رواية حصب جهنم الفصل الثالث 3 بقلم نرمينا راضي
رواية حصب جهنم الفصل الثالث 3 بقلم نرمينا راضي
رواية حصب جهنم البارت الثالث
رواية حصب جهنم الجزء الثالث

رواية حصب جهنم الحلقة الثالثة
ادع لغزة كأنك الوحيد الذّي يدعو لها، حتّى إذا سألك اللّٰه يوم القيامة ماذا فعلت لأجلها؟ تقول:
يا ربّ لم أكن أملك غير الدعاء لها ومتابعة أخبارها يا رب قلبي عاش بها ومشاعري كانت معها ودموعي لم تجف لأجلها، يارب لم أنسها ولم أغفل عنها.
_________________.
– رسالة إلى إبليس : الأمور هنا تسير على النحو الذي تريد، حيث الناس أصبحوا أكثر سوءًا منك.
– آل باتشينو.
~~~~~~~~~~~~~.
« كيم يونغ سوك » رجلٌ في مقتبل الثلاثين يتسم بصفات الذئب، فهو داهية ماكر و ذكيٌ محتال، إلا صفة واحدة بها أصبح شاذًا عن القاعدة .. صفة الغدر و الخيانة، لا يتصف بالوفاء لأحدٍ أيًا من كان، بالرغم من صداقته العميقة مع « القيصر» لأكثر من عشر سنوات، لكن ذلك لا يعني أن يطمئن له الأخير اطمئنانٌ تام.
لم يُفكر « يونغ» بإعلان الغدر على مملكة القيصر، و لِمَ سيفعل و هما يُشكلان معًا أقوى المصالح المشتركة !
الاثنان قريبان من بعضهما لحدٍ كبير في الخصال السيئة، فهما من أكبر و أقوى العصابات قوة في العالم، ليس هما فقط، بل مساعديهما من بقاع البلدان أيضًا.
« يونغ» هو وريث والده و إخوانه في جرائم تجارة البويضات و الأعضاء، و كذلك
« القيصر» وريث والدته و مساعديها في جرائم العنف و الاضطهاد ضد المسلمين و التجارة غير المشروعة، و أيضًا الاستخدام الرئيسي للدارك ويب في عملهما و التسلية بصيد البشر معظم الأوقات.
الرجلان يتبعان استراتيجيات صيدٍ ذكية للبشر الضعفاء أو الأقل منهم نفوذًا و سُلطة.
لقد جاء « يونغ» مع رجاله من كوريا الجنوبية؛ لإتمام بعض الصفقات الأخرى مع القيصر و والدته « صوفيا» و مساعدها « دانيال».
وُلد « يونغ» و نشأ في « بوسان»، و يحمل الديانة البوذية.. حظي بملامح هادئة و جميلة كصفات أهل كوريا الجنوبية، و لكن قلبه الظالم يحمل من القسوة و الأنانية ما يكفي و يفيض.. الأموال الطائلة و الرشاوي التي يقدمها والده للكبار في أمريكا، يجعله يعتبر أمريكا بقوتها و كأنها جزء من لعبته، فالمال في البلاد الظالمة قادرة على شراء الأنفس و فعل أي شيء يحلو للطاغية.
في ذلك الوقت الذي أطل فيه « يونغ» على أرض « القيصر»، كان الأخير يمارس هوايته المهووس بها و المفضلة لديه.. يقف في حلبة المصارعة التي تم إعدادها و صناعتها خصيصًا له بداخل حديقة قصر والدته الضخم، يمارس أنواع التعذيب المختلفة بالركلات و اللكمات على جسد واحد من رجاله قد ارتكب خطأ صغير أثناء العمل..« القيصر» لديه مبدأ واحد في عمله لا ينحرف عنه، وهو
« التعامل بلا رحمة».
لمحت عينيه صديقه قادم باتجاهه، فتوقف عن ضرب الرجل الذي يحاول بضعفٍ منه الوقوف على قدميه، و استدار لـ « يونغ» قائلًا بابتسامة جانبية واثقة تحمل الكثير من الغرور:
” مرحبًا بك أيها السافل ”
كلمة السافل تُقال عندهم بغرض اثنين إما المزاح أو التوبيخ، و هنا قصد بها المزاح، تلك عادته.. يمزح بأقبح الألفاظ، و الأخير ماذا فعل ؟
رفع له إصبعه الأوسط في حركة وقحة مثله تبعها بقوله الساخر وهو يلقِ نظرة على الرجل المنهزم:
” اترك لي شيئًا أيها الداعر الأناني ”
أراد المشاركة و استعراض عضلاته و قوته هو الآخر على الضعفاء و الأقل منهما قوةً، فمسح
« القيصر» على شعره الثلجي بعدم اكتراثٍ له، وهو يبصق جانبه بتعبٍ شعر به للحظات ناجمًا عن مجهوده الذي أخرجه في مصارعة الرجل، الذي قاومه في البداية لدقائق قبل أن يخرّ مُنهزمًا، و عاود استكمال ما يفعله، لينحني على الرجل يجعله يقف، و بدأ يتحدث بهدوءٍ يشوبه الغدر في نبراته:
” هل تعلم مقدار الخسارة التي تكبدناها بسببك ؟ ”
” سيدي.. اعفو عني أرجوك، سأحاول تصحيح خطئي ”
قالها الرجل بدموعٍ حقيقية وهو يحاول الوقوف بتوازن أمامه، فأردف « القيصر» بابتسامته الجانبية المعتادة:
” لا وجود للفرص الثانية في أرضي ”
أنهى جملته بركلة قوية في بطن الرجل جعلته يصارع الألم حيًا.. بالنسبة لحاشيته هو الرجل الأشْوَسُ القوي الصِنْديدٌ، يضرب الخصم بلا مبالاةٍ لصرخاته المدوية الناتجة عن الألم الشديد الذي يتعرض له باستمرارٍ من ركلات
« القيصر» السريعة.. ابتسامته الساخرة اللاذعة لا تبرح شفتيه، عينيه لا تنفك تَرمقه باستهزاءٍ من حينٍ لآخر وهو مستمر في توجيه اللكمات السريعة له، مثله مثل صديقه الآسيوي
« كيم يونغ سوك» الذي وقف خارج الحلبة يشاهد باستمتاعٍ هو الآخر لما يحدث.
« إما أنا أو أنا، إما أكون أو أكون» هو شعارهم في امبراطورية القيصر، لا مجال للوسطية هُنا، لا مجال للحلول الوسطى في تلك الأرض الظالمة.
قانون الغابة هو شعارهم الحي.. البقاء للأقوى و الأشد مكرًا و شرًا.
سريع في ركلاته بشكل لا يمكنك توقع الركلة القادمة أو رؤيتها من سرعته الاحترافية..
حمله من خصره ثم أحاطه بذراعيه و أحكم احتوائه للخصر، و ببراعته في القتال.. شدد من لف ذراعيه عليه و صدحت أصوات كسر العمود الفقري من قوة الاحتواء، لينتهي المطاف بالرجل يصرخ بكل ما فيه.. يصرخ بوجعٍ و ألمٍ لا مثيل له.
ألقى به خارج حلبة المصارعة الخاصة به، ثم وقف بشموخٍ يستعرض عضلاته أمام مُشجعيه، ليستدير لصديقه الكوري الذي لا يقل عنه مهارة في القتال بالجسد، و ابتسم له باستفزازٍ قاصدًا جرُّه للقتال.. قائلًا:
” أنت التالي ”
صدرت ضحكة تَهَكُّم خفيفة تدل على استخفاف
« يونغ» بقوته، و بدأ بنزع جاكيته، ثُم انضم للحلبة و أخذ بالقفز بخفةٍ لليمين و اليسار على أتم الاستعداد لخوض صراعٍ مع صديقه لمجرد التسلية.. نظرات عينيه قالت كل شيء، أما فمه نطق بتحدٍ أكبر:
” أَرِنِي مَا لَديْكَ ”
و قبل أن يبدأ القتال، وصل لمسامع الجميع أصوات صرخات قوية.. صرخات استغاثة مختلطة ما بين الصوت الرجولي و الأنثوي، الأصوات وحدها كفيلة بأن تجعل نياط قلبك يتمزق من الفزع !
منذ دقائق كانت « صوفيا» المرأة الخمسينية الشيطانية تتابع ما يفعله ابنها بفخرٍ و دعمٍ له، ثم انصرفت للغرفة المظلمة السرية بعدما أتتها المكالمة التي انتظرتها بفارغ الصبر.
هي إمرأة ذات نظرة ثاقبة حاسمة، خطيرة كالحية يجب الحذر منها عند ظهورها..
تقتل و تُعذب أكثر من ابنها.. تستخدم السادية في التسلية بصيدها الغنيم، هي واحدة من مستخدمي « الدارك ويب» في مصالحها الشخصية.. تتلاعب بمشاعر الناس و تستخدمهم لتحقيق أهدافها، عينيها الحادة تلمعان بالغدر و الخداع، إمرأة قاسية و غليظة الطباع بكل ما تحمله الكلمتين من معنى.
الغرفة مظلمة و مخيفة، و الهواء بداخلها رائحته أشبه بالقَعْسُ من كثرة التقزز الذي يحدث بها و يثير القيء و الغثيان في النفس، و بما أنها إمرأة رِهِيّه و سادية، فألقت الأمر على رجالها بالخروج.. لقد أحضروا لها ثلاث ضحايا جدد سيتم ممارسة أنواع التعذيب عليهم لإرضاء شعور الاستمتاع و اللذة لدى الذين يدفعون مبالغ طائلة مقابل رؤية ذلك عبر الويب المظلم.
خرجوا و تركوا الغرفة الحمراء بنورها المخيف و المسلط على الأشخاص الثلاثة يعكس ارتعاش جسدهم إثر الصدمة التي حلت بهم بعد معرفتهم أنهم مجرد فئران تجارب في تلك الغرفة المشؤومة.
بينما بقي معها أربعة من مساعديها في ذلك الأمر.. وقفت هي أمامهم تطالعهم بنظراتٍ حادة كالصقر المترقب لفريسته، أما هُم بدأوا في النحيب و حاولوا النهوض، فقاموا المساعدون بتقييد وثاقهم بالسلاسل الحديدية الملتصقة بوتد في أرضية الغرفة، ثم جردوهم من ملابسهم و لم يتم كتم أفواههم، نظرًا لحاجة المشاهدين وراء الشاشات بسماع أصوات صراخهم و استغاثتهم.
رجلين و إمرأة من بينهم رجل اتضح أنه مسلم من كثرة قوله « أشهد أن لا إله إلاّ الله و أشهد أن مُحمدًا رسول الله»، استطاعت « صوفيا» سماعه، و أثار ذلك استفزازها، فاقتربت منه و جلست القرفصاء أمامه، ثم تأملته بسخرية لثوانٍ لتقول:
” حسنًا، فلينقذك الله مني ”
” سيصيبك عقاب الله لا محالة ”
رد بها الرجل دون خوفٍ منها، فالمسلم عزيز النفس في أي موقفٍ يُوضع فيه.. جُملته تلك زادت الطين بلة.
نهضت « صوفيا» و نظرت بسخطٍ للجلادون قائلة بنبرة حاسمة:
” اجلدوه حتى الموت ”
بدأ الجلادون يضربونه بالسوط بلا رحمة وهو يصرخ من شدة الألم و يذكر الله بصعوبة بين الحين و الآخر.. تفتح جسده من كثرة الجَلد و ترك السوط آثار و جروح عميقة على جسده و بدأ ينزف الدماء و لسانه لم ينفك عن نطق الشهادة، و بعدما انتهوا من جلده، قاموا بقطع عضوه الذكري و لقى الرجل حتفه بعد لحظات، في حينٍ أنها اتجهت نحو المرأة و تأملت أظافرها بنفس ابتسامة السخرية، ثم جلست أمامها و قالت:
” ما رأيك حُلوتي أن نقتلع تلك الأظافر ؟ ”
اتسعت عينيّ الفتاة ذعرًا و هلعًا و صرخت باستغاثة:
” لا أرجوكِ.. أنا لم أفعل شيء.. اتركيني أرحل أرجوكِ.. لدي أطفال.. لم أفعل شيء ”
سألتها ببرود:
” لأي ديانة تنتمين ؟ ”
” لست أنتمي لأي ديانة، أرجوكِ دعيني أذهب ”
” لا يهم إذا كُنتِ تتبعين دينًا أو لا، المهم أننا سنستمتع كثيرًا اليوم.. أنتِ إمرأة ضعيفة و الضعفاء لا وجود لهم بيننا ”
قالت كلماتها، و أخذت بتعذيب المرأة بنفسها..
أحضرت آلة حادة تستخدمها في تلك الغرفة للتعذيب، و بدأت تقلع أظافرها واحد تلو الآخر تحت أصوات الصراخ القوي منها.. امتلأت يد المرأة بالدم الغزير و « صوفيا» تنظر لشاشة التسجيل و تبتسم باستمتاعٍ تشارك المشاهدين ما يحدث.
اقتلعت الأظافر جميعًا و بقي الجلد فقط الظاهر، حتى فقدت المرأة وعيها، و لم تكتفِ بذلك.. انتقلت لشعرها و أخذت تقلع الخصلات من جذورها، فقطعت فروة رأس المرأة و لقت مصرعها على الفور.
أما الرجل الثالث وضعوا أمامه فضلات حيوانات و أجبروه على أكلها، و إذا تأخر في المضغ دقيقة أو البلع، يقومون بلسعه بالنار في أماكن متفرقة من جسده.
ساعة كاملة من التعذيب للثلاثة و انتهت حياتهم على أيادِ الظلم و الجبروت و المختلين عقليًا.
أما في الخارج عاود « القيصر» استكمال مصارعته مع « يونغ» بلا مبالاة لأصوات الصراخ، فهو اعتاد على سماعها.
« يونغ» لا يقل قوة عن صديقه، فهو يُعتبر آلة قتلٍ بشرية.. مثله مثل صاحب الشعر الثلجي.
بدأ « القيصر» يركل و « يونغ» يصد، حتى حدث العكس، فالأخير بمهارته في الكونغ فو.. قفز على حبال الحلبة ثم بحركة دائرية في الهواء استطاع احتواء رقبة القيصر بين فخذيه مثل حركة المقص، و الأخير شعر بأنه سيختنق فضرب بيده على أرضية الحلبة، و فك « يونغ» فخذيه عنه، لينهض القيصر وهو يتنفس بصعوبة قائلًا:
” هل أكل الراميون يمدك بالطاقة ؟! ”
ضحك « يونغ» وهو ينهض و يمسح على شعره الأسود الحريري بغرورٍ و فخرٍ من لياقته هاتفًا:
“عليك أن تعترف بأنني أقوى منك ”
رفع القيصر حاجبيه باستنكارٍ يقول:
” يبدو أنك لم تنم جيدًا « يونغ » ”
أنهى قوله ثم قفز بلمح البصر تجاهه وهو يضم قدميه ليركله في صدره، فيقع أرضًا متألمًا و ضاحكًا في نفس الوقت من اصرار صديقه على الفوز.. اتجه القيصر نحوه و مد يده يساعده على النهوض، فأبى يونغ و نهض وحده قائلًا بنظراتٍ جائعة بعدما لمح مساعدة القيصر الخاصة تتجه نحوهما:
” لم أرَ هذه الفتاة من قبل، هل هي جديدة هنا
؟ ”
قلَّب قيصر نظراته عليهما بالأخص يونغ، فوجده يتأملها برغبة مُلحة في داخله، على الرغم من أنها ليست نوعه المفضل من النساء.. يعلم القيصر أن صديقه الكوري مولع بجسد الفتيات ذوات الساعة الرملية، و تلك المساعدة ليست كذلك.. قال القيصر ضاحكًا بخفة:
” لِمَ تسأل ؟ ليست نوعك المفضل ”
” أعرف، و لكنها مناسبة لتصويب السكين عليها.. ما رأيك بأن نلهو قليلًا قبل البدء بعملنا ؟ ”
قصد من كلامه أن يضع الفتاة على لوحة خشبية مستطيلة بعد تقييدها بها، ثم تصويب السكين الحاد على الخشبة كما يفعلون في العروض المسرحية.. تلك هي لعبتهما المفضلة، و لكن الفرق بينها و بين العرض المسرحي، أنهما لا يهتمان إذا أصاب نصل السكين الفتيات، المهم إشباع رغباتهما.
لم تدرك الفتاة بعد ما المغزى من حديثهما، فاقترب منها « يونغ» بسخرية لاذعة هامسًا في أذنها:
” لا تخافي، سأكون رحيمًا معكِ ”
تساءلت بعفوية:
” ماذا تقصد ؟ ”
رد القيصر يشاركه رغبته:
” ستكونين دُميتنا الليلة ”
ابتلعت ريقها بخوفٍ من نظراتهما و تساءلت بعدم فهمٍ بعد:
” و لكن.. و لكن ماذا فعلت ؟ هل أسأت التعامل ؟ هل أخطأت في شيء ؟ ”
” لا أحب الثرثرة الكثيرة، هل ترين تلك الخشبة ؟ اذهبي و قفي عندها ”
انصاعت الفتاة لأوامر « يونغ» وهي ترتعد خوفًا بعدما اتضحت لها نواياه الخبيثة، و بينما هو يلقي بالسكين واحد وراء الآخر عليها، التفت للقيصر الواقف يتجرع كأس الخمر خلفه، و قال بنبرة جادة:
” الداعية الداعر بدأ يشكل خطر جسيم علينا، إنه يتحدث في محاضراته عن الفساد و كيفية ردعه.. علينا إيقافه قبل أن يتفاقم الأمر ”
رد القيصر بنظرة ساخطة وهو يأخذ السكين منه:
” نعم.. سنفعل، و لكن في الوقت المناسب ”
خرجت « صوفيا» تقول بنبرة حازمة:
” لدينا شحنة بويضات جديدة ستأتي عن طريق البحر، علينا أن نكون في كامل الاستعداد لها. ”
….
في منزل الداعية « لُقمان» يقف أمام المرآة مساء يومٍ جديد يمشط شعره و يُهندم ملابسه؛ استعدادًا لإلقاء محاضرة أخرى و بدء مناظرات مع الملحدين و غيرهم.
جاءت « آسية» من خلفه بابتسامتها الصافية تنثر له المسك الذي يُحب وضعه، ثم وقفت أمامه تتأمل هيئته المُرتبة بغيرة، فهي تغار عليه بجنون و لكنها تثق به أيضًا ثقة عمياء.. قالت باسمةً:
” تزداد جمالًا يومًا عن آخر ”
” هذا لأن عينيك جميلة آسية ”
قالها مُداعبًا ذقنها الصغير بأنامله مع مبادلتها الابتسامة الجميلة، ثم استدار لصغيره الذي جاءه راكضًا يودعه، و حمله إليه يلثم خده الناعم بقبلاتٍ رقيقة، قائلًا له:
” مرحبًا ببطلي الصغير، كيف حالك يا فتى ؟ ”
تبسم « مُحمَّد» دون ردٍ فقد استيقظ للتو من نومه، و مال برأسه على كتف والده، مما ربت عليه « لقمان» بحنوٍ، و أعطاه لوالدته ليقول بنبرة حنونة يشوبها المزاح:
” يبدو أن صغيرنا لم يُكمل حلمه الجميل بعد.. دثريه في فِراشه، و تعالِ إليّ ”
أومأت بنظراتٍ عاشقة له و لابنهما، ثُم اتجهت لتضعه في فِراشه الصغير و قبَّلت رأسه، لتعود لزوجها بطاقة مرحٍ.. تقف أمامه و تحيط رقبته قائلة بنبرة مشاكسة:
” منذ ولادة مُحمَّد و أنا لا أستطيع المجيء معك و الاستماع إليك عن قُربٍ مثلما كنت أفعل سابقًا.. هلا تأخذني معك ؟ سأترك مُحمَّد عند جارتنا، هي إمرأة لطيفة.. لا تخف ”
” أن أقوم بإعطاء الدروس الدينية « آسية» ولا أقوم بإلقاء الشعر الرومانسي لتأتي و تستمعين عن قُرب، ألم تكتفِ من التأمل في وجهي بعد ؟ ”
ضحكت وهزت رأسها بنفيٍ مُردفة:
” لا، لم أنتهِ بعد من حفر تفاصيل وجهك بقلبي.. هذا الوجه الوسيم لا أشبع من التأمل به أبدًا.. أتعلم أنني أحيانًا أتخيل النساء و هُنَّ ينظرنَّ إليك، فأشعر بغيرة شديدة و أظل أبكي ؟ ”
” اطمئنِ « آسية» لا يحدث ذلك و لن يحدث، أنتِ تعلمين أنني أتعامل مع النساء في المحاضرات عن بُعدٍ، لا تدعِ الشيطان يعبث بأفكارك.. لا وجود لما يحدث في مُخيلتك ”
تنهّدت باقتناعٍ و تساءلت:
” هل من الممكن أن تتزوج من إمرأة غيري ؟ ”
رد بجدية في حديثه يخفي وراءه مزاحه:
” نعم، إذا توافر معي المال الكثير سأتزوج ثانيةً ”
توسعت حدقتا عينيها و ظهر الخوف في نظراتها، هاتفة بدهشة:
” لُقـمان ! ”
أطلق ضحكة مُطولة و جذبها نحوه يضمها إليه برفقٍ قائلًا بعدما توقف عن الضحك:
” لا تخافي ولا تحزني « آسية»، إذا تزوجت لن أستطيع العدل بينكما، أنتِ تعلمين كم أُحبك، و لن تستطيع إمرأة أخرى مشاركتك قلبي.. اطمئنِ يا صبابة صدري.. اطمئنِ « آسية». ”
” إذًا كُف عن مزاحك السخيف هذا « لقمان»
و إلا.. ”
هتفت بها وهي تبتعد عنه بتعصُبٍ، فجذبها نحوه ثانيةً و تساءل قاصدًا المجاكرة:
” و إلا ماذا يا مُشاكسة ؟! ”
” أنت تعلم أنني أمتلك أسنانًا حادة، ما رأيك بعضَّة خفيفة ؟ ”
قالتها بنظراتٍ تتحداه من خلالها، فهو قد جرَّب منها مُسبقًا العض و تركت أثاره على يديه، و أحيانًا عندما تغضب منه يدعها تعضه حتى يهدأ بالها و ترضَ عنه.. رد ضاحكًا:
” حسنًا، يمكنك فعل ذلك كيفما تشائين، و لكن عندما أعود.. الآن سوف أتأخر أيتها المشاكسة، عليّ الذهاب ”
قال جُملته الأخيرة، و رفع يديها يطبع قُبلة حنونة عليها، ثم تساءل قبل مغادرته:
” ماذا تحبين أن أحضر لكِ عند عودتي إن شاء الله ؟ ”
ردت بدلالٍ و بطريقة أضحكته:
” أنت تعلم ماذا أريد ”
” حسنًا سأحضر لكِ الكثير من السكاكر ”
ثم أخفض صوته يقول بحسرة مزيفة:
” والله مُحمَّد لم يطلبها مني.. مسكين صغيري ”
” هل قلت شيئًا « لقمان» لا أسمعك ؟ ”
تحمحم قبل أن تكشفه، و قال وهو يُلقي لها قُبلة هوائية قبل الاختفاء من أمامها:
” دعواتك حبيبتي.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ”
” وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، لا تتحدث مع النساء إلا من خلف ستارٍ.. أنا أغار بجنون ”
كان قد اختفى و أغلق الباب خلفه قبل قولها الأخير الذي صاحت به، مما ضحكت من نفسها قائلة و هي تتوجه نحو المطبخ لإعداد القهوة؛ للاستماع لمحاضرته من البث المباشر على الإنترنت:
” مجنونة « آسية»، و لكنكِ تُحبيه، قولي ما شئتِ ”
على ناحية أخرى في نفس القاعة الواسعة التي يُلقى فيها « لُقمان» محاضراته.. كان الناس قد تجمعوا للاستماع إلى درس جديد في. الدين الإسلامي، و أغلبهم مسلمون جُدد، و منهم الملحد و المسيحي و من ديانات أخرى قد جاءوا للمناظرة.
ألقى « لقمان» محاضرة اليوم و التي تحدث فيها عن البرزخ و ما يحدث بعد الموت للمؤمن و الكافر، و بعد انتهاء المحاضرة جاء موعد القاء الأسئلة لغير المسلمين أولًا.. السؤال الأول من نصيب امرأة مُلحدة، وقفت أمام الميكرفون و سألت الداعية « لقمان» سؤالًا كان لقمان نفسه يطرحه على الداعية « ذاكر نايك» قبل إسلامه، فبعد تركه المسيحية، ظل عدة أشهر لا يؤمن بأي دين، و وصل به الأمر أنه أنكر وجود الله سبحانه و تعالى، و لكن الحمدلله الذي هداه للإسلام، و أصبح الداعية الشهير فصيح اللسان و قوي المناظرة « لُقمان عبد الله».
سألت السيدة:
” إن كان لكل موجد سبب، وبما أن الله موجود، فمن أوجده ؟ ”
نهض « لقمان» يجيب على الأسئلة، و بطبعه الهادئ و طريقته السلسة في الحوار، قال:
” السؤال غير منطقي، ليس لكل موجود سبب، بل كل ما له بداية له بادئ، الكون له بداية حسب نظرية الانفجار العظيم السائدة للآن، إذًا الكون له بادئ و مسبب من خارجه.. الله أزليّ أي لا بداية له، ولهذا فعلّة وجوده في داخله وليست خارجة عنه، الله هو الذي خلق قانون السببية و نحن اكتشفناه، فلا يُعقل أن يخضع الخالق لقانون من صنعه.. الله خلق الزمان والمكان فلا يصح أن نتصوره مقيدًا بهما.. فالله لا يحده زمان ولا مكان، ولهذا نقول أن السؤال كان في البداية غير منطقي، و كأنك تطلب أن نرسم دائرة مربعة، فليست هناك دائرة مربعة الشكل، فإن كان الله هو الخالق، فليس الخالق أن يكون بالضرورة مخلوقًا.
يبدو أنها تُصر على الإنكار، فعادت بسؤال آخر:
” حسنًا، أنتم أيها المسلمون تقولون أن الله خلق كل شيء، والشر شيء، إذًا فالله هو من خلق الشر ؟! ”
رد « لقمان» دون تفكير و بثقة رُزق بها يتحدث معها بما تستطيع فهمه:
” كلا، الله لم يخلق الظلام، لأن الظلام ليس شيئًا، الظلام هو غياب النور.
الله لم يخلق البرودة، لأن البرودة ليست شيئًا بل هي غياب الحرارة، على نفس النمط نقول الله لم يخلق الشر، لأن الشر ليس شيئًا موجودًا، بل هو غياب الخير.
الله خلق البشر أحرارا، ومع الحرية يأتِ احتمال الخطأ.
لنضرب مثلًا في ذلك..« هنري فورد» هو أول من أنتج السيارات بأعداد كبيرة، اشتراها الناس وقاموا بقيادتها ونتج عن ذلك حوادث كثيرة، هل يمكن أن نقول أن هنري فورد هو صانع الحوادث ؟ طبعا لا، هكذا الحال مع الله.
لقد خلق الله الانسان حرًا ولكن الإنسان أساء اختيار حريته وصنع الشر.. قتل وسرق، و اغتصب و دمّرَ، فلماذا نلوم الله على شر الإنسان ؟
الله لم يخلق الزنى والقتل والسرقة، إنها شرور الإنسان الذي تدفعه شهواته الغير مقيدة لارتكاب الشر و المعاصي التي نهى الله عنها في كتبه و وصاياه لأنبياءه ورسله.
” أنا أعرف أنك تؤمن بإله تقول عنه كُلي المحبة، فكيف يرسل هذا الإله المُحب بشرًا إلى جهنم ليخلدوا فيها لمجرد أنهم أساؤا الاختيار لسنوات عمرهم القصيرة على الأرض ؟ ”
” الله لا يرسل أحدًا إلى جهنم، الأشرار يختارون جهنم و يذهبون إليها بمحض إرادتهم، إنهم يرفضون طريق الله و يختارون طريق الشر لأنفسهم.. هذا الطريق إن استمروا في السير فيه من غير توبة سينتهي بهم إلى جهنم و الهلاك الأبدي، الخيار للانسان.
العمر على الأرض ليس مبررًا، فلو عاش الأشرار على الأرض مليون سنة، سوف يرفضون طريق الله و طريق الأخلاق الفاضلة، و يستقلون عنه. إنه اتجاه القلب نحو الشهوات الدنيئة، وهذا لا علاقة له بطول العمر أو قصره.
الله لا يجبر أحدًا على أن يقضي أبديته معه رغم إرادته و إلا لكان إلها حالمًا.. !
الأنسان الشرير يفضل أن يذهب إلى مكان سيئ باختياره رغم علمه بالنهاية القاسية.. خلق الله الانسان حرًا في اختياره و احترم الله هذه الحرية مع إنها قد تؤدي به في كثير من الأحيان إلى ما لا يرضاه الله. ”
أومأت المرأة دون ردٍ و عادت مكانها ليأتي غيرها، و تتوالى الأسئلة على لُقمان وهو يجيب في هدوء و ثباتٍ حتى انتهت المحاضرة.
على ناحية أخرى في إحدى الحانات التي تعمل بها « سوزانا»، تجلس « روزالين» على إحدى الطاولات تنفث دخان سيجارتها و تتابع صديقتها التي ترقص على عمود الرقص بملابس فاضحة، و يشاهدها الكثيرون ممن أتوا خصيصًا لرؤيتها.
في الحقيقة لم تكن « روزالين» في انسجام معها، لقد أتت فقط لتغيير مزاجها، و عندما تدخن السجائر فهذا يعني أنها تفكر في شيءٍ مزعج كلما تذكرته يزيدها توترًا.
بدأت الذكريات تتدفق إلى ذهنها، و عينيها تلتمعان بالدموع المهددة بالنزول في أي وقت.. تنهدت بحزنٍ و المشاهد المأسوية لا تبرح مكانها في الذاكرة، تذكرت عندما أُجبرت من قبل إخوانها بالأخص أخيها الأكبر « عز الدين» على الزواج من شخصٍ لا تحبه ولا تريده، فقط أرادت القبيلتين أن تتم تلك الزيجة للمصالح الشخصية.
كانت فتاة متمردة بطبعها، تعلمت و درست في القاهرة، و لم ترضَ بالنكوص و الجلوس في حِجر القبيلة دون تعليم، أحبت المغامرات و هَوَت عيشة المدينة، فتمردت على عادات القبيلة و فضلت التعليم عن الزواج، فتركها والدها تدرس بالقاهرة و أرسل معها شقيقها الحكيم « صخر» أما الاثنان الآخران فيصل و عز الدين، فقد رفضا رفضًا قاطع خروجها من القبيلة، و لأنها تصنعت الدلال بمهارة على والديها، فكانت الموافقة حليفة الموقف، بخلاف شقيقتها الصغرى « رغدة» صاحبة التاسعة عشر عامًا، التي تلقت تعليمها البسيط على يد أحد المعلمات في القبيلة، و التي تزوجت في سنٍ صغير عندما كانت في السادسة عشر و تُوفِّي زوجها بعد زواجهما بعامٍ و نصف.. لقد اشتاقت لها كثيرًا.. عندما عرفت بأنها سيتم تزويجها بالإجبار، قررت الهروب بمساعدة أحد رجال إخوانها الذين يعملون في منجم الفيروز الذي يتم استخراج حجر الفيروز الكريم منه تحت إشراف « عز الدين و فيصل» اللذان تربطهما علاقة قوية مع رجال الدولة الكبار.
فقد أعطت له الكثير من المال الذي سرقته من خزنة والدها، و أخذت معها الكثير؛ استعدادًا للعيش في أحد البلاد الأجنبية و بناء حياتها كما تشاء من جديد.
لو كانوا تركوا لها حرية الاختيار في الزواج، لما أصبحت هنا الآن تصارع العيش وحدها في شوارع أمريكا.. اشتاقت لهم و لرائحة أي شيء يخص قبيلتهم، و لكن لن تستطيع العودة مهما حدث، لعلمها جيدًا بأنها إذا عادت؛ سيقتلها
« عز الدين».
أنهت سيجارتها، و التفتت بجانبها لتجد شاب غريب عنها قريب من عمرها، جاء ليحتك بها متسائلًا بابتسامة ساذجة:
” يبدو أنكِ تشعرين بالحزن، هل يمكنني الجلوس معكِ و التحدث إليكِ ؟ ”
رمقته ببرودٍ ثم نظرت أمامها بعدم اكتراثٍ له قائلة بجدية:
” و ما شأنك أنت، اغرب عن وجهي ؟ ”
وضع أمامها العملات الورقية، ليحاول جرَّها في الحديث أو الظفر بها لارتكاب الموبقات:
” ما رأيك أن نستمتع سويًا الليلة ؟ ”
تَجَهَّم وجهها فور أن وقعت عينيها على العملات، و اِسْتَقبلته بِوَجْهٍ عَبُوسٍ، هاتفة بغضبٍ و هي تأخذ برأسه و تهبط بها على الطاولة بصرامة:
” استمتع مع أمك أيها العاهر اللعين ”
تجمع الناس حولهم، فتركتهم بلا مبالاةٍ و أخذت تبحث بملامح مُقطَّبة عن صديقتها التي اختفت بعدما أنهت عرضها الراقص.. سألت إحدى الفتيات العاملات، فأخبرتها بأنها في المرحاض..
اتجهت « روزالين» نحو مرحاض الحانة تمشي بغضبٍ و ثباتٍ غير آبه لردود أفعال الناس على ضربها للشاب.. قبل أن تخطو قدميه للمرحاض النسائي الكبير الذي يضم عدة حمَّامات، وصل إليها صوت « سوزانا» تتحدث مع أحد الرجال على عتبة المرحاض النسائي:
” تتبع خطوات « إيلزابيث» جيدًا عندما تخرج من المنزل وحدها، لا تحاول لفت الانتباه، و إياك أن تُخطئ، إنها ترتدي ذلك الذي يسمى نقاب.. هذا الغطاء الأسود اللعين، هل تعرفه ؟ ”
” نعم آنستي.. المهم أنني عرفت عنوانها ”
” جيد.. تذكر، لا تلفت الانتباه و لا تدع أحد يشعر بوجودك، إذا قمت بتنفيذ طلبي و قتلتها، سأعطيك ضعف هذا المال ”
اتسعت ابتسامته و لمعت عينيه بِشرٍ، قائلًا:
” إنها الآن في تعداد الموتى ”
وضعت « روزالين» يدها على فمها بشهقةٍ خفيفة هامسةً بخوفٍ عليها:
” بيلا ! ”
…..
أمام الجبل الذي جلس « عز الدين» عنده يصارع آلامه، و بعدما أتت تلك المكالمة الموبوءة لصخر، نهض سريعًا في توتر محاولًا تدارك المصيبة و إخفائها عن عِز، فقال بابتسامة شاحبة:
“في واحد خاوتي حصلت معاه كونَه و محتاجني ضروري.. لازم أروّح، خلي بالك على روحك ”
أومأ وهو ما زال يتأمل الجبل الراسخ أمامه:
” روّح ”
صعد « صخر» على ظهر جواده، و ركض الحصان بسرعته الفائقة عائدًا للقبيلة.. بعدما وصل، نزل صخر عن جواده و دلف للمنزل العريق المبني على طراز البدو و الذي يعود لأجداده.. دلف للداخل و قلبه لا يكاد يصمت عن القرع، فهو شاب حنون للغاية و لن يتحمل فقدان أختين.. كان على علم بأن « رغدة» أخته تُحب « آسر» ابن جابر المنزلاوي، و الهارب من العدالة لارتكابه جريمة قتل بالاشتراك مع زوج عمته « أمينة»، و لأن قبيلة القحطاني تربطها مصالح مع عائلة المنزلاوي، فقد قرر
« عز الدين» إخفاء « آسر» لديه كورقة يستخدمها فيما بعد إذا دخل في صراع مع شكري و شقيقه جابر المنزلاوي، و كان أول شخص يلجأ إليه آسر هو « عز الدين» الذي لا يرحم.
علم « صخر» بأن شقيقته تخفي حُبًا لهذا الشاب، لكنه لم يدرِ أنهما على علاقة ببعضهما.. آسر لا يذهب أبدًا لمنزل القحطاني، فقط يجلس معهم في المجالس الخاصة داخل خيمتهم الكبيرة، و وفر له « فيصل» مسكن خاص به بجانبهم، لكن يحدث بعد ذلك و أن تتطور العلاقة بين رغدة و آسر، فيقوم الأخير بمقابلتها سرًا عندما تستطيع هي الخروج من المنزل، و ما حدث، أنه اعتدى عليها جنسيًا عندما رفضت هي إقامة علاقة غير شرعية معه، لقد طلبت منه الزواج و رفض معللًا أنه هارب من الحكومة.
دخل صخر الغرفة التي ينتظر بها « فيصل» ليجد « رغدة» تبكي بحرقة شديدة و تنظر لهما بخزيٍ من نفسها، و فيصل يقف مُوليًا لها ظهره مُمسكًا السلاح بيده و عينيه تنذر ببركان غضبٍ سينفجر في أي لحظة.. هتف « صخر» بعدم تصديق يتساءل:
” ايش صار ؟ ”
لم يتفوه « فيصل» بكلمة من شدة غضبه، بينما « رغدة» انخرطت في بكاءٍ مرير وهي تقول:
“والله ما سويت شي.. جا عليّ و أنا أريد أبعد، ضربني ضرب قوي و سوى سواته و هج ”
” الخاين موبقع، و الله بنقضي عليه، و الله بندفنه ”
قالها صخر وهو يهم بالاقتراب منها، فأبعد فيصل بتحذيرٍ قائلًا بنظرة ساخطة جانبية لها:
“ما نلمس النجس حتى يطهر.. هي دنست وجهنا.. الاثنين يتقضى عليهم ”
” يا بيـاه ! ”
هتف بها صخر باعتراضٍ و استنكارٍ لقوله، و أردف:
“رغدة وش ذنبها ؟ ذا غدر بالعيش والملح، الخاين بندفنه ”
” و ذي غدرت بنا ”
قالها فيصل، ثم استدار لها و رمقها باشمئزاز منها هاتفًا بقسوة:
” خوي عز لازم يعرف بالعار، أنتِ اللي جلبتيه لحالك، أسماء صارت ميتة و أنتِ بتلقي مصيرك و تقضي على روحك برصاصنا ”
” ليش سويتِ كِذيه ؟ ”
سألها صخر بعتابٍ لها، فقالت بأسفٍ على حالها:
” كنت أَبي أحب و يحبني، بس طلعت غشيمة، ليش آسر سوى كِذيه اخوي ”
” لا تلومي إلا روحك ”
هتف بها « فيصل» وهو يقوم بتقييد وثاقها في الفراش الخشبي، مردفًا تحت نظرات الأسى من شقيقه الأصغر منه « صخر»:
” خليكِ كذا حتى نلقاه.. اللي يبيع الجمل ما يتأسف على الرسن”
…
على ناحية أخرى في قصر المنزلاوي، أنهت الفتاتان « آلاء و فاطمة» إنهاء طعامهما، لتتجه كل واحدة منهما لعملها الشاق.
الدكتورة آلاء للطب الشرعي، و المحققة الجنائية فاطمة للتحقيق في الجرائم، و الاثنتين تعملان سويًا على قضية و جريمة جديدة.
قالت آلاء شقيقة آسر بنظرة عابسة قبل أن تركب سيارتها:
” مش مطمنة لأخوكِ و آدم، حاسة إنهم ورا الجريمة اللي وصلت لنا الصبح ”
رمقتها فاطمة بنفيٍ تحاول مداراة خوفها على شقيقها عُثمان:
” حرام عليكِ يا لولو، إخواتنا يعملوا أي حاجة غير القتل ”
” طب و ليه متقوليش إنهم لما فشلوا في اغتصابها قتلوها ؟ ”
” عشان يا آلاء أنتِ عارفة طبع عثمان أخويا و آدم ابن عمنا.. دول بق على الفاضي، يفضلوا يقولوا هنعمل و نخلي و هما بيخافوا من عمك شكري عمى، تفتكري هيغتصبوا و يقتلوا ؟ أكيد لأ إن شاء الله.. عثمان أخويا في الآخر وهو ميعملش كده ”
صدرت ضحكة ساخرة من فاطمة تتبعها بقولها:
” بلاش تخلي العاطفة تدخل في الشغل، شغلنا بيعتمد على المصداقية و الأمانة، عامةً كله هيبان في التشريح اللي هقوم بيه و البحث الجنائي بتاع الشرطة و بتاعك.. و لا أنتِ عايزة تعملي زي إسراء اللي بتهرب بضاعة فاسدة و مخدرات في الجمارك ؟ آه بس لو أمسك عليها دليل واحد، والله ما هحلها ”
ردت آلاء وهي تلمح إسراء قادمة نحوهما بصحبة إيمان:
” المشكلة الكبيرة إننا عارفين عيلتنا شغالين في إيه، و مش عارفين نوجه لهم إدانة واحدة، و صعبان عليا أوي إنهم أهلنا، مش قادرة أتخيل إني ممكن في يوم أشوفهم في السجن ”
” لا يا حبيبتي تخيلي.. كل ظالم ليه نهاية، يلا أنا هسبق أنا ”
قالتها و قادت سيارتها لواجهتها، و لحقت بها
« آلاء»، بينما « إسراء» اتجهت لسيارتها هي الأخرى، قائلة لإيمان بنظرة حالمة قبل أن تقودها:
” خلي بالك على نفسك يا إيمي، كان نفسي أبقى معاكِ بس أنتِ عارفة شغل الجمارك.. أول إما تخلصي رني عليا أطمن عليكِ ”
ابتسمت إيمان بعفوية و اتجهت تحضنها لتقول وهي تعانقها:
” بجد مش عارفة أشكرك ازاي.. أنتِ الوحيدة اللي بتهتمي بيا في العيلة دي.. أنتِ أحسن أخت والله ”
كانت تبتسم بسعادة حتى سمعت أنها تعتبرها أختها فتلاشت ابتسامتها و قالت:
” طيب همشي أنا بقى عشان متأخرش ”
” اوك.. هبقى أكلمك ”
” و أنا هستنى مكالمتك، ياريت بس متنسيش ”
قالت جملتها الأخيرة تؤكد عليها، و انطلقت بسيارتها هي الأخرى تجاه عملها.
أما بالداخل.. استأذنت « ماجدة» والدة جبريل للذهاب لأكثر شيء تحب فعله، هي إمرأة طيبة القلب و لكنها جاهلة في الدين ولا توافق جبريل على بعض ارائه، مثل حبها الشديد لزيارة الأضرحة و التبرك بها و الاستغاثة بهم، و لا تعلم أن هذا يعتبر شرك بالله.
هناك من يزور قبور بعض الأولياء كما يطلقون عليهم، ويعتقدون أن قبورهم جنة، وبذلك فإنهم يستفيدون من مكوثهم بالقرب منها، والبعض يعتقد بحلول البركة من تلك القبور، لكن هذا كله لا يجوز في ديننا.
الاستعانة بقبور الأولياء، أو النذر لهم، أو اتخاذهم وسطاء عند الله بطلب ذلك منهم.. شرك أكبر مخرج من الملة الإسلامية، موجب للخلود في النار لمن مات عليه.
أما الطواف بالقبور وتظليلها.. فبدعة يحرم فعلها، و وسيلة عظمى لعبادة أهلها من دون الله، وقد تكون شركًا إذا قصد أن الميت بذلك يجلب له نفعًا، أو يدفع عنه ضرًا أو قصد بالطواف التقرب إلى الميت.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
” التبرك بها – يعني القبور – : إن كان يعتقد أنها تنفع من دون الله عز وجل فهذا شرك في الربوبية مخرج عن الملة، وإن كان يعتقد أنها سبب وليست تنفع من دون الله : فهو ضال غير مصيب، وما اعتقده فإنه من الشرك الأصغر ” .
بعدما أصرت على الذهاب بعد فشل جبريل في ردعها، تركها و أخذ كرة السلة الخاصة به ليلعب مع نفسه في الملعب المخصص لألعاب الكرة في القصر، « جبريل» ليس شابًا متدينًا و إنما يحاول أن يكون صالحًا، فهو يصلي ليس لأنه متدين بل لأن الصلاة فرض على جميع المسلمين ولا تقتصر على العلماء و المشايخ فقط، و من ناحية أخرى يحب الاستماع للموسيقى، و أحيانًا لا يسمعها.
جاء الإعلامي أدهم ابن عمه ليشاركه اللعب قائلًا:
” قمت بسرعة و مكملتش أكلك ليه ؟ ”
أدهم يتعامل معه بأسلوب جيد عكس أخيه قليل الحياء « آدم»، رد جبريل بالإشارة:
” مكنش ليا نفس ”
” زعلت من آدم ؟ معلش أنت عارف إن لسانه طويل ”
تبسم ضاحكًا وهو يلقي بالكرة بمهارة في السلة، ثم أشار قائلًا:
” مباخدش على كلامه، مش في دماغي أصلًا ”
عينيه فضحت أمره، فحاول إخفاء غضبه بداخله و ظل يلعب باحترافية مع ابن عمه، أما بداخل مكتب شكري الملحق بنهاية القصر..
تحدث آدم محاولًا إقناع والده:
” أنا مصدوم والله إن حضرتك بتتهمنا بحاجة زي دي.. يا بابا أنت عارفني، أنا أقتل ؟ أو عثمان يقتل ؟ إحنا ملناش في السكة دي ”
” لمحتكم أنتم الاتنين و أنتم راجعين امبارح الفجر بتجروا و بتتلفتوا حواليكم زي الحرامية.. تقدر تفسر لي ده ؟ ”
قالها شكري وهو ما زال يرمقهما بشكٍ، فَرد عثمان تلك المرة بنفاذ صبر:
” خالي.. طالما الجريمة حصلت هنا، يبقى قسم زايد هيتولى التحقيق، و فاطمة و آلاء هيشتغلوا على القضية.. الخبر بفلوس بكرة ببلاش، روق بالك و استنى نتيجة التحقيق، و هتعرف إن إحنا ملناش علاقة بالموضوع ”
الثقة التي يتحدث بها عثمان، جعلت شكري يهدأ قليلًا.
صباح اليوم..
اختفى الخيط الأحمر الرفيع الذي كان يسيل من الجثة أثناء جرجرتها، من المساكن إلى صندوق القمامة «المحرقة» على بعد 300 متر، ويختفي أحد الخيوط المهمة في اكتشاف الجناة.
كان أول بلاغ وصل إلى شرطة الشيخ زايد في الساعة السابعة صباحً، ا لقد اكتشف عامل النظافة الجثة المتفحمة أثناء فحص الصندوق في الصباح و أبلغ الشرطة بها.. في البداية لم يتم التعرف على نوع الجنس للجثة.
لم يكن أحد يعرف جنس الجثة حتى وصل رجال المباحث، فالحريق قد أتى تمامًا على معالم الجثة.. حولها إلى كومة من اللحم البشري المتفحم وسط القمامة، و بالبحث المبدئي تم التعرف على جنس الجثة من دبلة وخاتم نسائي من الفضة و خصلة شعر ملتصقة أسفل الجمجمة المتفحمة.
و وصل لرجال المباحث أكثر من رواية كلها حول صيحة استغاثة سمعت ليلة الحادث قبيل الفجر، وبدأ رجال المباحث يتساءلون: هل المرأة القتيلة المحروقة من المنطقة أو غريبة عنها ؟
هل الجناة من سكان المنطقة أم لا ؟.. وتم استبعاد كون المرأة المجهولة من أهل المنطقة بعد أن تأكد عدم اختفاء أية ساكنة بالمنطقة، وتم استبعاد كذلك كون الجناة غرباء عن تلك المدينة، فلابد أن يكون لهم مسكن بالمنطقة و يتحركون بحرية بين المساكن و يتصرفون بجسارة، فالقتيلة غريبة عن المكان، ولكن الجناة ليسوا غرباء عنه.
كان هذا ما صدر من البحث الجنائي على مدار الساعات الفائتة من ظهور الجثة، و استنتجوا أيضًا من «الثرثرة» أن هناك شهودًا بالسمع أو بالعيان ولكن الخوف يمنعم من الادلاء بشهادتهم.. الخوف من الجناة وأقاربهم.
و يبدأ الطب الشرعي عمله في تشريح بقايا الجثة، و يتدخل التحقيق الجنائي لمتابعة الحادث.
بعد ساعات من اتجاه « آلاء» لعملها و قيامها بالتشريح لإعلان تاريخ الوفاة الحقيقي و السبب الفعلي لها، جاءت « فاطمة» لمقر عملها بالمشرحة تنظر أمامها في صمتٍ و بوجه شاحب غير مصدقة ما رأته..
تعجبت آلاء من تركها للعمل و المجيء إليها، فتساءلت باستغرابٍ:
” في إيه ؟ مال وشك ؟ ”
اقتربت فاطمة منها، و همست في أذنها بكلمات جعلتها تنظر أمامها هي الأخرى بدهشة !
….
في فيلا « عوض» عندما رأى الأخير إبنه في قبضة « باشا»، تملك منه الخوف الشديد و هرع نحوه يترجاه بتركه هاتفًا بإلحاح:
” سيبه و هعملك كل اللي عاوزه، و شرفي يا باشا لأديكم فلوسكم كلها، بس سيبه ده اللي حيلتي ”
تركه «باشا» بعد أن شعر بأن الفتى سيختنق في يده، بينما « قابيل» رمقه بسخرية رافضًا للصُلح بسهولة، و لأنه شابٌ ذَرِبُ اللِّسان.. هتف بعد أن أخرج صوت عبر أنفه كعادته:
” شرفك إيه يا أبو شرف !
ده أنت نسوان بيتك كاتبين اساميهم في قايمتي ”
كاد أن يتحدث ابن عوض و يوبخه بعد أن تحرر من قبضة « باشا»، فوضع والده يده على فمه قائلًا له بتحذير:
” اسكت بقى اسكت.. كنت هتموت في ايده ”
أشار عوض لأحد رجاله بأن يحضر المال، فهتف باشا وهو يقترب منه بنظرات امتعاض:
” ما كان من الأول، لازمتها إيه الملاوعة ؟ ”
رد عوض بتوتر و تلعثم:
” أصل.. أصل كنت عاوز أشتري بضاعة جديدة بدل اللي غرقت، بس والله كنت هرجع للمعلمة زينات فلوسها الطاق طاقين ”
تبسم باشا ساخرًا، و ضرب بظهر يده صدر عوض في حركة استخفاف منه قائلًا:
” متجيش على سكتي عشان مش هتستحمل أذيتي ”
في تلك اللحظة، خرجت زوجة شكري بخوفٍ عليه وعلى ابنها تربت على جسدهما في تساؤل قَلِق:
” أنتم كويسين.. أنا قولت لك يا شكري ابعد عن السكة دي ”
تدخل « سلطان» يقول مُبتسمًا ببلاهة وهو يقترب منها لا إرادية و عينيه معلقة تتأمل يديها الممتلئة:
” ايديها بتعمل فطائر و مخبوزات شهية ”
ضحكوا إخوانه الأربعة، عدا باشا الذي رمقه بوجوم هاتفًا:
” ارجع ”
رجع خطوتين للوراء قائلًا ببراءة مزيفة:
” أنا نقطة ضعفي نون النسوة، ما بالك و أنا شايف النسوة كلها قدامي ! ”
قصد من ذلك أن المرأة ممتلئة الجسد، لكنها جميلة أسرت نظره، مما أردف عوض بغيظ منه:
” احترم نفسك يا سلطان ”
” سلطان يعمل اللي عايزه ”
قالها قابيل بتحدٍ له، فلزم عوض الصمت و أمرها بأن تعود للداخل، لقد خاف من بدء الشجار معهم رغم أنهم يمتلكون أسلحة بيضاء فقط، لكنه على علم بقدرتهم و مهارتهم في القتال بتلك الأسلحة و حتمًا سيهزمون منهم لا محالة.
أخذوا حقائب المال بعد عده في الحاسبة أمامهم، و عندما استداروا ليغادروا.. اقتحمت الشرطة المكان، ففتح وسيم فمه بدهشة هاتفًا:
” يعني إيه ! مش هستحمى النهاردة ؟! ”
و قال كرم ببرودٍ تعلمه من أخويه الكبار:
” وقتكم يعني ! ”
….
في منزل سعيد والد هِداية، عندما رأت ابن خالتها ذو السابقة الإجرامية بسبب التحرش، يتعرض لهما بالمطواة.. أحاطت أختها من خلفها بذراعها، ثم قامت بمهارة و بركلة قوية بضربه تحت الحزام، مما أُجبر على ترك المطواة و الصراخ بألم، و عندما حاولت نادية التدخل، دفعتها هداية في صدرها و اتجهت للغرفة المفتوح بابها أمامها، لتقول لهما بشجاعة اعتادت عليها و كأن عينيها تقول قبل لسانها
« أرني ما لديكِ »
” أنا داخلة أنام و أنيم جنى عشان جايين من سفر تعبانين.. لو سمعت دوشة ولا حس حد فيكم، هطلع أجيب أجله، قال البيت بيت أبونا و يجي الغرب يطردونا ”
ثم أغلقت الباب في وجههما تحت نظرات الدهشة من نادية، التي قالت بغلٍ واضح في عينيها:
” بتستقوي عليا يا بنت نوال ! إن ما وريتك.. أنتِ اللي جبتيه لنفسك ”
بينما في الداخل، تنهّدت هداية بتعبٍ وهي تنظر بتقزز للغرفة الغير مرتبة، و التي كانت تعود لها، و اتضح أن ابن خالتها يبيت فيها.
احتضنتها جنى هامسة بدموع:
” هداية أنا خايفة ”
” هداية متعرفش يعني إيه خوف، و جنى كمان لازم تبقى زي هداية ”
قالتها وهى تحمل اختها وتضعها على الفراش، ثم أخذت تغني لها أغنيتها المفضلة لتجعلها تنام و تكف عن الخوف، بينما هي تغني رغمًا عنها أدمعت عينيها:
” ضميني يا أختي ضميني
نامي يا أختي بأمان
في صدري … دفء و حنان
أوصتني أمي أن تبقي جوا عيني
لا تخشي يا أختي من شيء لا لا تخشي
عيشي يا أختي لن تشقي ما بين يدي
عيشي جوا عيني ”
نامت جنى ولم تمر دقائق، و استيقظت بفزعٍ تمسك في ملابس هداية و الأخيرة تنظر للباب بصدمة.. لقد جاء والدها من المقهى الشعبي الذي يديره بجانب المنزل، و عندما علم بما حدث في الهاتف من نادية، جاء في الحال و أخذ يطرق الباب بقوة على الفتاتين و يصيح مُستدعيًا هداية بقسوته: