روايات

رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الخامس والأربعون 45 بقلم سيلا وليد

رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الخامس والأربعون 45 بقلم سيلا وليد

رواية شظايا قلوب محترقة البارت الخامس والأربعون

رواية شظايا قلوب محترقة الجزء الخامس والأربعون

شظايا قلوب محترقة
شظايا قلوب محترقة

رواية شظايا قلوب محترقة الحلقة الخامسة والأربعون

في العِشقِ الحقيقي، لا تُحسب الخُطى، ولا تُوزَن التضحيات بمكيالِ العقل…
بل يُلقى القلبُ في ساحةِ الهيام،
عارياً من الأنانية، نابضاً بالولاء.
أُضحّي بنفسي لا ضعفاً..
بل لأن حبك يستحق أن أُفنى لأجله…
لأنني حين أحببتك
لم أرَ العالم إلا من خلالك،
ولم أعد أطلب من الحياة سوى أن تبقى فيها.
فإن كان بقائي يؤلمك..
سأرحل وأنا أبتسم…
وإن كان رحيلي يُبكيك
سأبقى، ولو كان في البقاء فنائي.
فالعشقُ عندي، أن أكون ظلك إن غبت، ودمعك إن بكيت،
وروحك إن وُهبتني الرحيل.
أعشقك حد التلاشي،أذوب في تفاصيلك كما تذوب النّار في الشمع
لا أنتظر جزاءً، ولا أرجو مكافأة
فالعشقُ الذي يُقايَض… ليس عشقاً، بل صفقة.
قدّمتُ نفسي لك طوعاً،
لا بطلةً، بل عاشقة…
تدرك أن التضحية ليست موتاً،
بل حياةً من نوعٍ آخر…
حياةٌ تُكتب في ظلال من تُحب،
ولو لم يُكتب لها أن تُروى.
وإن طُلب منّي أن أُفنى ليحيا عشقنا، فخذني كُلي،
وابنِ من رمادي قصيدةً
يُتلى فيها اسمك،
ويُحفر فيها وجعي قرباناً لخلودك.
#ميرال_السيوفي
خرجَ أرسلان من فيلا راجح، يشيرُ إلى الرجالِ المقيَّدين بإشارةٍ حاسمة:
“خدوهم، احبسوهم في أيِّ مكان.. مش عايز حاجة تبع راجح تفضل سليمة…أكيد عارفين إيه المفروض تعملوه.”
ردَّ عليه أحدُ رجاله:
“تحت أمرك ياأرسلان باشا.”
دقائقَ فقط، وكانت سيارةُ الإسعاف قد وصلت..وضع نظارتهِ الشمسية بهدوءٍ وهو يتأمَّل رجالَ الإسعافِ يهرعونَ إلى الداخل، لحظات..خرجوا وهم يحملونَ راجح على نقَّالةِ الإنقاذ.
ابتسمَ أرسلان بسخريةٍ وهو يطالعُ إسحاق، الذي وقف واضعًا يديهِ على خصره، يرمقهُ بنظراتٍ مشتعلة.
فتح بابَ سيارتهِ واستعدَّ للمغادرة، اقترب إسحاق بغضب، ووقفَ أمام السيارة، يضربُ على مقدِّمتها بقوَّة:
“انزل يالا، بدل ما أكسَّر العربية فوق دماغك!”
أطلَّ أرسلان برأسهِ من النافذة، يشيرُ إليه بابتسامةٍ باردة:
“إلحق راجح ياباشا…يمكن يحتاجك تتبرَّعلُه بالدم!”
قالها، ثمَّ تراجعَ للخلفِ فجأة، وانطلق بسيارتهِ بسرعةٍ جنونية، غير مكترثًا بإسحاق الذي بقيَ واقفًا، يُحدِّق في غبارهِ المتصاعد..
بعد فترةٍ من الانتظارِ المضني، وصل أخيرًا إلى المستشفى..
بدأ يتحرك بثبات وعيناه تتجول بكل اتجاه، والوقت يُلقي بظلاله، رائحةُ المطهِّراتِ تملأ المكان كأنَّها تذكِّرهُ بالألمِ الذي كان هنا منذ أيام..
دلف للداخلِ بخطواتٍ واثقة، لكنَّها كانت ثقيلة، يشعر بأن كلَّ خطوةٍ تحملُ ثِقل خوفهِ على من يحب..
بسط كفِّه ليفتحَ باب الغرفة، ولكن سبقهُ إسلام بفتحه..
تنهَّد بارتياح، وتطلَّع اليه بنظرةٍ مرهقة، بدا وكأنَّه لم ينم وقتًا كافيًا،
ورغم ذلك انفرجت ملامحهِ قليلًا، حينما وجد أرسلان:
-كويس إنَّك جيت.
وقف قبالتهِ وسأله بصوتٍ ممزوجٍ بارتعاشةِ خوف، فتساءلَ سريعًا:
-ليه فيه إيه، إلياس كويس؟..
أومأ له بهدوءٍ ثمَّ حدَّق في ساعتهِ بعجلة:
-هوَّ كويس، نايم دلوقتي، بس عندي امتحان واتأخَّرت، يزن كلِّمني وقالِّي جاي، بس معرفشِ اتاخَّر ليه..خليك معاه محبتش أقلق بابا وهوَّ مصر أنُّه يخرج من المستشفى..
ربت على كتفهِ برفق، ثمَّ نظَر إليه بعينينِ تفيضُ بالعطفِ والحنان، و قال بنبرةٍ ثابتة:
– بالتوفيق إن شاء الله..هشوف ميرال الأوَّل بدل نايم.
تنهَّد إسلام، ثمَّ قال بصوتٍ خافت:
– غادة هناك، بتجهِّزها علشان هتروح، أخيرًا هتعمل مغادرة..قالها بضحكةٍ خافتة..
لكزهُ أرسلان بخفَّةٍ بصدرهِ ثمَّ أردف مازحًا:
-إنتَ غيران يابني، الحبّ بيعمل المعجزات..
تهكَّم ينظرُ بساعته، ثمَّ سار بجوارهِ يلوِّحُ بكفَّيه:
-الحبِّ وسنينه وساعاته ومرارته..
ضحك أرسلان بمحبَّةٍ على كلماته، قائلًا:
-بالتوفيق إن شاء الله.
قالها وتحرَّك نحو غرفةِ الطبيب،
وقف أمامَ الباب، طرقهُ بخفَّة، وانتظر الإذن، ثمَّ دخل حين سمعَ صوتَ الطبيبِ يأذنُ بالدخول.
جلسَ قبالته، بعدما ألقى التحيةَ :
-ميرال السيوفي هتخرج النهاردة، كدا كلِّ حاجة تمام..طيب ليه حضرتك مصر على وجود إلياس؟..
أومأ الطبيبُ بابتسامةٍ حاول بها أن يسكِّنَ القلقَ الذي تجلَّى بملامحِ أرسلان:
مدام ميرال حالتها كويسة، وكان المفروض تخرج من أسبوع لكن إلياس الِّلي رفض، أصر إنَّها تنزل من هنا تتمرَّن في النادي..قالها الطبيب بابتسامة..ثمَّ استأنف:
-فخروجها طبيعي.
-طيب إلياس، حضرتك مخبِّي حاجة؟..قالها أرسلان بقلق..
ابتسمَ الطبيبُ مجدَّدًا، وفي عينيهِ شفقة امتزجت بالحرص:
– أبدًا…مفيش حاجة حالته مستقرِّة… لكن دا خارج من غيبوبة، بسبب نزيف حاد، وعملية نقلِ كلى، وقلبه وقف كذا مرة أثناء الجراحة..من الطبيعي يفضل تحت المراقبة شوية، وبعدين هوَّ عِنَدي جدًا، عارف ومتأكِّد وقت مايخرج من المستشفى ممكن ينزل شغله عادي، علشان كدا حضرةِ اللوا أصَّر أنُّه يفضل كام يوم كمان، متخافش حيتجاوز، بإذنِ الله.
هدأ بعد حديثه، ثمَّ توقَّف يحدِّثهُ بنبرةٍ ممتنَّةٍ وشكره، ثمَّ اتَّجه متحرِّكًا من غرفةِ الطبيب، متوجِّهًا إلى غرفة أخيه..
تنفَّس بعمق، وأدار المقبضَ بهدوء، ودخل ينظرُ بأرجاءِ الغرفة، كانت الغرفة غارقةً في ضوءٍ خافت، ساكنة..
اقتربَ من السرير ببطءٍ شديد..وجد إلياس غافيًا بنومه، كأنَّه لم ينم منذ زمن..اغروقت عيناهُ بالدموع حينما تذكَّر دخولهِ عليهِ بعدما أجرى العملية، لقد تبدَّل الحال، ذهب بذاكرتهِ منذ عدَّةِ أيام….فلاش بعد العملية بعدة ايام
.كان ممدَّدًا كأنُّه جُثَّةٌ لم تُعلَن وفاتها بعد، شاحبَ الوجه، ساكنَ القسمات..
جلس على الكرسي الذي بجوارِ فراشه، طأطأ رأسه، وأسندَ كفَّيه على ركبتيه، يحدِّق فيه بصمت، كأنَّّ النظرةَ وحدها باتت لغةُ العجزِ الأخيرة.
مدَّ يده، وأمسكَ بكفِّه…لا يعلم لماذا شعرَ بأنَّه بارد، هل شعور فقدانه الذي سيطر عليه، ام افتقداه لحنان الاهوة..ورغم ما يشعر به
ظلَّ ممسكًا به، يشعر بأنَّه لو ترك يدهِ ستنسحبُ منه دون رحمة، .قبَّل يدهِ بدموعٍ لم يقو على منعها..
لأول مرة يشعر بذلك الشعور
ثمَّ همس، كأنَّ قلبهِ هو الذي ينطقُ لا لسانه:
-إلياس أوعى توجعني كدا، متوجعشِ قلوبنا عليك، إنتَ هنا بسببي بلاش تموِّتني بالذنب..
سكت قليلًا، ثمَّ أردف بصوتٍ يشبهُ البكاءَ المكتوم:
-آسف..مكنتش أعرف دا هيحصل، عرفت إنَّك سافرت ورايا، ليه تعرَّض حياتك للخطر، ليه تعمل كدا، مفكرتش في ماما، طيب ابنك ومراتك ذنبهم إيه؟..
أغمضَ عينيه، وأسند رأسهِ إلى حافَّةِ السرير، ويدهِ ما زالت مشدودةً على يده:
-ماصدَّقت أعيش إحساس الأخوَّة، أوَّل مرَّة أحس بالإحساس البشع دا، متعملش…
قاطعهُ دخولُ فريدة…
أطلَّت عليهما وعيناها تفيضُ بالألم، وقلبها يخفقُ كأنَّ كلَّ نبضةٍ فيه تصرخ..تقدَّمت نحوهِ بخطا متردِّدة، كمن تمشي فوق جراحها، ثمَّ وضعت كفَّها على رأسهِ برفقٍ مرتجف:
– أخوك كويس ياحبيبي…متنساش إنَّك لسة تعبان، كفاية وجعي على واحد..
رفع وجههِ إليها…نظر اليها بدموعهِ التي تنحدرُ كالسيل، دموعًا تحملُ أكثر ممَّا يُحتمل..نهض من مكانه، وصوتهِ مشروخًا، كأنَّه يُخرجُ الكلماتَ من قلبه لا من فمه:
– بسببي ياماما، هوَّ هنا بسببي، أنا اللي كنت مقصود، ياريته ماعرفني، ولا وجعتك عليه بالشكلِ دا..
احتضنتهُ بقوَّة وكأنَّها تحاولُ أن تُلملمَ ما تبقَّى منه، خرجت شهقاتها من عمقِ جرحها الذي ينزف، وأردفت بصوتٍ مرتجف:
-إنتَ إيه وهوَّ إيه ياحبيبي، أنتوا الاتنين نور عيوني..ارتفعت شهقاتهِ لأوَّل مرَّة، لأوَّل مرة يخرُّ ضعيفًا عاجزًا، أين ذلك الشخص الذي يتمتَّعُ بالمرحِ والحيوية..قاطعهم دخولُ مصطفى
قائلًا بصوتٍ جادٍ يحاولُ أن يخرجهم من حالةِ حزنهما:
-إحنا قولنا إيه، مش عايز زعل ولا بكى يافريدة، اتَّجه بنظرهِ إلى أرسلان:
-أخوك كويس وهيقوم إن شاء الله.. الحمدُ لله الدكتور طمِّنا، أشار إلى فريدة:
-روحي شوفي ميرال، مش مبطَّلة تسأل على جوزها..
مسحت دموعها تهزُّ رأسها:
-أنا رايحة لعندها، جيت لمَّا عرفت إنِّ أرسلان هنا..
أومأ لها وأردف:
-روحي علشان تطمِّنيها على جوزها.
ربتَ على كتفِ أرسلان:
-الحمدُ لله، لازم نحمد ربنا، والدتك مش حملِ تعب، زي ماإنتَ شايف، مش عايز نضعف قدَّامها، لمَّا إحنا نعمل كدا، يبقى هيَّ تعمل إيه..
-إزاي إلياس بيزرع كلى ياعمُّو، لدرجة دي عذِّبوه، عملوا فيه إيه علشان يوصله لكدا؟..
احتضنَ مصطفى وجهه، ونظرَ لمقلتيهِ يهزُّ وجههِ بحنوّ:
-أرسلان، الِّلي حصل حصل، مش هنبكي على اللبن المسكوب، أنا دلوقتي الِّلي يهمِّني حاجة واحدة بس، ابني يقوم بالسلامة، ووالدتك ترجع تاخدكم في حضنها، هتساعدني على كدا، ولَّا تقعد تبكي زيِّ البنات..
-لمَّا أعرف ليه عملوا فيه كدا، إيه اللي عمله ليوصلوا بيه بالبشاعة دي؟..
-إلياس عايش بكلية واحدة من هوَّ عنده خمستاشر سنة ياأرسلان، وكمان زرع..
شهقة أخرجها يتطلَّعُ إليه بعينينِ متَّسعتين..هزَّ مصطفى رأسهِ واستطرد:
-والدتك اتبرَّعت له قبل كدا..
-ماما!..قالها بذهول، ثمَّ أردف:
-يعني ماما عايشة بكلية واحدة؟!..
أومأ مصطفى متنهِّدًا، وذهب ببصرهِ إلى إلياس الحاضرِ الغائب، ثمَّ أشار إليه:
-خليك جنبه، هروح أطَّمن على ميرال من الدكتور، هيَّ كمان عندها سيولة في الدم، عملت تجلُّط دموي أثناء العملية، رغم تحذيرات الدكتور بخطورة وضعها بس هيَّ أصرِّت.. وزورت التحاليل
-صعب عليها هيَّ كمان..بس ليه خلِّيتها تعمل كدا، مكنشِ فيه متبرِّع غيرها؟..
هزَّ مصطفى رأسه:
-مكنتش أعرف، رتَّبت مع الدكتور كلِّ حاجة، صدَّقني لو عرفت كنت منعتها، بس الحمدُ لله الدكتور طمَّني قال قدر يسيطر على الوضع..وأخدت جرعات لازمة، بس تعبت برضو، علشان كدا
-إلياس يعرف؟…تساءلَ بها أرسلان..
أجابهُ مصطفى بيقين:
-لا ماأظنش، هوَّ أصلًا معرفشِ إنَّها هيَّ المتبرع..
-إن شاءالله تقوم بالسلامة..
-إن شاءالله..قالها مصطفى واستدارَ للمغادرة..
نزلت دمعة واحدة، خفيفة، لكنَّها ثقيلة بما تحملهُ من وجع..
مسحها سريعًا كأنَّها خيانةً لثباتهِ أمامه،
ثمَّ اقتربَ أكثر، شدَّ على يده، وهمس:
– وحياة رقدتك دي لآخد حقَّك وحقِّنا كلِّنا..
فجأة…تحرَّك إصبع إلياس،
حركة بسيطة، باهتة، لكنَّها كافية لتزرعَ رجفةً في جسده.
حدَّق إليه بعينينِ مذهولتين، كأنَّ الزمنَ توقَّف عند تلك اللحظة..زحف بجسدهِ نحوهِ ببطء، كمن يقتربُ من حلمٍ يخشى أن يتلاشى، وهمسَ بصوتٍ مرتعشٍ بالكادِ يُسمع:
– إلياس؟…
لم يجبه، لكن صدرهِ ظلَّ يعلو ويهبط بهدوء، وصوتُ الأجهزةِ حوله يملأُ المكان بثبات…شقَّ ثغرهِ ابتسامةَ أملٍ لشفاءِ أخيه..
انسابت دموعهِ بلا مقاومة، لم يدرِ أكانت فرحًا أم حزنًا، أو ربَّما مزيجًا مؤلمًا من الاثنين..مدَّ يدهِ المرتجفة، يحرِّكُ أناملَ إلياس بحذر، فإذا بها تستجيبُ بحركةٍ خفيفة..شهق أرسلان، وتجمَّدَ مكانه، ثمَّ انحنى يحيطُ جسدَ أخيهِ المرتخي بين ذراعيهِ كمن يريد أن يحميهِ بروحه..
– إلياس..سامعني؟!
رفرفت أهدابُ إلياس ببطء..كأنَّ النورَ يؤلمه، ثمَّ ردَّد اسم زوجتهِ بين شفتيهِ اليابستينِ كأنَّه دعاء:
– ميرال…
كرَّرها همسًا، كأنَّها نبضُ قلبه..تهدَّج صوتُ أرسلان وضحكَ ببكاء، يقتربُ منه أكثر ويطبعُ جبينهِ على جبين أخيه:
– حمدَ لله على سلامتك، ياحبيبي… واللهِ وحشتني.
همسَ إلياس باسمها مجدَّدًا، فأجابهُ أرسلان فورًا:
– ميرال كويسة، وماما معاها… مستنياك تقوم.
فتحَ إلياس فمهُ بصعوبة، يتمتم:
– أر…سلان…
ابتسم أرسلان، واحتضنَ وجههِ بين يديه، وقال بقلبهِ قبل لسانه:
– فداك يا حبيبي…أنا هنا، ومش هسيبك.
تابع إلياس، بصوتٍ متقطِّع:
– ودِّيني عند ميرال…
قالها وأغمضَ عينيهِ ثانية، وكأنَّه اطمأنَّ فعادَ للنوم. مرَّر أرسلان يدهِ على خصلاتهِ بحنان، وقبَّله فوق جبينه:
– فوق الأوَّل وهودِّيك…المهم تقوم بالسلامة.
مسحَ دموعهِ بدخولِ “يزن” قطعَ لحظته، ينظرُ بينهما بدهشة:
– أرسلان؟! واقف كده ليه؟
اعتدلَ أرسلان، يتأوَّهُ وهو يستندُ إلى حافةِ السرير، فإصاباته لم تُشفَ بعد:
– أنا كويس…إلياس فاق.
اقتربَ يزن بسرعة، وعيونهِ تلمعُ بسعادةٍ قائلًا بنبرةٍ سعيدة:
– واللهِ فاق؟! أخيرًا الحمدُ لله..
ثم التفت إليه وسأله بسرعة:
– عديت على أختك؟
– أيوة، طنط فريدة وغادة عندها…هيَّ كويسة، بس عايزة تيجي تشوف إلياس.
هزَّ أرسلان رأسه، وابتسامة هادئة على وجهه:
– هوَّ كمان…أوَّل ما فتح عيونه، سأل عليها.
فاقَ أرسلان من شرودهِ على صوتِ فتحِ الباب ببطء، تبعهُ دخولِ يزن بخطواتٍ هادئة، وألقى تحيَّةَ السلام كنسمةٍ تطرقُ بابَ الروح:
– السلام عليكم.
رفعَ أرسلان رأسهِ بتثاقل، يشعر بأنَّه يحملُ فوق كتفيهِ أثقلُ من أن يُحتمل، ثمَّ قال بصوتٍ خافتٍ أجوف:
-عليكم السلام..اقترب بخطواتهِ الهادئة، حتى لا يصدرَ صوتًا ويرهق جسدَ النائم، فتساءل:
– جيت إمتى؟
تراجع أرسلان بجسدهِ إلى الخلف، استند إلى المقعدِ ممدِّدًا ساقيهِ للأمام، ثمَّ رفع كفَّيهِ إلى شعرهِ يمرِّرهما بين خصلاتهِ بإرهاقٍ بيّن، وزفر زفرةً طويلةً تحملُ وجعًا غير معلن:
-من شوية…
إنتَ هنا من زمان ولَّا إيه، إسلام قالِّي إنَّك المفروض تكون هنا من بدري..
اقترب، وعيناهُ تطوفُ على جسدِ إلياس الممدَّد في صمت، ثمَّ هزَّ رأسهِ نافيًا وقال:
– لسة واصل من عشر دقايق كده…
أومأ متفهِّمًا ثمَّ سأله:
– عدِّيت على ميرال.؟..
توقَّف لبرهة، وكأنَّه تذكَّر أمرها، فهي هاتفتهُ منذ الصباح، رفع عيناهُ إليه قائلا:
– لا…قولت أشوف إسلام الأوَّل، معرفتش إنَّك هنا.
رفع أرسلان عينيهِ إليه، نظرةٌ مشبعةٌ بالعرفان، بامتنانٍ يشوبهُ تعبُ السنين،
ثمَّ قال بهدوءٍ:
– روح شوف أختك، ووصلَّها للبيت، وخلِّيك معاها، متسبهاش لوحدها… وأنا بالليل هعدِّي عليها أنا وغرام.
تنفَّس يزن بعمق، ثمَّ قال بنبرةٍ مُطَمئنَّةٍ وهو يشبكُ كفَّيه أمام صدره:
– إيمان هتقعد معاها، متقلقش… وكمان طنط فريدة مستحيل تسبها لوحدها.
أومأ أرسلان ببطء، كمن يُسلِّم بما لا طاقةَ له، ثمَّ استدار قليلًا ولوَّح بيدهِ دون أن ينظر:
– طيب هشوفها…بس معتقدش إنَّها تسيب إلياس وتمشي.
ارتسمت على شفتيهِ ابتسامةً ساخرةً باهتة، وقال بلهجةٍ هادئةٍ لكنَّها لاذعة:
– لا…أختك عاملة زعلانة، متخافش، هتمشي.
ضحكَ يزن، ضحكةً سريعةً لا تحملُ بهجة، ثمَّ تحرَّك خارج الغرفة..في حين رنَّ هاتفُ أرسلان فجأة، فامتدَّت يدهِ إليه:
– نعم يابابا؟
جاءهُ الصوتُ من الجهةِ الأخرى مشوبًا بقلقٍ مكبوت:
– إنتَ فين يابابا؟
قطبَ أرسلان حاجبيه، وانتصب جسدهِ قليلًا، وقال بحدَّةٍ مستترة:
– هوَّ أنا طفل يا بابا؟ ولَّا خايف من كلام إسحاق؟ على العموم اطمِّن..أنا ماليش مزاج لحاجة وقاعد عند إلياس.
سكت فاروق لحظة، ثمَّ تحدَّث بنبرةٍ فيها غضبٌ أبويّ:
– ينفع اللي عملته ده؟ من إمتى وإنتَ بلطجي؟
أطلقَ أرسلان ضحكةً قصيرة، كانت أقرب إلى أنينٍ مكتوم، وقال وهو ينهضُ واقفًا، وعيناهُ تحدِّقُ في اللاشيء:
– لا والله، بلطجي؟ علشان باخد حقِّي بقيت بلطجي؟ مش فاروق الجارحي اللي يقول كده…
– أرسلان..الِّلي عملته ده غلط، إنتَ ناسي شغَّال إيه؟
نظر أرسلان إلى الأرض، كأنَّها تشهدُ على مالم يُقل، وقال بصوتٍ مكسور الثبات:
– أنا مش شغَّال حاجة…بدرَّب الناس في النادي…
ثمَّ رفع رأسه، ونبرةُ صوتهِ تزدادُ صلابةً كلَّما نطق:
– خلصت ياباشا؟ لمَّا آخد عزانا بعد اللي اتعمل فينا…أبقى أشوف هشتغل إيه.
أخفضَ الهاتف، ثمَّ قال دون انتظارِ رد:
– بعد إذنك، لازم أقفل دلوقتي.
أنهى المكالمة، وبقيَ واقفًا للحظةٍ
وقد ضاقَ صدره، ليشعرَ باختناقِ تنفُّسه، كأنَّ الهواءَ أصبحَ ثقيلًا..
استمعَ إلى همهمةِ إلياس، استدار إليه ورسمَ ابتسامةً مقتربًا منه:
-صحّ النوم..
تجوَّل بعينيهِ في الغرفة وتساءلَ عن إسلام:
-إسلام فين؟!
جلسَ بجوارهِ على طرف الفراش:
-عايزه ليه؟!
-ساعدني عايز أقعد شوية..انحنى يرفعُ جسدهِ بعناية، كأنَّه شيئًا قابلًا للكسر، وضع خلفهِ الوسادة:
-مرتاح كدا؟..
هزَّ رأسهِ يبحثُ عن هاتفه:
-هات تليفوني..ابتعدَ يسحبُ هاتفهِ من فوق الكومود، ثمَّ رفعهُ وهاتفَ راكان:
-راكان باشا..إزاي حضرتك؟..
على الجانبِ الآخر:
-الحمدُ لله، يارب تكون كويس
-الحمدُ لله..كنت عايز أسأل حضرتك
عن رانيا الشافعي، أخبارها إيه؟..
-ماتخفش في المكانِ المناسب، وزيِّ ماوعدتك..
-خايف تهرب، لو سمحت وجودها مهمِّ جدًا..
قاطعهُ راكان:
-سألت عليها كام مرَّة وقولت لك اعتبرها في قبر، محدش هيعرف يوصلَّها، ولا هيَّ هتعرف تهرب..
-آسف على إزعاجك ياباشا، بس أنا خفِّيت الحمدُ لله، هبعتلك أرسلان ياخدها.
أجابهُ راكان ممتعضًا:
-لا، أنا كدا أزعل منَّك، صدَّقني كأنَّها عندك بالظبط، ومتخافش الِّلي متولِّي أمرها شخص مش عادي، وعلشان ترتاح تحت إيد ظابط في الجيش، علشان مايخطرشِ على بال أيِّ مخلوق، بعدتها عن جميع الشبهات لو شكُّوا في الأمر، أظن كدا ترتاح..
ابتسمَ إلياس ورغم ذلك:
-معلش خدني على قدِّ تفكيري وترتيبي مش مخوِّنك والله، لو كدا مكنتش كلِّمت حضرتك عنها.
-ماشي ياإلياس فوق الأوَّل وتعالَ خدها بنفسك.
صمتَ للحظة وعيناهُ على أرسلان، ثمَّ أومأ بالموافقة:
-شكرًا راكان باشا..قطعَ حديثهم دخولُ جاسر على راكان..
-عرفت الِّلي حصل لراجح الشافعي، حدِّ هجم عليه وضربه في كليته..استدارَ راكان وأكمل حديثهِ مع إلياس:
-أتمنى متكنش إنتَ الِّلي ورا اللي حصل لراجح..
-لسة سامع زيِّ حضرتك، وأنا ماليش في شغلِ الشمال، ماكان قدَّامي..
-إلياس..قالها راكان بغضب..
-راكان باشا، صدَّقني لو عايز أموِّته كنت موِّته من زمان أوي، شوف مين اللي عمل كدا، آسف عطَّلت حضرتك،
قالها وأغلقَ الهاتف مع جلوسِ أرسلان على المقعدِ قائلًا:
-مالقتشِ غير راكان البنداري تخلِّي معاه رانيا؟..
-مكنشِ قدَّامي غيره، بابا الِّلي غرقان مع ماما في تعبها، ولَّا إسحاق اللي في غيبوبة، ولَّا إنتَ اللي مكنتش أعرف عنُّه حاجة..والصراحة الراجل آمين.
-بس راجل قانون ياحبيبي، ودا مستحيل يسكت على الِّلي هنعمله..
ضاقت عيناهُ وتسرَّبَ الشك إلى ملامحهِ شيئًا فشيئًا، حتى بدا كأنَّه يزنُ الكلماتَ قبل أن ينطقَ بها، ثمَّ تمتمَ متسائلًا:
– بيقول راجح حدِّ ضاربه…أنا سمعت حد بيقولُّه كدا…
ارتدَّ بجسدهِ قليلًا إلى الخلف، وهزَّ رأسهِ كأنَّ الأمرَ لا يعنيه، ثمَّ أردفَ ببرودٍ مقصود:
– لسه عايش، ماعملتش فيه حاجة… أخدت كليته بس.
انفلتت من إلياس ضحكةً مكتومةً سرعان ما تحوَّلت إلى أنين، ضغطَ على جانبهِ بكفِّه وهو يتلوَّى من الألم:
– وكدا معملتش؟ أومال لو عملت؟
لوى الآخر فمهِ بابتسامةٍ ساخرة، وانحنى قليلًا للأمام، كمن أرهقهُ حملًا ثقيلًا:
– كنت قتلته طبعًا..بدل لسه روحه مطلعتش لخالقها يبقى ماعملتش حاجة..وبقولَّك إيه، متعملش مثالي علشاني..أنا اتخنقت، بقالي سنة بضغط على نفسي أكون مؤدَّب، بس خلاص، طاقتي نفدت..إيه؟ مش خايف عليَّا أموت مقهور؟
ارتفعت ضحكاتُ إلياس من جديد، تتخلَّلها أنفاسٌ متقطِّعة تعبِّرُ عن الألم، وأشار إليه بكفِّهِ المرتعش:
– اسكت يابني…ده أنا ماتعبتش بعد العملية كده…
انحنى بجسدهِ حتى صار وجههِ في مستوى وجهه، وغمز بعينيهِ بخفَّة:
– عارف ليه؟ علشان جوَّاك حتة حلوة…إزاي هتتعب بس؟
مسح إلياس على وجههِ محاولًا أن يستعيدَ بعضًا من هدوئه، وقال بسخريةٍ ممزوجةٍ بمرارة:
– جوَّايا حتة حلوة؟ وإيه هيَّ الحتة الحلوة ياباشمهندس بعد اللي حصلِّلي؟
صفَّقَ بيديهِ ضاحكًا، وكأنَّه يكشفُ سرًّا عظيمًا:
– الله! حتَّة من مراتك ياناكر الجميل!
تغيَّرت ملامحُ إلياس..وانطفأ بريقُ السخرية، وحلَّ محلِّهِ لمعانُ شوق، دموعٌ حائرة تحاولُ التجلُّد..رفع عينيهِ ببطء:
– مشت ولَّا لسه؟
رفع الآخرُ حاجبهِ باستنكارٍ ساخر:
– بتسأل ليه؟ مش أنتوا مقاطعين بعض؟ طيب الِّلي زعلان من التاني مش المفروض يرجَّع له الِّلي أخده؟
قطب إلياس جبينه، وأجاب بحيرةٍ صادقة:
– إنتَ بتقول إيه؟ مش فاهم حاجة…
وضع الآخرُ كفِّه تحت خدِّه، وغمزَ من جديد:
– روح إدِّي لها كليتها، وقولَّها مش عايز منِّك حاجة..
تراجعَ إلياس بجسده، ونظر إليه في تهكُّمٍ مكسور:
– ياريت ينفع…غبية، مش عارفة نتيجة الِّلي عملته إيه…
أجابهُ الآخر دون تردُّد، وصوتهِ يزدادُ دفئًا:
– بتحبَّك ياإلياس…كنت منتظر منها تعمل إيه وهيَّ شايفاك كده؟
هتف إلياس، وصوتهِ يتهدَّجُ بالغضبِ والحنين:
– تقوم تموِّت نفسها؟ عندها تجلُّط في الدم، وهيَّ عارفة من يوم ماولدت كانت ممكن تموت في العملية..
خفضَ الآخرُ صوته، وقد بدت في عينيهِ لمعةُ تأثُّرٍ حقيقية:
– غصب عنها…ميرال معتبراك دلوقتي كلِّ حياتها..أنا شوفتها لمَّا فاقت… كانت صعبانة عليَّا أوي، وهيَّ بتقول خايفة إنَّك ما تفوقش…بجد، لو شوفتها كانت هتصعب عليك…
-سيبك من ميرال وقولِّي ليه عملت كدا في راجح ومين قالَّك أنُّه اللي ورا دا؟..
عرفت وخلاص..
-أرسلان قولِّي عرفت إزاي؟..
-هوَّ ينفع أقولَّك أسرار شغلي ياإلياس
دا شغلي..أنا معرفتش أنا اتأكدت وقبل ماتعترض، راجح راح لإسحاق من فترة وقالُّه على كلِّ حاجة، وقالُّه مستعد أسلمُّهم واحد ورا التاني، بس طبعًا مبقوش يتواصلوا مع راجح إلَّا من خلال التليفون..
ورانيا؟..
رانيا ماتت فكشفوا عطوة علشان كلُّه يبقى بعيد..
إسحاق فهم لعبتهم، وفهم لعبة راجح، راجح عرف نهايته على إيدك، فقال إيه..لا أنا أسبق من جهة أبقى وطني ومن جهة تانية أعمل لنفسي اسم في عالم كبار الدولة، علشان كدا منحوله مصر والدولة التانية، يُعتبر دول أقوى دولتين في الشرق، وبدأوا يلعبوا معاه على الحتة دي، الطمع..إسحاق كشفهم وبيلعب عليهم..
أومأ إلياس بتفهُّم ثمَّ تساءل:
-طيب لمَّا إنتَ عارف كدا، ليه ضربته؟..
-علشان تاني مرة مايخدش حاجة من حد، وكان لازم يحصل كدا، وأهو ألهي إسحاق عنِّي شوية..
-تلهيه عنَّك..إزاي؟ أوعى تكون ناوي تعمل حاجة، إنتَ ظابط مخابرات قالها مستنكرًا ماسيفعله.
-لا أنا مش ظابط ولا حاجة، أو بمعنى أصح مكنتش عايز أدخل مخابرات.. خلاص أنا استقلت عايز أرتاح، ابني هيجي على الدنيا بعد أسبوعين..إلياس أنا مقعدتش مع مراتي أسبوعين على بعض، طيب ابني اللي جاي دا مش عايز حد يربِّيه؟..
-يعني إيه؟!..هتسيب وظيفتك إنتَ اتجننت، أنا عارف إسحاق ضاغط عليك بس صدَّقني دا من حبُّه فيك..
نهضَ من مكانهِ كأنَّ حديثَ أخيهِ لا يعنيهِ ثمَّ قال:
-ربِّنا يسهِّل، بسطَ إلياس كفِّهِ وقال:
-طيب خُدني عند مراتي يمكن نتصالح..
أومأ مبتسمًا:
لو هترجع لها كليتها ..كدا ماشي..
بفيلا السيوفي..
دلف إلى الغرفة بخطا بطيئة، يخشى أن يوقظها..لكنَّه لم ينجُ من صوتِ الباب حين أغلقه..
فتحت عينيها، نظرت إليه من بين نومها وإيقاظها..
-مصطفى..!!
تلعثمَ للحظة، ثمَّ همس:
– آسف…صحِّيتك، نامي، أنا بس هغيَّر وأنزل.
اعتدلت في فراشها، وضوءُ المصباحِ الخافتِ يرسمُ إرهاقَ وجهها، رفعت رأسها وتطلَّعت إلى ملامحهِ المتعبة، ثمَّ سألتهُ بنبرةٍ مبحوحةٍ من آثارِ النوم:
– رايح فين؟ وليه ما نمتش؟
أدار وجههِ عنها وأخذ يُخرجُ ثيابهِ من الخزانة:
– ما جانيش نوم…وافتكرت إنِّ إسلام عنده امتحان النهاردة، قلت أروح أشوف إلياس…قبل ما يتجنِّن، ويطلع من المستشفى غصب، وخاصةً إن ميرال هتخرج النهاردة..
رفعت الغطاءَ عن ساقيها، وتنهَّدت بصوتٍ مبحوحٍ وهي تلمُّ خصلاتِ شعرها التي اخترقتها خطوط بيضاء، مشت نحوه حتى توقَّفت، ثمَّ أمسكت بذراعيهِ برفق..
التفتَ إليها، نظر إلى كفَّيها المتشبثتينِ به، ثمَّ زوى ما بين حاجبيه:
– قومتي ليه؟ روحي نامي، أنا مش هنام.
استدارت إلى أن توقَّفت أمامهِ رافضةً مايقوله، نظرت إليه بعينيها الواسعتين، تلك العينينِ اللتين لم تفقدا بريقهنَّ رغم تعبِ السنين، وبنبرةٍ تحملُ مزيجًا من الحزنِ والألم قالت:
– للدرجة دي مش قادر تبعد عنُّه؟ طيب ليه سبته يعيش بعيد عنَّنا؟
تجمَّد للحظة…كأنَّه لا يستوعب سؤالها، أو كأنه تلقَّى طعنةً من حيث لا يدري..ردَّ بهدوءٍ كحالِ شخصيته:
-وكان مطلوب منِّي إيه، ودي حياته وماليش أدخل فيها، عايزاني أفرض رأيي على راجل، في أقلِّ حق من حقوقه؟..
اقتربت خطوةً أخرى، رفعت كفِّهِ المرتعشِ بين راحتيها، وأردفت بنبرةِ صوتٍ ناعمة…جعلت قلبهِ يعزفُ بالنبض :
-بس من واجبه على أبوه يسمع له، وهوَّ بيحبَّك، وكان مستحيل يرفض، هوَّ فيه ابن يرفض حب وحنان أب زيك يامصطفى..دنت منه ثمَّ وضعت رأسها بحضنه:
-ربِّنا يخلِّيك لينا ومايحرمناش منَّك ياأبو إلياس.
رفع كفَّيها ومسَّد على رأسها بحنان، ثمَّ حاوطَ جسدها الهزيل:
-ولا منِّك يا فريدة، لمَّا بتقوليلي ياأبو إلياس بفرح أوي يافريدة، بحسِّ إنِّ تربيتي فيه مضعتش.
رفعت عينيها تتطلَّعُ إليه بذهول:
-مين يقدر ينكر إنَّك مش أبوه، إلياس هيفضل ابنك البكري، مهما يعمل ومهما يبعد.
لثمَ جبينها وحاوطَ وجهها:
-إنتي أكبر نعمة ربِّنا رزقني بيها يافريدة، ربِّنا يباركلي فيك..
قبَّلت كفِّه الذي يضعهُ على وجهها:
-ولا منَّك ياحبيبي..ابتسم بحنانٍ وأردفَ مشاكسًا:
-شوية كمان وهخدك على السرير..ونصحى نلاقي إلياس بيخبَّط علينا الباب، قادر ويعملها..
أفلتت ضحكاتٍ ناعمة تهزُّ رأسها:
-فعلًا..بس متنكرش دي طباعك، محدش بيقدر عليك لمَّا تبقى مُصرّ على حاجة.
-أشارَ على نفسه ببراءةٍ وقال:
-أنا، واللهِ ظلمتيني، دا أنا قدَّامك بقف زي التلميذ..صمتت تطالعهُ بعينيها العاشقة، ثمَّ قالت بنبرةٍ تحملُ مزيجًا من العشق:
-ربِّنا يخلِّيك ليا ياحبيبي..
قهقهَ قائلًا:
-أقف قدامك زيِّ التلميذ، ولَّا أقعد أعاكسك وأقولِّك عايزك تحبِّيني؟..
تمسَّحت بصدرهِ كقطةٍ أليفةٍ تلكزهُ بابتسامة:
-بس بقى، إحنا كبرنا على الكلام دا..
تراجعَ يخرجُ رأسها، وأردفَ متصنِّعًا الحزن:
-كبرت إيه!! لا أنا لسة بصحِّتي، إنتي بس اللي مستهونة بقدرات جوزك..
ارتفعت ضحكاتها تهزُّ رأسها بسعادة، جذبها يضمُّها إلى صدره وتمتم:
-ربِّنا مايحرمني من الضحكة دي يارب.
قاطعهم طرقاتُ المربية:
-مدام فريدة يوسف حرارته عالية، وإدتله خافض وبرضو مابتنزلش..
تحرَّكت إلى الباب وفتحتهُ تتساءل بلهفة:
-ماله حبيبي..كانت تحملهُ وهو يبكي بصوتٍ مرتفع، ألقى نفسهِ بأحضانِ فريدة بشهقاته:
-ماما..ماما..ضمَّته بحنانٍ إلى صدرها، ثمَّ رفعت عينيها إلى مصطفى:
-الواد سخن أوي، اتِّصل بالدكتور خلِّيه يجي يشوفه.
أومأ لها وقال:
-حاضر، اهدي بس، ممكن يكون احتقان ولَّا إيه..فتحت فاههِ تنظرُ بداخلِ جوفه:
-ضروسه كاملة، ياترى ياحبيبي إيه الِّلي بيوجعك، التفتت للمربية:
-هوَّ أكل إيه؟..كان كويس بالليل..
-مفيش والله يامدام أكَّلته فواكه وكوب زبادي بس، المدام ميرال بعد مافطمته قالت لي ممنوع تأكِّليه أكل دسم بالليل..كلِّ مايفوق، يالبن يافواكه.
ضمَّته ودلفت به إلى غرفتها تهدهدهُ وهو مازال يبكي ويتمتمُ باسمِ والدته، خرجت رؤى من غرفتها على صوتِ بكائه، دلفت إلى غرفةِ فريدة تتساءل:
-بيعيَّط ليه؟..
وضعتهُ على الفراش وأشارت إليها بخافضِ الثلج، لتضعهُ على رأسه:
-هعملُّه كمادات لمَّا الدكتور يوصل..ركعت رؤى أمامهِ وأمسكت كفِّه تقبِّله:
-حبيبي مالك بتعيَّط ليه، فين الأووف
انتبهت إلى بعض البقعِ الحمراءِ بعنقه، فأشارت إلى فريدة:
-إيه البقع دي؟..
فحصتهُ فريدة تتحسَّسُ جسدهِ بخروجِ مصطفى:
-الدكتور جاي في الطريق.
بفيلا الجارحي..
جلست تنظرُ بشرودٍ إلى حمَّام السباحة، فمنذ خروجهِ وهي لم تتحرَّك، رغم موافقتهِ على زيارةِ والدها، إلَّا أنَّها رفضت..وصلت ملك إليها وجلست بجوارها:
-أم سحلول بتفكَّر في إيه؟..
-أه..ضحكت ملك وتمتمت من بين ضحكاتها:
-لا دا إنتي مش معايا خالص، إيه يابنتي، اللي واخد عقلك، أوعي يكون أبيه أرسلان..
-هوَّ فيه غيره، أبيكي دا..قاطعهم صوتُ الخادمة:
-أستاذة ملك ستِّ صفية بتنادي لك.
نهضت من مكانها وقالت:
-تمام روحي وأنا جاية وراكي، ثمَّ اتَّجهت إلى غرام:
-عندي Exam أخلَّصه وبعد كدا نخرج نعمل شوبينج للبيبي إيه رأيك؟..
تنهَّدت بألم قائلة:
-ماليش نفس لأيِّ حاجة، روحي امتحانك ربِّنا يوفقك، ولمَّا ترجعي بالسلامة نشوف هنعمل إيه..
انحنت وطبعت قبلةً على وجنتيها:
-واللهِ بيموت فيكي، معلش استحمليه، صعب اللي مرِّ بيه، يالَّه باي أشوفك بعدين..
أومأت لها بصمتٍ وظلَّت نظراتها تلاحقها إلى أن اختفت، شعرت بحركةِ جنينها لتضعَ كفَّيها على أحشائها تمرِّرها بحنان:
-أنا زعلانة من بابا أوي، وفي نفس الوقت وحشني أوي قالتها بدموعٍ تنسابُ بصمت..شعرت بجلوسِ أحدهم بجوارها أزالت دموعها واستدارت ترمقُ التي جلست بجوارها:
-عاملة إيه؟..ابتعدت تحتضنُ بطنها ولم ترد عليها..نظرت إلى حمَّامِ السباحة وتحدَّثت:
-متخافيش مش هعمل فيكي حاجة، أنا بس حبيت أتكلِّم معاكي قبل ماأسافر..سحبت نفسًا وزفرتهُ ثمَّ قالت:
-كان عندي خمستاشر سنة، وهوَّ متخرَّج من كلية الهندسة، خالو عمل حفلة هنا في الفيلا، ملك عيلة الجارحي اتخرَّج بقى، وحفلة الكلِّ اتكلِّم عنها، كنا قريبين أوي من بعض، كان بيودِّيني مدرستي ويجبني وخلاص تمارا وأرسلان هيكونوا لبعض، وأسمع ماما تقول لبابا، اعمل حسابك بنتك خلاص هتكون لأرسلان ابنِ أخويا، واحد حلو ويشد أيِّ بنت، مكنشِ صعب أحبُّه وأعشقه كمان، علاقتي بيه تطورت جدًا، لدرجة كرهت السفر علشان بيبعدني عنُّه، أربع سنين الكلّ كان بيحسدني عليه، مكنشِ فيه مناسبة بتحصل لمَّا نكون مع بعض، أصرِّيت على ماما نستقر في مصر، مبقتشِ قادرة أسافر وأكون في مكان وهوَّ في مكان، لدرجة الكلِّ فكَّرنا متجوزين..لحدِّ ماجه فجأة وبدأ يسافر بالأيام والشهور، ويختفي في ظروف غامضة، كلِّ ماأسأل خالو يقولِّي عنده شغل، بيجيب أجهزة للنادي، زهقت من اللامبالاة الِّلي عنده، وخصوصاً مكنشِ بيبادلني نفس الشعور، كان بيعاملني على إنِّي بنتِ عمِّته..نزلت دمعة تسيلُ عبر وجنتيها واستأنفت بصوتٍ مبحوحٍ باك:
-لحدِّ مااتعودت أبعد عنُّه، اتعرَّفت على مدرب في النادي بتاعه وقرَّبنا من بعض وعلاقتنا تطورت جدًا، هوَّ كان بيضايق، أنا فكَّرته غيران فقولت ألعب على حتة الغيرة دي، لحدِّ مافي يوم أرسلان دخل علينا فجأة في غرفةِ التمرين ولقاه بيحاول يبوسني، اتجنِّن هنا وضرب المدرب علقة لدرجة عضمه اتكسَّر وفضل في المستشفى تلات شهور، أنا وقتها معرفتش ليه عملت كدا، ليه قربت من شخص وأنا قلبي مع واحد تاني؟..
شهقة أخرجتها مما جعلتها تضعُ كفَّيها على فمها:
-وقتها قولت دا بيحبِّني، أنا لازم أدافع عن حبُّه، حبيته أوي ياغرام، وكلِّ يوم عن يوم حبُّه بيزيد، وأنا بوهم نفسي أنُّه بيحبِّني، وماما كمان أقنعت نفسها بكدا، فضلت شهور لحدِّ ماسامحني ورجعنا نقرَّب من بعض تاني، حتى اشترى لي عربية فوق المليون جنيه، عايزة أقولَّك وقتها كنت أسعد بنت على وجهِ الارض..حبيبي جابلي هدية بقى، وبدأت أسرَّب خبر ارتباطي مع أرسلان، حياتي بقت هوَّ وبس..رجع اختفى كعادته شهور، وفجأة يظهر ببنت ويقولِّي إنَّها مراته ومش بس كدا، لا دا بيحبَّها..
تطلَّعت إليها بعيونها الدامعة وسألتها بنبرةٍ خافتة:
-لو مكاني هتعملي إيه؟..صمتت للحظاتٍ ثمَّ سحبت نفسًا قائلة:
-مقدرتش أتحمِّل الفكرة نفسها، وخصوصًا لمَّا بشوف حبُّه في عيونه وقت مابتظهري قدَّامه..شيطاني سيطر عليَّا وخصوصًا لما تيتا قالت لي تتخلَّصي من ابنه هجوزه لك..
-سامحيني لو سمحتي..قالتها ونهضت متحرِّكةً للخارجِ دون حديثٍ آخر ..بينما ظلَّت غرام بمكانها تتطلَّعُ إلى تحرِّكها حتى اختفت من أمامها..
توقَّفت تنظرُ إليهم من شرفةِ غرفتها، حرَّكت عينيها بأرجاءِ الحديقة، ثمَّ أشارت إلى المربية بلطف:
اهتمِّي بحمزة..
قالتها وتحرَّكت بهدوءٍ نحو جلوسِ غرام، انحنت برأسها تنظرُ إليها بنعومة:
تسمحي لي أقعد معاكي شوية؟
أزالت غرام دموعها بأناملَ مرتجفة، وأشارت إلى المقعدِ بجوارها:
طبعًا حضرتك بتستأذني!..
ابتسمت دينا بحنان وقالت:
لا حبيبتي، مينفعشِ أقلق خلوتك، المفروض أستأذن…المهم، إيه “حضرتك” دي؟ آه أنا أكبر منِّك، بس مش أوي يعني، كلُّه عشر..خمستاشر سنة…قالتها بابتسامة..
لمعت أعينُ غرام بشيءٍ من السعادة، وكأنَّها نسيت ماتشعرُ به، وقالت بهدوء:
-بس المقامات برضو، متنسيش حضرتك مرات عمُّو إسحاق..هزَّت دينا رأسها وهي تهمس:
لا يا حبيبتي، مفيش بينا مقامات ولا حاجة…أنا من زمان وعايزة أتعرَّف عليكي، بس الظروف بقى…
قاطعهم صوتُ دلوفِ سيارةِ إسحاق من البوابةِ الرئيسية، هتف بصوتٍ كالرعد وهو يترجَّلُ من السيارة موبِّخًا كلَّ فريقِ الأمن:
-كلُّكم هتتحاسبوا، علشان كلامي ما بيتسمعش..
حاول أحدهم التبرير، فأردف بصوتٍ مرتبك:
واللهِ ياباشا، أرسلان باشا هوَّ الِّلي أمرنا…
كلُّه مرفوض..مش عايز حدِّ قدامي.
نهضت دينا على الفور، والقلق ينهشُ قلبها من منظرهِ الغاضب:
خير يا رب…ياترى إيه الِّلي حصل؟
نهضت غرام أيضًا، مع خروجِ فاروق مسرعًا بدخولِ إسحاق إلى المنزل، يقطعُ خطواتِ الأرضِ كالنار التي تلتهمُ كلَّ شيئ..اقتربَ فاروق محاولًا تهدئته:
ممكن تهدى، أنا كلَّمته، وشوية وهييجي.
دار إسحاق كأنَّه أسدٌ جريح، يدفعُ كلَّ ما يعترضُ طريقهِ بانفعال:
الغبي هيضيَّع مستقبله! إنتَ مشوفتوش عمل إيه؟ ده ولَّع في كلِّ مصانع راجح يافاروق! وراح استقال من الجهاز! شوفت مصايبه؟ وفي الآخر واقف قدامي وبيقولِّي “خلِّي معاك دوا الضغط”، ده لو لسه ما جبهوش!
مدَّ فاروق يدهِ في محاولةٍ يائسةٍ للتهدئة:
اهدى طيب ولمَّا ييجي هكلِّمه…
مرَّر إسحاق أصابعهِ بعنفٍ في خصلاتِ شعرهِ يريد أن يقتلعها من الجذور:
-تكلِّم مين؟ ده بيقول لي “لو أنا ابنك، كنت خدت حقِّي”، وفي الآخر ابنك واقف وبينكر وجودي في حياته!
اقترب فاروق أكتر، وأردف بنبرةٍ هادئةٍ ورغم ذلك لا تخلو من التوتُّر:
طيب اهدى، وأنا هكلِّمه…
ضرب إسحاق الطاولة بعنف، حتى تناثرَ كلَّ ماعليها، وشعر بأنَّ قلبهِ سيخرج من صدرهِ مرَّةً واحدة:
بعد إيه؟ الحلُّوف راح استقال! ضيَّع مستقبله! عايز يموِّت راجح! ابنك متخلِّف ومش واعي نتيجة أفعاله!..
انسحبت غرام بهدوءٍ إلى سيارتها، قلبها مثقل، لكن خطواتها ثابتة.. جلست خلف المقود، أدارت المحرِّك، وبدأت بالقيادة وهي ترفعُ هاتفها وتهاتفه..لحظات وأتاها صوته:
– أيوة ياغرام؟
– إنتَ فين ياأرسلان؟
توقَّف أرسلان وأشار لإلياس أن يتوقَّف، وقد لاحظَ من صوتها المرتعش ما أقلقه.
– لسة واصل المستشفى، في حاجة؟
– أنا جاية لك، متخرجش لمَّا أوصل.
– إنتي لوحدِك؟ من غير السوَّاق؟!
– لو شايفني غير مؤهلة ياحضرة الظابط للقيادة، خد عربيتك منِّي!
قالتها وأغلقت الخطَّ في وجهه..بقي واقفًا، جامدَ الجسد، يحدِّق في هاتفه وكأنَّها صفعتهُ بقوَّة، إلى أن حمحم إلياس:
– روحلها، متنساش إنَّها حامل..أنا هشوف ميرال، هتمشَّى شوية..تعبت من القعدة.
التفت إليه أرسلان، وما زالت نبرتها الحزينة عالقةً بأذنه، هزَّ رأسهِ نفيًا:
– لا، هيَّ جاية، كانت عايزة تشوف ميرال، بس أنا رفضت.
اقترب منه إلياس ببطء، وضع يدهِ على كتفه وربتَ عليه:
– ليه مجبتهاش معاك؟
– كنت بخلَّص تاري من راجح…بس شكلي اتأخَّرت، وإسحاق قلب الدنيا عليَّا..واللهِ لو قال لها حاجة زعلتها لـ…
أشار له إلياس بالصمت:
– اسكت…متكمِّلش..اعذره قبل ما تتهوَّر، ده شغله، ومن حقُّه يخاف عليه..أوَّل واحد هينضر هوّ…روح شوف مراتك ..
خطا إلياس إلى بابِ غرفتها كمن يمشي فوق أشواكِ الذنب، على ماقالهُ لها بعد إفاقته، كلَّ خطوةٍ منه كانت اعترافًا صامتًا بقسوةِ حديثه..
تذكر ذلك اليوم الذي أرهق نفسه وارهقها معه …بعدما
استعاد جزءًا من وعيه بعد أيامٍ من الغيبوبة…
فتح عينيهِ ببطء، يشعر بثقلِ جفونه، تجوَّل بنظرهِ المُرهَق بين الوجوهِ من حوله، ثمَّ همس بصوتٍ خافت:
-“ميرال…”
التفت أرسلان الذي كان جالسًا إلى جواره، وتبادل النظراتِ مع مصطفى الذي اقتربَ فورًا، وجلس على حافَّةِ السرير.
أردف مصطفى بنبرةٍ دافئة، وهو يربتُ على يده:
“كويسة، حبيبي…فاقت من يومين، متقلقش، ومامتك عندها دلوقتي.”
أغمض عينيهِ للحظة، محاولًا أن يلتقطَ أنفاسه، ثمَّ قال بصوتٍ مخنوق:
-“بابا…”
قالها بصوتٍ مرتجف، كأنَّ الحروفَ تخرج من صدرهِ المتألِّم..
اقترب أرسلان أكثر من وجهه، وأردف بصوتٍ ممزوجٍ بالحنانِ بقدر مافيه من التحذير:
“إلياس، إنتَ عامل عملية كبيرة… ماينفعشِ تتحرَّك دلوقتي، فوق الأوَّل، وبعد كده تروحلها.”
لكنَّه تجاهل كلَّ النصائح، تجاهل ألمه، تجاهلَ حتى صوته الداخلي الذي يصرخُ من الوجع، وقال بإصرارٍ ضعيف، لكنَّه واضح:
“عايز أشوف مراتي…”
مدَّ مصطفى يده، ومسح بها على رأسه بلطف، محاولًا أن يحتويه: “والله هيَّ كويسة، بس استنى يومين نطمِّن عليك، وبعدها تروحلها بنفسك، وهيَّ كمان عايزة تشوفك.”
لكنَّه لم يقتنع..رفع يديهِ المرتجفتينِ نحو الوريد، محاولًا انتزاعَ الإبر التي تغذِّي جسدهِ المُنهك، غير عابئًا بالألمِ أو الدم أو الأجهزة الموصولةِ بجسده.
“هيَّ مش كويسة..أنا حاسس…”
قفز أرسلان فورًا، يحتضنُ جسدهِ بذراعه، ويمنعهُ من الحركة: “إلياس، اهدى، بالله عليك…إنتَ كده بتضيَّع كلِّ اللي اتعمل، جسمك مش مستحمل…”
ومع ذلك، حاول الاعتدال..حاول الجلوس، رغم الطعناتِ التي تشقُّ جسدهِ بالألمِ في صدره، كأنَّ كلَّ ضلعٍ يحتجُّ على حركته، أطبق جفنيه بدخولِ الطبيب بعد استدعائهِ من زرِّ الاستغاثة:
“إيه ياإلياس؟ رايح فين؟” قالها الطبيبُ بحدَّة، وهو يقتربُ منه ويفحصُ الأجهزة بسرعة.
همس إلياس من بين أنفاسه المتقطِّعة: “عايز أشوف مراتي…”
ردَّ الطبيب بحزم: “مراتك كويسة، لازم ترتاح، هيَّ كمان كانت عايزة تيجي، بس إحنا منعناها، عشان تستقرّ حالتها وحالتك الأوَّل.”
كرَّرها إلياس، بنفسِ الألم، بنفس الإصرار: “عايز أشوف مراتي…”
صاح مصطفى بغضبٍ مفاجئ، انكسر فيه خوفهِ وقلقه:
– “إلياس! إنتَ مش طفل! لازم تهدى! إنتَ لسه فايق من كام ساعة من عملية كبيرة…ازاي عايز تتحرَّك؟ قولت لك مامتك عندها، خلاص؟!”
ساد الصمت لوهلة…فقط صوتُ الأجهزة يرنُّ برتابةٍ في الغرفة، مع ارتفاع صوتَ أنفاسه ليشعرَ بالحزن.. كأنَّ روحهِ ترفضُ أن تبقى قبل أن يطمئنَّ عليها..
وصلت الممرضة إليهم بعد استدعاءِ الطبيب:
-علاجه..وممنوع يتحرَّك من مكانه.
مرَّ عدَّةِ ساعات، دلفت غادة إليه تحملُ هاتفها وجلست بجواره:
-شوف جبت لك مين..
فتحت الهاتف ليقعَ بصرهِ على صورةِ ميرال تحتضنُ يوسف.. بوجهها الشاحب
لاحت ابتسامةٌ وهو يراها تداعبُ يوسف، وجلوسِ يزن ورؤى بجوارها.
استمع إلى ضحكاتِ ابنه..تراجعت بجسدها بصعوبة، نهض يزن يساعدها بالتمدُّدِ ودثَّرها منحنيًا يطبعُ قبلةً فوق جبينها.
أغمض عينيهِ على ذلك المشهد، وشعر بنيرانٍ تسري بأوردته، ورغم ذلك شعر بالارتياح..رفع نظرهِ إلى غادة:
-تعبت أوي بعد العملية؟..صمتت لبعض اللحظات ثمَّ قالت:
-العملية وقفت، قلبها وقف للأسف، وحاجات الدكتور كان بيقولها لبابا مفهمتش منها حاجة؛ غير إنِّ فيه تحليل هيَّ غيَّرت نتيجته علشان تدخل العملية..
-تحليل إيه؟..
هزَّت كتفها بجهلٍ وأردفت:
-مفهمتش غير تجلُّط دموي، ونزيف وحاجات من دي..
أومأ بعدما تيقَّن من شكِّه، ابتسمت غادة وتحدَّثت:
-المهم بابا كلَّم الدكتور، والممرضة هتيجي تجهِّزك علشان تروح لها، هيَّ جت لك على فكرة بس كنت نايم..
شرد بحديثها وعقلهِ يصفعه، ثمَّ تحدَّث:
-خلاص المهم اطمِّنت عليها..
-يعني مش هتروحلها، اتفقت مع الممرضة..صمت ولم يرد عليها
بعد عدة ساعات ..دلف اسلام ينظر إليه بتفحص..أشار بيده
-هات الكرسي دا وساعدني عايز اشوف ميرال
-ميرال نايمة، غادة لسة مروحة
-طيب وديني عايز اروح لها وهي نايمة
-طيب ليه، خليها لما تفوق، بتاخد دوا وبتروح في النوم مابتحسش زيك
-اسلام …اسمع اللي بقوله وبس، واياك حد يعرف اني رحت لها
-ياختاااي ..يعني هنرجع نبدأ مرحلة العقاب، والله انت قاسي
دقائق كان امام فراشها يتطلع إليها باشتياق كاد أن ينخر عظامه، رفع كفيها إلى فمه وطبع قبلة مطولة عليه ولم يشعر بدمعته الغادرة التي شقت على وجنتيه ضعفًا لما يشعر به
-اعمل فيكي ايه، مش قادر اعاقبك وفي نفس الوقت مش قادر اسامحك على وجع قلبي عليكي
دقائق وهو يرسمها بلهفة عاشق إلى أن تحرك وغادر الغرفة وكأن لم يأت
باليوم التالي
جلست غادة تقص له ما يفعله يوسف مع المربية …لكن قطع
قاطع حديثهم دخول ميرال بمساعدةِ يزن،
رفع عينيهِ إليها، كانت بين ذراعي يزن تتحرَّك ببطء، ورغم بطئها شعر بأنَّها تتحرَّك فوق قلبه..
اقتربت مبتسمة..توقَّفت غادة وهرولت إليها:
-ميرال ..!!
استندت عليها تجرُّ ساقيها بصعوبة، وكلَّ خطوةِ لها يشعرُ بنيرانٍ تحرقُ روحه من ضعفها وشحوبها ..
ساعدتها غادة بالجلوس بحذر، شقهة مؤلمة شقَّت صدره وهو يراها بذلك الوجع..ارتفعت وتيرةُ أنفاسها تنظرُ إليه:
-عامل إيه..حمدَ الله على سلامتك..
-أنا كويس..قالها ثمَّ رفع عينيهِ لغادة:
-عايز الدكتور..قطبت جبينها ونطقت بلهفة:
-ليه حاسس بإيه، لسة تعبان؟..الدكتور قالِّي إنَّك كويس.
لحظات ودلفَ الطبيب..أشار إليها:
-إزاي المدام تخرج وهيَّ بالشكلِ دا، من فضلك مش عايزها تتحرَّك من أوضتها..
ثمَّ التفت إليها:
-روحي أوضتك، وممنوع تيجي هنا تاني..قالها وأغمضَ عينيهِ بعد عناءٍ مع الضغطِ على آلامه التي تفتكُ به..
-أنا جاية اشوفك واطمن عليك
-وأنا جاوبتك قبل العملية، روحي اوضتك ..
خرج من شرودهِ حينما وصل إلى غرفتها:
لامس مقبض البابِ بأناملَ مرتجفة، وفتحه…ليجدَ غادة تُعينها على ارتداءِ الحجاب، تفحَّصَ ملامحها التي وجدها مازالت شاحبةً تُشبهُ زهرةً ذبُلت من طولِ الانتظار، هنا شعر بذبولِ قلبهِ معها..
التفتت غادة بعدما شعرت بدخولِ أحدهما..فاستدارت سريعًا:
– “أبيه إلياس!”
هتفت بها بقلبٍ ينتفضُ بالفرحة، وأسرعت ترتمي في حضنه.
ضمَّها إليه رغم تألُّمه، سبحت عيناهُ على تلك الواقفةِ كتمثالٍ من وجع…
ميرال…
توقَّفت اللحظة…بل تجمَّد الزمنُ بين أنفاسهما…أكثر من أسبوعين لم تراه ولم تسمع صوته، حرمها وحرم نفسهِ من لذَّةِ القرب ..
-ميرال..همس بها فارتجفَ جسدها
وسقطَ مابيديها، ورغم ذلك ظلَّت كما هي كأنَّها تناضلُ ضدَّ نفسها، ضدَّ رغبتها لاحتضانه، ووجعًا لا يُغتفرُ منه .
ربت إلياس على رأس غادة برفقِ الأب الحاني، بعدما وجدها بتلك الحالة، فهمسَ يسأل:
– “فين يزن؟…أرسلان قالِّي إنُّه هنا.”
تطلَّعت غادة إلى عينيهِ الممتلئتينِ شوقًا وندمًا لزوجتهِ فتنحنحت بخفَّة:
– “هشوفه، يمكن اتأخَّر عند الدكتور…”
قالتها وانسحبت، حتى يغفرَ الاشتياق لما حدثَ بينهما..
اقترب إلياس منها، بخطواتٍ بطيئة، إلى وصل إلى ظهرها، وضع ذقنهِ على كتفها وهمسَ بصوتٍ مبحوحٍ والحنينُ يخنقه:
– “فيه حد مخاصمني…ومش قادر حتى يقولِّي حمدَ الله على السلامة؟”
ارتجف جسدها من أوَّل نسمةٍ دافئةٍ خرجت من أنفاسهِ تلامسُ عنقها..
بعدما أزاحَ حجابها برفق…ثمَّ احتواها بذراعيه، كأنَّها وطنٌ غاب عنهُ طويلًا..
لفَّها بحنانه، وأدارها إليه، لتسقطَ عيناها في بئرِ عينيه، رفع ذقنها بإصبعه، وهمس بنبرةٍ تخصُّها وحدها:
– “وحشتيني…”
كلمة واحدة، جعلت الأسوارَ تنهار، والصمودُ يتبعثر، والدمعُ يخون كبرياءها..ورغم ماتشعرُ به انسلَّت من بين ذراعيه، تحاول أن تتمسَّك بما تبقَّى منها، وهمست:
– “وإنتَ كمان وحشتني…بس… محبتش أقلِّل من نفسي…”
لم يسمح لها بإتمامِ كلماتها التي شقَّت صدره، فوضع إصبعهِ على شفتيها، يوقفُ الكلماتِ قبل أن تجرحهُ أكثر، أو تجرحَ نفسها:
– “باااس…ولا حرف.”فتحت فاهها للتحدُّث ولكنَّه مال عليها، وطبعَ على شفتيها قبلة…قبلة كأنَّها صلاةُ الرجوع، وقُبلةُ عاشقٍ يُقرُّ بندمه..قبلةٌ يروي روحهِ الغائبةِ بروحها المتعبة..
ابتعد عنها قليلًا، لكنَّ عينيه مازالتا تُطوِّقانها، وهمس بصوتهِ الذي يقطرُ ندمًا:
– “آسف…عارف إنِّي قسيت، بس كنت خابف عليكي…أنا كنت هموت لو كان حصلِّك حاجة..
انهارت بكلِّ ما فيها…انسابت الدموعُ كالنهر، شهقت، ووضعت كفَّيها على فمها، تحاولُ أن تحبسَ نحيبًا انفجرَ من عمقِ قلبها…عمقِ آلامه حينما كان الاشتياقُ يخونها..
ضمَّها إليه، بكلِّ مافيه من قوَّة، من ضعف، من احتياجٍ وهمسَ بندمٍ وأسف:
-“سامحيني…متزعليش منِّي، عارف إنِّك زعلانة.”
لكنَّها لم تصمت..فقالت بصوتٍ مخنوق:
– “إنتَ طردتني ياإلياس…قولتلي مش عايز تشوفني…”
لم يعد يتحمَّل أن يسمعَ تألُّمها أكثر..
فقطعَ كلماتها بقبلةٍ أخرى، قبلةٌ أعادت إليها أنوثتها، واحتاجَ فيها أن يغفرَ لنفسه قبل أن تغفرَ هي له..
بعد لحظاتٍ سحبها بلطفٍ إلى فراشها، وجلسَ محاوطًا جسدها، يضعها بين ذراعيهِ ككنزٍ استردَّهُ بعد أن أضاعهُ بيديه..
– “عاملة إيه؟…تعبانة من حاجة؟ في وجع؟”
نظرت إليه، بعينينِ ذابت من دمعٍ وشوق، وهمست بصوتٍ يذبحه:
– “حاسَّة إنَّك وحشتني..أوي، أوي، أوي..مش حاسَّة غير إنِّي كنت ميتة ببعدك”
ضمَّها إليه بعنفِ المحب، رغم ألمه، رغم جراحه، ولكن حضنها لهُ قبل أن يكونَ لها كأنّّه البلسمُ الوحيد…كأنَّه الحياةُ التي تريحُ أرواحهما..
شعرت بتألُّمهُ فتراجعت:
-أنا كويسة خلاص، إنتَ الِّلي عامل إيه؟..
-كويس، جوايا حتة منِّك هكون عامل إيه..عملتي الِّلي في دماغك..
-أه علشان لو مت تفتكرني بكليتي..
-بعدِ الشر..نطقها سريعًا وهو يحاوطُ وجهها ويسبحُ فوق ملامحها:
-وحشتيني أوي..أغمضت عينيها محاولةً ألَّا تنساقَ خلفَ مشاعرِ الاشتياق..قطع وصلةِ غرامهما دخولِ أرسلان بجوارِ غرام..
رفع حجابها فوق رأسها وحمحمَ متراجعًا..اقتربَ أرسلان يغمزُ إليه:
-رجَّعت لها الكلية ولَّا خلاص نقول مبروووك.
قطبت جبينها متسائلة:
-يرجَّع لي إيه؟!..
اقتربت غرام التي جلست بجوارها بثقلِ جسدها:
-أخيرًا هتغادري المستشفى..
-جوزها كان عاملَّها إقامة جبرية..هكذا أردفَ بها أرسلان وهو يسحبُ المقعدَ ويجلسُ بمقابلةِ إلياس وأكمل:
-جوزك كان جاي وزعلان وعايز يرجَّع لك كليتك، وقالِّي هيطلَّقك.
برقت عيناها تنظرُ إليه..رمقهُ إلياس بنظرةٍ ساخطة:
-حد بيصدّّق المجنون، التفتَ الى غرام الساكنة وأردف:
-معرفشِ المجنون دا هيربِّي ابنه إزاي؟..هنا رفعت عينيها إليه:
-عرفت الِّلي عمله؟..
زوى مابين حاجبيهِ مع نظراتِ ميرال المستفهمة بدخولِ يزن وغادة، صاحت غرام بغضبٍ بعدما فقدت سيطرتها:
-أخوك الظابط المحترم اتحوَّل إلى مجرم، راح ضرب راجح وولَّع في شركاته، ومش بس كدا، استقال من شغله..
-غرام..صوتك، نطقَ بها أرسلان بغضبٍ عارمٍ وتحوَّلت نظراتهِ إليها لنيرانٍ جحيميَّة..
-أرسلان..قالها إلياس ليهدِّئه، ثمَّ التفتَ إلى غرام:
-غلطان بس اهدي متنسيش إنِّك حامل..
-أهدى، أخوك كان عايز يقتل راجح، طيب دا واحد مجرم ليه نعمل زيُّه..
-أنا قولت إيه، لا وقته ولا مكانه..اقتربَ يزن الذي كان يتابعُ بصمت:
-فعلًا لا مكانه ولا وقته، بس أنا لو مكانه كنت خلَّصت عليه، برافو عليك والله، معرفشِ ليه سبت الكلية التانية، والله إنَّك أهبل.
جحظت أعينُ إلياس بذهول:
-إنتَ كمان عاجبك تصرُّفه؟!!
ضربت غرام يديها ببعضهما:
-شوف كمان المهندس عاجبه التصرُّف الإجرامي، إيه ياباشمهندس، حلو جوزي يبقى مجرم، طيب ماهوَّ عمل معاكم الأسوأ، ليه محدش اتحرَّك؟..
إيه ياحضرة الظابط مش إنتَ أخوه الكبير، مش المفروض كنت تردعه عن عمايل الإجرام دي، ولَّا عجبك اللي عمله؟..بدل مايكون ظابط محترم يبقى مجرم، من إمتى رجل القانون بياخد حقُّه بدراعه؟..
-يالَّه خلِّينا نمشي، سحبها بقوَّةٍ قائلًا:
-أنا غلطان أصلًا إنِّي سمعت كلامك.. صاحت ميرال بصوتها المجهد تشيرُ إلى إلياس:
-وقَّفه..
-أرسلان..ولكنَّه جذبها وتحرَّكَ بخطواتٍ سريعة..
-أرسلان..تمتمَ بها إلياس بصوتٍ خافت، بعدما شعر بتألُّمِ جرحه..توقَّفت غرام تضعُ كفَّيها أسفلَ بطنها وشعرت بآلامٍ تفتكُ ببطنها، ولكنَّه سحبها إجبارًا رغم توقُّفها، شعرت بانسحابِ أنفاسها
وشهقت بقوِّةٍ تصرخُ بعدما شعرت بشيءٍ لزجٍ يخرجُ من بين ساقيها..
آاااه صرخت بها وهي تضمُّ أحشاءها..
ارتجفَ جسدهِ وهو يرى المياهَ التي انزلقت من بين ساقيها..صاح باسمِ الطبيبِ وهو يساندُها مع زيادةِ صراخها، خرجت غادة من الغرفةِ بعدما استمعت إلى صوتِ أرسلان..
وصل المسعفونَ سريعًا وقاموا بنقلها إلى غرفةِ الكشف..دقائقَ وخرج الطبيب:
-ولادة، بسرعة لغرفةِ العمليات..قالها يشيرُ إلى الممرضة التي هرولت للداخلِ بعدما تساءلت:
-طبيعي يادكتور؟..أومأ لها ..أمسكَ أرسلان ذراعه:
-عايز دكتورة، لحظة ينظرُ إليه الطبيبَ ثمَّ أومأ له وأردف:
-تمام..قالها وانسحب..
ظلَّ يجوبُ المكانَ ذهابًا و إيابًا، مع ارتفاعِ وتيرةِ أنفاسه:
-اتأخَّرت ليه؟..وصلت فريدة تتطلَّعُ إليهم بلهفة:
– إيه لسة مخرجتش؟..نظرت ميرال تهزُّ رأسها مع كلماتِ أرسلان المتألِّمة:
-أنا السبب..اقتربت تربتُ على ظهره:
-حبيبي ميعاد ولادتها طبيعي إنَّها تولد في أيِّ وقت بدل دخلت الشهر الأخير..
هزَّ رأسهِ بعنفٍ وتجمَّعت الدموعَ بعينيه:
-أنا السبب، بقالي فترة بضغط عليها،
أنا السبب..كرَّرها عدَّةَ مرَّات..وصلت صفية بجوارِ دينا تتساءل:
-إيه اللي حصل مش الدكتورة قالت قدَّامها لسة أسبوعين؟!..أوقفها عن الحديثِ صراخِ الطفل مع خروجِ الممرضة مبتسمة:
-مبروك المدام ولدت..هنا شعر وكأنَّ الأرضَ تترلزلُ تحت أقدامه، مع ارتجافةٍ لجسدهِ بالكامل..اقتربَ يزن يضمُّه بحنانٍ أخوي:
-مبروك يابابا..بس ياترى بنت ولَّا ولد؟..
لكنَّه كان شاردًا بصوتِ طفله..لم يستمع إلى شيءٍ آخر..دقائقَ وخرجت الممرضة تحمله:
-هوَّ كويس؟..تساءلت بها فريدة مع اقترابِ صفية، تلقَّفتهُ بمحبة، وشهقة خافتة تضمُّه لأحضانها:
-ياحبيبي أخيرًا نوَّرت الدنيا، أرسلان تعالَ شوف ابنك..ولكنَّه اقتربَ من النافذة وعيناهُ تسبحُ على الغرفة يبحثُ عنها، استدارَ إلى الممرضة:
-مراتي عاملة إيه؟..
-كويسة، شوية وهتتنقل لأوضتها..أخرج يزن نقودًا بعدما وجد حالتهِ ووضعها بيدِ الممرضة وأردفَ بنبرةٍ ممتنَّة:
-شكرًا..انسحبت بعدما شكرتهُ وتوجَّهت تحملُ الطفل:
-لازم الدكتور يشيِّك عليه..
بعد فترةٍ كان يجلس بجوارها يحتضنُ كفَّيها ينظرُ إلى طفلهما الذي يضعُ أناملهِ بفمه..وارتفع صوتُ بكائه..
توقَّفت دينا تحملهُ وتهدهدهُ بصوتٍ حنون..رفعت صفية كفَّيها وأخذته:
-هاتيه لحدِّ مامته ماتقوم..ربتَ على خصلاتها وانحنى يهمسُ إليها:
-غرامي قومي بقى، إيه النوم دا..
بغرفةٍ أخرى..
دثَّرته بالغطاءِ وسحبت بأناملها على خصلاتهِ باشتياق، ابتسمت بعدما فتحَ عيناهُ متمتمًا:
-بتعاكسيني وأنا نايم..
-لا، جاية أشوفك قبل ماأمشي، هجيلك بكرة..
-لا..ارتاحي وأنا الِّلي هاجي، روحي على الفيلا، بلاش البيت دلوقتي..
أومأت له ثمَّ توقَّفت قائلة:
-يوسف وحشني أوي، معرفشِ من الصبح صوت عياطه في وداني..
-بوسيه ليَّ لحدِّ ماآجي..
-حاضر ..قالتها وانسحبت بعدما فتحَ يزن الباب:
-يالَّه ياميرو، كريم مش مبطَّل اتِّصال..ثمَّ نظر إلى إلياس:
-هوصلَّها وأرجع لك..
بعد أسبوعٍ وهو اليوم المقرَّر لإعدادِ حفلِ السبوع الخاصِّ بابنِ أرسلان..
أنهى ارتداءِ ملابسه، وتحرَّك بحذر، يتناولُ هاتفهِ وسلاحه، دخلت ميرال وهي تتحدَّثُ بهاتفها:
-حاضر..ساعة كدا وهنيجي..أغلقت الهاتفَ تتطلَّعُ للذي يستعدُّ للمغادرة:
-رايح فين؟..
نظر بساعتهِ ورد:
-مشوار نصِّ ساعة، يبقى روحي مع ماما ونتقابل هناك.
-مشوار إيه دلوقتي ياإلياس، النهاردة حفل سبوع ابنِ أخوك، والناس كلَّها هتكون موجودة أقولُّهم إيه دلوقتي..
طبعَ قبلةً فوق وجنتيها وخطا للخارجِ دون حديث.
بعد فترةٍ وصل إلى المشفى الذي يُحجزُ بها راجح ..دلف إلى غرفتهِ وجدهُ غافيًا، جذب المقعدَ وجلس عليه بهدوئهِ الغيرِ معتاد، وزفراتٌ حارقةٌ تخرجُ من فمهِ يريدُ أن يلتهمَ بها جسده..تململَ راجح وفتح عينيه، وجدهُ جالسًا على المقعدِ ونظراتهِ تخترقهُ كالسهمِ الناري يريدُ أن يحرقه..تمتمَ بصوتٍ متقطِّع:
-إنتَ!!..بتعمل إيه؟!
انحنى بجسده يحدجهُ بنظرةٍ مميتة، ثمَّ أردف:
-جاي أتبرَّع لك مش كنت جاي تتبرَّعلي؟..
جحظت عيناه، وهو يراهُ يضعُ كفَّيه بجيبه، فانتفضَ يصرخُ باسمِ الممرضة:
-الحقيني جاي يموِّتني..

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية شظايا قلوب محترقة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *