رواية لأجلها الفصل الحادي عشر 11 بقلم أمل نصر
رواية لأجلها الفصل الحادي عشر 11 بقلم أمل نصر
رواية لأجلها البارت الحادي عشر
رواية لأجلها الجزء الحادي عشر

رواية لأجلها الحلقة الحادية عشر
كلما همّت أن تطوي الصفحة، انتفضت السطور القديمة تصرخ فيها بأسماء الألم،
وكلما شدّت الرحيل، مدّ ماضيها يده من العتمة، يمسكها كما يُمسك السرطان بقلب الحياة.
تحاول النسيان، تُقنع قلبها أن الحياة تمضي،
لكن الماضي بارعٌ في التمثيل، يتزيّن بثوب الفرصة الثانية،
ويخفي أنيابه خلف وعودٍ ناعمة… ملساء كالسم.
هي لا تهرب، بل تنجو.
تتخبّط بين عقلٍ يعرف الحقيقة وقلبٍ يخذلها كلما نظرت في عيني ابنتها.
تريد أن تقف… أن تقول: “انتهى”
لكن النهاية ليست لها، بل لمن يملك الكارت الذهبي: طفلتها.
أما هو…
فلم يكن يومًا وطنًا، بل كان منفى.
وهي اليوم بين المنفى والمنفى،
تبحث عن قطعة أرض لا يطالها الخراب.
المراجعة والخاطرة للجميلة بزيادة اوي #سنا_الفردوس
……………………………
ثلاثة أيام مرت عليه في بناء المنزل المجاور لمنزلها، رجال يعملون دون توقف حتى أنجزوا جزءًا لا بأس به من الأساس، وبعض الحوائط تم بناء نصفها. يمر يوميًا صباحًا ومساءً لمباشرة العمل، وكي يتخذها حجة للقاءها أو حتى رؤيتها، ولكن هذا لم يحدث سوى مرة أو مرتين بصعوبة؛ مرة حين أبصرها وهي تلقي شيئًا ما من فوق سطح المنزل، ومرة أخرى وهي تودّع إحدى النساء من أقاربها. وفي المرتين لم تُعجبه، لم يرَ بها شعاع التحدي وتلك العزة التي تميزها. هناك خطبٌ ما لا يعلمه.
حتى ليلى، الجميلة الصغيرة، حين تمر عليه أثناء ذهابها للمدرسة أو دروسها بعد ذلك، ملامحها منطفئة، فاقدة للإشراق الذي عرفها به. كم ودّ أن يُحادثهما مباشرة ليعرف السبب. حتى وصفي مختفٍ هو الآخر في عمله خارج المحافظة. تقتله الحيرة، وتطيح الظنون برأسه، وإن تحدّث عمّا يقلقه مع شقيقه الذي يعنيه الأمر هو الآخر، لا يضمن رد فعله المتهور الذي قد يفسد كل شيء.
لذلك، قرر اليوم استخدام عقله بشيء مختلف، ربما يأتي بنتيجة؛ حجة تمكّنه من طرق باب المنزل بعذر حقيقي.
فتح باب المنزل الحاجز بينها وبينه، ليملي عينيه بالملامح الفاتنة فور أن أطلت أمامه.
– صباح الخير، عاملة إيه يا ست مزيونة؟ ألقى التحية قبل أن يُردف أمام عينيها المتسائلة: – دا ريان ابني على فكرة.
أشرقت فور أن علمت بصِفة الصغير، ليفترّ ثغرها بابتسامة غابت عنها لأيام، ترحب به: – يا أهلاً بريان باشا، بسم الله ما شاء الله عليه، دا راجل كبير أها! ليه بتقول عليه صغير؟
تبسّم بملء فمه وهو يراقبها تضم صغيره إليها وتقبله، دخل في قلبه شعور بالسعادة حاول السيطرة عليه، حتى استعاد اتزانه بنبرة جعلها عادية في مخاطبتها: – آسف لو خبّطت من غير استئذان، بس أنا باستأذنك تخليه معاكم النص ساعة دي على ما أخلّص مع الرجالة اللي شغالة برّه، وآخده وأروح بيه. المنطجة جديدة عليه، ومفيش حد من سِنّه يلعب معاه..
همّت أن تُجيبه بالموافقة، ولكن سبقها الصغير بقوله: – ما أنا بقولك أشتغل معاهم، إنت اللي مش راضي، فاكرني صغير.
اتسعت ابتسامتها ردًا على ذاك المشاغب الصغير: – يا بوي، ما أنا بقول كبير وراجل! بس مفيش مانع لما تآنِسنا وتشرفنا يا أستاذ ريان في بيتنا المتواضع، ولا إيه رأيك؟
طفا على وجه الصغير بعض الخجل، ليثير دهشتها في موافقته بإيماءة من رأسه، فهتفت منادية لابنتها: – بِتّ، يا ليلى، تعالي هنا.
أتت الأخيرة على النداء، تقابل ريان ووالده مهللة ببشاشة: – عم حمزة! ومين العسل اللي معاك دهِ؟ – والله إنتِ اللي عسل يا بنيتي. تمتم بها حمزة قبل أن يأتي الرد من والدتها: – دهِ ولده ريان يا ليلى، جاي مشرفنا النهارده شوية، إيه رأيك بجي؟
– وه، دا يآنِس ويشرّف طبعًا، وإن ما شلتوش الأرض تشيله عنينا.
وهكذا كان ردها، في سحب ريان من يده لدخول المنزل، فتيبست قدماه هو عن الذهاب، ليتحمحم يجلي حلقه قائلاً: – كنت عايز أسألك، لو الأصوات أو الرجالة حد ضايقك فيهم، أنا مش هتهاون مع أي حد.
نفثت معبّرة عن امتنانها: – لا والله، ما في حد فيهم اتجرأ ولا بص حتى. دا عم مغاوري كبير الغُفر، جاعد فوق راسهم زي الددبان، تسمع غير زعيجه فيهم. رغم إني لما اتعاملت معاه مباشر امبارح وأنا طالعة أجيب خضار، كان في منتهى الزوق والاحترام، وهو بيحلف عليّا ويصر إني أرتاح، وخد مني الفلوس وبعت حد من العيال اللي شغالين معاه، راح هو واشترالي اللي عايزاه، بصراحة راجل محترم، الله يبارك له.
اجتاح حمزة شيء من الفخر نتيجة كلماتها، يغمره الارتياح لاختياره المميز لرئيس عماله في الأرض أن يكون هنا، ويتحمّل المسؤولية في حمايتها ورعايتها هي وابنتها بصورة غير مباشرة. ولكن فرحته كانت منقوصة بذلك الحزن الذي يراه ساكنًا بعينيها: – إنتِ في حاجة مضايجاكي يا ست مزيونة؟
حرّكت رأسها بنفي سريع: – لاه، ليه بتجول كده؟ – بجول كده عشان شايف بعيني، دي مش طبيعتك أبدًا، وآسف يعني لو بدخل.
طرقت برأسها بصمت جعله يفهم أنها لا تريد الإجابة، ليضطر للاستئذان، وداخله يقسم على معرفة السبب الذي أدى بها إلى ذلك. لهذا لم يكن غريبًا أن يهاتف شقيقها فور أن ابتعد عن المنزل: – أيوة يا وصفي، إنت جاعد فين؟ نعم، يعني جاعد في بيتك دلوك… راجع من الشغل؟ طب استناني، جايلك حالًا. أنا عايز أشوفك النهارده ضروري.
……………
في منزل عرفان حيث صفا، التي تعمل في تنظيف منزله، بغلٌ يجعلها تفتعل الإزعاج عن قصد، فكانت تدور كالنحلة حوله، وهو جالس في هذا الوقت يدخن أرجيلته ببرود وتجاهل، ينفث الدخان في الهواء غير عابئ بها ولا بالنيران التي تحرق أحشائها منذ ثلاثة أيام، منذ معرفتها بالعرض الذي عرضه بشهادة الأربعة رجال حتى يلين رأس الملعونة غريمتها. قلبها يسقط أسفل قدميها كلما راودها هاجس موافقتها والعودة إلى عصمته. سوف تكون سيدة الدار هذه المرة، سترد ما ظلت تفعله بها هي وابنتها على مدار سنوات. يا إلهي، إنه أسوأ كوابيسها… أن تعود لتلك النقطة السوداء.
أن تفتعل جريمة خيرٌ لها من أن يحدث ذلك، حتى لو اضطرت لقتلها…
دوى صوت تهشيم الزجاج الذي تحطّم بين يديها، ليسقط أسفلها على الأرض بصورة أجفلت عرفان وجعلته يتخلى عن بروده في أن ينهرها: – الله يخرب مطنك يا بعيدة! خيبتي يا مرة، إنتِ تكسّري جزاز النيش؟ دا لو عيّل من عيالك اللي عملها، ما حد كان جاب صوتك دلوك.
دنت تميل نحو الكاسات المتناثرة على الأرض وتلملمها، تبرّر فعلها بهدوء مستفز: – باب النيش اتقلع في يدي وأنا بمسحه، وطيح الكام كاسة دول من غير جصد، حاجة مش مستاهلة أعصّب عليها نفسي أصلًا.
– وُووه… تمتم بها بذهول، يضع كفًّا فوق الآخر مردفًا: – اسم الله على العجل والكمال، طب ربنا يديمها عليكي يا أختي، بس أنا مش هدفع ولا مليم في تصليحه، واللي كسر حاجة يتكفّل هو بيها بلا جرف!
ختم كلماته ليعود إلى جلسته الأولى في تدخين الأرجيلة، ينفث بها غضبه، أما هي فقد فاض بها لتترك كل شيء من يدها، وتندفع إليه بسؤالها:
– طب أنا عايزة أتأكد من الأخبار اللي وصلتني، ولا ريّح جلبي وكدّبها أحسن… إنت صحيح ناوي تردها بالوعود اللي سمعتها؟ ولا هو تأليف من الناس، بيزودوا وينجصوا فيه من عندهم عشان يفرسوني؟ إنت لا يمكن تبقى مغفل كده!
– مغفل؟ غمغم بها محدّثًا نفسه، ثم رفع عينيه بعدها إليها بوهج الخطر، مردفًا: – لا صدجي يا صفا، أنا راجل مغفل وجابل أكون مغفل، ولو إنتِ مش عاجبك تبقي مرة المغفل، يبقى لمّي عيالك وهدومك وغوري وسيبيه، الباب مفتوح على آخره.
اهتزت في وقفتها وكأنها ضُربت بمطرقة حديد على رأسها، لا تستوعب سهولة نطقه لها. أيُعقل أن يستغني عنها بحق؟ – ألمّ هدومي وأمشي أنا وعيالي يا عرفان؟ للدرجادي إنت بايع؟ وأنا اللي من يوم ما اتجوزتك جايدة صوابعي العشرة شمع! جالك جلب يا عرفان…
– يــوه… لفظ بها مقاطعًا نحيبها، يُلقي بالأرجيلة أرضًا ليضاعف من صدمتها: – جايدة في صوابعك ولا في يدك حتى! أنا جيبتلك النهاية، وإنتِ ليك القرار… بلا وجع دماغ!
توقّف برهة قبل أن يغادر، يطالعها بنظرة غامضة مردفًا: – بس الحق يتجال، أنا نفسي مستغرب شوقي اللي جدّ فجأة لمزيونة بعد سنين كتير كنت مدفي فيهم في حضنك، سايبها ومش شايفها أصلًا، رغم إني متجوزها وأنا ميّت عليها من الأساس. طب إيه اللي كان عامي عنيا، تفتكري؟… يكونش كان مسحورلي؟!
صفعها بالأخيرة، لتبرق عيناها نحوه وكأنه وجّه اتهامًا مباشرًا إليها. عيناه تناظرانها بتحدٍ في انتظار نفي أو تكذيب يضحض كل ظنونه. ولكن للأسف، ذلك الهلع الذي ارتسم جليًا على ملامحها ضاعف من الشكوك داخله. لينتفض في الأخير تاركًا إياها، وتسقط هي بثقلها جالسة على الأرض الرخامية، وقد خارت قواها، ولم تعد قدماها تساعدانها على الوقوف.
………………………….
بتجول إيه؟ عرفان مين دا اللي يردّها من تاني؟ إنت واعي للكلام اللي بتجوله من أساسه؟
هتف بها بغضبٍ أخرق نزع عنه صفة الحرص التي يتّبعها دائمًا، والرزانة في تحليل أمرٍ من المفترض ألّا يخصه، بعد سماع حديث وصفي، والذي عقّب هو الآخر ببعض العتب:
وه، خبر إيه يا حمزة؟ يعني هكون شارب مثلًا ولا متعاطي؟ أنا بجولك على اللي حُصل، عرفان لم الرجالة يشهدهم ويخرصني ويخرص أي حد بكلامه المترتب، الراجل جه وراصصهم، دي مزيونة اللي كانت هتهب فيه في أول الكلام، هي نفسها اتبرجلت، رغم إني عارف إنها مش بتطيجه، لكن متأكد برضه إن لأجل مصلحة بتها، ممكن ترمي نفسها في النار.
ارتجف قلبه من الداخل، أيُعقل أنها بالفعل تفكر في العودة؟ أن تكون قد بلعت الطُّعم من هذا الماكر؟ اللعنة، الآن قد يجزم أن عاطفتها القوية نحو ابنتها قد تقودها للهلاك.
طب أنا عايز أعرف دلوك، هي وافجت ولا لسه بتفكر؟ وعندها نية… للموافقة؟
وجّه سؤاله بحسم نحو وصفي، والذي أجابه بتشتّت هو الآخر:
بصراحة معرفش، لأنها ساكتة وبتفكر من يومها، مسكينة، الحيرة واكلّاها ما بين مصلحة بتها والعيشة مع واحد كارهاه بقالها سنين.
انتفض حمزة ناهضًا من جواره بثبات يُحسد عليه، رغم العواصف التي تضربه من الداخل، توشك أن تجعله يخرّ راكعًا من أجلها حتى لا تفعلها وتقضي عليها وعليه، ولكن ما الفائدة؟ والآخر يملك الكارت الذهبي… وهو ابنتها. أما هو، فماذا؟
رايح فين ما إنت جتعد؟
تحمحم يجيب وصفي بنبرة عادية أتقنها:
ورايا مشوار مهم للمديرية في قنا، عايز أخلّصه بدري، بس قبله هروح أطّل على الرجالة والشغل عشان أروّح ولدي كمان، أسيبك إنت ترتاح ونتلاجي العشيّة إن شاء الله، عن إذنك بجى.
……………………….
أما عنها، وقد كانت تتابع الصغير في هذا الوقت ومشاكسته مع ابنتها، التي غمرها الفرح بوجود من يؤنس وحدتها اليوم. لطالما تمنت أن تنجب أشقاءً لها، بعيدًا عن أولاد صفا التي تكرهها وكرهت الأطفال بها.
طفلتها الوحيدة، التي تحارب الدنيا بمن فيها من أجلها، تقتلها الحيرة منذ أيام من أجلها أيضًا. عرفان الذي قدّم عرضه، فاتحًا صفحة جديدة أمامها لمستقبل ابنتها، التي تتمنى رفعتها ولو على حساب كرامتها وعمرها أيضًا، ولكن…
عادت تشرد في حديثه، تستعيد كل حرف دار في تلك الجلسة حينما صرخت به:
(- يعني إيه القانون في صفك؟ هو إنت تعمل ما بدالك وتقول إن القانون في صفك! أنت من ساعة ما طلجتني أديلنا شهور، سألت ولا حتى شوفت اللي ناجصها، رغم إنك عارف تعليمها ومصاريفها اللي بالآلفات؟ دلوك افتكرت إنها بتك؟ هو إنت كنت أب ليها وأنا على ذمتك، عشان تبجى وأنا مطلجة منك؟)
كان انفعالها يبلغ أقصاه، هذا المتبجح يساومها على ابنتها وكأنه يقتلها بدمٍ بارد، ليظل على صمته وهدوئه متابعًا همهمات الرجال ومحاولاتهم تهدئتها:
اهدي يا خيتي، ليجرالك حاجة، بتك ملهاش غيرك زي ما جولتي.
اسمعي كلام أخوكي يا مزيونة، العصبية الشديدة دي غلط عليكي يا بتي.
يعني إنت عاجبك يا شيخ خميس إنه جاي يستغل موجف زي دهِ وحاجة مش في يدي؟ عاجبك يا عم جاد؟ عاجبك يا أستاذ نعيم؟
في هذه اللحظة تحدث عرفان، يصدم الجميع بكلماته:
أنا مش جاي أستغل ولا أَنبّك، أنا جاي أتصرف بناءً على اللي تم وحصل، أب وخايف على بته يا ناس. زي ما إنتي جلبك طاوعك تطلّعي السلاح على ابن الفرطوس اللي كان جاي يتهجم على البيت، أنا كمان جلبي واكلني من ساعة ما عرفت، وأنا لا على حامي ولا على بارد، مكتش سائل في البت، عندك حق. اعتبريني كنت غفلان ولا معمي بغضبي منك. لكن دلوك لاه، بعد اللي حُصل لاه، بتي لازم تبات في حضني يا مزيونة، أنا مش هستنى لما تحصل مصيبة.
توقف برهة عن متابعة خطبته العصماء يراقب رد فعلها، والهلع الذي غامت به ملامحها، صدرها الذي يصعد ويهبط بتسارع يثير تسليته، ليردف بعرضه ولهجة ناعمة ورزينة، لا تليق به:
عشان أختصر عليكي وعليا يا بت الناس، أنا جايب الرجالة دلوك أشهدهم جدامك، بنتي هدخلها أعلى الكليات، وكل اللي تعوزه من مصاريف لمدرستها أو لدروسها عليا، لا هجوّزها صغيرة، ولا هجبّرها على أي حاجة مش عجباها. بس إيه بجى؟ وهي في حضني، بين أبوها وأمها… أنا كنت جوزك وهفضل أبو بتك يا مزيونة، وإن كان تم طلاج ما بينا، فسهل جوي نرجع من تاني، إحنا مش أول ولا أخر ناس، وليكي عليا إثبات لحسن النية: مهر جديد، وشبكة جديدة، وحساب في البنك تضمني بيه تعليم بتك من بكرة حتى لو أنا رجعت في كلامي. إيه رأيك بجى؟ أنا كده عدّاني العيب يا جماعة.
عادت من شرودها تنفض رأسها من تلك الأفكار التي تحتلها، تريد الراحة والوصول لقرار سليم، تضع مصلحة ابنتها قبل كل شيء. لقد احتملت التهميش والذل لعدد من السنوات في منزله من أجلها، ولكن الأمر هذه المرة يخالف كل ما سبق، هذه المرة يريدها بالفعل، ترى الرغبة في عينيه بوضوح.
قبل ذلك كان المرض حجتها، كما أن صفا لم تُقصر في إبعاده بكل الطرق، وهذا ما كان يريحها رغم بغضها لأفعالها.
أما الآن وقد وعَت على غرضه الأساسي من عودتها إليه، كيف لها أن تحتمل معاشرة رجل مثله؟ رجل تقوده غرائزه، ولا يعرف معنى الرحمة في ذلك؟ إذن، ماذا تفعل؟ وهي مخيّرة بين مستقبل ابنتها وبين دفن نفسها مع رجل تكرهه؟ وإن صممت على رأيها، لن يتوقف عن تهديدها، وربما اتخذ حجة البيت القديم ذريعة أمام المحكمة ليضم صغيرتها إليه، اللعنة إن حدث ذلك!
استفاقت من شرودها على صوت حمحمة رجالية خشنة، أصبحت تعلم صاحبها حتى قبل أن يصدر صوته:
واد يا ريان.
سمع الصغير صوت والده، فانطلق على الفور كي يتلاقاه عند مدخل المنزل:
أيوة يا بوي، أنا جيت أها.
استنى يا ريااا…
قطعت بخجل حينما انفتح الباب فجأة، وظهرت بشعرها المنطلق أمام عينيه المتفرسة، قبل أن ترمي عليه طرحتها، مما أثار في قلبه مرحًا أخفاه في ضيق زائف، يوبّخ ابنه بلطمة خفيفة على رأسه من الخلف:
مش تخلي عندك ذوق يا حمار؟ دي عمايل رجالة ياض؟
خرجت إليه وقد أحكمت حجاب رأسها، تدافع عن الصغير:
لاه عاد، ريان عسل، متجولش عليه حمار. بس هو المرة الجاية هياخد باله وميفتحش غير لما يطمن إن الحريم مغطّين راسهم، صُح يا ريان؟
أومأ الأخير بطاعة:
صُح يا خالة مزيونة.
على قدر سعادته بقولها، وبعلاقة الحب السريعة بينها وبين طفله، على قدر خوفه من تبخّر أحلامه في الهواء، حتى عبّر عما يعتريه من توجّس مرددًا:
يعني إنتي واثقة إنه هيكون في مرة جاية؟ ولا هو كلام مرسل وفي يوم وليلة نتفاجئ إن البيت رجع مهجور من تاني؟
ذوّتت ما بين حاجبيها قليلًا، بتساؤل جعله يردف موضحًا:
أنا كت مع وصفي من شوية، وعرفت منه عن عرض عرفان اللي عايز يردّك ليه من تاني.
أومأت صامتة بحرج شديد، غير قادرة على مواجهة عينيه، لتضاعف من ظنونه، والهواجس التي تكتسحها.
أم ليلى، أنا بسألك على فكرة… هو إنتِ صُح ناوية ترجعي للراجل ده؟
أيضًا لم تجبه، أو هي بالأصح تبحث عن إجابة. ثقل ما تشعر به الآن أمام هذا الرجل كحمل الأحجار فوق الصدر، ولماذا معه هو فقط تكتنفها تلك المشاعر؟ لا تعلم. ليتَه ما عرف.
آآآ…
حاولت إجلاء صوتها والسيطرة على توترها لتردف وهي تجمع الكلمات بصعوبة:
أنا لسه بفكر، وأشوف يعني اللي فيه المصلحة ليا أنا وبتي.
مصلحة إيه؟ وهو في أصلًا مصلحة مع الراجل العفِش ده؟ عرفان ده اللي…
توقفت الكلمات في حلقه فور أن وقعت عينيه على ليلى، التي وقفت بالقرب تتابعهم، وحيرة رسمت الهمّ بوضوح على ملامحها البريئة. إن استمر وأخرج ما بصدره سيُصبح أمام نفسه رجلًا ندلًا، لذلك لم يجد أمامه سوى الانسحاب، يجرّ أقدامه بصعوبة، يتظاهر بالقوة، وداخله على وشك الوقوع بلمسة. كيف السبيل أمام هذا الأمر الجلل؟
………………………………
في منزل حماد القناوي
وقد استبد الفضول بهالة، وهي تراقب عبر الشرفة الأمامية لمدخل المنزل الجلسة التي تجمع حسنية بابنتها المميزة منى، ومعاذ في ركنٍ ما من الحديقة.
يجتاحها الشك بأن أمرًا ما يُدبَّر خلف ظهرها، وهذا التكتم يجعلها على وشك الجنون. حاولت عدة مرات استدراج حسنية، ولكن الأخيرة كانت تتحفها بردودٍ عادية لا تصدقها. حتى حينما تفرض نفسها وتجلس معهم، يتوقف الحديث، وينهض معاذ بجلافة واضحة حتى يحرجها، ومنى تلك المتلونة التي تتلاعب بالكلمات كي تزيد من جنونها. ولكن إلى متى؟ لا بد أن تعرف، ستموت قهرًا إن لم تصل إلى الحقيقة في أقرب وقت. إذًا، لن تتوقف عن المحاولة، حتى لو وصلت لقراءة حركة الشفاه، كما تفعل الآن بتركيزٍ تام، حتى حينما وصل إلى مسامعها صوت من يناديها:
هالة
أمم؟
تعالي شوفي بتك دي، يا ست البرنسيسة هاااله!
جاءت الأخيرة دفعة تُفيقها من شرودها، لتفاجأ بزوجها يلقي بكراسة الأنشطة المدرسية أمام عينيها فوق سطح سور الشرفة، مردفًا، كازًا على أسنانه:
اتفضلي يا مدام، كراسة البت. حلي معاها الواجب وذاكريلها، بدل ما إنتي جاعدة متنحة في خلق الله… خبر إيه؟
انتفضت بخوف من هيئته، لتتناول الكراسة وتحتضنها وتجذب يد ابنتها منه:
حاضر يا خليفة، ما هي ما جتش ولا جالتلي.
وهي لا جياكي عشان تجولك؟ ولا إنتي أصلًا فاضيالها عشان تعسي وتشوفي بنفسك مذاكرتها ومذاكرة إخواتها؟ دي بطت حاجة تخنق!
أنهى توبيخه والتف مغادرًا دون انتظار تبريرٍ منها، وكأنه قد سئم وحفظ كل الحجج التي تأتي بها، لتزفر في أثره بضيق، ثم تتحرك ساحبة ابنتها بعنف:
تعالي يا آخرة صبري، ما أنا عارفة إن الشجا معاكم ما بيخلصش أبدًا… تعالي يا بت.
اقتربت بها إلى أحد المقاعد، لتجلسها أمامها وتبدأ مساعدتها في حل المسائل. اندمجت معها لبعض الوقت حتى انتبهت إلى قدوم حمزة ابن عمها وولده مترجلَين من السيارة، فنهضت لاستقبال الطفل، في حين غيّر والده طريقه متجهًا إلى الطاولة التي تضم والدته وشقيقيه، ليشاركهم الحديث السري على ما يبدو، أمام ناظريها.
رياااان، حبيب عمتو هالة! عانقت الطفل وقبّلته عدة مرات على وجنتيه، رغم خجله منها، ثم سحبته معها حتى أجلسته بجوار ابنتها، لتبدأ في استدراجه:
هااا، جولي بجى يا بطل… إيه رأيك في بيت أبوك اللي بيبنيه؟ حلو زي بيتنا كده ولا عفِش؟ بحماس طفولي أجابها ريان:
طبعًا حلو جوي، أمال إيه؟ ووااااسع، وحواليه سور كبير الرجالة خلصوا نصه في البنا!
سور كبير وواسع؟ على العموم، مهما كِبِر مش هيبقى زي بيتنا دِه… دِه بيت العيلة! وأنت أصلًا مش هتسيبنا، ولا هتخلي أبوك كمان يسيبنا… صُح ولا لاه يا ريان؟
أومأ برأسه يُراضيها، غافلًا بعقله الصغير أنها تتحدث بإصرار حقيقي، وسرعان ما استدركت حالتها، فغيّرت دفة الحديث بمزاحها:
كل الوقت ده جضيته عند العمال والرجالة؟ كنت بتلعب في الزرع ولا بترفع الجُصعا معاهم؟
والله يا عمتي هالة، كنت عايز أرفع الجُصعا محمّلة بالإسمنت وابني معاهم، بس أبويا مرضيش! جالي: “هتوسّخ هدومك”، وراح واخدني من يدي ووداني عند خالتي مزيونة، قعدت ألعب معاهم، هي وليلى، واتغديت معاهم، وكلت تين ونبق و…
استنى!
هتفت بها، توقف استرسال الصغير واندفاعه، غير منتبهٍ لعينيها التي جحظت، وقد بدأت الخيوط تتجمّع في رأسها:
هي خالتك مزيونة دي… جدتك زارتها جريب مع أبوك، صُح؟
صُح.
وساكنة لوحدها ولا معاها ناس تانية؟
لا، مفيش حد معاهم، والمنطجة كلها مفيهاش غير بيتهم.
آااااه…
تمتمت بها، لتأخذ قرارها على الفور. توجهت نحو ابنتها بعجالة وأعطتها الكراسة في يدها:
خدي يا بت كراستك دي واطلعي استنيني فوج، يلا، أنا هحصلك مش هعوّج… يلا!
تذمّرت الصغيرة من دفعها، ولكنها في النهاية استجابت لأمرها خوفًا منها. وفور أن خلى المكان منها، تفاجأ ريان بسحبها إياه، تُقرّبه منها هامسة:
عايزاك دلوك يا حبيبي تحكيلي كل اللي حُصل في مشوارك دِه، من ساعة ما رجلك حطّت هناك، لحد ما جيت هنه…
………………………………
وعلى الطاولة التي كانت تجمع الأربعة، وقد جلس بعد دعوة تلقاها من والدته، لينضم إليهم في ذلك النقاش الذي لم ينتهِ حتى الآن. كانت محاولات بائسة من المرأة لإقناع صاحب الرأس اليابس، وقد كانا يتجادلان في هذا الوقت، وحلقة من النقاش المستمر تشترك فيها منى بالمزاح في معظم الأوقات، أما هو فكان الصمت رفيقه.
شوفي يا يما، مهما تحاولي وتعملي المستحيل معايا، إنتي عارفة، وكل الناس عارفة، إن مفيش حاجة هتمشي غير اللي في مخي… صح ولا لاه يا حجة حسنية؟
يووووه! ما تحضرينا يا زفتة إنتي، يالي جاعدة غير تضحكي وتتمقلتي ! أخوكي هيشلني يا بت! وأنت يا كبير، يالي، ندهتلك مخصوص تاجي تشاركنا، عقل أخوك يا ولدي… يمكن يسمع منك!
هناك لحظات يفقد فيها الإنسان القدرة حتى على التظاهر، وقد ضاق صدره بصورة جعلته يُخرج الكلمات بصعوبة وبدون حساب:
أجوله إيه بالضبط؟ طمني جلبك يا حجة حسنية… الحديت معدش منه فايدة من الأساس. شكل إسراء هي اللي هتفوز من غير تعب ولا وجع جلب منك!
توجّه معاذ إليه بسؤاله:
هو إيه اللي معدش منه فايدة؟ أنت واخد بالك بتتكلم على إيه؟
زفر بخفوت، ليرمقه بضيق، وقد انصب تركيز الجميع نحوه:
واخد بالي… وعارف إنك هتتجنّ بالبت، بس شكل الأمل خلاص هيروح ويتبخّر. لما مزيونة ترجع لعرفان، اعتبر إن حلم جوازك من بتها في حكم المستحيل.
عرفان لفّ الدايرة حواليهم بلعبة خلت الاتنين يوافجوا على الرجوع رغم عفاشته، حتى الأجاويد اللي دايمًا يدخلوا لصالح مزيونة، هما كمان شربوا المقلب.
– وووه تمتم بها معاذ بما يشبه الصدمة، فتدخلت منى التي علمت السر خلف حزن شقيقها:
– مين اللي جالك كدِه يا حمزة؟ وكيف يعني هي تجبله؟ دي تطيج العمى ولا تطيجه؟ اسألني أني، أنا أكتر واحدة عارفة كده، والله.
حسنية هي الأخرى، وقد أصابها ما أصابهم رغم اختلاف الأهداف: – لاه يا حمزة، لاه. لو كنت فاكر إن كلامك ده هيريحني، يبقى ما تعرِفش أمك يا ولدي. مهما كانت مصلحتي ولا رغبتي إن ولدي ميطلعش برا العيلة، ولا ياخد واحدة غريبة عنينا، ده معناته إني هجبّل بأذية بنات الناس. دِه راجل شراني، وأنا شفته بنفسي. البنية غلبانة هي وبِتّها، ومحدش يرضالهم كده أبدًا.
– وكسرة قلب وِلدِك؟ أجفلها معاذ بصيحته، ليردف بقهر نحوها وكأنها هي السبب الرئيسي في حزنه: – عمال أحايل فيكي بقالِي أيام، وانتي عارفة إن موضوعي مش هين مع الراجل ده. طيب إيه رأيك بجى، لو ما اتجوزتش ليلى، مش هتجوز غيرها واصل، ولا هتشوفيني على كوشة طول حياتك يا حجة حسنية. طول حياتك.
أنهى جملته ونهض مهرولًا من أمامهم، فتبعته منى بخوف عليه: – واض يا معاذ، استنى هنا! رايح فين يا حزين؟ لا تعمل نصيبة، احنا مش ناقصين.
ارتجفت حسنية هي الأخرى، ورغم عتبها على معاذ، إلا أن هيئته التي كانت لا تبشّر بخير، دفعتها لمخاطبة الأكبر: – حمزة، روح شوف المجنون ده، دا عقلُه طاقق وما حدش عارف راسه فيها إيه!
نظر إليها غير مبالٍ، وكأن الأمر لا يعنيه: – يعمل اللي عايز يعمله، يمكن الجنان يجيب فايدة، مدام العقل والأخلاق معدش ليهم مكان في الزمن ده. عن إذنك بجى، أنا رايح المديرية أشوف آخر الأخبار.
تجمّدت تطالع انسحابه من أمامها ومغادرته، لا تستوعب ما صدر منه، وكأنها ترى شخصًا آخر غير ابنها الذي تعرفه. ترى، ما الذي أصابه هو الآخر؟
…………………………
وإلى مكان آخر… في منزل المدعو جمعة، وكان يتناول من الطعام الذي طلبه عطوة من إحدى المطاعم المعروفة في المحافظة، دجاج محمر وأنواع أخرى تفتح الشهية، المفتوحة من الأساس.
يضع القطعة تلو الأخرى والفم ممتلئ عن آخره، بنهم وجشع، وكأنه لم يتذوق الطعام منذ سنوات، حتى عقّب عليه عطوة بقرف:
– براحة يا جزين، براحة. لا الأكل يوقف في زورك ولا نلاقيش حد ينجدك لو كبس على نفسك وروحت فيها!
ضحك المذكور حتى برز الطعام المحشور في فمه، بصورة قلبت معدة الآخر، فنهض منهيًا طعامه: – جاااك الزفت، اشبع بالأكل يا خوي. أنا سايبها لك ونايم.
وبالفعل، استند إلى كفّيه ونهض من على جلسة الأرض، من أمام الطعام المرصوص على ورق التغليف، الذي جاء به، يعرج على القدم المصابة، حتى وصل إلى الكرسي الذي يتوسط الغرفة، فأخرج سيجارة من جيبه، وضعها في فمه، أشعلها، ونفث الدخان منها، ثم وجّه بصره نحو هذا الذي لم يتوقف أو يخجل من انتقاده، وما زال يواصل حصد الأخضر واليابس.
– اما نفسك حلوة جوي يا جمعة، على كد ما تدي للي جدامك أمان، أنا عارف آخرك: وكلة أو فلوس. على كد برضو ما تخوفه، إنك سهل جوي حد يشتريك باللي زيهم.
مرة أخرى، ضحك جمعة بسماجة، فصاح به عطوة ونهره: – خلاص، اجفل وفوّضها، مش ناقصة قرف. ولا أقولك؟ أنا اللي هولّي وشّي عنك.
قالها عطوة واستدار عنه، ينظر أمامه بشرود، يحصي الليالي والساعات في انتظار شفاء قدمه والسير عليها كي يعود إلى البلدة، مادام لم يكتشفه أحد، حتى عرفان الأحمق حين هاتفه، ابتلع الكذبة وصدقها، حين أخبره بالذهاب إلى عزاء أحد أقاربه في القاهرة، وربما يجد له هناك عملًا يعيش عليه حتى يرجع.
كم يتوق للعودة وفعل المستحيل حتى ينالها. لا يشغله حلال أو حرام، المهم هو أن ينالها، تلك الجميلة التي كانت حلمه في الصغر، ومن حقه، لأنه مقارب لها في العمر. أي، لو كانت انتظرت حتى تتم السابعة عشر أو الثامنةعشر، لربما أصبحت من نصيبه. لكن اللوم ليس عليها. اللوم على ذلك الغراب، عرفان، الذي خطفها قبل حتى أن تنضج جيدًا. تبًا له.
………………………………..
في داخل قسم الشرطة، وأمام الضابط المسؤول، جلس ليُخبره بآخر المستجدات في القضية، والتي كان أهمها نتيجة عينة الدم وعدد من القرائن الأخرى حول أحد الأشخاص، وظهوره في ذلك الوقت بتلك المنطقة. بدأت الشكوك الرئيسية تدور حوله، خاصة مع اختفائه المفاجئ عن البلدة. وما إن علم بهويته، حتى ارتخت ملامحه، ليتمتم بالاسم البغيض، وشيء من الانفراجة يلوح في عينيه:
— عطوة!
……………………………..
لم تقدر شقيقته على اللحاق به وإيقافه، ولم يُصغِ لنداء والدته، بالإضافة إلى سكوت حمزة عن ردعه. تلك العوامل مجتمعة جعلته يخرج في حالة من الجنون، تدفعه لفعل المستحيل كي يقابلها. وبما أنه يعلم مواعيد دروسها، لم ينتظر حتى تعود إلى منزلها، أو حتى يستخدم الحصان حجة لمراقبتها كما كان يفعل سابقاً. لقد قرر أن هذه المرة لن يخشى أحداً.
خلف منزل أستاذ مادة الإنجليزي، ظل لأكثر من ساعة ونصف يدور حول نفسه في الشارع الممتلئ بالبشر، غير آبهٍ بنظراتهم إليه، ولم يعطِ اهتماماً لأي شيء، سوى عندما خرجت من البوابة الحديدية للمبنى، بصحبة عدد من الفتيات، زميلاتها في الدرس.
وقف قليلاً يتابعها وهي تتحدث بعفوية، وتضحك بانطلاق لا يُقيده قواعد الكبار المتشددة تجاه كل ما هو أنثى.
سار خلفها، وفي أول تقاطع غيّرت فيه طريقها، وكانت بصحبة فتاتين، أسرع بخطواته ليتصدر أمامها:
— ليلى، ممكن نتكلم كلمتين؟
جاء رد فعلها بشهقة إجفال خرجت من حلقها، لتتراجع بخطوتين إلى الخلف، ومعها الفتاتان اللتان استوعبتا الموقف سريعاً فصرختا فيه:
— إنت مين يا جدع إنت؟! وإزاي تعمل كده؟!
لم يلتفت إليهما، وظل تركيزه منصبًا عليها، مردفًا:
— عرّفيهم عني بعدين يا ليلى، المهم دلوك أنا عايزك في كلمتين.
تماسكت من رهبتها، وهتفت به:
— احترم نفسك يا معاذ، وابعد عن طريقي! دا مش أسلوب أصلاً.
أومأ برأسه متظاهراً بالتفهم، ثم عاد إليها معتذرًا:
— ماشي يا ستي، أنا بعتذر ليكي وللبنات، حقكم على راسي من فوق، وأنا عارف إن أسلوبي مايعجبش، بس برضه عايزك تسمعيني يا ليلى… ممكن يا بنات تسمحولي؟
— يخرب عجلك، عامل زي القطر!
تمتمت بها ليلى أمام دهشة الفتاتين اللتين تسمرتا في مكانهما، بعدم فهم لطبيعة الكائن الواقف أمامهما. ثم أردفت بحذر، وهي تدفعهما بيديها:
— نسرين، سمر، معلش، جدموا خطوتين عني ووجفوا استنوني، أشوفه عايز إيه وهقولكم، والله.
أبعدتهما عنها بمسافة خطوات بسيطة، لتتخصر أمامه بضيق قائلة:
— نعم؟ قول كلمتينك يا معاذ، عشان إنت شكلك مجنون وهتجبلي الفضايح.
— بعد الشر عليكي من الفضايح! اللي يجيب سيرتك أصلاً أجطع عمره من الدنيا…
توقف برهة عن اندفاعه، ثم صعقها مردفًا:
— ليلى، أنا عايزك تتجوزيني.
توقفت لحظات تحاول الاستيعاب، قبل أن تردد بتساؤل من خلفه:
— مين اللي يتجوز؟!
وكأنه كان في انتظار هذا السؤال، ليلقي بكل ما في جعبته، دون ترتيب أو تفكير:
— أنا بتكلم عني وعنك. أمك عايزة ترجّع لأبوك، ميخصنيش. إنتي حابة أبوكي العفش ده برضه ميضرش. المهم إنه يوافق على جوازي منك. أمك عايزة تعلمك؟ مستعد أوصلك للدكتوراه وأساعدك، لكن في بيتي. غير كده، لا ليكي جواز، ولا تعليم، ولا راجل تاني هيجرب منك طول ما أنا عايش. هوجف حالك من كله يا ليلى! إنتي لسه ما شفتيش جناني أصلاً… أنا بحبك يا ليلى.
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية لأجلها)