رواية آصرة العزايزة 2 الفصل الحادي عشر 11 بقلم نهال مصطفى
رواية آصرة العزايزة 2 الفصل الحادي عشر 11 بقلم نهال مصطفى
رواية آصرة العزايزة 2 البارت الحادي عشر
رواية آصرة العزايزة 2 الجزء الحادي عشر

رواية آصرة العزايزة 2 الحلقة الحادية عشر
لم يعد يخيفني شيء بعد أن عرفته سوى أن أخسره يومًا مـا ..
أخاف كثيراً من أن تختفي فجأة مثلما ظهرت فجأة ، أن يحيل بيننا جدار غيـرة الأيام منّا ومن سعادتنا ..
أن تعود إلى المجهول مثلما جئت من حيث لا أدري !!
ألا تكون في يوم أي شيء يعنيني بعد ما كنت كل شيء لي …
أن نمر كغرباء والأعين تتوارى من بعضها كي لا ينكشف كذب القلوب في يومًا ما..
كي نؤجل إدانة الحياة بأن لا يوجد بها حُبًا يدوم ، ونظل مخدوعين بقناعها المزيف ..
ولا يُكتب الزوال إلا لكل ما أحببت ..
وتبقى الحياة حياة للقلوب الخالية من الحب..
أما إذا أردت رؤية وجهها الحقيقي ، املأ قلبك بالحب ، ومن هنا ستبدأ خوض جميع المعارك…….
#نهال_مصطفى
••••••••••
كانت البداية من نجع العزايزة عند- آل سويلم- ..وصل هارون برفقة أخيه إلى محشد أهل القريـة حول مقر الجريمة الشنيعـة المرتكبة للتو .. ضربت الكفوف فوق بعضهـا وحُقنت الدمـاء الوجوه بالغضب والسخط حول مرتكبي الجريـمة .. هبط هارون من سيارته وخلفه مجموعة من الحرس يلحقون بهِ وهو يتغلغل بين الصفوف ليتساءل :
-خضر فينه ؟!
أردف الرچل :
-عمل عملته هو والـ خاطيـة وهچ ..
فنادى هارون على الرجل الحارس لداره ولعائلته وسأله :
-إحكيلي بالظبط ايه اللي حُصل .. !
شرع الرجل في سرد الواقعـة :
-واد عمه مسافر الخليج ، فمرته حبت خضر وِلد سويلم واتچوزته عرفي على چوزها من سنة ومحدش كان عارف ، ولما چوزها عرف ، الاتنين قاموا قاتلينـه وقطعوه حتت وهربوا مع بعض ..
تدخل هيثم مذهولًا من البشاعة :
-طول عمره نجس وبيدور على الشر ..
جاء أحد رجال هارون مسرعًا :
-رچالة المچلس داخلين علينا يا عُمدة ..
وقف متحيـرًا للحظات بين قيود الأعراف التي أخرجت التجبر من القلوب وبين السير خلفها أم محاربتها ؟! هل هو عيب أعرافهم الظالمة ، أم جبروت إمراة لم يحكمها شرع ولا دين وتزوجت على زوجها وفعلت بجثمانه هكذا !! أي زمان وصلت بهِ القسـوة في القلوب !! هل هذا آخر الزمان أم بدايـة اللعنـة .. أردف هيثم مستفسرًا :
-هارون ، الحكومة لو چت لازمًا توحد القول والكل ينفي اللي حصل ، مش عاوزين حاچة تُلط سُمعة العزايزة ، دي چريمـة ..
غرس هارون أول مسمار في نعش أعرافهم قائلًا :
-بلغ مأمور المركـز بكُل حاچة يا هيثم .. كفاية وكل في بعضينا كيف الكلاب المسعورة ….
~الواقعـة حقيقيـة ….
|مارس ٢٠٢٥ -سوهاج|
•••••••••••
~بغُرفـة أحلام ..
دخلت صفية الغُرفة وبيدها عصيـر الليمون لأحلام والغضب يعكر صفو ملامحها :
-خُدي العصير يا عمة ، وهدي روحك ..
ثم رسمت بوجه ” رغد ” ابتسامة جائرة :
-وأنتِ حديتك ديه كلام العقل ، العيل ينزل وكل واحد يروح لحاله .. واعتبري روحك مقابلتيش ولدي .. وربنا يعوضك بالأحسن منه ..
تدخلت أحلام معاتبة :
-هو أنتِ معندكيش دم !! طب حتى خافي ربنـا .
صاحت صفية بحرقة :
-لا دي بحور الدم اللي هتغرقنا لو ديه محصلش يا عمة .. الچوازة دي من أولها لآخرها باطلة ومحدش مباركها !! والباب اللي يچي منه الريح سده واستريح ..
ثم نظرت لرغـد الشاردة في ظُلمة أيامها وأكملت بارتياح :
-عين العقل اللي قولتيله متخليش حد يلعب في راسك ، كِده أحسن للكل خلينا نخلصـوا .
تدخلت ليلة معترضة وهي تربت على كتف رغد:
-طنت صفية بس ده حرام ، أنتِ كده بتقتلي روح ربنا خلقها ؛ ولا أنا فاهمة غلط !!
انفجرت صفية بوجهها :
-وأنتِ إيش حشرك ، هاه ؟! واخدة راحتك وداخلة في حواراتنا ومشاكلنا ، بصفتك مين ؟! أنتِ كمان عاوزاكي تحِلي عن راس ولدي خليـه يفوق لبيته ومرته واتكلي على بلدكم ..
أخسرتها أحلام بنبرة لا تقبل الجدال :
-أنتِ اللي تمشي وهي تُقعد ، ديه بيتي يا صفية وأنا بس اللي أحكم في أمره !!
تحدتها صفية بنار الغضب :
-سبيني أحمي عيالي يا أحلام!! اااه انتِ مربياهم بس اللي حِملت وولدت دي هي اللي مجربة وچعة الضنا ، وأنتِ هتعرفي الوچع منيـن ولا أصلًا يفرقولك في أيـه ؟!
اندلع الخوف في أعين رغد وليلة وهن يراقبن الحرب النسائية الدائرة ، طوت أحلام صحف الإهانة بنفس شاكرة وراضية لتقول بتجبر :
-لا يا صفيـة ، أنتِ اللي فاهمة غلط ، خليفة لما چابك إهنه عشان تخلفي وبس ، وراضية ومستحملة قلة عقلك عشان ولادك ، لكن هتكتري في الحديت ، همشيكي من بيتي ، لأنه مبقاش ليكي عوزة تاني ، خدنا غرضنا منك ..
جحظت عيني صفية بسخط إثر الإهانة الصريحة الموجهه إليها ، لتنفجر معاتبة :
-دي چزاتي يا عمة !! عتقلي بيّ قصاد الأغراب !! أنا مش هرد عليـك عشان خاطر عيالي لكن العوج ديه لو متعدلش وربنا وما أعبد ههدها على رووس الكُل ، كله إلا عيالي ..
ما أردفت جملتها بأعين مغرورقـة بالعبرات ، ففرت هاربـة من محط إهانتها ، توجهت ليلة لأحلام محاولة أن تطيب خاطرها :
-أحلام ، ممكن متزعليش ولا كأنك سمعتي حاجة !! بليز .. كلنا عارفين أنك ست الكُل هنا ، وطنت صفية متعصبة شوية ..
زفرت أحلام برضا اعتيادي لتقبل الأمر :
-تعيشي يا بتي ، قومي هاتي لي حباية الضغط من الجُرد ” الدُرج ” .
أحست رغد بالذنب لأنها السبب في كل هذا ، احتوت كف العجوز بانكسار وقالت معتذرة :
-أنا أسفـة ، كل ده بسببي !!
-لا إحنا إكده من زمن الزمان ، صفية كلها كلام على فشوش ..
ثم دارت لها ملومة بحدة :
-وبعدين تعالى أنت ، طلاق إيه وعيل أيه اللي طلع في رأسك دِلوق !! ما أنتِ لو عايزة تنزليـه أيه چابك !! اسمعي يا رغدة الواد ديه لو نزل هتعيشي في ذنبه طول عمرك .. كل هيتحل لكن ولدك مش هيتعوض ..
انخرطت عيني رغد بكلل وملل من كل شيء وهي تشكو لها آهات قلبها :
-أنا تعبانة ومحدش حاسس بيـا ، ده أكتر وقت محتاجة فيه وجود هاشم جوزي جمبي وهو باع يا أحلام ، فرط فيا !! ازاي عايزاني اتمسك بشخص باع .. أنا مش هينفع أرجع لهاشم ومش هينفع يبقى فيه حلقة وصل ما بينا ..
أشفقت العجوز على حالتها وهي تضمها لصدرها متفهمة صوت صدح قلبها :
-يا ضنايا يا حبيبتي .. فهماكي وحاسـة بيكي ، وعارفة أن قلبك محروق ، بس أصبري ووعد مني كل حاجة هتتحل ..
هزت رأسها نافية معترضة عن تقبل أي حلول :
-خلاص ، مبقاش في حلول والسكك اتقفلت .
-متقوليش إكده ، هاشم معاود الليلـة ولازمًا نحطوا النقط فوق الحروف .
جاءت ليلة وبيدها أقراص الدواء وكأس الماء:
-اتفضلي يا أحلام .
~بغُرفـة هيام ..
بعد ما فتحت شاشة هاتفها وقرأت رسالة عمار مرارًا وتكرارًا بأعين تنافس النجوم في لمعانها :
-“مش خابر قالولك ولا لسـهِ ، أنا طلبت يدك من أبوكي ليلة إمبارح ، واتمنى توافقي عشان مش هتلاقي حد يحطك چواة عينيه ويحبك قدي ”
ظهر لديه علامـة قراءة الرسالة كعادة كل الرسائل المرسلة بدون أي رد منها سوى ابتسامات تُنقش على جدار قلبها .. تحرك قلب العاشق من مكانه بعد ما انتهى من فحص أحد المرضى ، وبأناملة متحمس كتب :
-“قالولي سبوع ونرد عليـك ، فات ١٦ ساعة ما ينفعش تتوسطي لي عنديهم ويردوا علىّ الليلة ، ده حتى أنا عريس لُقطـة ”
ما زالت تقرأ الرسائل بصمت وبضحكة لم تفارق وجهها أبدًا ، تنهدت محاولة إخفاء زهور الحب عن وجهها كي لا ينكشف أمرها أمام رقية وهاجر اللاتي لم يكفان عبثًا ، تأكد عمار من قراءتها للرسالة وهو يجلس على مكتبه ، ليعود الكتابة إليها :
-“طب أنتِ موافقة ولا لا ؛ داني منتظرتش نتيچة الثانوية العامة كيف منا مستنى ردك ، هيام في مرضى تحت يدي وأنا عقلي وفكري عندك يا بت الحلال ، أرافي بيّ وبيهم وقولي أيه كلمـة تطمني ”
همست رقية بخبثٍ لهاجر :
-هي هيام مش معانا ولا أنا متهيألي ؟ هيــااام من أولها سرحتي ومبقتيش معانا !!
بعد مشاورات بين عقلها وقلبها ، حسمت أمرها لترد عليه آخيرًا بالرد الذي زاد تشتته :
-الرد هيوصلك مع أخواتي ..
ثم وضعت الهاتف على وضع الطيران ونظرت لتنمر رقية عليها ، لتسألها متنهدة فهي أول مرة تزور قصر الحب :
-رقيـة ، أيه رأيك في الچواز حِلو !!
صوت ضحكات جرى صداها بالغرفة ، فقفزت هاجر منتصف الفراش ملتفتة باهتمام ساخر ، فأعقبت رقية التي ترفرف في سماء الحُب :
-الأحلى من الچواز والحُب ، الحبيب يا هيام .. تقولك هاچر أنا كُنت أكتر واحدة الچواز والحب ولا فارقلها ، بس هلال أخوكي عملي غسيل مخ ، وخلاني أقع في غرامه كل دقيقة .. ولغاية اللحظة دي أنا بسأل نفسي كل هبابة !! هلال عملها كيف وشقلب كياني ..
فأتبعت هيام بدقات قلبٍ يتراقص عليها صدى كلماتها :
-يعني اوافق على عمار ، حساه غلبان وطيب ومتربي غير رچالة البلد وو
فأعقبت هاجر ممازحة :
-وأنتِ عرفتي منين يا قلب أختك !!
-مالكيش دعوة وخليكِ في حالك .
أنقذ هيام من مكر أختها رسالة شريف التي جاءت على فجأة منه وهو يخبرها :
-أنا في قنـا وعايز أشوفك يا هاچر ، اتصرفي وانزلي ومش هقبل أعذار وإلا هاجي لك لحد البيت وذنبي في رقبتك …
•••••••••••
~دوار الجباس .
تساؤل لم يفارق مُخيلتي :
“ماذا سنفعل بالأشياء التي تُحول الزهر النابت في صدورنا إلى رماد؟!
ماذا سنفعل بعمـرٍ انتهى قبل أن يبدأ !!
ما مصير قلب خُلق ليُعذب ، وليذوق كافة أنواع الوجع .. وجع اليتم ، ألم الوحدة ، تقبل فكرة إنك لستُ محط اهتمام أحد ، حتى الحُب الذي ظننت إنه سيعوضني ، لم يُكتب لي !!
حلمت كثيرًا ببيت دافء وبرجل حنون ، وبستة أطفال أعيش برفقتهم ما لم أعشه عمري ..
كل الأحلام احتفظت برونقها ، و بموقعها ، سجينة الخيال فقط !! وأنا وقلبي كل يوم نستيقظ على ألم جديد ، وجرح عميق لا يشفى ولا يضمده الزمن ..
أشعر وكأن أمى لفظت من جوفها في ساعة ساقطة من تاريخ الزمن ، كسقوطي ..
ولدتُ مجردة تمامًا من كل شيء ، حتى الحظ لن يولد معى ..
فتحت صورة قديمة لهارون على هاتفها بأنامل مرتجفة وهي تكمل سرد الآهات لصورته :
-مش لو كان الزمن نصفنا وكتبنا لبعض كنت هرتاح من القهر اللي عايشة فيه !! مش كانت الأيام أحن عليّ من دِلوق !! طب اشمعنا أنت اللي اخترتك عن الكُل وأنت مش مكتوب لي !! اااااه لو النصيب كان نصفني وكتب ليّ ، كنت راضية والله ومكنتش هبقى عاوزة حاچة تانية ، ياريتك لسه معاي يا هارون !! يا ريتك كنت نصيبي !! قلبي مش قادر يشوف راچل غيرك …… بقيت متعلقة لا طايلاك ولا طايلـة انساك !!
~بالأسفـل ….
-“ما تقول لي أنتَ ملتك أيه !! أنت عاوزها كيف تحبك وأنت حتى ما بلتش ريقها بكلمة عِدلة !! يا ولدي حرام عليك اللي أنت عامله في البت دي غلبانة ”
ضجر فارس من قسوة صمته بوجـه أمه التي تنصحه خارجًا عن كظم مشاعره :
-وأنتِ عاوزاني أعمل ايه ياما !! قوليلي .. أنا النار قايدة في روحي ومش قادر حتى انطق..
أمسكت أمه بذراعه بعتبٍ :
-أنتَ اللي معذب روحك ، أنت اللي مصعب الطريق ، البت لو لقت منك لين وجبر كان الطريق اتفرش لك ورد ، لكنك طايح في وشها كيف التور الغشيم ..
اهُ من دمعة الرجل عندما تبلل قسـوة أيامه التي تبنى سورًا عملاقًا بينه وبين من يحب، لهب الحُب الكامن بجوفه :
-أعمل أيه ياما وعينها مليانة بوِلد خليفة ، أنت لو شوفتي طلتها في وشـه !! نظرتها واعرة قوي ياما ، المفروض البصة دي تكون لي ، أنا اللي حبيتها وچيت على نفسي عشانها …. انا عاچز ياما مايغركيش حديتي قصادها..
تألمت لألم ابنها وهي تمسح دمعة من طرف عينـه وهي تنصحه :
-يبقى تصارحها ، افتح لها قلبك يا ولدي وسيبها تختار ، الچفا ماعيچبش غير چفا.. چرب الحنية ، صدقني دي سحر على القلب…
تمرد على قلبه قائلًا :
-أنا مش هتذللها عشان تحبني ياما .. أنا عمري ما نسيتها ، اخترت سعادتها على كوي قلبي .
-أومال هتسيبها وأنت روحك فيها !! هتسيبها تاني يا فارس !!
اقتحـم أبيه مجلسه بنيرانه ، عضب فارس عن بقية حديثه إثر هبوب زعابيب أبيه :
-أنت هتفضل لغاية ميتى طايح في الدنيا ومالكش كبير ! أيه ؟! شايفني متت بالحييا ؟
ثم وقف أمام ولده الكاظم لغضب :
-ومن ميتى ليك شوق في بت عمك وعاوز تخطبها !! ولا هي فرعنة وخلاص !! تعبتني يا ولدي حرام عليك !! دانت الكبير هتشيلني هم العيلة دي ليه !! خطوبة أيه اللي قولت عليها لعمك خليفة !!
رفع رأسه بشموخ ليصوب سهم قراره لعيني نغم الواقفة بنصف السُلم لتحسم قرارها بالمغادرة وترك بيت أبيها ، وما سقطت عينيه عليها أردف :
-ومين چاب سيرة خطوبة ؟ ديه حديت فارغ !! أنا هتچوز نغم … بلغ العروسة أن قدامها يومين تجهز روحها فيهم ……
••••••••••
انشغـل هارون بأمـر الجريمة الواقعة بنجعـه ، وحملة تجمهر المجلس وأعوانه على إبلاغ الحكومة ، قطع هلال فترة عمله بالمعهد الأزهري ودلف على النجع ليقف بظهر أخيـه في مواجهـة التيـار .. وفي هذه اللحظة قدم هاشم طلبـًا بأجازة ٤٨ ساعة فقط تمت المواقفة عليه بعد محاولات عديدة مع قائده .. حجز أول طائرة على مطار الأقصر والتي سيحين انطلاقها في تمام الثانية ظُهرًا …
تحرك هيثم متجهًا نحو المصنع الذي أوشك أن تُقفل أبوابه بسبب إهمال الجميع له وأثناء سيره على الطريق ألتفت بالمرآة لصورة ” جميلة ” المنعكسـة أمامه ، مرتدية بذلة النحـل وهي تهتم بشغلها جيدًا بمساعدة العُمال .. هبط من سيارته متجهًا لعندها ليفتح معها أي حوار عبثي :
-دِلوق بس عرفت سـر غلو العسل في السوق !! بس كيف عسل بيعبي عسل !!
نزعت القناع عن وجهها وهي تتفقده بحنق :
-هو أنتَ ؟!
تفسح في سحب زُرقة عينيها :
-هو أنا هو بشحمه ولحمه .. إلا قوليلي ، كيلـو العسل يا عسـل عامل كام !! يعني البرطمان يقع عليّ بكام ؟
-لو چاي تشتري العسل ديه مش للبيع !!
تفقد هيئتها بغزلٍ :
-أومال لايه لو مش للبيع !!
تحركت بالحديقـة ليتبع خُطاها وهي تقول:
-له زبونه …
هرول ليقطع عنها الطريق :
-وزبونه واقف قصادك أها ، أنا چاي بناءً عن وصفة طبيب !! أصلي تعبان قوي ، وقالي حلك برطمان عسل من يد العسـل ..
صرخت عليه بحدة :
-قولت لك مش للبيع !! أنت هتصحابني وتحكي لي قصة حياتك !!
مسح على رأسه مجربًا نوعًا جديـدًا لتسلسل إليها وهو يلحق بخطاها :
-تعرفي أن العسـل ديـه من نسـل الحب !!وعلى أغلب جدران المتاحف هتلاقي نقوش نحل وزهور تعرفي ليه ؟! آكيد متعرفيش ، هحكي لك ، النحلة عمرها ما تمل من جمع الرحيق من الزهرة ، ديه متعتها تفضل ملاحقاها في كل حتة ، وكمان الزهرة متعتها أنها تسلم النحل رحيقها!! يعني الزهرة دي ينبوع الحياة للنحلة !! الاتنين عاد بينهم علاقة أخد وعطا ونشوة !! والإنسان المصري طول عمره بيخلد الحُب !! ما خليكي چدعة كيف الزهرة ناخدوا وندوا يبقى شجرتنا تطرح عسل يا عسل ..
تركته وغادرت متجاهلة ثرثرته التي أنصتت لها بقلبها ، فلحق خُطاها مسرعًا :
-هو أنتِ تملي مش طايقه روحك إكده أنا عقول معلومات تقيلة ليها وزنها ، اتعلمي !! كل ما أشوفك ألقاكِ مغبرة بالنكد !!
رمقته بضيق :
-وبعدهالك يا چدع أنتَ !! عاوز مني أيه ملاحقني في كل حِتة .. أنا ميتى رايقالك !
-وربنا چدع قوي بس جربيني !! يمكن أفلح !طب أيه رأيك في معلوماتي !!
تركته وغاصت في مجمع النحل وهو كالأحمق تابع خُطاها بدون حذرٍ وأتبع :
-طب بلاش عسل مش عاوز ، بس طمعان في الزهرة كلها .. والعسل ديه هغرقها فيه .
دارت له محذرة وهي تخفي ابتسامتها عنه :
-طب خلي بالك على روحك ..
تحمس هيثـم ملهوفًا خلفها :
-ما تيچي نقطعوا عرق ونسيحوا دمه و تتچوزيني يا چميلة ..
فتحت جميلة قفص بنتون لينطلق منه مجموعات من النحل لتباغته أحدى الشغالات بلذعـة مفاجأة بوجه بين حشود النحل التي جعلته يصيح حاميًا وجهه بمعصميه :
-يخربيتك عيني !! مش عاوز لا عسل ولا نحل ، توبت يا ستي !! دانت وش فقر ..
•••••••••••
~العزايزة (مساءً) …
تحركت خليفـة ويتبعه جابر بخطى سريعـة وهو يأمره :
-فتح عينيك يا جابر ، رجالتك تتنشر في كل شبر في النجع .. أديك شايف بوابات النار مفتوحة في وشنا من كل ناحية !!
-أوامرك يا عُمـدة .. عرفت الحديت الداير في النجع ، عاوزين يقيلوا العمدة ويمسكوها لحد تاني ..
حُقن وجه خليفة بالقلق من المستقبل، فأتبع :
-لغاية دي ما يحصـل عينك تبقى مفنچلة على الرايح والچاي ، عرفتوا مكان نچاة ورؤوف !!
أومأ جابر بالإيجاب :
-عرفت يا بيه ، وكيف ما أمرت ، حطيت حراسة عليهم لأحسن صديق يضرهم ومن غير ما يحسوا ..
-الله ينور عليك يا جابر ، يلا شوف شغلك ، وأنا هروح أشوف هارون وصل لأيه …
~بالداخل ..
خرج هارون من غُرفة مكتبه الصغيـرة بعد ما عبأ خزنة سلاحه متجهـًا ناحيـة غرفة ، فأوقفته زينـة الهابطة من أعلى :
-هارون .. يا هارون .
وقف على مضض :
-خير ، عاوزة أيه ؟!
حاولت الاقتراب منـه محاولة لمس كتفه :
-لساتك شايل ومعبي مني !! هارون أنتَ مش هترجع عن قولك وتاچي تنور فرشتك چاري !!
تأفف بامتعاض وفي هذه اللحظة خرجت ليلة من الغُرفـة حاملة دورق الماء الفارغ ، فتسمرت مكانها عندما رأته يقف مع زينة ، اشتعلت النار بقلبهـا ، أنصبت غيرةً الأنثى بجوفها وهي تحرقهما بنظراتها ، اختصر هارون حديثها بحدة :
-زينة ، فضناها السيرة دي ، قولي عاوزة ايه ؟
رمقته بنظرة الشر وهي تطلب منه :
-امي عيانة عاوزة أروح أزورها ، وأنت چوزي وراجلي ولسه كلمتك عليّ ..
لم تتحمـل رؤيته يقترب منها ، فسارت بخطوات واسعة وهي تتعمد ألا تناظره متجهة نحو المطبخ تحت نظرات زينة الخبيثة ، شم المحب رائحة حزن حبيبه ، فاختصر الأمر مردفًا :
-روحي مطرح متروحي ، أنتِ مش لازماني ولا تخصيني ، أنتِ بت خالي وبس ..
ما رمى قذيفة كلماته تركها تحترق في نار شرها وهي تتوعد له قهرًا :
-طب يا هارون أنا وراك والزمن طويل…..ويانا يا الحرباية دي …
وصل هارون لغرفة أحلام الجالسة مع رغد ، ألقى التحيـة بتأدب وجلس بجوار أحلام ليطمئن على صحتها ، فأعقبت بحنيتها عليه :
-تِقل الحِمل عليك يا ولدي صُح !! بس أنت كدها يا هارون .. كل اللي بيحصل ديه بدايـة الفرچ يا حبيـبي …
تنهد بكلل :
-العزايـزة مقلـوبـة على أبوها يا أحلام ، لت وعچن كاتير قـوي وو
ثم رفع أنظاره لرغد الصامتة وسألها :
-أخبار صحتك أيه ؟!
أومأت بخفـوت :
-تمام ….
-حجزت لك دكتور في قنـا تتابعي الحمل معاه ، الصبح تاخدي هيام وتروحوا .. واد أخوي لازمًا صحته تبقى زينة …
رمقته بنظرات يملأها الخوف :
-مفيش داعي ، أنا وهاشم اتفقنا أن البيبي هننزله ..
فجر غضبه الشديد بوجهها :
-انتي مين وهاشم مين !! مش بكيفكم !! أنتوا عقلكم راح فين ؟! اتفقتوا على قتل نفس ربنا خلقها !! ليه ؟! هتكفروا ؟!!!
جاءت ليلة راكضة على صوته الصاخب ، قفلت الباب خلفها بقلق وهي تترك ابريق الماء على الطاولة:
-هارون في ايه !!
تدخلت أحلام محاولة تهدئته :
-وحد الله يا حبيبي ، مفيش حاجة هتحصل ..
رفع سبابته بوجه رغد محذرًا :
-اسمعي يا بت الناس، أنا هقف في وشي أخوي ومجلسنا والعزايزة عشان ولدك ديه يچي في حلال ربنا ويتربى وسطينـا ، متصغرنيش أنتِ وتيچي تركبينا ذنوب نعيشوا بيها باقي عمرنا .. أحنا مش ناقصين .
وقفت ليلة أمامه من شدة خوفها على رغد إثر غضبه المتطاير :
-هارون ، أهدى ، هي ملهاش ذنب عشان تكلمها كده !! ممكن تهدأ …
عبر عن سخطه قائلًا :
-دول بيتكلموا على القتل كانهم هيدبحوا فروچة …
دخل هاشـم من الباب بعد ما أمره أبيه ان ينتظره في غرفة أحلام ، في نفس اللحظة التي غادرت فيها القصر لغرض ما برأسها .. وما أن هل طيف هاشم ، دار أخيه إليه :
-أهلاً !! أهو البيـه شـرف ..
قفل الباب خلفه وهو يترك قبعته على الطاولة متأففًا :
-مالك يا هارون حسك چايب لأول الباب ..
ابتعدت ليلة عن هارون لتحتوى رغد التي تراقبهما بخوف شديد، فأتبع هارون بسخط :
-والمفروض أخدك بالحضن لما أعرف أنك ناوي تموت ضناك!! كان فين عقلك ياخي حرام عليك .. ذنبه أيه العيل ديه !!
وقف بوجه أخيه كالجبل الجليدي :
-دي موضوع يخصني أنا ومرتي بس يا هارون مالكش دخل فيه !!
ركل الطاولة بقدمه وهو يثور بوجه أخيـه صارخًا :
-أنتَ مصنوع من أيه !! ماعارفش تكون راچل للاخر !! قابلت واحدة وعچبتك واتچوزتها ، وضربت الكل برچلك وچاي دلوق تقول مش عاوز أكمل !! غرقت وبتكمل غرق وچاي عاوزني أسيبك ..
دارت الحرب بين الأخوة ، فخرج هاشم عن صمته صارخًا :
-أنا مش ندل يا هارون وعلى عيني اقتل ولدي واستغني عن الست اللي حبيتها .. بس سكينة الدِنيـا سرقانا كلنا ودايما تجبرنا نختاروا حاچة واحدة وبس ..
ضرب أخيه في كتفه موبخًا :
-يبقى لازمًا كفة مرتك وولدك هي اللي. تطب ، اصلا مفيش اختيار ، مفيش يا وِلد أبوي !!
تحول وجهه لقطعة فحم متقدة :
-وأنت عاوزني أعمل أيه وأنا بحارب أبوها كل يوم ، عاوزني أجيب عيل للدنيا العرف والدنيا رفضاه !! اجيب عيل ابوه ميت على يد جده ولا جده قاتل أبوه؟! قول لي لما اكتشف أن أبوها ارهابي وهي عارفة وضع شغلي المفروض أعمل أيه !! حط نفسك مُطرحي يا أخوي ..
لم تتحمل إهانته ، فخرجت رغد عن صمتها كي لا يرمى على عاتقها الوزر :
-زي ما أنا خبيت ، أنت كمان خبيت يا هاشم ، محدش فينا أحسن من التاني، لا أنت اخترت اهلك الرافضين جوازنا ولا انا اخترت أن ممدوح الشيمي يبقى أبويا ، زي ما أنت هربت من أحكام بلدك ، أنا كمان هربت من نسبي لاب زيه !! انا بالنسبة له يتيمة ، وكل اللي أنت بتقوله ده مش ذنبي ..
ذهلت عيني هارون من فتح صحف الحقائق أمامه ، لمس العذر لأخيه الذي خيب أمله للحظة وفي نفس الوقت لم يحمل رغد عاقبة أبيها ، من البداية هناك خطأ اُرتكب ولا بد من إصلاحه .. تدخل هاشم محاولًا تهدئة رغد :
-رغد انا مش ضدك اسمعيني ، ولا عمري هبطل أحبك ، كل الفكرة أن الطفل ده أحنا بنظلموه لو جيه الدنيا ..
رفعت ليلة أنظارها لهارون تترجاه ألا يطاوع أخيـه في طلبه ، مسح هارون على وجهه مفكرًا ثم وقف أمام أخيه :
-اسمع هما كلمتيـن مالهمش تالت ، أنت مشيت مشوار يبقى تتحمل نتيجته للآخر ، محدش أجبرك تروح تتچوزها وتدخلها حياتك من غير ما تسأل عليها ، من بكرة الصبح عقد چوازكم يبقى رسمي حتى ولو هترسى أنك تسيب الشغل والعزايزة وتاخدها وتسافروا برة البلد ، سامع يا هاشم !! وديه أمر من أخوك .. دم العزايزة مش هنهدروه .
ما ألقى قذيفة أوامره التي لا تقبل الجدال ، فولى ظهره منصرفًا من البال الخلفي .. تدخلت أحلام وهي تؤيد حديث هارون :
-كلام أخوك عين العقل يا ولدي .. ده الصح ، عمرك ما هترتاح من ذنب قتل ضناك بيدك ….
ثم أرسلت نظرة آمرا لليلة التي تستشيرها في اتباع خُطى هارون أثناء محاولاتها لتهدئة رغد التي صرخت بوجهه مُعلنة رغبتها في طلاقها منه ، وأما أخذت الإذن هرولت خلفـه بعد ما قالت :
-رغد هرجع لك إهدي ..
وقفت أحلام بوجه هاشم قائلة :
-بكرة تكتب رسمي على مرتك ويحصل اللي يحصل ، بزياداكم كسير في قلوب بعض .. سمعت يا هاشم .
تحدتها رغد الغارقة في بحـور حُزنهـا والتي ضربت الدوار رأسها إثر ارتفاع ضغط الدم المفاجئ :
-أنت هتطلقني ، أنا مستحيل أعيش ولو ليوم واحد معاك …
ما انتهت من قول جملتها اختل اتزانها فأحس بعد ثباتها وهي تحاول أن تتمالك حتى انتهى بها الحال ساقطة مغشيًا عليها بحضه وهو يصرخ باسمها ملهوفًا :
-رغـد !!!!!!!
•••••••••••
الجميع يقول أنّ عيناي ممتلئة بالنجوم، لم يعرف أحد بأنني أحملك بداخلهما .. أتبعت سيرها نحو البيت الخشبي وهي تلتفح بالوشاح الصـوف فوقها من قسوة البرودة ، اتبعت أثر صوت صراخه وتكسيره بالغرفة ملهوفة وهي تركض تتسابق مع المسافـة .. وصلـت لأعتاب البيت مرددة اسمه بلهفة المُحب :
-هارون !! أنتَ بتعمل أيه ؟!
ثم أمسكت يده مترجيـه :
-لو سمحت الغضب مش حل ، أهدى عشان خاطري .. ممكن تقعد ..
جلس على طرف المقعد الخشبي وهي يمسح أثار قطرات العرق من فوق جبهته ، فتولت عنه هذه المهمة وهي تجفف بطرف شالها ملامحه المبللة .. ثم سحبت المقعد لتجلس أمامه وهي تحدثه بنبرة خفيضة :
-اهدى عشان خاطري أنا جمبك أهو ..
ثم مررت أصابعها على وجنته وهي تواصل حديثها :
-هاشم معزور يا هارون ، ورغد ملهاش ذنب .. ممكن تهدى ونفكر بالعقل ، أنت عُمرك ما كُنت عصبي كده .
أخذ يضرب سطح الطاولة الخشبية بقبضـة يده محاولًا تمالك غضبه :
-الدنيا مدربكة فوق دماغي يا ليلة !! كل ما أسد طاقة تتفتح عشرة غيرها ..
-أنا عارفة يا هارون أن الحياة صعبة وبالذات عشان أنت الكبير ، بس أهدى وهنحل كل حاجة ، أنا معاك مش هسيبك..
ثم ربتت على رُكبته :
-أنا هقـوم أعملنا فنجانين قهوة ونشربهم سوا ، وتحكي لي على كل حاجـة ونحلها ما بعض .. اتفقنا !! هاااه هارون بص لي وقول اتفقنا ..
تنهد بكللٍ :
-تمام يا ليلة ، هغير اللي لابسه بس تكوني خلصتي القهوة عشان مصدع ومشربتش طول اليوم .
نزل الوشاح من على كتفيها لتبقى بملابسها البيضاء الرياضيـة ، وشرعت في إعداد فنجاني القهوة محاولة تلطيف الأجواء حولهما .. نظرت له مستأذنة :
-هارون ، هاخد موبايـل اشغـل حاجة ..
نزع جلبابه وهو يخرجه ” بيجامته” من الخزانـة وقال بصوت خافت:
-يا ريت أي حاچة تعدل الراس ..
فتحت هاتفـه وبعد تفكير لحظي سألته :
-تسمع منير !! هو اللي بيروقك صح ..
انتهى من ارتداء بنطاله الأسود الفضفاض ، وتقاعس عن ارتداء سترته العلويـة فتركها على ظهر المقعد قائلًا :
-لا ، عاوز اسمع حاچة على ذوقك ..
ثم دنى منها طاويًا صُحف همومه وهو يداعب وجنتها الناعمة :
-الليـلة ليلتك ، شوفي هتنسيني كـيف هموم العزايـزة .
توردت وجنتها بارتياح :
-أنا مش هسيبك غير لما نحل كل المشاكل دي .. وأرجع أشوف ضحكتك تاني ..
ثم تدلت عينيها على صدره العاري :
-أنت كده هتبـرد ، ألبس كويس .
سافرت المشاكل من رأسه من نظرة واحدة منها وهو يحاول احتضانها ، فتحججت هاربـة :
-القهوة ….
فرت من يده لتُكمل صُنع القـهوة بعد ما اختار أغنية سيد مكاوي ( حبيبي اللي بحبه ) .. تركت الهاتف من يدها وهي تتمايل على كلمات الغنوة المصرية القديمـة .. سكبت القهوة وعادت نحوه متبسمة :
-وأدي يا سيــدي القهوة .. دوق وقول رأيك .
جلس على مقعده أمام فنجان قهوته تحت غيث نظراتها المتأرجحة حتى غلبها طيف الابتسامة لتقـول خاصـة بعد قول سيد مكاوي جملته “خلانى عشت جنبه أحلى و أجمل ليالى “:
-تعرف كل يوم بسأل نفسي ، اشمعنا أنت الشخص اللي حبيته ولقيت نفسي معاه .. هارون اشمعنا أنتَ بالذات يعني !
ارتشف رشفـة من قهوته ليقـول بمزاحٍ :
-سيد ميكاوي چاوبك في بداية الاغنية ..
تبسمت بهدوء :
-طيب اشمعنا أنت اللي لقيت فيك كل ده !! أقولك على سر ، أول يوم اتقابلنا فيه كنت رخم رخامة !! بجد أنتَ ليه كنت تعاملني وحش كده … يعني مخطفتش قلبك ليه من أول نظرة زي كل قصص الحُب اللي قريت عنها !!
عقد حاجبـه متأملًا صفاء روحها :
-ما يمكن كنت رخم عشان خطفتي قلبي من أول ما شافك ، أصل عقلي ماعيعجبهوش الحال المايل .. فكُنت بكابر .
-معنى كده إني خطفتك من أول يوم قابلتني فيـه !!
تنهد بحرارة :
-هو أنتِ مسألتيش روحك ليه بعد ما سبتك في وسط الطريق رچعت تاني !! رچعت وأنا مش عارف إيه رچعني ، بس قلبي مطاوعنيش أهملك لحالك ..
-يعني مش عشان شهامة صعايدة مثلًا !!
ارتشف آخر رشفـة من فنجانه وبعدها أطلق ضحكـة خفيفـة :
-ما قلبي ضحك عليّ وفهمني أنها شهامـة وكِده ، بس طلع له رأي تاني وغاواني وغرقني ..
تركت قهوتها ووثبت لعنده ، وتحديدًا وقفت وراء ظهره وهي تحضن كتفه من الخلف وتُتمتـم معترفـة :
-تعرف من وقت ما كنت بلم فيـه شطنتي في اسكندرية، كُنت حاسة أن في بداية حدوتة مستنياني في قِنا !! كنت متحمسـة أوي وكأن قلبي كان حاسس أنه هيقع في حُب راجل مهم زيك …
ساد الصمت للحظات تتذكر فيـها حياتها السابقـة حتى طوت دفاتر الماضي وداعبت وجنتـه بحنان وفيـر :
-كل يوم بشكر ربنا أنه جمعني بشخص زيك ، أنا كنت بحبك ، بس لما شوفت وقفت قُدام هاشم و ازاي بتدافع عن بيبي لسه مشوفتهوش ، حبيتك أكتر ، اتاكدت إني اخترت صح يا هارون ، خلتني اطمن اكتر واثق فيك أكتر أن مهما حصل أنت هتفضل في ضهري ومش هتسيبني ..
عزفت على أوتار قلبه بجملة كلماتها الدافئة التي فرغ رده عليها بقبلة طويلة بداخل كفها ثم أتبع خلفها :
-قدرنا بقا واحد ، وأنا اختارتك بقلبي وعقلي، ومستحيل يوم أفرط فيكي لو فيه موتي …
تسللت أصبعها فوق نبتات ذقنه الصغيرة كأنها تعزف عليهما بخوفٍ :
-بعد الشر عنك ، ماتقولش كده عشان خاطري .. وبعدين أنا مش عايزة أشوفك مضايق كده .. لما نبقى سوا ممكن تنسى كُل حاجة وخليك معايا وبس .
ثم تركته متذكرة شيء ما أفسد عليهما صفواهم :
-هي زينة كانت عايزة منك أيه !! ومقربة أوي منك وكده يعني !!
بعد ما سافرت بقلبه لسابع سماء ، أسقطته على فخ واقعـه الذي يحاول الهرب منه دومًا ، وثب فجأة ليعترف لها :
-كانت عاوزة تزور أمها وبتاخد أذني ..
توهجت نيران الغيرة من وجهها :
-يا سلام !! واديتها الأذن !! ممم ما أنت جوزها وكده ، طيب يا هارون وو
سد عليها طريق الرحيل لينقذ نفسه قائلًا :
-قولتلها أنها متخصنيش وماليش كلمة عليها .. يعني تروح مطرح متروح ..
رمقته بشك أطفاء حرقة غيرتها :
-ممم والله !! طيب تمام .
-ليه الوش ديه عاد ما كُنا حلوين !!
اتكأت على طرف الطاولة وهي تتجاهل التطلع بهِ ، فدنى منها كاسرًا حاجز المسافات ، ففزعت كالملدوغـة بعشوائية لتسكُب فنجان القهوة على ملابسها البيضاء صارخة :
-يانهار أبيض، القهوة ادلقت عليا يا هارون ، همشي أزاي كده !! شايف كل ده بسببك .. ها اتفضل قـولي اتصرف ازاي ..
حك ذقنه مُفكرًا وهو يحضر لها قميصـًا طويلًا من ملابسـه :
-طب ادخلي غيري ، وألبسي ده .. عشان نغسله ..
اعترضت بحزمٍ :
-لا طبعًا ، أنا هكلم هيام تجيب لي هدوم وتيجي هنا …
-ليلة هيام نامت تلاقيها ، وبلاش تعرفي حد إنك هِنه .. غيري وهغسلهولك أنا ياستي ، ساعة وينشف .
شدت منه القميص على مضض وهي تذهب للحمام متأففة محاولة ازالة أثر القهوة ولكنها فشلت تمامًا ، شرعت في تغير ملابسها مرتدية قميصه الأبيض الذي يصل لفوق ركبتها وشرعت بتنظيف ملابسـها تحت صنبور الماء المتدفـق وهي تلعن حظها :
-البيچامة اللي بحبها باظت ..
بعد محاولات عديـدة في تنظيفها يائست وتركتها بالحوض وخرجت له شاكية :
-هارون البيچامة باظت خالص .. ودي أكتر بيچامـة بحبها ….
فرغ من صُنع فنجان آخر من القهوة وهو يلتفت لها على عين غُرة بأن يُصيبه سهم جمالها في مقتـل .. من رأسها للكاحل لسحرها الطاغي في ثوبه الأبيض الذي يزيدها زهوة ورغبة فيها .. أدرك للتو مقاصد الأقدار التي هيئتها له ليراها في هذه اللوحة الساحرة من الجمال ، أنها لم تكن أبدًا كخِطة بديلة أو عوضًا عن عمر انقضى بل كانت الحلول الحلوى كُلها .. أدرك على ضفة حُسنها أن من هنا ابتدى الطريق والسفر والأمل والحُب ورحلة السلام بين طرفين اختارهما القدر ليكونا بدون حواجز ..
فما ستكون رسالة القدر تلك الليلة !! عما ينوى ليلقى تعويذتها على عقل رجل غاص بمقاصدها وبتفاصيلها حتى الغرق ..
وبنظرة شملت كل ما بهٍ معلنـة رغبته فيها بصورة حتميـة كأن نهاية الكون غدًا ، ومطامع الهوى واجبـه ..
كررت جملتها :
-هارون بكلمك !! روحت فين !!
-هااه مش مهم ..
-هو أيه اللي مش مهم !!بقول لك بيچامتي باظت ..
ترك القهوة من يده ثم تأكد من غلق الباب وكأن رمى الحياة برُمتها بالخارج وقفل عليها بحياته فقط ، عاد إليهـا وكأن اليوم يمضي بخفة أرواحهم المتيمـة كما لو إنهما يسكنان على جناح طائر .. دنى منها وهو يأكلها بعينيـه :
-هاه فين المشكلة ؟!
-هارون .. مالك ، منا قولت لك بيچامتي باظت من القهوة ومش راضية تنضف وو الحل أيه دلوقتِ ؟!
مرر إبهامه على شفتها العلوية ووجنتها بشوق متدفق ليقول متأملًا كأنها آخر معجزات الزمان :
-تعرفي إنك أجمل حاچة في حياتي !!
شقت الابتسامة وجهها وهي تتراجع خطوة للخلف :
-أنت بقيت كويس خلاص!
طوى المسافة الفاصلة بينهمـا :
-لا لسـه ؟!
خيم اليائس فوق ملامحها :
-بردو !! طيب قولي ممكن اساعدك أزاي عشان تبقى كويس !! في حاجة أقدر أعملها .
ارتطم ظهرها بالحائط لتقع تحت حِصاره وهي تسمعه يردف بنظراتٍ أول مرة تشاهدها :
-تقدري تعملي كُل حاچة تخليني أسعد راچل في الدنيا دي ..
فكرت متحيرة في أمره مكذبة تلميحاته التي احسها قلبها وقالت بعفوية :
-ممكن أحكي لك حدوتـة هتعجبك أوي ..
عقد حاجبيـه معترضًا :
-لا كبرت أنا على الحواديت دي..
تحول لطفلًا مراوغًا أمامها وسيد الرجال بينهم ، غمغمت للحظة وهي تسبح ببحيرة عينيه التي تنتويها حُبًا :
-تحب نرقص سوا ؟! أيه رأيك ..
يبدو ان الفكرة راقت له :
-وماله ..
-نرقص على منير ؟!
-لا اختاري أنتِ ..
-في أغنيـة حلوة أوي ، كنت ناوية نرقص عليها سلو يوم فرحنا .. اسمها ” أنتَ أعظم انجازاتي ” هتعجبك !! تحب تسمعها !!
-نشوفوا .
هربت من تحت ذراعه وهي تمسك الهاتف بكفها المرتعش تبحث عن الغنوة التي نسيتها تحت مظلـة نظراتـه .. فسألته :
-هي اسمها ايه !! ااه خلاص افتكرت أهو ..
شغلت الموسيقى الهادئة وبمجرد ما تركت الهاتف من يدها فوجئت بيده الممدودة إليها والأخرى التي تحوى خصرها .. لبت ندائه بجسد مهزوز يتنبأ بمصيره معـه .. بدأ الاثنين التمايل على الكلمات ولكن الفارق بين الرقصتين ، أن النظرات أجرأ ، اللمسات أرق ، المسافات معدومـة .. تعجب إثر تنهيداتها المتكررة، فسألها :
-خايفـة !!
-لا عمري ما أكون خايفة وأنا معاك ، بس متوترة شوية ، لا انا متوترة كتير !!
ثم أطلقت تنهيدة عالية :
-هارون ؛ هو فيه أيه ؟!!
سيطر على ظهرها بكف يده وهو يعلن تملكها أبديًا :
-لو قلبي فلت زمامه وغواني ، وقفيني ..
-يعني أيه ؟!
غمز بطرف عينيه وهو يضمها ويترك يديها حول رقبته متوليًا أمر السيطرة على خصرها :
-ركزي فالرقص …
تعلقت بحضنه وهي تهديه كلمات الاغنيـة :
-أنت كل انتصاراتي يا هارون .. أنا خسرت كُل حاجة وفوزت بيك ..
فأتبعت كلمات الغنوة مرنمة ” بيت أمان في وسط غابة ” .. حضنها بقوة وكأنه أراد أن يذوب كل قلقها في صحـن حضنه ، فلبت النداء بدون أي مقاومـة .. تشبثت بعقنه كالغريقة التي تعثرت بطوق النجاة وهي تعترف له بحزن وخيم :
-ليا يومين بكلم مامتي مش بترد عليا يا هارون ، هي ممكن تكون زعلانة مني .. أنا أسفة بس هي وحشتني أوي ونفسي أصالحها ونرجع عيلة كلنا ، نفسي تتعرف عليك ، وننسى كل اللي فات ، هي آكيد هتحبك زي ما أنا بعشقك !! ليه الدنيا عشان تدينا حاجة واحدة بس بتاخد مننا كل حاجة ، هي ليه بخيلة أوي كده ..
مسح على شعرها كأنه أراد أن يزيل من فوقها ظُلمة أيامها … في حَياة كل إنسان شَمس بشرية صَغيرة تُضيء حياته مثلما تضيء شَمس الدنيا العالم .. وهمس :
-وجودي چمبك مش كفاية !!
ابتعدت عن حضنه وما زالت أيديهم تتعانق ، وهي تعبر عن مشاعرها :
-عارفة إنه مش وقته ، بس كان نفسي تعرف أد أيه معاك ، عايزة أقولها إني لقيت الحُب اللي بجـد وياك ..
كفكف عبراتها بنفسـه وهي يُقبل جبينهـا ويطبع قُبلة اعتذاره فوق جبينها :
-كل اللي عاوزاه عشان خاطر يكون يا ليلة .
أنارت البسمة وجهها من جديد وهي تعرف له :
-بحبك ……
ثم أتبعت :
-ممكن تشغل الدفايـة الجو برد أوي !!
-مفيش غاز !! بس هو أنتِ بردانـة قوي يعني !!
أومأت رأسها بالإيجاب وهي تمسح على كتفيهـا:
-يا خسارة الجو شديد النهاردة .. وو
أمسك ذقنها ليرفع وجهها إليها ويقـول :
-بس أنا عندي حل ، يعني ممكن يدفيكي ولو منفعش ..
أحست برعشـة البرد تقرصها :
-ازاي …
-في سيرو بلدنا ، ميدفيش اللحم إلا اللحم !!
اتسع بؤبؤ عينيها بجهلٍ :
-يعني عايزنا ناكل لحمة دلوقتِ !! طيب ازاي!!
انفجر ضاحكًا على براءتها وهو يقول موضحًا ويقربها منه :
-يعني زي ما أنتِ ساكنة فكري ، عاوزك تسكني حضني !!
-وده أيه علاقته باللحمة !! هارون ، أنا مش فاهمة بجد … وبعدين قلبي بيدق بسرعة أوي ، سامع صوته !! ده دليل إني متوترة وو
في تلك اللحظة ضرب جرس الحُب بالسماء ليصدر رعدًا صاخبًا ويتبعه وهج منير ليزين وجه السماء ، وأمطرت السماء نجومها عوضًا عن الكهرباء التي انقطعت عليهما ، لترتمى في حضنه صارخة بفزعٍ:
-هارون ، الكهربا قطعت ..هارون أنت بتعمل أيه !!
أحست من لمساته المتحررة أن هناك صك إعلان ملكية يود أن يوثقه على جدار قلبها وهو يحملها بين يديـه مُعلنًا رغبته فيها هامسًا دواوين شعره التي كان يعزفها هيثم على مسامعه :
-أنا السَماء وأنت القَمر
وأود أن أكتفِي بيكِ كما تكتفي السّماء بقمرها…
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية آصرة العزايزة 2)