روايات

رواية لأجلها الفصل الرابع عشر 14 بقلم أمل نصر

رواية لأجلها الفصل الرابع عشر 14 بقلم أمل نصر

رواية لأجلها البارت الرابع عشر

رواية لأجلها الجزء الرابع عشر

لأجلها
لأجلها

رواية لأجلها الحلقة الرابعة عشر

بالرغم من الزحام، هناك أرواح تمضي وحدها.
قلوب تتكئ على الفراغ، وعيون أرهقها الانتظار.
قد نغلق النوافذ، لكننا لا نغلق الحنين.
وقد نكابر، لكننا لا نُشفى.
بعض الوداع لا يُقال فيه شيء، لكنه يأخذ منا كل شيء.
أحيانًا، يمضي أحدهم بصمت… ويأخذ معه كل الأصوات.
ويتركنا نرتب تفاصيل الغياب على أمل ألا ننهار.
لكننا ننهار… فقط بصوت خافت، لا يسمعه سوانا.
الخذلان لا يأتي فقط ممن نكرههم،
بل من الذين وعدونا أن يكونوا لنا وطنًا… ثم غادروا.
فلا الطمأنينة عادت، ولا نحن عدنا كما كنا.
ورغم كل شيء، نبتسم…
لأننا اعتدنا أن نُخفي الألم خلف قناعٍ من الصبر،
وأن نكمل الطريق، حتى لو بأقدامٍ مثقلة بالخذلان.
المراجعة والخاطرة للجمر حجي/ #سنا_الفردوس
……………………..
الفصل الرابع عشر
لقد فعلها وأعلنها أمام الجميع، ولم يُكذِّبه أحد، حتى والدتها التي تلقت الخبر كالغرباء، لم تنطق ببنت شفة، وقابلت أمرها بصمتٍ تام ومريب أيضًا.
قالها لينفض عنه وعنها أي اتهام، فينجيها من شرر ألسنة البشر، ليمر هذا الحدث الجلل بسلام، ويحين الآن وقت الحساب.
وقفت هالة في أعلى الدرج تتابع الشجار الساخن أسفله بصمتٍ مدهش، رغم الغليان بداخلها ورغبتها في الصراخ في وجوههم. لكن فضولها في معرفة التفاصيل جعلها تصبر وتحلل قبل أن تُصدر أي رد فعل:
– استريحت دلوك؟ استريحت بعد ما خلّيت الكل يمسك في سيرتك إنت والبنية؟ استريحت بعد ما لمّيت أهل البلد كلهم يشهدوا عليك وإنت بتربي الواد الصايع ده؟ جدع يا معاذ، جدع يا بشمهندس يا عاقل يا راسي!
ختم حمزة كلماته وصفّق كفّيه بعصبية وتشنّج من فرط غضبه، حتى جعل الآخر يبرّر مدافعًا:
– راسي ولا مجنون! كنت عايزني أسكت وأخلّي الناس تمسك سيرتها بعد ما الواد ده خرّبط بحديته؟ والله لو كان يخصني أنا وبس ما كنت عبرته، لكن عند ليلى أصوّر جتيل!
صرخ بالأخيرة حتى أثار جزع والدته، فسارعت بالتدخل لتهدئة الأجواء بين ابنيها مرددة:
– ما خلاص يا بوي، اللي حصل حصل، كده كده الواد عايزها وهي كمان رايداه. بكرة نعلّي الجواب وما حدش يقدر ينطّق ببوم حتى. قال: زيتنا في دقيقنا، ومحدّش شريكنا.
– ههاي! جال زيتنا في دجيجنا ومحدّش شريكنا!
هتف بها حمزة بضحكة ساخرة خالية من أيّ مرح، ثم التفت عنهم، يعطيهم ظهره ليهدّئ من وتيرة أنفاسه المتصاعدة بتوترٍ ملحوظ، وتتدخل منى الصامتة منذ بداية النقاش الحاد بتعقيبها:
– الموضوع مش سهل زي ما إنتي فاكرة يا أم حمزة، ولا المجنون ولدك كيف ما عجّله مصوّرلُه. منظر مزيونة النهارده وهي بتسحب بتها بهدوء ومن غير أي كلمة، ما يوحّيش بأي خير. ده غير إنها مش بالسذاجة دي اللي تخليها تجبل بالأمر الواقع. معاذ غلط إنه كلمها أصلًا في المرماح. خلّينا نبجى واضحين مع نفسنا، ما نبرّرش عشان نطلع بحلول تغصب غيرنا على حاجة هو مش عايزها.
كاد حمزة أن يشكر شقيقته بعدما فسّرت طبيعة الوضع القائم بهدوء وعدل، دون تحفز جائر لشقيقها، حتى أثّر على معاذ الذي بدأ يصحو على حقيقة خطأه، فيأتي رد حسنية بطبيعة أمومية بحتة تُعارضها:
– ليه يا بتي نسميها غصب؟ هي مزيونة لو لفّت الدنيا كلها، هل تلاجي زي المهندس معاذ؟ تربية الأزهر وزين شباب البلد كلها! ده غير إننا مستعدين ننفذ لها كل طلباتها من جنيه لمليون، اللي تأمر بيه إحنا كدِيه!
– هو الموضوع موضوع فلوس؟
صاح بها حمزة وقد عاد للانفعال مرة أخرى مردفًا:
– يا أمه، الله يرضى عنك، خلينا نفكّر بعجل ومانخليش عواطفنا هي اللي تغلب! اللي حصل ما كانش في أوضة ولا في سوق حتى، ده حصل جدّام أمة “لا إله إلا الله” من أهل البلد… أهم حاجة نرضي مزيونة. ده حقها علينا دلوك!
قالها بصرامة وحزم حتى أيدته والدته بحماس:
– وماله يا ولدي؟ إحنا نخطف رجلينا عليها العشيّة، تكون هي هدِيت شوية، وأنا ليك عليا أصالحها وأراضيها كمان عشان توافق وتقتنع، وهاخد منى معايا.
اعترضت الأخيرة تبدي رفضها:
– لا معلش يا أمه، اعفيني أنا. كفاية عليا الموشّح الي هاخده من منصور على تأخيري، أسيبكم بَجى وأروح أشوفه. فوتكم بعافية.
تحرّكت مغادرة، لتردد حسنية من خلفها:
– الله يعافيكِ يا بتي، وإحنا إن شاء الله نطمنك بالأخبار.
ثم التفتت نحو ولديها قائلة:
– الأمور سهلة إن شاء الله، ما تعجّدوهاش على نفسكم. وهي في واحدة في الدنيا تكره راحة بتّها؟
تهللت ملامح معاذ استجابة لكلماتها، وقد ارتسمت بخياله الأماني، على عكس حمزة الذي ردّد بقلق:
– أتمنى ده يحصل فعلًا، ما أنا قلبي مش مطمن.
أما هالة، فقد تحرّكت هي أيضًا ذاهبة لغرفتها، وحالة من الغليان تسري داخلها نحو تلك “المزيونة” وابنتها، وأهميتهما الظاهرة بعنف نحو الأربعة، حتى المرأة الكبيرة نسيت شقيقتها ووعودها الدائمة بتزويجها لهذا المتمرد، الذي كان يتعفف عن الزواج، والآن يُفتح له ألف باب. اللعنة على تلك الحيرة التي أصابتها… هل السر في الأم أم في ابنتها؟
………………………..
بهُدوء تُحسد عليه، لم تنهَرها، ولم تضربها أو تثر عليها كما تفعل باقي الأمهات في ردّ فعل طبيعي، لكنها خالفت المتوقّع، ليس من أجل شيء سوى أن تفهم… تفهم ما حدث، ولماذا هذا المعتوه تصرّف هكذا أمام الناس علي أنها شيء يملكه؟
أما عن ليلى، فقد تسبب الصمت في انهيارها، فبدأت تحكي وتبرّر وتحكي، دون أن تترك تفصيلة واحدة، حتى لو لم يكن لها محل من الإعراب، لكنها أصرّت ألّا تُخفي عنها شيئًا:
– بس… كل ده اللي حصل من طج طج لسلام عليكم، ما خبّيتش عنك أي حاجة يا أمي. أكيد أنا غلطت ومستعدة لأي عقاب منك، بس والله كله حب شريف، مفيهوش أي تجاوز من أي نوع. يعلم الله، حتى سلام اليد كان ممنوع.
أسهبت وأسْهبت في التبرير، ومع ذلك لا تجد منها إلا الصمت، تطالعها بأعين خاوية، لا تدري إن كان بها عتب، أو خيبة أمل، أو حسرة.
ليتها ضربتها حتى كسرت لها عظامها، على الأقل سيكون أرحم من هذا السكوت المطبق.
– يا أمي، رُدي عليّا، الله يرضى عنكِ!
هتفت بها ليلى وقد فاض بها، لتنهض من جلستها وتسقط أسفل قدميها، تجلس على الأرض، تحتضن ركبتيها وتشهق من فرط بكائها، طالبة السماح، مرددة بصوت متقطع:
– سامحيني يا مزيونة… ولا ولّعي فيّا أحسن… أو اضربيني وكسّري عضامي، إنما ما تجعديش كده ساكتة! أحب على يدك ياما، أحب على رجلك…
وتابعت البكاء بنشيجٍ حارق، حتى بلّل سيل دموعها قماش العباءة فوق ركبتي مزيونة، والتي أشفقت عليها أخيرًا، فتنهّدت بعمق قبل أن تمسكها من ساعديها، لترفع رأسها إليها قائلة بحزم:
– أنا مش هضربك، ولا حتى هحاسبك. أنا بس هطلب منك حاجة واحدة عشان أسامحك، يا كده يا ما تبجيش بتي من الأساس.
التقطت ليلى استجابتها بلهفة، تومئ برأسها بالموافقة، رغم توجسها الشديد من القادم.
فرفعتها مزيونة من ذراعيها حتى أجلستها مقابلة لها، ثم ألقت عليها بصرامة:
– أنا مستعدة أنسى اللي فات، بكل أغلاطك فيه، من أول ما داريتي عني معرفتك بمعاذ، لحد جرْسة المرماح واللي حُصل فيه. بس بشرط: إن اللي جاي كله بكلمتي. أنا اللي هقرّر مستقبلك يا ليلى، وانتي اللي عليكي تجولي حاضر، مهما كانت صعوبة القرار، وأظن إنك عارفاه زين.
وكيف لا تعرفه؟! وهو بمثابة الإعدام لها… ومع ذلك، لا تملك الاعتراض.
وكأنها ملكت قلبًا من حجر، واصلت مزيونة الطرق على الحديد ساخنًا حتى تغلق باب النقاش إلى الأبد:
– هااا، جولتي إيه؟
بانهيار أشد من السابق، ردّت ليلى بصوتٍ بحّ من شدّة الحزن:
– موافقة… كل اللي تجولي عليه… أنا موافقة بيه.
ختمت، لتنطلق في موجة أخرى من البكاء بحرقة، حتى جذبتها مزيونة إلى صدرها، تضمّها وتحتويها، وتُخفي أيضًا دموعها.
………………………
لا تملك الجرأة في مخاطبة حمزة أو شقيقه المتمرد، وإن هاتفت منى وسألتها، فسوف تتلاعب بها كعادتها. كما أنها حانقة وبشدة من زوجة عمها التي تخلّت عن وعودها، وباعت شقيقتها لصالح امرأة غريبة وابنتها.
فكان لا بد أن تجد من تنفث فيه طاقة الغضب التي تحملها داخلها منذ ساعات، ومنذ معرفتها بما حدث، الأمر الذي قلب الموازين رأسًا على عقب. ومن أمامها يشاركها مخدعها سوى زوجها، الغافل عن كل ما يحدث من مصائب حوله، وقد كان عائدًا لتوّه من الخارج، ألقى التحية بروتينية باردة:
– مساء الخير.
– مساء النور، أخيرًا جيت يا خليفة، الدنيا تضرب تجلب، وإنت كنك في دنيا تانية ومش عايش معانا!
قطّب حاجبيه، وتوقف عن التوجّه نحو المرحاض، ليعلّق بضجر واستنكار:
– أعوذ بالله منك ومن خشمك اللي بينقط زفت، الفال سعد، محدش فهمهالك دي؟
نزلت من على التخت، تقابله في وقفته متحفّزة:
– لاه دي عارفاها من زمان يا خليفة! بس أنا هحكم إنها “سعد” على أساس إيه؟! ما أنت لو سمعت عن الجرسة والفضيحة اللي عملها أخوك في ساحة المرماح، وعركته اللي اتلم عليها أهل البلد كلهم، أكيد كنت فهمت أنا قصدي إيه!
– أممم…
زام بها بشفتيه باستدراك لمقصدها، ثم أردف ببساطة كادت أن تصيبها بذبحة صدرية:
– يعني إنتي كل عراكك ده عشان معاذ؟! طب ما هي العركة فضّت، وولدنا عرف يوقّف الواد الصايع ده عند حده بعد ما إدّاه الطريحة وادّبه.
سمعت منه لتخرج من نصف حلقها شهقة استنكار، وعيناها برزتا للخارج، ترددت بعدم استيعاب:
– يعني إنت كمان على علم يا خليفة؟! كنت عارف إن أخوك ماشي مع واحدة وبيتعارك عليها في و…
– وجفي عندك!
قاطعها بها، ليردف مشددًا برفع سبابته أمام وجهها:
– غلط في بنت الناس، مش هسمحلك، ليلى أخويا طالبها بالحلال، وحكايته معاها في النور جدّامنا كلنا، يعني مش في الضلمة عشان يتقال ماشي معاها!
– يعني إنت كمان كنت عارف؟!
قابل صرختها بعدم اكتراث، مؤكّدًا:
– أيوه يا ستي كنت عارف. حمزة ومعاذ الاتنين مكلميني في الموضوع، زي ما أنا عارف إنهم دلوك رايحين لأمها عشان يجيبوا منها الموافقة على الخطوبة رسمي.
هل يقصد إصابتها بالجنون؟ لو كان غرضه هذا، فهو قد نجح. فهيئتها التي توشك على الانهيار كانت بالفعل على شفا ذلك:
– يعني كل ده بيحصل من ورا ضهري، وإنت عارف ومشجعهم كمان؟! بتداروا عليّ كأني عدوتكم؟! وأختي إسراء، زينة بنات العيلة كلها، أخوك يرفضها علشان واحدة زي دي؟!
عاد مشددًا بنبرة حازمة، غير آبه بانهيارها:
– للمرة التانية بنبّهك: متغلطيش في البنت، اللي اسمها دلوقتي جدام الناس “خطيبة أخويا”، وبكرة هتبجى مراته، يعني اللي يمسها يمسنا. وبعدين إيه دخل أختك باللي حصل؟!
توقف متأملًا ملامحها المصدومة، يستطرد بقصد:
– دي حاجة اسمها “جسمة ونصيب”. يعني لو ملهاش بخت فيه، ربنا يرزقها بالأحسن، يبقى الواجب إنها تشيل من دماغها، عشان لا الحب ولا الجواز بالعافية ولا الفرض… وكل واحد يحافظ على كرامته.
…………………….
في منزل مزيونة، كانت الجلسة التي تمت بناءً على طلب رسمي للقاء بها بعد حادثة الصباح.
لم تحضر منى، لتحل محلها والدة ياسين، الأخت الأصغر من حمزة، والذي خجل بدوره في الحضور. مع إصرار مزيونة، أن يقتصر الحضور على عدد قليل، تجنبًا لغضب شقيقها، الذي فضّلت عدم إعلامه بالأمر الآن.
بدأ معاذ الجلسة مبادرًا باعتذاره:
– أنا بكرر أسفي للمرة الألف، يعلم الله إن تصرفي ده ما طلعش غير من غيرة وخوف على ليلى، مش أكتر من كده.
تلقت اعتذاره بملامح باردة دون أن تبدي أي رد فعل. فتدخلت شقيقته الكبرى:
– معاذ رايد ليلى بالحلال يا مزيونة، وتصرفه ده على كد ما هو متسرّع، بس بصراحة ما نقدرش ننكر إنه جه في وجته، عشان يخرص أي حد حب يتطاول بكلمة.
تبسمت مزيونة بتسلية رغم حنقها من عفوية المرأة، التي لا تجيد انتقاء الكلمات مثل شقيقتها منى. ثم جاء رد فعلها حين تلقت لكزة قوية من والدتها، التي سارعت لتصلّح:
– لا حد يجدر يتطاول ولا يتكلم أصلاً. بصي يا ست مزيونة، أنا هاجيبلك من الآخر. سيبك من كل اللي حصل، وخلّيكي معانا، الموضوع ده جاي من عند ربنا، عشان يوفّق ما بين العيلتين في بعض. إحنا رايدينها، ونشيلها بشنطة هدومها، واللي إنتي عايزاه إحنا تحت أمرك.
سارع معاذ بإضافة الأهم:
– تعليم ليلى مش هجصّر فيه يا خالة مزيونة، ولو على موتي! لو حصلت أذاكرلها بنفسي، هاعمل كده. المهم إنها تجيب المجموع الكبير وتدخل جامعة محترمة. أنا دريان إن ده حلمها وحلمك، وحلمي أنا كمان دلوك.
خرجت عن صمتها أخيرًا، بهدوء يثير الدهشة:
– بس أنا مش هشرك حد في حلمي أنا وبتي يا معاذ، لأن الموضوع منتهي أصلاً. متزعلوش مني، يعني… أنا جاية من الأول، اللي عايز بنتي، ينتظرها لحد ما تخلص تعليمها.
وقع قرارها كالصاعقة على الثلاثة، حتى ألجمهم عن الرد لحظات. ثم استوعبتهم حسنية أولًا، وجادلتها بحرج:
– أيوه يا بتي، بس… معلش يعني، أنا جصدي…
– جصدك موضوع الخطوبة؟ لا، دي مش مستاهلة تفكير أصلًا.
تدخلت أم ياسين مستفسرة، أمام صمت معاذ الذي أصابته كلمات مزيونة بالدوار:
– مش مستاهلة تفكير إزاي؟ معلش، متزعليش مني يعني… ليلى جدام الناس تعتبر مخطوبة رسمي لمعاذ، من غير حتى جراية فاتحة ولا شبكة!
– لا، وهزعل منك ليه؟
ردّت مزيونة، ووجّهت نظرة حادة نحو معاذ، قبل أن تستكمل:
– إنتي بنفسك جولتي “يُعتبر”، وده كلام زي أي كلام. نسكت عليه شوية،كد خمس تاشر يوم كده، وبعدها ننشر إن الخطوبة انفلتت. وإحنا برضو حبايب، ومفيش أي حاجة وحشة بينا تمنع الجواز لما تخلص تعليمها.
أطفأت جذوة الأمل داخله، قطعت عليه عشمه بفرحة العمر. كيف طاوعها قلبها؟!
بقلب منفطر، تابع حلقة النقاش التي صارت تُدار أمامه من والدته وشقيقته، أمام مزيونة المتعنتة كالصخر. صارت عيناه تبحث عن وليفته، يريد منها ولو إشارة واحدة فقط، وسوف يفعل المستحيل. كيف تتركه يصارع وحده الغرق، دون أن تمد له يد المساعدة؟ كيف لها أن تتركه يحارب وحده في معركة تخصّهما معًا؟
شارِدًا في زحمة أفكاره، لا يدري أنها داخل غرفتها تكتم صوت بكائها على وسادتها، لا تقوى حتى على الاعتراض… بعد العهد الذي أخذته عليها والدتها، والذي لا يمكن أن تنقضه إلا بالموت.
……………………….
نهض خليفة من جلسته مع شقيقه حمزة، ليتلقّى والدته التي كانت عائدة من الخارج. أجلسها بجواره، تلتقط أنفاسها في البداية، قبل أن توجه لهما أمرها:
– حد فيكم يشوف الواد ده، مش ناجصين يطينها أكتر ما هي مطينة!
– يا ساتر يا رب! إيه اللي حصل؟ وهو معاذ راح فين أصلًا؟ ولا أم ياسين؟ إزاي سابوكي ترجعي لوحدك؟ عقّب بها حمزة، قبل أن يأتيه ردها:
– أم ياسين وصلناها على بيت جوزها بالعربية، أما أنا، فوصلني لحد باب البيت، وجالي مخنوق، وماقدرش أدخل. أنا خايفة يعمل حاجة في نفسه بعد ما مزيونة رفضت للمرة التانية جوازه من بتها.
– وه؟!
تمتم بها حمزة، ليضيف عليه خليفة بدهشة:
– كيف الجزينة دي ترفض؟! هي مش دريانة إن خبر الخطوبة بجى مسمّع في البلد كلها؟! هي المرة دي عايزة توجف حال بتها ولا إيه؟
– إيه اللي حصل عاد يا ولدي؟! مزيونة دي طلعت صعبة جوي!
زفر حمزة، يقابل نقد شقيقه ورد والدته بحزن شديد على الآخر. هذه المرأة تفاجئه كل يوم. تلك العنيدة، كيف ملكت الجرأة لتفعلها؟ تقلب الطاولة فوق رؤوسهم دون أن يرفّ لها جفن؟ وتحوّل نقطة ضعفها إلى مركز قوة؟
نهض فجأة من جوارهما مستأذنًا:
– أنا رايح أشوف الواض فين وأطمن عليه.
وغادر، تاركًا لهما الجلسة التي خيّم عليها الحزن… على عكس ما كان يحدث عند صنف آخر من البشر، تلك التي كانت تستمع إلى حديثهم، بقلب يتراقص فرحًا، تغمرها سعادة بعد رفض هذا المتمرّد، لتمتم بشماتة واضحة:
– أحسن! عشان يعرف قيمة إسراء أختي!
………………………..
في عتمة الليل وسكونه، وقلبها ينزف حزنًا على ما قد تم، وما فعلته بيدها، تنهشها نيران الحيرة؛ لا هي قادرة على التراجع، ولا تملك القدرة على المواصلة. إن اختارت نفسها واختارته، ستخذل أقرب الأشخاص إليها، من هي قطعة من روحها. وإن استمرت وتشبثت بقرارها، فإنها بذلك تكتب شهادة موتها وهي على قيد الحياة، ويبدو أن هذا ما تم بالفعل.
لم يعد لديها سوى سيل الدموع على وسادتها، إنها حتى لا تملك رفاهية البوح بها. هذا ما تبقى لها… ولكن…
صوت صهيل خيل دوّى فجأة يصل إلى مسامعها، جعلها ترفع رأسها، ثم تنهض بلهفة نحو النافذة الخشبية القديمة، فتحت شراعها، لتفاجأ به؛ فارسها المُظفَّر يعتلي حصانه العربي، يدور به في دائرة صغيرة على مسافة آمنة نسبيًا من المنزل. يشير لها بقبضته نحو صدره بعنف ثم نحوها، في إشارة واضحة بأنه لن يتركها، حتى لو تخلّت هي عنه.
وبدون أن تشعر، غلبتها الفرحة بقدومه؛ لتضحك رغم دموعها، وعلى غير إرادتها، تتخلى عن جمودها. فيصل إليه مشهدها كاعتراف غير منطوق، يرطّب قلبه الملتاع.
فيزداد إصراره وتمسّكه بها رغم كل ما حدث، ويتضاعف التأكيد داخلها هي أيضًا بعشقه. مجنون ليلى لم يفقد الأمل بعد، مجنون ليلى لن يتركها إلا بخروج الروح من جسده كما قال؛ فهي الروح، ومن بعدها الموت.
…………………….
استيقظت باكرًا لتلحق بنشر مفارش النوم والأغطية على الأحبال المعلّقة خلف المنزل، أسفل شجرة التين العتيقة، في روتين يومي لا تتوقف عنه أبدًا لتستفيد من ضوء الشمس، وتسبق مجيء الرجال البنائين الذين يأتون للعمل في المنزل المقابل.
لتتفاجأ به اليوم جالسًا بالقرب منها على المصطبة الطينية، لكن متى قد جاء إلى هنا؟
آسف لو خضيتك يا ست مزيونة، بس أنا جاعد هنا من خمسة تقريبًا، وشكل الوجت سرقني مع الجو الحلو ونسمة الفجر اللي ترد الروح… والخضرة؟ تمتم بها نحوها وهو ينهض مستقيما بجسده، بعد أن انتبه لفزعها، فمن المؤكد أنها لم تتوقع حضوره في هذا الوقت وبهذا القرب منها.
أما عنها، فقد ملكت بأسها بعد لحظات لتخاطبه بعدم اهتمام:
مفيش داعي للأسف، أنا أصلًا متخلعتش ولا اتخضّيت، براحتك يا أبو ريان، حتى لو نويت تبيت مكانك، إيه اللي يمنع؟ الأرض أرض الله.
تبسم بتسلية؛ فقد أعجبه رد فعلها المعاكس. ما أجمل صباحها، قطة فاتنة شرسة تجيد الهجوم، مهما كانت قوة خصمها وحجمه حتي لو زادت أضعافًا عنها.
دا من ذوقك طبعًا يا أم ليلى، أصل أنا بصراحة كنت محتاج اللحظة دي من التأمل والهدوء، بعد الخنقة وضيج النفس… بسبب موضوع كده طيّر النوم من عيني.
حدّجته بنظرة جانبية وهي تنتهي من فرد الفرشة الأخيرة على الحبل، لتعقّب بكلمات مقتضبة:
ربنا يفك كرب كل مخنوق.
قالتها وهمّت بالذهاب، لكنه أوقفها بقوله:
ست مزيونة، ممكن تجاوبيني على سؤالي؟…
توقّفت في استجابة واضحة لسماعه، فأردف هو:
سامحيني لو هتدخل، بس أنا صعبان عليا معاذ، عارف إنه غلط، وإنتِ ليكي مطلق الحرية ترفضي أو تجبليه، بس أنا جصدي إنه بيحبها، يعني ممكن نلاجي حلول لارتباطه بليلى؟
جاء ردّها بحدة أعلى مما سبق:
حلول إيه بالضبط؟ مع واحد استغل صغر سنها عشان يلف عجلها؟ واحد محرصش عليها ولا على سمعتها؟ واحد أدّى فرصة لعيل صايع يبص لبتي بنظرة مش ولابد، ولا يمكن أفتكرها بت سايبة…
جطع لسان اللي يجول كده! قاطعها بها ليردف بحمائية:
معاذ مسكه ومسح بكرامته التراب…
وكانت النتيجة إيه؟ الواد زعق بأعلى صوته عشان يسوّء سمعة بنتي…
أضافتها عليه لتلجمه قليلًا عن الرد، فقد أصابت بقولها، وهو الأعلم بذلك، ثم أردف موضحًا:
والحمد لله، ربنا ردّ كيده في نحره، بعد ما معاذ قضى عليه، وأثبت إن ليلى تخصه.
أومأت بتحريك رأسها عائدة بسخرية قاتمة:
دا على أساس إنه صلح يعني؟ للأسف، أنت بتبرر لأخوك وهو بيعمل لمصلحته، وفاكر إنه كده هيجبرني، رغم إنك عارف إن الغلط من ساسه لراسه، ومش أنا وبتي اللي هنشيل ذنب مش ذنبنا.
أنهت عبارتها واستدارت عائدة لمنزلها غير عابئة بغضبه. وما إن خطت خطوتين حتى أوقفها للمرة الثانية:
بس الحب مش ذنب يا ست مزيونة…
صدحت كلماته تخترق أسماعها بقوة، لتلتف إليه تواجه شرار عينيه بعينين متحديتين، تقارعه:
فعلاً، الحب مش ذنب… لكن الأنانية هي اللي ذنب، وللأسف الأنانية طبع متأصل في الرجّال.
يرى جيدًا من حدتها أنه المقصود، وليس شقيقه فقط، ليكظم غضبه بصعوبة نحوها متسائلًا:
حكمتي على كل الرجالة إنهم أنانيين؟ طب بناءً على إيه؟ إنتي شفتي مين في الدنيا دي أساسًا غير طليقك… الله يجحمه مطرح ما هو قاعد؟ إنك تحطي معاذ في كفة واحدة مع عرفان دا الظلم بعينه.
حلّت ابتسامة ضعيفة على زاوية فمها، تنم عن سخرية واضحة، تريد الانتقام ولو حتى بالكلمات، لتجفله بقولها:
ومين جالك إني حاطة معاذ بس في الكفّة مع عرفان؟
برقت عينيه فجأة باستدراك، متيقنًا أن اللعب بينهما أصبح مكشوفًا ومفهومًا من الطرفين، ليرد على سؤالها بسؤال:
يعني جصدك إن أنا كمان… حطّاني معاهم في نفس الكفّة؟!
تكلفت بابتسامة مراوغة تجيبه:
ومين جاب سيرتك بس يا أبو ريان؟ أنا جصدي على صنف الرجالة كلهم… متزعلش مني يعني، عن إذنك.
والتفتت مغادرة من أمامه، فلم يوقفها مرة أخرى. إنها غاضبة منه أكثر من شقيقه، وهو ليس بالغباء الذي يجعله يغفل عن الرسائل التي ألقتها في وجهه. تغلق الباب أمامه حتى تمنع عنه الأمل أو التفكير. كم كان خاطئًا حين ظنها لا تعي عشقه الصامت، لا يستبعد الآن أنها تحمل نفس المشاعر، ولكن قلبها القاسي يصر على دفن نفسها بالحياة… ودفنه أيضًا.
………………………
وفي مشفى المحافظة كانت صفا محتجزة بإحدى غرفها لتلقي العلاج والعناية المركزة لتلك الجروح والكسور التي أصابتها في أجزاء عدة من جسدها، كالكسور المضاعفة في الذراع الأيمن، وإصابة شديدة بالرأس، ووجه اختفت ملامحه من كثرة الكدمات والانتفاخات، حتى صوتها حين تتوجع كان يخرج بصعوبة:
آااااه يا أمه، جسمي كله اتدشدش يا ناس، مبقاش فيه حتة واحدة سليمة، منك لله يا عرفان، منك لله!
مصمصت المرأة شفتيها تعقب بحنق:
أيوه يا أختي، ادعي عليه، على الله بس تثبتي على رأيك وما ترجعيش تحني تاني وتنسي كرامتك كالعادة!
سمعتها لتردد بقهر ووجع:
حرام عليكي يا أمه، هو أنا حمل تجطيم دلوك؟ بتك اللي لولا الحكومة نجدتها، يعني لولا رحمة ربنا، كان زماني دلوك ميتة ولا في الإنعاش، ده كان بيضرب فيا بغِلّ السنين! حسبي الله ونعم الوكيل فيه، أنا أذيته في إيه بس؟
طالعَتها والدتها بذهول وعدم استيعاب، لتعلّق ساخرة:
أيوه صح، عندك حق! انتي عملتي إيه يعني؟ غيرش بس علّجتيه بيكي وكرهتيه في مرته الأولى؟ هو حمار ما بيفهمش يا بتي…
تنهدت من العمق، تتابع بجدية:
ياما نصحتك زمان وانتي ما سمعتيش الكلام، جولتلك الرجالة كتير، ما وقفتش عليه هو وبس، لكنك كنتِ ماشية زي العمية ورا خالتك اللي كارهة مرته، طب أهو لف الزمن وانجلب السحر عليكي! هتعملي إيه دلوك؟ هترجعي؟ ولا هتطلّجي؟ ولا إيه ظروفك؟
ضربت الحيرة رأس صفا، لا تنكر أنها تريده رغم كل ما أحدثه بها من إصابات، ولكنها تخشى غدره، فهي الأعلم بطبيعته القاسية. حتى إن تنازلت عن حقها، لن يغفر لها ولن يتوانى عن إذلالها وكسر نفسها. فهذا عرفان، ابن خالتها، الذي تعرفه أكثر من أبنائها.
……………………….
وفي منزل منى وقد أنهت مكالمتها الهاتفية منذ لحظات، ليصيبها حزن تجلّت معالمه على وجهها، حتى أثار انتباه زوجها الذي كان يساعد أبناءه في استذكار دروسهم بجوارها في صالة الاستقبال.
راقب شرودها للحظات، وحين استبد به القلق تركهم، وجلس بجوارها على الأريكة، ليستفسر منها مباشرة:
إيه الحكاية؟ حد بلغك بخبر عفِش في التلفون؟
أومأت بتنهيدة خافتة تخبره:
مش خبر واحد للأسف… دي أخبار! اللي أتوقعتة وكنت خايفة منه حصل،و أكتر كمان. حركة معاذ جلبت مع مزيونة بعند، والنتيجة دلوك إنها اتجفلت من كل النواحي… عليه، وعلى ليلى، وعلى أخوه اللي ملوش ذنب كمان.
حمزة؟ تمتم بالاسم بفراسه منه، لتردف هي مؤكدة:
للأسف اتضح له إن مزيونة فاهْمة وحاسة، لكن عِنْد نفسها خلاها تجلب عليه هو كمان، على أساس إن ليه مصلحة في اللي بيُحصل. مش بقولك اتعجدت من كله!
زَمَّ بتفهُّم وابتسامة صغيرة ارتسمت بثغره رغمًا عنه، معقبًا:
عشان زكية… خسارة والله واحدة زي دي ما كملتش تعليمها. على الأقل كانت تبقى مناسبة أكتر لحمزة اللي متعلم تعليم جامعي.
يا خويا بس ترضى! هو راضي بيها، حتى لو جاهلة، بس هي تحن وترضى.
ضحك منصور ليخفف عنها:
الصبر يا ست منى، محدش عارف بكرة ربنا كاتب إيه؟
ببعض الاقتناع والارتياح، ردّدت خلفه:
ونعم بالله.
……………………….
أما عنها فقد كسى الحزن ملامحها، جاهدت ألا تُظهر ذلك أمام والدتها، ظنًا منها أنها قد تنجح، لكن لم يحدث. حتى محاولات صديقتيها سمر ونسرين لصرفها عن التفكير، بدمجها معهما في الدراسة أو المزاح، ولكن لم تفلح أي طريقة معهما.
هي مُصرة على الوفاء بوعدها لوالدتها، وعدم نكث العهد، ولكن أين تجد الإرادة للاستمرار والمضي قدمًا بدونه؟ لا تعلم.
ليلى عرفان موجودة هنا يا بنات؟ ليلى عرفان؟
جاء صوت النداء من مدخل الفصل الدراسي المتواجدة بداخلة أثناء إحدى الحصص، لتنتبه إليه مع رد المعلمة نحو تلك السيدة من عاملات المدرسة:
أيوه، ليلى قاعدة هنا. مالك بيها يا عطيات؟
جاءت الإجابة من المرأة لتسرق انتباه الجميع نحوها:
خطيبها عايزها في غرفة وكيل المدرسة!
برقت، مرددة خلفها:
خطيبي؟!
……………………….
بعد قليل كانت أمام غرفة الوكيل برهبة تملكتها، لتفاجأ به أمامها، هو بشخصه، جالسًا مقابل مكتب الوكيل، الذي تلقاها مرحبًا قبل أن يترك الغرفة لهما:
أهلا يا ليلى يا بنتي، اتفضلي. أنا هروح أجيبلي كوباية شاي وراجعلكم.
خطت بأقدامها نحو الداخل، بتساؤل غير منطوق، تناظر ملامحه الباهتة. ليس هذا معاذ الذي تعرفه، طاقة الحب والجنون معًا، الحيوية في أبهى معالمها… حل محلها تعاسة تجلت في نبرة صوته وهو يخاطبها:
عاملة إيه؟ معلش، سامحيني لو اضطرّيت أستغل الصفة الوهمية دي النهاردة. يعني اعتبريها من نفسي قبل ما الست الوالدة تنفّذ اللي في مخها وتعلن فسخ الخطوبة اللي محصلتش أصلًا.
غامت عينيها بدمعة تحتجزها بصعوبة، تسأله بجفاء تتصنّعه:
جايلي المدرسة ليه يا معاذ؟
ابتلع غصته ليجيب بصوت مبحوح:
عشان مش هجدر أشوفك برّا تاني، ولا هوجفك عشان أكلمك وأسألك. أنا خلاص عرفت الإجابة، ومفيش داعي أزوّد أو أجيبلك الكلام…
أردف بعد فترة من الصمت:
أنا مسافر أسيوط أستلم شغلي يا ليلى. الخطوة دي بقالي أسابيع مأجلها، وأهي فرصة عشان ألاجي حاجة أحط همّي فيها. هي شركة مقاولات تخص واحد من أصحاب حمزة، مقرها في أسيوط، بس شغلها والمشاريع كلها تقريبًا في القاهرة.
يعني هتسافر تعيش في القاهرة؟
أومأ بإجابة مقتضبة:
مشاريع كبيرة… أهي تكفي سنين الانتظار على ما تخلصي تعليمك. كنت هموت لو سافرت من غير ما أشوفك. للمرة التانية بقولك سامحيني.
سالت دمعة تحرق عينيها، لتردد بعدم استيعاب:
أسامحك على إيه بالضبط؟ انت بتقول هتبعد بالسنين، يعني هتنشغل عني، ومش هشوفك تاني… هو أنا فعلًا مش هشوفك تاني يا معاذ؟
كيف يخبرها أن بعده عنها بمثابة اقتلاع قلبه من صدره؟ ولكن ما باليد حيلة:
أكيد هشوفك لو جيت أجازة زيارة هنه… لكن مش هكدب عليكي، أنا شايف البُعد أسلم، على الأقل أرحم الجميع من جناني… ودلوك… دلوك لازم أمشي، مينفعش أستنى أكتر من كده. هتوحشيني يا ليلى؟
قالها وهو يجبر قدميه على التحرك والمغادرة. كم ودّ لو احتضنها، لو طمأنها بإلغاء قراره، لكن لا فائدة من الرجوع سوى زيادة عذابه. إذًا، لابد من تنفيذ القرار.
وغادر من أمامها، ولم يلتفت حتى وراءه، كي لا يضعف أمام دموعها، التي انطلقت دون توقف، حتى سقطت على المقعد خلفها بانهيار.
…………………………
حين عادت إلى منزلها، لم تكن بحالة تتيح لها حتى التصنّع. تسير أمام والدتها كالأموات، وكأن بابتعاده عنها، روحها أيضًا قد تركت جسدها وذهبت معه.
مزيونة، البائسة، ترى في ابنتها التغير الملحوظ، ومع ذلك تغض الطرف وتتجاهل، كي لا تنقل لها ضعفها. حتى وقلبها ينشطر من الحزن، لن تضعف أو تتراجع. لا بدّ لهذه الفتاة أن تقوى، هي لا تقسو إلا لمصلحتها ومستقبلها. ليتها تعي تلك المعلومة جيدًا ولا تترك نفسها كورقة خريف شاردة يتلاعب بها الريح.
لا تستحق لقب “الأم” إن تركتها تتخلى عن مستقبلها من أجل رجل وعشق زائف، سوف يزول بزوال الأيام.
………………………………
في المساء قرابة الساعة الحادية عشرة ليلًا، هذا موعده. مرّ أكثر من شهر وهو يأتيها يوميًا، يرسل لها حصانه “عزّوز” محمّلًا بهدايا الشوكولاتة والحلوى، يطرق على النافذة الخشبية بطريقته، كي تستلم منه ما يشجّعها على القراءة واستذكار دروسها – كما يدّعي – لتجده واقفًا عند المجرى المائي، تتلقى منه ابتسامة تمكّنها من النوم سعيدة، وتصنع لها الأحلام الوردية.
أما اليوم، وقد فتحت شراعي النافذة في انتظاره، فلم تجده. لا يوجد “عزوز” الجميل، كي تعطيه قبلة تثير بها غيرة الآخر. المجرى المائي موجود… لكن أين هو؟
لا يوجد إلا الخلاء أمامها، لا يوجد إلا الوحدة الموحشة. لقد سافر وتركها. سوف يبتعد عنها بما يمكّنه من نسيانها. نعم، سوف ينساها… وتظل هي لوحدتها، تهتم بمستقبلها ودروسها كما وعدت والدتها، والمطلوب منها أن تنساه الآن، كما سيفعل هو.
عند خاطرها الأخير، فقدت القدرة على الثبات، لتسقط منهارة بالبكاء فوق كتبها، تبكي وتبكي، حتى غلبها سلطان النوم على تلك الحالة.
…………………………………
وفي صباح اليوم التالي وعَت مزيونة على برودة الفراش بجوارها، بما يثبت أن ابنتها لم تَبِت ليلتها معها كما يحدث كل يوم، بعد أن تنتهي من دروسها ليلًا، تأتي وتندس في الفراش بجوارها.
انتفضت تبحث عنها، لتذهب مباشرة نحو الغرفة التي تذاكر بها دروسها، وكما توقعت، وجدتها غافية على كتبها. سقط قلبها حين شعرت بالهواء البارد الذي ضرب صفحة وجهها آتيًا من شراعي النافذة المفتوح على مصراعيه.
لتضرب بكف يدها على صدرها بجزع:
يا مَرَي يا ليلى، جالك جلب يا بتي تسيبي الشباك مفتوح! مش خايفة من البرد ولا حرامي يخش يتهجم علينا؟
ركضت تُغلقه على الفور، ثم عادت تخاطبها كي تستيقظ:
كل الغاغة دي ومصحتيش؟ اصحي يا بتي، كملي نومك ع السرير… ليلى!
اقتربت تُهزّها بخفة:
ليلى… جومي يا بتي، اخطفي لك ساعة ولا…
قطعت مجفلة بهلع، شاعرة بسخونة غير عادية أصابتها بلمسة واحدة منها، لتعاود التأكد، تتحسس الحرارة من جبهتها، لتصرخ بجزع هذه المرة وهي تحاول إفاقتها:
بت يا ليلى! مالك مولعة كده؟ بت يا ليلى، إيه اللي صابك؟ ردي عليا يا جزينة!
لم تستجب لكل هزاتها، غائبة في عالم آخر، لا تشعر بأي شيء حولها، فمها فقط ما يتحرك، ويردد بكلمة بالكاد تُسمع:
معاذ… معاذ…
إلى هنا، وقد فقدت “مزيونة” كل ثباتها. ابنتها الفاقدة للوعي تريد نجدتها بأي وسيلة. لفت حجابها على عجالة، بغرض البحث عن من يساعدها أو يقلّها إلى الطبيب.
وبغريزة أمومية بحتة، لم تتردد في النداء على أقرب شخص وجدته أمامها:
أبو ريان! حمزة!
كان واقفًا أمام منزله في هذه اللحظة، حتى التفت إليها، مكذبًا أسماعه بنُطق اسمه مجرّدًا على لسانها. لكنها عادت تؤكد له بجزعها:
ليلى بتفرفر مني يا حمزة! إلحقني، ولا أنده أي حد يساعدني!

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية لأجلها)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *