تراقب الوضع، ونظراتها المرتعبة تطوف على المشهد الواقع نصب عينيها بذهولٍ وصدمة.
…………………………….
أخذت أصابعه تنقر بشكلٍ متواتر على عجلة القيادة، ونظرته لا تزال ثابتة على مدخل البناية، لاذ بالصمت رافضًا الحديث في أي شيء، فبدا كما لو كان مشغول البال بشيءٍ بعينه، كان والده يتطلع إليه بجديةٍ وفضول، فاستطرد يكلمه في صوت رخيم بعدما طال سكوته:
-بيتهيألي مافيش داعي نقف أكتر من كده…
لم يقل شيئًا كتعليقٍ عليه، فأكمل يستحثه على المضي قدمًا في طريق العودة إلى العمل:
-احنا عملنا الواجب وزيادة، ولا في حاجة تانية؟!
تحرج من تلميحه المتواري في جملته الأخيرة، كأنما يريد سبر أغواره، وأردف بعدما لعق شفتيه:
-تمام يا بابا…
همَّ بإدارة المحرك، تمهيدًا لذهابه، لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة عندما رآها تخرج على عجالة من المدخل، فانتفض في جلسته، وكأن عقربًا لدغه، ليشير بعينيه إليها هاتفًا باندهاشٍ:
-بص هناك يا بابا، مش دي مدام “إيمان”! هي نزلت ليه تاني؟!!!!
استغرب من اهتمامه الزائد بشأنها، وبرر ببساطةٍ:
-يمكن رايحة تشتري حاجة، ماتكبرش الموضوع.
لم يبد مقتنعًا، وقال في استرابةٍ وقد لاحظ ما أصاب تعبيرات وجهها من ذهول:
-بس دي مامتها وراها وكمان أختها…
لم يظل جالسًا في مكانه ساكنًا بلا حراك، بل انتفض مترجلًا من السيارة قائلًا بعزمٍ:
-ثواني كده هشوف في إيه.
تسارعت خطواته وهو يسير نحوها على وجه الخصوص، ليوجه سؤاله بشكلٍ عام، لكن نظرته تقصدها هي:
-خير يا جماعة؟!
أقبل “عادل” عليهم مسرعًا في خطواته، لتسبقه نبرته المستفهمة بشيءٍ من القلق:
-خير يا جماعة؟ نزلتوا ليه؟
من تلقاء نفسها تولت “عيشة” الإجابة، وردت في غموضٍ أصابه بالمزيد من الحيرة:
-في مشكلة حصلت، ورايحين نشوف أرارها.
دون أن يستعلم منها عن المزيد من التفاصيل، قال حاسمًا أمره:
-احنا معاكو.
هتفت في تحرجٍ:
-مالوش لزوم، كتر خيركم.
بشيءٍ من العجرفة تكلم “فارس”، وقد وقف قبالته:
-دي مسائل عائلية، تخصنا بس، طريقكم غيرنا، وكفاية عطلة لحد كده.
فهم من طريقته المستعرضة تلك أنه يصرفه بشكلٍ مباشر، ومع ذلك ظل على موقفه ليخبره بعنادٍ، وفي تحدٍ مبطنٍ له:
-لأ اطمن، احنا فاضيين، مافيش ورانا مشاغل.
لحق “رجائي” بابنه، وتساءل مستخبرًا:
-خير يا حاجة “عيشة”؟ في إيه؟
في شيءٍ من الحرج أخبرته دون أن تمنحه أدنى تفصيلة عن طبيعة الظرف المريب الذي تمر به ابنتها البكرية:
-مشكلة بسيطة، وربنا يسهل هنشوف حلها.
تفاجأ بابنه يخبره في إصرارٍ وهو يشير إليه ليعود إلى السيارة:
-احنا معاهم يا بابا.
على مضض تحدث، محاولًا ألا يكسر بخاطره في حضورهم:
-طيب.
مرة ثانية انطلقت السيارتان تتبعان بعضهما البعض نحو منزل عائلة “راغب”، و”إيمان” غارقة حتى النخاع في بئر عميق من الحيرة والشك.
…………………………
لم تكن بحاجة لارتداء قناع الودية أو الوداعة، بل تعمدت الظهور بوجهها الحقيقي أمامهم، لتشعرهم بمدى احتقارها لهؤلاء المزعجين، فاستطردت في برودٍ وعجرفة وهي تطوف بعينيها على أوجه أولئك المجتمعين حول باب منزلها:
-خير؟ جايين برابطة المعلم كده ليه؟
في رنةٍ من العتاب استطردت “إيمان” تخاطب حماتها:
-مش هتقوليلنا نتفضل يا طنط؟
لوت “نجاح” ثغرها مغمغمة بتأففٍ:
-لأ، مش هينفع، أصلي نازلة.
لن تنكر أنها اعتادت على طريقتها السخيفة تلك في التعامل معها، لكن عائلتها لن تتحمل ذلك، لهذا أرادت أن تنهي هذا اللقاء الثقيل على القلب كالهمِ بسؤالها المباشر:
-طب “راغب” فين؟
نفخت حماتها عاليًا، كأنما تلمح إلى ضيقها من تواجدها غير المرحب به قبل أن تجاوبها بنفورٍ صريح:
-معرفش.
هتفت مستنكرة عجرفتها الزائدة، وقد بدأت تنفعل قليلًا:
-إزاي يعني؟ مش حضرتك مامته؟ أكيد هيكون قايلك هو فين؟
نظرت لها شزرًا، ليتبع ذلك قولها السخيف:
-والله ابني مش قاصر علشان أدور عليه، هو حر يعمل اللي عايزه.
حاولت على قدر استطاعتها أن تكون هادئة مع أسلوبها السمج المستفز، وطلبت منها في تهذيبٍ، كمحاولة أخيرة لإظهار وداعتها قبل أن تنفجر فيها:
-تمام، ممكن تكلميه وتقوليله يرد على مراته.
في صفاقةٍ منقطعة النظير، لا تحمل ذرة من الإشفاق أو التعاطف، قذفت في وجهها قنـــبلة أخرى بكلماتها القاسية، كانت أشد في وطأتها عن أي سابقة أخرى مرت بها:
-مش لما تكوني أصلًا مراته ………………………….. !!
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية فوق جبال الهوان)