روايات

رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الحادي والخمسون 51 بقلم سيلا وليد

رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الحادي والخمسون 51 بقلم سيلا وليد

رواية شظايا قلوب محترقة البارت الحادي والخمسون

رواية شظايا قلوب محترقة الجزء الحادي والخمسون

شظايا قلوب محترقة
شظايا قلوب محترقة

رواية شظايا قلوب محترقة الحلقة الحادية والخمسون

ما أقسى اللحظات حين يتعثر القلب… لا لضعف المشاعر، بل لأنها صادقة أكثر مما ينبغي. هناك لحظات لا تشبه سواها، حين تنكمش الأرض تحت أقدام العاجزين، ويضجُّ القلب بالنبض عندما لا يجد مخرجًا.
فهنا الأرواح تتلاقى في صمت، تتكلّم بما عجزت عنه الشفاه، وكلٌّ منهما يحمل في داخله ما لا يُقال. بين خفقةٍ مرتعشة وابتسامةٍ مصطنعة، سقطت الكلمات من على حافة الرجاء، وهربت كأنها لم ترد البقاء
حتى يشتعل الصدرٍ بنيرانٍ لا تحتمل ..!!
هكذا هو الحب أحيانًا… يظل مخبأ في الزوايا المظلمة، لا يتجرأ أن يظهر حتى وإن كانت العيون قد خانتها، وسقطت عن سطور الفم.
وصلت سيارةُ الإسعافِ خلال دقائقَ معدودة، وسطَ الضجيج، قام المسعفونَ بحملِ جسدِ راجح الغائبِ عن الوعي على متنها..حملهُ المسعفينَ على عجل، بينما وقفَ راكان يتخصَّرُ بجسدهِ المتوترِ وأردفَ بنبرةٍ تقطرُ غضبًا:
– إيه المهزلة دي ياحضرةِ الظابط؟! إزاي متَّهم يضرب بالنار جوَّه مكتب وكيل نيابة؟!
صمتَ جاسر لوهلة، ثمَّ قال بنبرةٍ هادئةٍ ظاهريًا، ولكنَّها مشتعلة داخليًا:
– أنا الِّلي ضربته بالنار، حاول يعتدي على الموجودين، خطف سلاح العسكري وكان هيموِّت واحد، تقدر تسأل بنفسك ياسيادةِ المستشار.
اقتربَ منهُ خطوة، والغضبُ داخلهِ يثورُ كبركان:
– الأولى كان يتحجز في السجن لحدِّ ما حضرتك توصل، بس إنتَ الِّلي أصرَّيت يفضل هنا..
أنا آسف لمعاليك على تقصيري.
قالها بجمود، ثمَّ استدارَ وخرجَ دون أن يضيفَ حرفًا.
زفرَ راكان زفرةً حارقة، تطايرَ معها الغضبُ كشرر، ثمَّ أدارَ عينيهِ نحو إلياس ويزن:
-جاسر الِّلي ضرب المتهم؟.
قاطعهُ العسكري بسرعة:
– فعلاً ياباشا، خطف سلاحي وكان ناوي يقتل حد.
– يعني جاسر هوَّ الِّلي ضربه؟!
كرَّرها راكان بصوتٍ أعلى، لكن تردَّدَ العسكري، وتمتمَ بصوتٍ خافتٍ متردِّد:
– معرفشِ ياباشا..مشوفتش.
أشارَ له راكان بالخروج، بينما اقتربَ يزن ووضعَ سلاحَ إلياس على المكتب، ثمَّ قال بثبات:
– أنا الِّلي ضربته…
رفعَ راكان رأسهِ إليه بحدَّة، لكن يزن وجَّه حديثهِ لإلياس أوَّلًا:
– آسف…عارف إنِّ سلاحك ميري، بس واللهِ مافكَّرت غير في إنقاذك.
ثمَّ أعادَ نظرهِ إلى راكان، وقال بنبرةٍ واثقةٍ رغم كلِّ شيء:
– حضرتك ممكن تحقَّق معايا، أنا الِّلي ضربت راجح لمَّا حاول يقتل إلياس..
ولو دي جريمة..فأنا جاهز للعقاب.
دفع راكان مقعدهِ بعصبيةٍ وجلسَ يمرِّرُ كفَّيهِ على وجههِ في ضيق، ثمَّ أطلقَ زفرةً ثقيلة، ورفع رأسهِ نحو إلياس…الذي بدا جسدًا بلا روح، شاحبَ الوجه، جامدَ الملامح.
في هذه اللحظة اندفعَ أرسلان إلى الداخل:
– إيه الِّلي حصل؟! مين ضرب راجح؟!
اتَّجه مباشرةً نحو إلياس، وعيناهُ تفحصانهِ بقلق:
– إلياس..إنتَ كويس؟ إنتَ الِّلي ضربت راجح؟!
أنا خرجت لإسحاق معرفشِ الدنيا هتتقلب كده!
هزَّ إلياس رأسهِ ببطء، وقال بصوتٍ واهن:
– أنا كويس..
تراجعَ بخطواتهِ الثقيلةِ وجلس على أقربِ مقعد، واحتضنَ رأسهِ بين كفَّيه كأنَّ الجبالَ تنهارُ فوقه..
وصل يزن إليه وربتَ على كتفه:
– أنا اعترفت خلاص، روح إنتَ شوف مراتك وأختك…وإيمان.
مفيش وقت، الظابط الِّلي قبض عليه أكيد عنده حاجة توصَّلنا.
ضغطَ راكان على زرِّ المكتب، وماإن دخلَ المسؤولُ عن مكتبهِ حتى قال بحزم:
– ابعتلي جاسر باشا فورًا..
– تحت أمرك ياباشا..
ثمَّ وجَّه نظرهِ إلى إلياس:
– استنوني برَّا…وأنا هتصرَّف، وإن شاء الله نلاقي مراتك وأخواتك.
غادرَ إلياس ويزن، بعد دقائقَ دلفَ جاسر يحملُ ملفًّا، وضعهُ أمام راكان وقال:
– ده كلِّ حاجة…من ساعة ماراقبنا تليفونات إلياس وأرسلان ويزن، لحدِّ ما راجح اتضرب بالنار.
– اقعد ياجاسر!!
جلسَ بصمت، بينما راكان يحاصرهُ بنظراته:
– إيه الِّلي حصل؟
مطَّ شفتيه، ثمَّ رفع نظراتهِ إليه وقال:
– إنتَ عارف الراجل ده..حقير وسافل. مسمعتش الِّلي قاله؟..
وأقسم بالله…أنا لو مكانهم، كنت قتلته بإيدي وخلَّصت الناس من شرُّه.
تنهَّدَ راكان:
– مصدَّقك…الباشا نسي بلاويه..
بس…ليه يزن ضربه؟
بدأ جاسر يروي ماحدث، ما قالهُ راجح، وكيف حاول استفزازهم ثمَّ هجومهِ عليهم.
نفخَ راكان وجنتيهِ وقال بنبرةٍ واثقة:
– دي دفاع عن النفس…بس في الآخر، قضية.
ضرب جاسر المكتب بعصبية، وقال من بينِ أسنانه:
– راكان…إنتَ هتكتب إنُّه حاول يهجم على الظابط، وأنا ضربته دفاعًا عن النفس..
العيال دي مش هتتذكر في الموضوع، أنا اللي كنت ناوي أخلَّص عليه.
صرخَ راكان فيه:
– طيب لمَّا يفوق؟! هيقول مين ضربه، أنا مكنتش موجود ومشفتش حاجة..
– مالكش دعوة، إنتَ هتكتب الِّلي هقوله وخلاص!
– ولا!! إنتَ اتجنِّنت؟!
نهضَ جاسر وأشار بيدهِ إلى الباب، وهتف بصوتٍ يتصدَّعُ بالقهر:
– واحد مراته وأخته تحتِ إيد مجرم سافل، بيعايره بأمُّه ومراته، والتاني…
أخته فرحها بعد أسبوع..
منتظر منهم إيه؟!
وبعدين دول مدخلوش يقتلوه…
هوَّ الِّلي حاول يستفزُّهم…وهوَّ الِّلي حاول يقتلهم.
بالخارجِ ظلَّ يدورُ كالمجنون، إلى أن قاطعهُ رنينُ هاتفه:
-أيوة ياطارق..
-أنا عرفت مكان ميرال ورايح على هناك..قاطعهُ صائحًا:
-إيَّاك تتحرَّك من عندك، أنا جاي، سمعتني، ابعت اللوكيشين، طارق لو سمحت إحنا منعرفشِ الناس الِّلي معاها قدِّ إيه.
-هبعتلك اللوكيشين ومتخافش.. هعرف أتعامل كويس.
– لا لا..أنا جاي متعملشِ حاجة..تحرَّك خلفهِ أرسلان وهو يتحدَّثُ بهاتفه:
-خلاص ياعمُّو، طارق كلَّمنا وعرف مكانهم، متعملشِ حاجة، شوف بس مين الِّلي ساعد راجح في الهروب.
بينما جلسَ يزن أمام مكتبِ راكان منتظرًا مايحدث..
بعد فترةٍ وصل إلياس بصحبةِ أرسلان إلى المكانِ المنشود، ترجَّل من سيارتهِ سريعًا كالجندي المدافع عن الحدود، وجد طارق واقفًا أمام سيارتهِ في مكانٍ خفيٍّ عن الأعين..
أشارَ إلى منزلٍ ريفيٍّ يُبعدُ عن توقُّفهم ببعض الكيلومترات:
-عرفت إزاي المكان دا؟.
-دفعت طبعًا..إنتَ ناسي أنا كنت شغَّال مع الناس دي وأعرف مين الِّلي راجح بيستعين بيه؟.
-البيت دا تبع حد ولَّا تبع أبوك؟.
-لا، تبع واحد من الِّلي شغَّالين معاه، بس هوَّ مش موجود، والبيت في ارض زراعيه وحلو البيوت التانية بعيدة عنه
توقَّفَ أرسلان ينظرُ بترقُّبٍ إلى المنزلِ ثمَّ التفتَ إليهم:
-البيت مش محاصر أوي، يعني ممكن يكون خمسة ستة بالكتير..
أومأ إلياس موافقًا، ولكن قطعَ حديثهم رنينُ هاتفه:
-أيوة ياحضرةِ الظابط..
-إلياس ابعت المكان، ماتتهوَّرش، هكون عندك خلال دقايق..
-حضرتك نسيت إنِّي ظابط وأعرف أتعامل كويس..شكرًا لحضرتك وعلى العموم هبعت العنوان علشان تيجي تستلم جثث العيال دي..قالها وأغلقَ الهاتف..بينما جزَّ جاسر على أسنانهِ واتَّجه إلى قوَّتهِ متحرِّكًا حيث وجودهم
عند إلياس..التفتَ إلى أرسلان:
-هندخل..أوقفهُ أرسلان بذراعه:
-هتفضل هنا، وأنا هتصرَّف، إياك تتحرَّك من غير ماأبعت لك.
-أرسلان إنتَ مجنون.
تحرَّك دون أن يهتمَّ لحديثه:
-قولت هتصرَّف وبلاش اندفاعك، انا عارف بعمل ايه ..قالها وتحرَّك إلى المنزل..وصل، وتوقَّف يراقبُ عن كثب، لمحَ مخزنًا يبعدُ عن المنزلِ ببعض الكيلومترات، دلف للداخلِ بخبرتهِ العمليَّة، وقام بإشعالِ النيرانِ بأحدِ المخازنِ التي تحتوي على القطن.
وخرج سريعًا متَّجهًا إلى أحدِ الأسطحِ الجانبيةِ وأخرج جهازَ المنظارِ الرقمي لمراقبةِ وقوفِ الجميع، لكي يعرفَ من أين سيدخل..
دقائقَ واشتعلت النيرانُ كالقنابلِ وبدأت تُحدثُ أصواتًا مرتفعة، هربَ الجميعُ من المنزلِ في الوقتِ الذي أرسل إشارةً لإلياس بالقبضِ عليهم، بينما هو دلف للداخلِ بعدما قفزَ من فوقِ الجدار..ولج إلى المنزل بكلِّ سهولةٍ وثقةٍ يبحثُ عنهم، استمعَ إلى صرخاتِ غادة المرتبكةِ على ضجيجِ أصواتِ النيرانِ التي بدأت تقتربُ من المنزل..
دفع الباب بقدمهِ لتهبَّ البناتُ متوقِّفةً ينظرونَ إليه ببكاء، بينما ميرال التي تجلسُ بأحد الأركانِ وكأنَّها لم تشعر بشيئ:
-اطلعوا بسرعة إلياس برَّة..ثمَّ اتَّجه إلى ميرال وانحنى يحملها بعدما وجد سكونُ جسدها، حملها وخرجَ بها سريعًا مع صرخاتِ الأهالي من صوتِ النيرانِ وارتفاعها..
وصلَ حيث مكانهم، بالتزامنِ مع قدومِ سيارةِ الشرطة، وقد بدا المكانُ أشبهُ بساحةِ حرب..
ترجَّل جاسر، يرافقهُ فريقهِ الأمني، يوزِّعون نظراتهم الحادَّة في كلِّ اتِّجاه.
هرولت غادة إلى سيارةِ إلياس تبحث عنه، وعيناها اغرورقت بالدموع، فتحت بابَ السيارةِ بصمتٍ مُثقلٍ بالوجع، ولكنها لم تجده، ولمحت ارسلان يحمل ميرال، ابتعدت عن باب السيارة تشير إليه، وساعدتهُ في وضعِ ميرال بالداخل.
ضمَّ أرسلان وجهها بين راحتيه:
– ميرال؟ سمعاني..إنتي كويسة؟!.
لم تجبه، فقط رمقتهُ بنظرةٍ خاوية، كأنَّ روحها قد انفصلت عن جسدها وسكنت عالمًا آخر..
دوت أصواتُ الطلقاتِ الناريةِ في المكان، ومعها تفرَّقَ رجالُ الأمنِ بقيادةِ جاسر، للقبضِ على المجرمين، بينما هوظلَّ واقفًا، عاجزًا، مأخوذًا بسكونِ زوجةِ أخيهِ وعقلهِ يصفعهُ بكثيرٍ ممَّا حدث..
ظهر إلياس يركضُ بخطا سريعة، يبحثُ عن ميرال..وأشار إلى جاسر:
-اتنين ماتوا، معرفشِ الباقي عايش ولَّا لأ.
ركضت إليهِ غادة، وقبل أن تنبسَّ بحرف، ألقَت بنفسها في أحضانهِ وانفجرت باكية، بصوتٍ مذبوحٍ أشبهُ بطفلٍ تائه..ضمَّها إلياس بحنانٍ أخوي، وعيناهُ تمشِّطُ الأرجاءَ بجنونٍ بحثًا عن زوجتهِ.. بلهفة تسائل:
– فين ميرال؟
أشارت غادة نحو السيارة..
سحبها برفقٍ إلى جواره، وتوجَّه إليها
وجدَ إيمان واقفة، شخصت نظراتها نحو وجسدها يرتجف، فأردفَ متسائلا:
– إنتي كويسة؟
أومأت برأسها، ثمَّ سألت بصوتٍ مخنوق بالبكاء:
– فين أبيه يزن؟
فتح الباب، وأشارَ لها ولغادة:
– اركبوا، يزن مستنِّينا.
قالها بصوتٍ مبحوح، حينما وقعت عيناهُ على جسدِ ميرال الساكنِ كأنَّها لا تشعرُ بشيء..
ثمَّ التفتَ إلى أرسلان وأشار له:
– همشي..
توجَّه إلى القيادة، وجلسَ بجوارها، ثمَّ مالَ نحوها، احتواها بذراعيه، كأنَّه يستعيدُ جزءًا مفقودًا من روحه.
– ميرال..حبيبتي، أنا هنا..سمعاني؟
نظرت إليه..نظراتٌ خالية من طيفِ الحياة، كانت غريبة، بعيدة، كأنَّها
لا تعرفه.
جذبها إليهِ بحنان، وضمَّها بقوَّة، وراح يربتُ على ظهرها برفقٍ مخنوق.
تحدَّثت غادة التي تجلسُ في المقعدِ الخلفي، بنبرةٍ مرتعشة:
– عيَّطت كتير ياإلياس، الحيوان ضربها!..حاولت تقتله، بس أخدها منِّنا، ومحدش يعرف عمل فيها إيه… من ساعتها وهيَّ كدا، سكتة، ومش حاسة..
قبضَ إلياس على المقودِ بقوَّة، وعيناهُ تمتلئُ بنيرانِ الغضبِ المكبوت..وقاد السيارةُ في صمتٍ تام، لكنَّ صدرهِ كان عاصفة..عاصفةٌ ناريَّةٌ لرجلٍ رأى زوجتهِ التي يعشقها تُسحقُ بحياته، تحرَّك بسرعةٍ جنونيةٍ إلى المشفى وداخلهِ نيرانًا تريدُ أن تحرقَ المكانَ بأكمله..
وصل إلى المشفى، والتفت إليهم
-لو حاسين بتعب انزلوا خلو الدكتور يشوفكم
هزت غادة رأسها بالنفي، ثم التفتت إلى ايمان التي تبكي بصمت
-إنت كويسة ..أزالت دموعها وقالت
-عايزة يزن ..رفع إلياس هاتفه وقام بمهاتفة يزن الذي اجابه سريعا
-عملت ايه؟!
-إنت فين ؟!.
-في المستشفى، لو خلصت تعالى على هناك، بس متخفش هي كويسة، جاسر قالي لم الموضوع..انا مستنيك
ترجل من السيارة وحمل زوجته واتجه بها إلى الداخل
بفيلا الجارحي
وصل بعد عدة ساعات ..قابله اسحاق بصحبة دينا على باب الفيلا
-عملتوا ايه ..
هز رأسه ورد قائلًا:
-الحمد لله، بس ميرال اللي اتأذت نفسيًا، إلياس اخدها المستشفى والبنات كويسين
-عرفت حاجة عن راجح..؟!
-خرج من العمليات، اتواصلت مع الدكتور، شاكك بإصابة الحبل الشوكي
ابتسم ارسلان واقترب يقبله
-أيوة كدا، كنت خايف يموت قبل مااعذبه
-ولا انت ناوي على ايه
-أنا واقف قدامك اهو، هترمي بلاويك عليا، انا قصدي يتعذب في السجن
دقق النظر إليه
-قولي يااسحاقوا، مين اللي ورا هروب راجح
-وحياة ربنا ماانا، انت عارف الفترة دي ماكناش بنشتغل، صح ولا ايه
مط شفتيه وحك ذقنه ثم توجه إلى دينا التي ابتعدت بحمزة حتى يتحدثوا
-انتوا رايحين فين، مش قولت هنقعد كلنا هنا
-رايحين نتعشى برة، ايه عندك مانع
-اه عندي، ازاي تروح من غيري، دا اللي اتعلمته مني
دفعه بكفيه بعد ما وضعه على وجهه
-امشي يامتخلف من قدامي، مبقاش غير العيال اللي توقف تتكلم معاي
قهقه ارسلان ثم نادى على دينا:
-تعالي علشان اشهدك يامرات عمو، اسحاق اللي هو في مقام بابا معرفش يتعلم مني، التلميذ تفوق على الأستاذ
ضيقت عيناها تتابعهم بجهل، بسط اسحاق كفه إليها
-تعالي دا مخه فلسع، هنقله جنب امي هناك ..هنا توقف وامسكه من ذراعه
-مش ناوي تطلع تيتا ولا ايه
نظر إلى يديه المتشبثة بذراعه ثم رفع نظره إليه
-ارسلان علشان تفضل ابني الغالي، مش عايزك تدخل، ولو عرفت انك زرتها زي مافاروق بيطلب منك هزعلك اوي ..قالها وحاوط جسد دينا وتحرك إلى سيارته
ظل ارسلان يتابعه بعينيه إلى أن غادرت السيارة المكان
بعد أسابيعَ طويلة من الإجراءاتِ الرسمية الخاصَّة بالقضية، تمَّ إرجاع كلِّ شخصٍ إلى اسمهِ الحقيقي..أمَّا إلياس، فقد نقلَ كنيةِ ميرال تحت اسمِ مصطفى السيوفي بموجبِ شهادةِ تبنٍّ منذ أن كانت رضيعة، استطاع الحصولُ عليها بسهولةٍ بعد مساعدةِ إسحاق إليه، وبعدما أنكرت رانيا علاقتها بها رسميًا بناءً على زيارةِ إلياس وطارق إليها ، عادت الحياةُ تدريجيًا إلى مجراها مع الجميع، وسط محاولاتٍ حثيثة للوقوفِ إلى جانبِ ميرال، في الوقت نفسهِ استقرَّ أرسلان في فيلا الجارحي، مع حرصهِ على زيارةِ والدتهِ باستمرار..
أمَّا الآخرون، فحرصوا على ألَّا يُحدثَ التغيير المفاجئ خللًا في نمطِ حياتهم المعتاد مثل إسحاق وفاروق وكذلك مصطفى بعد رفضِ الجهاز استقالتهم، بعدما انتهت التحقيقاتُ الرسمية فيما عُرفَ بقضيةِ التزوير، ونظرًا لكفاءتهم وإخلاصهم لوطنهم وبعد التحرِّي في الكثير ممَّا قدَّموه، رفض الجميعُ التخلِّي عنهما، ولكن أصرَّ أرسلان البعدَ عن وظيفتهِ واهتمامهِ بعملهِ الخاص، ورغم ذلك إلا أنَّ جميع قادتهِ رفضوا..
مرَّت عدَّةُ أشهرٍ في سكينةٍ واطمئنان، بعدها قرَّر إلياس أن يرافقَ زوجتهِ لأداءِ العمرة التي أصرَّ أن تكون في شهرِ رمضان..قضى أكثر من نصفِ الشهرِ الفضيلِ هناك، ثمَّ عاد معها قبل العيد المبارك بيومٍ واحد.
في عصرِ ذلك اليوم، استيقظَ من نومهِ بعد غفوةٍ طويلةٍ عقب العودةِ من السفر..نهض من جوارها واتَّجه إلى الحمَّام، ثم خرج بعد دقائقَ معدودة ليؤدِّي فرضَ ربه.
تململت ميرال بنعاسٍ على رنينِ هاتفه، وكان قد أنهى صلاتهِ وتوجَّه للردِّ عليه..
– أيوة يايزن…
على الطرفِ الآخر:
– حمدَ الله على السلامة ياعم، أخيرًا رجعتوا..
خرج إلياس إلى الشرفةِ وجلس يتابعُ المكالمة:
– حقيقي مكناش عايزين نرجع دلوقتي، بس ماما أصرِّت علشان العيد..ناويين ننزل أوَّل يوم السويس إن شاء الله.
– كلِّ سنة وإنتَ طيب ياحبيبي..طنط فريدة اتَّصلت بينا الصبح ومصرَّة تجمَّع العيلة كلَّها على الفطار عندكم، وأنا بصراحة عندي شغل، فياريت تعتذرلها بالنيابة عنِّي…وبالمناسبة، هاجي بالليل علشان أشوف البنات.
خلَّل إلياس أناملهِ في خصلاتِ شعرهِ وقال:
– طنطك عندك، كلِّمها..ماليش في الحوارات دي، أمَّا بالنسبة لأخواتك، ميرال كويسة جدًا الحمدُ لله، رؤى لسه مشوفتهاش، رجعنا ونمنا على طول.
– يعني مش هتعتذر لمامتك؟
– لا..قالها إلياس بحدَّةٍ خفيفة، ليغلقَ يزن بعدها المكالمة دون حديثٍ آخر.
نهض يتأمَّلُ الحديقة، رغم أنَّه لم يغب كثيرًا، شعر وكأنَّه غاب عنها سنينَ طويلة..سمعَ خطواتها الناعمة خلفه، لكنَّه ظلَّ واقفًا في مكانه، اقتربت منه وتوقَّفت بجواره، ثمَّ سحبت كفَّيه وخلَّلت أناملها بين أصابعه، وأسندت رأسها على كتفه:
– البيت وحشني أوي…
ابتسم، ثمَّ رفع ذراعيهِ ليحيطَ جسدها وتمتمَ بابتسامة:
– هوَّ كمان وحشك أوي.
ضيَّقت عينيها وتساءلت بدهشة:
– هوَّ مين؟
تراجعَ خطوةً للوراء، ثمَّ رفع ذقنها وقال:
– بيتنا..هنفضل قاعدين هنا ولَّا إيه؟ اعملي حسابك هنرجع بيتنا بعد الفطار النهاردة.
ابتعدت عنهُ بخفَّة وقالت:
– هروح ألحق صلاة العصر الأوَّل، وبعد كده نشوف الموضوع ده.
سار نحو الخارجِ وهو يقول:
– هنزل تحت، وإنتي خلَّصي وانزلي.. ماما عازمة الكلِّ على الفطار، حتى عيلة الجارحي.
ثمَّ توقَّف وهو يرمقُ هيئتها، وأشارَ قائلًا:
– شوفي أيِّ لبس واسع، هيكون في ناس غريبة.
أومأت له ودلفت للداخل.
بمنزلِ آدم..
كانت تتحرَّكُ ذهابًا وإيابًا تشعرُ بألمٍ أسفلَ بطنها، ولجت مريم تحملُ كوبا من اللبن/
-حبيبتي جبت لك لبن اشربيه يقوِّيكي شوية..
هزَّت رأسها برفضٍ تام وقالت:
-آدم اتأخَّر أوي، قالِّي مسافة الطريق، اتأخَّروا ليه كدا..
ساعدتها مريم بالجلوس:
-ممكن طيارة خالو اتأخَّرت وهوَّ منتظر، أو زحمة الشوارع، إنتي عارفة الساعة الِّلي قبل المغرب دي بتكون زحمة..
نهضت صارخةً تهزُّ رأسها وتضعُ كفَّيها أسفلَ بطنها:
-لا يامريم الوجع صعب، شكلي هولد..آه صرخت بها مع دخولِ آدم:
-إيلين !!
نظرت إليهِ بدموعٍ وقالت:
-آدم الحقني هموت شكلي هولد..
اتَّجه بنظرهِ إلى مريم التي أومأت له:
-فعلا شكلها ولادة ياآدم..لم تكمل حديثها مع صرخةٍ من فمِ إيلين بعدما شعرت انزلاقَ المياهِ من بين ساقيها.
هرول إليها يرفعُ جسدها واتَّجه إلى سيارتهِ مع صرخاتها التي أفقدتهُ اتِّزانه..
ممَّا جعلَ مريم تتَّجهُ إلى السيارةِ وتقودها بدلًا عنه مع خروجِ زين على صرخاتها:
-أحمد…صاح بها زين على ابنهِ الذي خرجَ سريعًا:
-فيه إيه يابابا..سار إلى عربيةِ نجله:
-على المستشفى مرات أخوك شكلها بتولد.
بفيلا الجارحي…
كان يركضُ خلف ابنه، يلاعبهُ وسط ضحكاته، ارتدَّت صداها بين جدرانِ الحديقةِ كأغنيةٍ حنونةٍ من أبٍ حنون.
وصل إليهم فاروق، توقَّف للحظاتٍ يطالعهما بسعادة، ثمَّ اتَّجه نحو المقعدِ وجلس عليه، وعيناهُ مازالتا معلَّقتينِ على أخيه وطفله.
قاطعهُ وصولُ أرسلان، يحملُ بين ذراعيهِ طفله وقال:
– “شوف مين جه لجدُّو علشان يلعب معاه.”
رفع فاروق ذراعيهِ وتلقَّفهُ من بين يديهِ بابتسامةٍ حانية:
– “مين حبيب جدُّو؟”
ضحك الطفلُ وهو يمدُّ يدهِ الصغيرةِ نحو لحيةِ فاروق يداعبها بمرح..
وصل إليهم إسحاق، ينادي على المربية:
– “ساعدي حمزة في لبسه، علشان هنخرج.”
ثمَّ أشار إلى طفلهِ قائلاً:
– “يالَّه يابابي، اطلع مع النانا، خد شاور، عندنا زيارة عند يوسف.”
– “أوكيه بابي.”
قالها الطفل بخفَّةٍ وصعدَ إلى الأعلى.
جذب إسحاق مقعدًا وجلسَ عليه، ينظرُ إلى أرسلان قائلاً بسخريةٍ خفيفة:
– “صح النوم ياخويا، أنا فكَّرتك موت!”
رفع فاروق رأسهِ متضايقًا:
– “إخصِ عليك ياإسحاق، ليه بتقول عليه كده؟”
ركلَ أرسلان الكرة، فاستقرَّت برفقٍ فوق رأسِ إسحاق، ثمَّ غمزَ بمشاكسة:
– “ما كنتش أقصد…اعتبرني حمزة الِّلي كنت بتلعب معاه.”
أشار إلى فاروق:
– “شايف الواد بيعمل إيه وبيقول إيه؟”
ابتسم فاروق على مناكفتهم ورد:
– “معرفشِ مالكم أنتوا الاتنين، بقيتوا زي الضراير ليه؟”
– “إيه يافاروق الِّلي بتقوله دا؟ مش هلاقي غير العيل دا وأكون ضرِّته؟!”
ارتفعت ضحكاتهم، ثمَّ عمَّ الصمتُ لحظات، نهضَ إسحاق وقال:
– “هاخد شاور علشان نتحرَّك يادوب.”
أومأ أرسلان، وصعدَ إسحاق للأعلى، بينما اقتربَ من فاروق يجلسُ بجوارهِ وهمس:
– “هوَّ عمُّو ليه رافض يخرَّج تيتا من المستشفى؟ هتفضل كده؟”
تنهَّد فاروق، وقد ارتسمت على ملامحهِ مرارةُ الألم، خاصَّةً مافعله إسحاق بوالدته.
دقَّق النظرَ في وجهِ أرسلان ثمَّ قال بهدوء:
– “ما تتكلِّم معاه..هوَّ بيحبَّك، يمكن يسمع منَّك.”
تراجعَ أرسلان، يهزُّ رأسهِ بأسى:
– “بلاش يا بابا…الموضوع ده بالذات صعب أوي، ما تنساش عملت إيه… خطفت ابنه وقالت مات، سنة كاملة، غير تعذيب مراته!”
سكتَ قليلاً ثمَّ أردفَ بصوتٍ مكسور:
– “هقولَّك حاجة وما تزعلشِ منِّي… فكَّرتني براجح الشافعي.”
قبل أن يردَّ عليه، وصل صوتُ غرام وهي تقول:
– “هات بلال يا عمُّو أجهِّزه علشان الوقت.”
– “اتفضلي ياحبيبتي.”
ناولها الطفل بحنان.
بعد عدَّةِ ساعات…
في حديقةِ فيلا السيوفي بعد تناولِ الإفطار الأخيرِ من الشهرِ الفضيل..
كانت الأجواءُ مشبعةٌ بالحبِّ والألفة، والضحكاتُ تتعالى وسط مزاحٍ خفيفٍ بين أرسلان وإسلام.
جلسوا على الكراسي المتناثرة في كلِّ مكان، وكلًّا منهم يحملُ فنجانَ قهوتهِ أو عصيره، كأنَّ الحديقةَ تحوَّلت إلى واحةٍ من السلامِ ممزوجةٍ بالرضى والسعادة..كان يجلس بجوار فريدة يحاوطها بذراعيه
انحنت تجلب إليه الحلوى التي يفضلها، وأشارت إليه
-خليت البنات يعملولك دي، عارفة انك بتحبها
التقطها اسلام من أمامه، وبدأ يتناول منها وقال:
-غيري من ارسلان لإسلام ياست ماما، انا كدا هقلبها حرب، عملت حمام علشان ارسلان، عملت العصير دا علشان ارسلان، والرز دا ارسلان بيحبه، لا متحطوش دي علشان ريحتها نفاذة وارسلان مابيحبهاش، والله شكلي هقطع رجله من البيت، انا فين من ارس..هو ارس، وانا اسل
قهقه الجميع عليه، بينما احتضن ارسلان كف والدته يقبله:
-تسلم ايدك ياست الكل، وان اسلام يطفح اللي اخده من قدامي
-بعد الشر عليه ياحبيبي، هو بيهزر
انت بتهزر يالا
بدأ يتناول الحلوة ولم يعره اهتمام
نهضت ملك تتحرَّكُ بهدوء، تجاورها رؤى، وسارا معًا حتى وصلا إلى المسبح، حيث جلستا يتسامران..
لحقت بهما غادة، واتَّخذت لنفسها مكانًا بالقربِ منهما، وقالت:
-ماتيجوا نلعب أيِّ لعبة.
ردت رؤى
-لا أنا مش قادرة، العبوا انتوا
-هتعملي العملية امتى حبيبتي
تسائلت بها ملك
– بعد فرح ايمان إن شاءالله
إن شاءالله ربنا يشفيكي ياحبيبتي
كانت هناك عيونًا تراقبُ جلوسهم ، نهضَ متسلِّلًا واقتربَ بخطواتهِ منهم، وقف بتردُّدٍ وهو يقول:
– “إزيكم يابنات، كلِّ سنة وأنتوا طيبين؟”
رفعت غادة عينيها إليه قائلة:
– “أهلاً ياسلومة، فيه حاجة ولَّا إيه؟”
اقتربَ أكثر، وجلسَ بالقربِ منهم، ناظرًا إلى ملك بتوتُّرٍ ظاهر:
– “آه…عايز أتكلِّم مع ملك شوية، ممكن تسيبونا لوحدنا؟”
“تردَّدت ملك ونهضت لتفرَّ هاربةً بعدما شعرت بما سيقوله، ولكنَّه أوقفها:
-ملك..
توقَّفت وقلبها يقرعُ جدرانَ صدرها حتى شعرت بأنَّهم يستمعوا إليه..
-ملك عايز أتكلِّم معاكي لو سمحتي.
فركت ملك كفَّيها، تهربُ بنظراتها عن الجميع، بينما توقَّفت رؤى، وسحبت غادة من يدها قائلةً بخفَّة:
– “إنتَ تؤمر ياسلومة.”ثمَّ تحرَّكت إلى وقوفِ ملك ولكزتها بكتفها:
-اجمدي يابت، دا لسة هيتكلِّم أومال لمَّا يمسك إيدك هيغمى عليكي..
غمزت غادة بطرفِ عينها بخفَّة، ثمَّ همست:
-مش هوَّ أخويا، بس عايزاكي تشلوحيه..
بركنًا اخر كانت تجلس تحت حنان ذراعيه، يقص لها ماجلبه لايمان من جهاز، وماذا سيفعل بحفلة زفافها
اعتدلت تطلع إليه
-إن شاءالله هيكون فرح تحفة ياحبيبي، كفاية انك مهتم بكل حاجة
-تعرفي إن طارق واقف معايا في كل حاجة ، انا مضايق من نفسي اوي، كل ما افتكر اني اذيته، بسببي دخل السجن سنة كاملة، ومستقبله ضاع بسببي
-معلش ياحبيبي، كلنا مش ملايكة، انت ساعده، انا شايفة الورشة ماشاء الله كبرت اوي، وكمان إلياس بيقولي انك فتحت معرض عربيات
تنهد بثقل يشعر بأن شيئا ثقيلًا يجثو فوق صدره:
-اشتغل مع رحيل شوية، بس هي سلمته كل حاجة وسافرت تاني
استدارت بكامل جسدها ونظرت إليه
-يزن مش ناوي تقولها انك رجعتها، هتفضل مخبي عليها لحد امتى، انت غلطت ولازم تصلح غلطك، وبعدين إلياس قالي على طلبك انك كنت عايز ترجعها بطريقة مش كويسة
تراجع يستند على المقعد ونظر إلى السماء المزينة بالمصابيح الربانية
-منزلتهاش كدا، ارسلان بعت حد من السفارة وقالها لازم تنزل علشان تشهد في قضية راجح، وقالها راجح بيتهمها ودا سبب انها تنزل بطريقة قانونية من خلال السفارة، وقالها مش هيتعامل بشكل رسمي خلال أربعة وعشرين ساعة
-مين ارسلان اللي قالها
ارتشف من قهوته وهز رأسه وقال:
-لا..حد من السفارة، بس ارسلان استخدم نفوذه فاهمة
– غلط يايزن، انت شايف دا الحل
-كان لازم تنزل علشان تستلم ملكها، كنت عايز اقرب واخليها تسامحني، بس هي جرحتني اوي
-حقها..قالتها وهي تبتعد بنظراتها عنه، قطع حديثهما رنين هاتفه، فقال
-هرد على إيمان كانت بتفطر مع كريم في الحسين النهاردة
اومأت له بصمت
عند ملك وارسلام
تململت في جلستها، تتلفَّتُ حولها بارتباكٍ ظاهر، تمسكُ بأناملها في توترٍ شارد:
– عايز إيه ياإسلام؟..بابا لو شافني قاعدة لوحدي معاك هيزعل.
ابتسمَ لبراءتها، اقتربَ بخطًا هادئة، ثمَّ جلسَ قُبالتها، و أسندَ ساعديهِ على الطاولةِ الدائريةِ الصغيرة، وتلاعبَ بأصابعهِ بصمتٍ حتى التفتت إليه بتردُّدٍ ونطقت بنبرةٍ ممزوجةٍ بالوحدة:
– ما تقول عايز إيه؟
رفعَ عينيهِ بثبات، ونطقَ بهدوء:
– عايز أتقدِّم لك..بس الأوَّل، أعرف رأيك.
انتفضت واقفة، وارتعشَ صوتها بخفوتٍ كحالِ جسدها :
– أنا لازم أمشي…
قالتها وهربت كحمامة، عبسَ في ضيق، وتراجعَ بجسدهِ إلى الوراء، يزفرُ غيظهِ من ردِّ فعلها غير المتوقَّع، ظلَّت نظراتهِ تتابعها ولم يشعر بتلك التي كانت بالقربِ منهما، اقتربت منهُ ثمَّ وضعت كفَّها تربتُ على كتفه..رفعَ عينيه، ليجدَ ميرال تقفُ فوقهِ تبتسم..
تحرَّكت إلى جواره:
-بتراقبيني يامرات أخويا؟.
سحبت المقعدَ بتلقائية، وضعت ذقنها على كفَّيها في دلالٍ ساخر:
– كلِّ الموجودين أخدوا بالهم
ياذكي..أخواتك مش أنا بس، المهمّ عملت إيه؟.
مرَّرَ يدهِ على رأسهِ وتمتمَ محبطًا:
– معرفتش أقول كلمتين…أوَّل
ماقولت “عايز أتقدِّم”، هربت زي الحمامة!
ظلَّت تتابعهُ بصمت، ثمَّ زفرت الهواءَ بهدوء:
– إسلام…ادخل البيت من بابه..هيَّ لو موافقة عليك، هتوافق على الخطوبة.. بلاش تقعد معاها من غير علاقة رسمية..وبعدين..ملك دي بريئة جدًا، وبتتكسف أوي.
هزَّ رأسهِ موافقًا، ونطقَ بنبرةٍ صادقة:
– واللهِ ياميرال، كنت ناوي أفاتح بابا، بس كنت عايز أعرف مشاعرها الأوَّل، مش عايز أحرج بابا والياس، ونروح نطلبها نلاقيها مرتبطة.
أومأت له بتفهُّم، وابتسمت:
– لا..هيَّ مش مرتبطة، ادخل بقلبِ جامد، واسمع منِّي، البنات بيفهموا على بعض، وأنا شايفة بينكم كيميا حلوة.
مدَّ يديهِ وربتَ على كفَّيها شاكرًا:
– شكرًا ميرو…بجدِّ شكرًا، ربِّنا
مايحرمني منِّك.
قاطعَ حديثهم إلياس بعدما دوى صوتهِ غاضبًا:
– شيل إيدك ياحيوان!
ركل المقعدَ بعيدًا بقوَّة، فهبَّت ميرال من مكانها بذعر، بينما رمقها إلياس بنظرةٍ غاضبة ثمَّ أشارَ ناحيةَ الداخل:
– ابنك هينام..شوفيه.
تحرَّكت مسرعةً دون نقاش، أمَّا إسلام فالتفتَ حولهِ مشوَّشًا، يسأل:
– إيه دا؟! هما مشيوا؟
دفعهُ إلياس على المقعدِ بقوَّةٍ حتى هوى فوقه، ثمَّ رفع ساقيهِ مستندًا على ركبتيهِ ثمَّ انحنى نحوهِ بنظراتٍ حادَّة:
– الناس دي دخلت بيتنا، وإحنا دخلنا بيتهم..وبينا عِشرة ومعروف، إنتَ مش صغير، ماشاء الله هتتخرَّج السنة دي.. البنت عجبتك؟ يبقى زي ماربِّنا أمر، ادخل من الباب…
وأقسم بالله، لو حاولت تضايقها بهزارك السخيف دا، لأزعَّلك.
رفعَ إسلام حاجبًا ساخرًا، محاولًا التخفيفَ من التوتُّر:
– دا كلُّه علشان مسكت إيد مراتك؟! أومال لو حضنتها، كنت عملت إيه؟
لكزهُ إلياس بقوَّةٍ في صدره، وهمهمَ بنبرةٍ حادَّةٍ كسكين:
– اعرف إنتَ بتقول إيه يالا..بطَّل هبل وجنان، ومتلعبشِ معايا في الحتَّة دي.
انحنى أكثر، بنظراتهِ النارية، كأنَّها لهبٌ أراد أن يلتهمه، ثمَّ همسَ بفحيحٍ خافت:
– أنا بعرَّفك حدود ربِّنا…فيه حاجة اسمها حلال وحرام، يا عم المسلم.
اعتدلَ بجسده، واستدارَ مغادرًا، لكنَّه توقَّف حين سمعَ صوتَ إسلام خلفه:
– أنا آسف…مقصدشِ حاجة، كنت بهزَّر معاك.
ظلَّ إلياس متيبِّسًا في مكانه، ينظرُ له بصمتٍ لثوانٍ ثمَّ تحرَّكَ أخيرًا دون أن ينطقَ بحرف…
بمنزلِ يزن..
دلف للداخلِ يحملُ الحلويات المرتبطةِ بطقوسِ عيد الفطرِ المبارك..ينادي على أخته:
-حبيبتي خدي الحاجات الِّلي طلبتيها، ثمَّ أشار إلى كيسٍ بلاستيكيّ:
-دا ياستي الدريس بتاع كلِّ سنة، والشنطة دي حاجات ولوازم معاذ، التفتَ يبحثُ عنهُ متسائلًا:
-فين معاذ؟.
اقتربت منهُ وألقت نفسها بأحضانه:
-ربِّنا يخلِّيك لينا يارب ياحبيبي، مكنشِ في داعي، أنا لسة شارية حاجات جديدة.
احتضنَ وجهها بين راحتيه:
-أنتوا مسؤولين منِّي، حتى بعد ماتتجوِّزي، هفضل أجب لك الحاجات الِّلي كنت بجبَّها، إنتي سمعاني مستحيل أسمع منِّك أيِّ كلمة في الموضوع دا ..معنديش أغلى منكم.
-ربِّنا يخلِّيك لينا يارب..هروح بقى أعملَّك طبق مشكَّل لحدِّ مامعاذ يخرج من الحمَّام.
سحبَ سجاىرهِ واتَّجهَ إلى شرفةِ المنزلِ قائلًا:
-يعني لازم العيد يجي علشان يستحمَّى، بس ياربِّ ينضف.
أفلتت ضحكةً ناعمةً وردَّت قائلة:
-حرام عليك يايزن، دا معاذ أكتر حاجة بيعملها أنُّه بيستحمَّى.
ابتسمَ بسخريةٍ ثمَّ أشار إليها وتمتم:
-اعمليلي فنجان قهوة، مش عايز كحك..
جذب المقعدَ وجلسَ ينظرُ بالمارَّةِ المتحركينَ بالشارع، ولكن نظراتٍ شاردةٍ لا يرى سوى ضحكاتها ولا يستمعُ سوى نبرةِ صوتها التي تُطربُ الأذن، وكأنَّها تعيدُ همساتها بتلك الليلة:
“يزن أنا بحبَّك أوي”
أطبقَ على جفنيهِ يحدِّثُ نفسهِ وكأنَّها معه:
” وأنا بعشقك يامتخلِّفة ” ردَّدها مبتسمًا ومازال مُغمضَ العينينِ وكأنَّه بحلمِ لا يريدُ أن ينقطع.
ولج غرفة ابنه ..توقف يتطلع إلى صفيه التي تحمله بين أحضانه وهي عافيه..انحنى وحمله من بين أحضانها
-ماما حبيبتي..فتحت عينها تنظر إلى يدها
-فين بلال..ابتسم بمحبة يشير إلى فراشه
-بياكل رز ولبن مع الملايكة، قومي حبيبتي ارتاحي، بكرة العيد، وعندنا سفر، ولا غيرتي رأيك ومش عايزة تروحي السويس
نهضت من مكانها واقتربت منه، تحتضن وجهه:
-المكان اللي انت عايزه اكيد هكون معاك فيه، انت فرحة وزهرة عمري ياارسو، اه مخلفتكش، بس انت قطعة من روحي ..قالتها بانسياب دموعها
ضمها لأحضانه وتمتم:
-وانت ست الكل وروح قلب ارسو، اه امي فريدة ولدتني، بس انت شربتيني الحنان والحب، اوعي تفكري اني في من الأيام هبعد عنك
ابتعد عنها واشار إلى دموعه
-كدا ياصفية، الليلة عيد ونكدتي عليا، ادخل على البت معيط، ياله روحي لفاروق، ستات تجيب النكد
لكزته ضاحكة ثم عانق ذراعيها وتحرك للخارج وهو يقول:
-تعالي اوصلك لفاروق، خايف تتوهي وتفتحي باب اسحاق، ودا شكله مشهيص على الاخر، يكفيك شر الحرمان
توقفت وارتفعت ضحكاتها، ليخرج اسحاق من جناحه يتطلع إليهما بتساؤل
-مالك ياصفية خير، ايه الصوت دا
أشار إلى روبه الذي يرتديه وقال
-قولت حاجة انا، اهو طالع بروب احمر، طيب اقول ايه، ثم اقترب من اسحاق
-اروح استر نفسك، مش مكسوف
ضيق عيناه ثم رفع نظره الى صفية التي ارتفعت ضحكاتها بالمكان
-هو الواد دا مشربك ايه، لكمه بقوة في صدره
-إنت عملت فيه ايه يامتخلف، فاروق هينفخك
اقترب يهمس له بإذنه ويشير إلى روبه
ثم ضرب على كفيه
-كتر خيرها أنها بتضحك بس
توسعت عيناه ينظر إليه بذهول، ركض
من أمامه سريعا
-تصبح على خير يا عريس..
بجناح إلياس
دلف يبحث عنها وصدره كتلة نارية من الغيرة، كلما تذكر امسك اسلام لكفيها، فتح باب الغرفة ولكنها غير موجودة، استمع الى موسيقى هادئة بالغرفة المجاورة ..فتحها ينظر إليها، توقف ينظر إلى انعكاس وجهها في إضاءة الشموع، وجدها تنحني وهي تشعل الشموع مع ثيابها المغرية وهيئتها التي تجعله قديسًا لعشقها، اقترب منها وعيناه تحاوط جسدها بالكامل، بدءً، من خصلاتها المرفوعة للأعلى مع شرود بعضها على عنقها المرمري، وعيناها التي تشبه أعين الغزال السوداء، إلى فتحة منامتها، التي تظهر جمال جسدها باستفاضة..وصل إليها، شعرت بوجوده فرفعت رأسها إليه مبتسمة وهمست بصوت خافت
-حمد الله على السلامة، كنت ناوي تفضل للصبح تحت
ظل يقترب منها بخطى سلحفية، وعيناه على شفتيها المطلية باللون الاحمر القاني، بسط كفيه إليها، فعانقته
ثم رفعها لتدور بهيئتها التي سحبت أنفاسه :
-الجمال دا كله عندي في الأوضة
رفعت ذراعيها تعانق رقبته، وتحركت معه على الموسيقى
-لسة واحد بالك ولا ايه، مراتك حلوة من زمان بس التقيل كان بيتقل
انحنى يدفن رأسه بعنقها يسحب رائحتها كالمدمن الذي يتجرع جرعته
-حبيبي كل سنة وانت معايا..رفع رأسه واحتضنها بعينه وقال:
-لا ..دي مابتتقالش كدا، الليلة عيد ياميرا، وانا عامل براجرم هيعجبك اوي، وبتعشقيه كمان
في جناح ارسلان
دخل ومازال يضحك على ما فعله باسحاق، ولكنه توقف مرة واحدة بعدما وجدها تجلس في الأرض وتبكي
هرول إليها وقلبه ينتفض بالخوف:
-غرام ايه اللي حصل ؟!.
مالك حبيبتي، باباكي كويس
اومأت له وارتفعت شهقاتها بالبكاء تحتضتنه، تصنم جسده غير مستوعب مااصابها، أخرجها بهدوء وعقله يعمل بكافة الاتجاهات على مااصابها
-حبيبتي اهدي وعرفيني مالك، ايه اللي حصل
فتحت يده ووضعت شيئا ما بكفيه، مع صوت بكاؤها
نظر للذي بيده يقلبه بجهل، ثم تذكر شيئا ما ..فاتجه إليها بنظرات نارية
-وحياة خضتي دي ماانا راحمك يابنت محمود ياغبية يامتخلفة

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية شظايا قلوب محترقة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *