روايات

رواية أسد مشكى الفصل الرابع والثلاثون 34 بقلم رحمة نبيل

رواية أسد مشكى الفصل الرابع والثلاثون 34 بقلم رحمة نبيل

رواية أسد مشكى البارت الرابع والثلاثون

رواية أسد مشكى الجزء الرابع والثلاثون

أسد مشكى
أسد مشكى

رواية أسد مشكى الحلقة الرابعة والثلاثون

يتحرك بين الممرات مع المعتصم الذي كان يجذبه من ثوبه بخفة أمام الجميع صوب السجون، بعدما تم وضع الخطة واتفق الجميع على كل شيء .
ونزار يسير مخفضًا عيونه ارضًا دون أن يرفعها في وجه احدهم، يهمس بضيق وهو يشعر بقبضة المعتصم تشتد شيئًا فشيء على ثوبه :
_ تدرك أنه لا تحتاج لاتقان الدور بهذا الشكل صحيح ؟!
ابتسم المعتصم بسمة صغيرة جانبية يهمس بصوت وصل واضحًا لنزار :
_ نعم أدرك، لكن هذه أوامر الملك و….اوامري كلها آخذها من الملك وليس أنت سمو الأمير، لا ضغينة صدقني .
ابتسم نزار بضيق شديد وهو يتحرك بين ممرات القصر يهمس بصوت حانق :
_ عسى أن يخرجني الله سالمًا من بين يديّ مولاك، إذ يبدو أنه لن يغفر ما حدث قريبًا .
عند التطرق لهذه النقطة شعر المعتصم بحيرة :
_ مازالت لا أفهم سبب غضبه منك حتى الآن..
_ الخذلان يا المعتصم، الخذلان اسوء ما يمكن أن يمر به أحدهم، وأنا خذلت أرسلان وتخاذلت عن دوري، واخبرتهم ما لا يجب عليهم معرفته.
تنهد بصوت مرتفع وقد شعر بعدم قدرته على الاستكمال في هذا الأمر، يمرر عيونه بعيدًا عن المعتصم يدعي عدم الاهتمام لما يحدث حوله، لكنه ما يزال حتى هذه اللحظة يشعر بالخذلان تجاه مشكى وشعبها .
لو كان فطنًا لكان أدرك أن هناك ما يدور خلف ظهره، لو أنه كان سريع البديهة لتحرك ليحضر المساعدة بدل من الذهاب وحده، لو كان يزن الأمور لأنقذ أرسلان وانقذ البلاد قبل فوات الأوان، ولو كان يعلم ما كشف ثغرات البلاد لبافل…
أثناء تحركه بهدوء مع المعتصم صوب السجن حيث اتفق أن يكون بوابته للخروج متخفيًا، توقفت فجأة أقدامه عن الحركة وتجمد جسده بالكامل وهو يبصرها أمامه وقد خرجت من أحلامه لتتمثل على هيئة خطفت كل ذره من كيانه، تتهادى أمامه بكل رقة وهي مبتسمة بسمة مشرقة .
بسمة سرعان ما انتقلت له ليبتسم باتساع يتابعها بأعين ملتمعة يتمسك بسور الشرفة يحدق بحلمه المتجسد على هيئة امرأة فاتنة تتحرك بين طرقات المملكة .
كان حلمًا جميلًا في غاية الواقعية لدرجة أنه ابصرها ترفع عيونها له مبتسمة بسمة واسعة سرعان ما تلاشت بصدمة كبيرة وقد اتسعت عيونها وشحب وجهها .
أما عنها فكانت تسير مع الفتيات تضحك على كلمات كهرمان وحوارها الشيق مع زمرد، ومن بين ضحكاتها وقعت عيونها على طيف فجأة جعلها ترفع عيونها بتعجب لتتسع عيونها وتشعر بتوقف انفاسها وهي تبصر نزار يقف في شرفة أحد الممرات يراقبها ببسمة حالمة شاردة وما يزال المسكين يظنها طيفًا …
وهي فقط توقفت تنظر له دون أن تنزع عيونها عنه وقد شعرت فجأة بضربات قلبها تكاد تتوقف من صدمتها، نعم جاءت للمكان علها تبصره مرة ولو بالخطأ، لكنها لم تتوقع أن تفعل .
ظلت أقدامها متيبسة لا تشعر بأحد حولها وهي تراقبه يقف هناك مبتسمًا لها بسمة غريبة، يراقب حلمه البعيد غير عالمًا أنها واقعٌ.
تحركت عيون المعتصم ببطء صوب ما ينظر له ليتعجب حينما يرى بعض النساء ليبعد عيونه وهو يجذب نزار بعيدًا عن سور الشرفة :
_ اقسم أنه لن يهدأ لك بال إلا حينما يعلق الملك رأسك على بوابة مشكى، تنظر بكل تبجح في النساء، تحرك معي .
نظر له نزار بعدم فهم ليتحدث المعتصم بجدية وهو يجذبه بعيدًا عن الشرفة وكأنه ينتزعه من حلمه الوردي صوب واقع رمادي :
_ أدري أنك بالفعل طلبت ودها للأميرة توبة، عسى أن يجمع الله بينكما بالخير، لكن لا يجوز اختطاف النظرات لها بهذا الشكل و…
توقف نزار عن الانقياد لجذب المعتصم وقد تيبس جسده يهمس بصوت شبه مسموع :
_ هل …تعني أنها…هي هنا ؟؟ هل كانت الأميرة توبة تقف في الأسفل حقًا ؟؟ هل تبصرها كذلك ؟؟
رقع المعتصم حاجبه بعدم فهم وهو يجذبه من مرفقه بقوة حينما أبصر بعض الجنود يمرون بجانبها، يهمس بصوت خافت يرسم ملامح حادة على وجهه :
_ هي ليست شبحًا كي لا ابصرها، لقد كنت تحدق بها لدقائق طويلة، ولا تدرك أنها موجودة؟!
شعر نزار بالصدمة تتلبسه وقد بدأت ضربات قلبه ترتفع يهمس لنفسه ببسمة واسعة :
_ هي ليست وهمًا ؟؟
دخل به المعتصم للسجن وهو يدفعه صوب أحد الأبواب يزجه به بهدوء شديد ثم اغلق الباب يلقي المفتاح بشكل متواري له غامزًا :
_ اتمنى أن تعجبك ضيافتنا سمو الأمير..
ختم حديثه يشير للحراس على السجن بجدية وصرامة شديد :
_ لا تغيب عيونكم عنه .
تحرك للخارج ليلتقط نزار المفتاح بخفة يخفيه داخل ثيابه كما هو متفق عليه مع الجميع، يرفع عيونه صوب الباب ببسمة صغيرة :
_ لا أعتقد أن زيارة قصيرة غير متفق عليها ستزيد من الأمور سوءًا ها ؟؟؟؟
ـــــــــــــــــــــــ
_ إذن كل شيء بخير معكن ؟؟
ابتسمت إحدى النساء باتساع لنازين التي كانت طوال الوقت تبذل كل ما بوسعها لتساعدهن في التأقلم مع الحياة تلك دون أي مشاكل، ورغم كل ما تفعل وما يبذل الجميع حولهن من مجهود إلا أن البعض لم يتخطى بعد ما حدث .
فتيات يأخذن جانبًا دون التحدث بكلمة واحدة أو حتى التفاعل مع محيطهن، وهذا ما كان يتسبب في إحباط نازين .
خرجت من شرودها على صوت حور التي تحدثت ببسمة صغيرة :
_ نحن بخير حال نازين، شكرًا لكِ .
داعبت نازين خصلات الصغير عابد والذي كان يسكن أحضان حور نائمًا بعمق :
_ كيف حال الصغير ؟!
نظرت حور لعابد تتنهد بصوت شبه مرتفع :
_ أعتقد أننا نبلي بلاء حسنًا، لكن…الصغير لم يتخطى بعد قتل والدته ….. أمام عيونه .
ختمت جملتها تستشعر بغصة قوية تستحكم حلقها، وقد أعادت لها الكلمات ذكرى قتل ” ياقوت” أمام عيونها والصغير .
نظرت لها نازين وهي تشعر بالحزن، وودت لو امتلكت القدرة لتمسح ذاكرة جميع النساء والاطفال هنا، بداية بنفسها .
سمعت صوتًا لإحدى العاملات تردد اسمها بهدوء :
_ الطبيب زيان ينتظرك في الخارج .
رفعت لها نازين عيونها، لتبتسم حور وهي تضم عابد لها بلطف :
_ اذهبي لرؤية زوجك نازين، أنتِ تقضين معنا وقتًا أطول مما تفعلين معه، وهذا جحود لحق زوجك، تمسكي بالحياة الواقعية طالما كانت وردية نازين ولا تهربي منها لمجرد أنكِ اعتدتي السواد عزيزتي .
نظرت لها نازين بأعين شاردة وهي تحاول أن تنفذ ما تسمع، لكن منذ عادت تقريبًا وهي تحاول تجنب زيان، تحاول تجنب الحقيقة التي قد تلتمع خطئًا داخل عيونه، تحاول البحث عن واقع مزيف بين من اعتادت على العيش بينهن، وتنبذ واقعًا سعيدًا يناديها مخافة أن يجذبها ذلك الواقع خارج دائرة كانت تحمي بها نفسها .
تحركت ببطء صوب الخارج وهي تحاول أن تدعي اللامبالاة، وبمجرد أن خرجت أبصرت زيان يقف جانب الغرفة ينتظرها، رفعت عيونها له ولم تكد تفتح فمها بكلمة واحدة، حتى وجدته يرفع سلة فاكهة أمامها مبتسمًا بسمة واسعة :
_ هذا موسم حصاد العنب، أحضرت لكِ ما يكفيكِ وصديقاتك .
حركت نازين عيونها من يده التي تحمل السلة، صوب السلة نفسها وقد شعرت أن فجوة زمنية سحبتها فجأة صوب ماضي بعيد تشتاق له وبشدة ..
صوت نازين وهو يغلق باب منزلهم بقوة يناديها بصوت صاخب يلقي اغراضه على الطاولة متحركًا صوب المطبخ وهو يصيح بسعادة :
” نازين تعالي وانظري ماذا وجدت أثناء طريق العودة للمنزل ؟!”
ختم حديثه يطل عليها برأسه مبتسمًا بحماس يرفع السلة في الهواء :
” العنب يا ابنتي، جاء الموسم المفضل لنا ”
التمعت عيون نازين بحماس شديد، ورغم ذلك شاكسته بمزاح :
” أنت لا تحب العنب زيان، كيف يكون موسمك المفضل؟؟”
” نعم لكنكِ تفعلين، وهو يساهم على تحسين مزاجك السييء، ويمثل عنصرًا مهمًا لمساعدتي في مراضاتك حين الغضب، بالله كيف لا يكون الموسم المفضل لي ؟! هذا هو الحليف الأول لي، وقد جاء بعد انتظار شهور ”
سقطت دموع نازين دون شعور وهي تنظر صوب العنب ترسم بسمة واسعة تناقض دموعها بصعوبة :
_ يبدو هذا ….رائعًا، شكرًا لك ….زيان .
كان زيان يدرك جيدًا ما تمر به ويعلم أنها تحتاج للوقت لتخرج من فقاعتها، لذا ترك كامل الوقت، مع الاحتفاظ بوجوده جوراها، ومساعدتها في الخروج من كل هذا دون أن تشعر حتى أنه يفعل، وقد كانت هذه نصيحة صغيرة تلقاها من الملكة حينما عاد لها في أمر زوجته ….
ما يزال يتذكر وجه الملك حينما طلب منه أذنًا في التحدث مع الملكة في أمر يخصه ..
” زيان أنت تدرك أنك تعني لي الكثير، وأن أبي رحمة الله عليه كان يحبك، فلا تجعلني الحقك به ”
” مولاي أنا… صدقني ليس هذا ما قصدته، أنا فقط …احتاج مساعدتها في شيء اعتقد أنها تدركه أكثر مني و….”
صمت ثواني ثم قال بتردد :
” أريد طلب مساعدتها فيما يخص زوجتي، هي …لم تعد ….”
صمت وقد أبى التحدث بكلمة عن زوجته مع أحدهم ولو كان الملك، لذا ابتلع باقي كلماته والتي لم يكن أرسلان ينتظرها في الحقيقة، بل تفهم الأمر يتنهد بصوت مرتفع :
” حسنًا زيان …”
خرج زيان من شروده على صوت نازين التي همست بصوت منخفض :
_ هل …تناولت طعامك ؟!
وهذا تطور ملحوظ، تسأله عن طعامه وتهتم، والله أكثر مما يتمنى، ابتسم لها باتساع وكاد يجيبها كما هو المعتاد أنه بخير ولا تحمل همه، لكن فجأة رن صوت سلمى في رأسه وهي تخبره .
” اجذبها لحياتك، اجعلها تشاركك يومك دون شعور، ليس بشكل مباشر، لكن تظاهر أن الأمر طبيعي، لا تجعل الأمر يبدو كما لو أنك تجبرها على العودة لمشاركتك حياة طبيعية، أجعل الأمر يبدو تلقائيًا عفويًا منك، مثلًا أدعي المسكنة.”
ابتسم زيان بسمة صغيرة وهو ينظر لوجه زوجته، ثم تنهد بصوت حاوله إظهاره مرهق :
_ لا لم أفعل بعد، لم امتلك الوقت لأفعل، لكن لا بأس ربما حينما انتهي من عملي ابحث عن شيء لاتناوله هذا إن لم اسقط على الفراش من شدة التعب .
وهذه كانت لحظات إعجاب أبداها زيان لنفسه وحياها على ما فعل منذ ثواني، ففي ثواني نظرت نازين صوب الغرفة للنساء، قبل أن تعود له تتحدث بجدية :
_ لا يمكنك ذلك زيان، أنت تهمل نفسك بالفعل، هيا تعال سأرى ما يمكنني أن أعد لك ليسد رمقك، و…كل يوم سأفعل الأمر نفسه كي لا تهمل ذاتك حسنًا ؟!
ختمت حديثها وهي تجذب يده معها، وهو نظر لها نظرة يتيم مسكين وجد من يعطف عليه اخيرًا بعد سنوات من الوحدة والاهمال، يخرج تنهيدة مصطنعة :
_ حسنًا لا بأس، أنا اشعر بالجوع على أية حال .
نظرت له نازين ثواني واستشعرت فداحة ما كانت تفعل، كانت تهمله بكل الطرق الممكنة وتغمس ذاتها داخل مجتمع النساء، بينما هو لا يوفر فرصة واحدة ليعتني بها ويظهر حبًا .
نظرت له بأسف:
_ إذن تعال معي سأعد لك طعامًا تحبه ..
ختمت حديثها تجذب يده معها، وهو سار خلفها يبتسم بسمة عاشقة يهمس بصوت لم يصل لها :
_ لكنني أحبك أكثر نازين …
ـــــــــــــــــــــــــ
وصل الحميع صوب جناح سلمى لتبدأ كهرمان في تنفيذ وعدها بدروس الرقص للجميع، لكن ما أن خطى الجميع للجناح حتى نظرت لهم توبة بتردد وهي تهمس بصوت شبه متوتر :
_ سوف … أذهب فقط لاطمئن إن كان أبي قد أخذ دواءه أم لا واعود لحين تتجهزون .
ومن بعد تلك الكلمات تحركت بسرعة دون كلمة او حتى انتظار رد من أحدهم تاركة الجميع يجلس بحيرة مما يحدث، عدا سلمى التي ابتسمت بسمة جانبية وهي تتذكر نظراتها أثناء تحركهم للغرفة .
نظرت لكهرمان وهي تتحدث بهدوء :
_ إذن سأذهب لأرتداء ثياب مريحة تناسب ما سنفعل واعود سريعًا .
تحركت صوب الخزانة الخاصة بها وتوقفت أمامها ثواني قبل تختار ما تريد وتتحرك صوب المرحاض الخاص بها والجميع في الخارج ينتظرها.
عدا زمرد التي تحدثت بهدوء :
_ سأذهب لدانيار أتأكد أن كل شيء بخير معه .
ومن بعد هذه الكلمات اختفت تاركة فاطمة وكهرمان سويًا لتبتسم فاطمة بسمة صغيرة لكهرمان التي بادلتها البسمة بأخرى رقيقة حنونة، قبل أن تتحدث بخجل :
_ هل يمكنني أنا كذلك الذهاب لأطمئن على المعتصم ؟!
اتسعت بسمة كهرمان وقد شعرت أن الفتاة تستأذنها، لكنها فقط زادت من بسمتها وهي تشير لها على باب الخروج لتهرول فاطمة بشوق كبير للخارج تاركة كهرمان تراقب أثرها ببسمة واسعة على براءتها ..
نظرت للمكان حولها وهي تفكر في التحرك لرؤية إيفان كذلك وقد استبد بها الشوق لزوجها العزيز، لكن ما كادت تتحرك عن مقعدها حتى سمعت طرق على الباب وصوت شقيقها يصدح بهدوء :
_ سليمى أنتِ بالداخل ؟!
ابتسمت كهرمان بسمة صغيرة وهي تنظر صوب المرحاض ثواني، ومن ثم نهضت تتحرك صوب الباب تفتحه فجأة ليتراجع أرسلان مخفضًا رأسه دون أن ينتبه أن كهرمان هي من فتحت الباب.
ولولا كلمتها التي نبهته للامر لظل مخفضًا رأسه.
_ السلام عليكم أخي…
اتسعت بسمة أرسلان يرفع رأسه بهدوء صوب كهرمان وقد التمعت عيونه بنظرات يخصها بها طوال الوقت :
_ السلام عليكم عزيزتي، ما أسعد يومي لرؤية وجهك البهي جوهرتي .
ختم كلماته وهو يضم كهرمان له بحنان شديد، ثم رفع عيونه لها يربت على رأسها بحب :
– كيف هي أحوالك حبيبتي ؟؟
_ سعيدة أخي، سعيدة لأجلك.
جذبها أرسلان لصدره يضمها بحب شديد وهو يربت عليها :
_ عسى السعادة لا تفارق قلبك حبيبتي، كيف تجري امورك مع إيفان، إن فعل لكِ شيئًا يمكنك الجلوس هنا واعيده لبلاده وحده .
ابتعدت عنه كهرمان بصدمة :
_ أخي بالله عليك .
ضحك أرسلان بصوت مرتفع وهو يضرب رأسها بإصبعه :
_ على الأقل اخفي لهفتك عن عيوني أنا اغار.
نفخت كهرمان وهي تفرك رأسها بحنق مصطنع :
_ وأنا من ظننت أنك ستنشغل بزوجتك عني قليلًا ؟! يمكنك الغيرة على زوجتك وتدليلها وإبعاد الجميع عنها أخي واتركني لزوجي .
ضم أرسلان يديه لصدره يبتسم ببساطة شديدة :
_ ومن قال أنني لا أفعل ؟! زوجتي ملكية خاصة احتفظ بكامل الحقوق فيها وحدي .
_ أعانها الله، سوف أذهب لتفقد زوجي لحين تنتهي زوجتك من تجهيز نفسها .
نظر لها أرسلان وهو يستقيم في وقفته بترقب :
_ ستخرجون ؟!
_ بل سنرقص .
ختمت حديثها تغمز له بخبث وهي تتحرك بسرعة خارج الغرفة تاركة أرسلان ينظر لها بأعين متسعة بصدمة من كلماتها، وما هي إلا ثواني حتى اتسعت بسمته قليلًا وقد استحسن عقله لأول مرة الأمر..
_ لِمَ لا أشعر بالانزعاج من هذا الأمر يا ترى ؟!
سمع صوت إغلاق باب غرفة زوجته في اللحظة التي فُتح بها باب المرحاض لتطل عليه زوجته التي كانت تجفف خصلاتها وتتحرك داخل الغرفة تردد بهدوء :
_ آسفة للتأخر فقط فتيات، أردت الانتعاش كي أكون بكامل نشاطي و…
توقفت عن الحديث حينما أبصرت حذاء رجالي مستقر أمام عيونها، لتبعد المنشفة عن شعرها ببطء ترفع عيونها شيئًا فشيء على جسد زوجها الذي تدرك كل جزء به وتحفظه عن ظهر قلب، لتصل اخيرًا لوجه أرسلان الشاحب وعيونه المتسعة …
والاخير، هذا المسكين الذي تلقى للتو صدمة حياته وهو يبصر زوجته بثياب… أو ببقايا ثياب، تتكون من بنطال رجالي من اللون الاسود قصير لا يغطي كامل قدمها، بل بالكاد يتخطى ركبتها و…شيء غريب لا يكاد يغطي معدتها وبلا اكمام أو أكتاف حتى .
صدمة تلقاها أرسلان جعلته شاحب الوجه، لتقتنص منه سلمى في هذه اللحظة ردة فعل فشل أعتى الرجال على استخراجها من أرسلان حتى في أشد الحروب ضراوة .
استطاعت وبكل بساطة وبثوب قصير أن توصل أرسلان لمرحلة صدمة لا يتحرك بعدها .
ألقت المنشفة على المقعد أمامها، وهي ترفع رأسها له تجمع بسرعة خصلات شعرها الرطب في ربطة عشوائية لم تساعد بأي شكل من الاشكال في تخفيف وطئة ما يحدث على أرسلان، الذي ما يزال يحدق فيها بنفس التعابير المصدومة والباهتة مما يرى .
أما عنها ابتسمت ببساطة ترحب به رغم صدمتها وتوترها لثواني :
_ مرحبًا أرسلان متى أتيت ؟؟ وأين الفتيات ؟!
_ وأين ثيابك ؟؟
أبعدت سلمى خصلاتها الأمامية عن عيونها وهي تخفض نظرها صوب ثوبها، ومن ثم رفعت عيونها له تبتسم وهي تتحدث ببساطة:
_ ماذا تقصد ؟؟
_ هل كنتِ ستخرجين عارية بهذا الشكل أمام الجميع ؟؟
فغرت سلمى فمها بصدمة :
_ عارية ؟؟
وحينما لم يجيبها وهو ما يزال يراقبها بملامح متشنجة يتخيل أن تبصرها الفتيات بهذه الهيئة الـ…. عارية .
_ هل تمزح معي؟! هذه ثياب منزلية، ثم ماذا في الأمر و….
_ رجاءً سيدتي لا تتجرأي وتصفي بقايا القماش هذه بكلمة ” ثياب ” حتى، هذه وقاحة أكبر من وقاحتك للخروج بهذا الشكل أمام الجميع.
نظرت سلمى له بتشنج قبل أن تدور بحدقتيها حولها ساخرة :
_ وقاحة ؟! أمام الجميع ؟؟
_ الفتيات جميعهن كن هنا وكن سيبصرن ما ….ما أبصره أنا الآن.
نظرت له سلمى تضم ذراعيها لصدرها ترفع حاجبها وهي تقف أمامه بقوة :
_ وإذن ؟؟
رفع لها أرسلان عيون مشتعلة بالغضب صارخًا بغضب جعل جدران الغرفة تهتز بهما، ولولا رباطة جأش سلمى في التعامل مع حالات الغضب هذه لكانت هرولت تبحث لها عن ساتر منه، وفي الحقيقة كانت ستفعل لولا أنه يحدق بها بهذه الأعين الغاضبة التي أيقظت داخلها تمردًا وهو يصرخ :
_ سلمــــى هل تمزحين معــــي، تظهرين جســــدك لهن ؟!
صُعقت سلمى من صراخه بهذا الشكل وعادت للخلف، ليشعر أرسلان بأنه تجاوز حده في الغضب، لذا ابتلع ريقه وهو يمسح رأسه يحاول أن يهدأ ومازالت نبرته تحمل غضبًا واضحًا :
_ سلمى ما هي عورة المرأة للمرأة ؟! تعلمين صحيح ؟!
وسلمى التي كانت تدرس الإسلام منذ طفولتها حتى المراهقة قبل أن تنشغل في حياتها الخاصة، ومن ثم تعود للتعلم في أواخر حياة والده، لم يسبق أن تصادمت مع تلك الكلمات، أو ربما حدث دون أن تقف عند تلك المعلومة .
رفع أرسلان إصبعه وهو يشير لمعدتها الظاهرة يتحدث بصوت مهتز بعض الشيء ليخرج منه حادًا دون إرادة :
_ ما بين الركبة والسرة، هذه عورة المرأة للمرأة سلمى .
رفعت سلمى حاجبها وهي تضم يديها لصدرها تهمس بجدية وهي تتابع نظراته وملامحه بأعين حادة :
_ تعلم أنني لا أعاني مشاكل بالسمع صحيح ؟!
نظر لها بعدم فهم لتتحدث هي ببرود وكأنها توبخ طفلًا :
_ لو تحدثت بهدوء ونصحتني لم أكن سأرفض حديثك أرسلان.
رفع رأسه لها يحاول فهم ما تريده، لتقترب منه سلمى ببطء وهي تبتسم له بسمة غريبة، ترفع يدها وهي تمسك طرف سترته السوداء تهمس له بصوت منخفض جعل الأخير ينظر لعيونها وكأنه مسحور :
_ هذه الحياة مشاركة عزيزي آرس، ليست سيد وجارية، نتناقش بهدوء وتنصحني بهدوء، دون صراخ في وجهي وتوبيخي، فأنا ما زلت أخط طريقي في هذه الحياة، حسنًا ؟!
ختمت حديثها وهي تقترب منه بوجهها لتتسع عيون أرسلان وهو يسمعها تهمس جوار أذنه :
_ كن آرس جيد عزيزي .
انتهت تربت على كتفه بهدوء وبسمة حنونة وكأنه تلقن ولدها درسًا وهذا تحديدًا ما وصل لارسلان الذي ابتسم بسخرية وقبل أن تبتعد جذبها من مرفقها يقربها منه مجددًا :
_ هل عاملتني للتو كما الاطفال ؟! حقًا سلمى ؟!
_ حينما تتصرف مثلهم تتلقى معاملتهم أرسلان، هذا ما يحدث .
ضغط أرسلان على ذراعها ضغطة صغيرة وهو يهمس لها بصوت خرج كالفحيح محذرًا وقد رسم له عقله الكثير والذي لن يعجب سلمى إن أطلعت عليه :
_ لست طفلًا لتتحدثي لي بهذه الطريقة لأنني فقط غرت على زوجتي، أنا حتى في طفولتي لم أكن طفلًا سلمى، فلا تتعاملي معي بهذا الشكل فأنا لا استسيغه ولا اتقبله من أيًا كان .
_ حتى أنا ؟؟
_ خاصة أنـــــــتِ .
تحدث بكلمة يعني بها الشرق، ووصل لها المعنى غربًا .
فأرسلان يرفض أن تراه زوجته كطفل، يرفض أن يتخلى في حياة من تهمه من النساء عن دور جدار يرتكنون له، رافضًا أن يظهر في موقف الضعيف بأي شكل، رافضًا أن يتعرى من صلابته أمام زوجته ولو فعل مرة، يأبى أن يظهر ضعفًا لأحد ولو نزف داخليًا حتى فنى، إذ يبدو أن أرسلان لم يتخطى بعد ما بناه والده داخل عقله منذ طفولته، يخشى أن تتغير صورته الصلبة في عيونها بعدما صرح لها بعض مشاعره الداخلية، اقصى مخاوفه أن يحدث ذلك .
وسلمى لم ترى سوى رفضه لها أن تلعب دورًا لمساعدته في الخروج من ظلامه، رفضه لأن تصبح يدًا تحنو عليه من غارات الزمن، رفضه لتصبح في حياته أكثر من مجرد امرأة أُجبر عليها، امرأة لم يعترف لها يومًا بحبه مباشرًا صريحًا وكأنه يستثقل الكلمة، أو يراها لا تستحقها .
ابتسمت بسمة صغيرة وهي تهز رأسها بحسرة تنظر لعيونه نظرات مخذولة مقهورة من كلماته :
_ اعدتنا لنقطة الصفر أرسلان، والتي يبدو أنني توهمت بكل حمق أنني تخطيتها، سامحك الله .
جذبت يدها بقوة من بين أنامله، تعطيه ظهرها وهي تتحرك صوب الخزانة الخاصة بها بخطوات غاضبة، ليس من أرسلان بقدر نفسها التي شعرت في هذه اللحظة بالاختناق والرغبة في الصراخ بوجهه، لدرجة أن يدها كانت ترتجف بغضب شديد وهي تفرغ الخزانة لا تبصر أمامها لشدة الغضب تصرخ دون حسبان وحقيقة أنه ربما لا يحمل لها أرسلان ما تحمله هي له تقتلها .
_ إن كنت ترفض دوري في حيــاتك أرسلان فأنا كذلك لا اتقبل أن تلعب دور المسؤول عليّ، أخرج رجاءً فأنا أريد تبديل ثيابي .
اتسعت عيون أرسلان في هذه اللحظة وشعر بقبضة تعتصر رقبته حتى اصبح التنفس صعبًا عليه، ابتلع ريقه بصعوبة وهو يقف كالطفل المذنب في الغرفة، يود الرحيل ثأرًا لكرامته بعدما طردته بشكل غير مباشر، ويرفض الرحيل تاركًا إياها بهذه الحالة، رافضًا نزعها له من حياتها بهذا الشكل بعدما اعتاد فكرة وجودها.
بعدما صارت هي وجوده …..
نظر لظهرها ثواني يحاول التحدث، لكنه توقف في النهاية يتراجع بهدوء بعدما ردد بكلمات قليلة :
_ جئت أخبرك أن الطعام جاهز في غرفة النساء، بدلي ثيابك وتعالي لتتناولي الطعام .
ضحكت سلمى من بين دموعها التي هبطت دون شعور وهي تعطيه ظهرها، تتحدث بصوت ساخر :
_ هذا لكرم منك مولاي، أحرص ألا تزيده كي لا اعتاده واطمع بالمزيد، والذي لا يمكنك تقديمه بالمناسبة، على كلٍ شكرًا لك لا أريد تناول الطعام تناولت للتو ما يكفيني.
ضغط أرسلان على كفه بقوة من تلك الكلمات وهو ينظر لظهرها بغضب وكم ود لو صرخ أنه على استعداد لتقديم ذاته قربانًا لها حتى، لكن حتى الكلمات خانته في هذه اللحظة ليصرخ صرخة غاضبة وهو يضرب الطاولة بقدمه مسقطًا إياها ارضًا صائحًا بصوت غاضب جهوري :
_ أنــــــتِ يا امرأة….. أنــــتِ …حسنًا لا تأكـــلي .
صمت بعجز وقد أبى التحدث في غمرة غضبه كي لا يزيد الطين بلة، ليطلق صرخة أخيرة وهو يتحرك خارج الغرفة مغلقًا بابها خلفه بقوة، تاركًا سلمى خلفه تنظر للباب بدموع كثيفة، تسقط ارضًا بين الثياب جوار الخزانة تدفن رأسها بين يديها بضيق :
_ يا ويلي أرسلان، متى نخرج من تلك الهوة ؟؟ متى تسمح لنا بالتنفس خارج ظلامك…
أخذت تلوم نفسها على ما قالته وفعلته، كيف تجاوزت حدها بهذا الشكل في التعامل معه وهي أكثر من يعرف ما يدور داخله و….
توقفت عن افكارها وهي توبخ نفسها على أفكارها تلك، فهي إن سمحت له أن يرسل لها نصائحه بالصراخ فلن يتوقف يومًا عن الصراخ.
مسحت دموعها بسخرية تضرب الثياب بغيظ :
_ هذا الارسلان يحتاج لتأديب، معدوم الأدب هذا ..
نظرت حولها بأعين دامعة وهي تفكر في القادم، إذ يبدو أن أرسلان يحتاج لسلك درب آخر أكثر وعورة حتى تصل لجوهره ..
_ لكنه …يستحق وأكثر سول، يستحق وأكثر عزيزتي، لا بأس يا ابن بيجان يبدو أنني استهونت بوحوش ماضيك.
ختمت حديثها تربت على كتفها وكأنها تواسي نفسها في اللحظة التي سمعت بها صوت طرق على باب غرفتها، مسحت دموعها بسرعة وهي تهتف بصوت حاولت جعله طبيعيًا :
_ من ؟؟
_ لقد أرسلني الملك بطعامك مولاي، يخبرني أن اجعلك تأكلين كل ما احضرته لكِ، يخبرك أنه وضع لك كل ما تحبين .
ضحكت سلمى وهي تمسح دموعها تتحرك من مكانها تتوجه صوب الباب، لكن فجأة رن حديث أرسلان في عقلها، لتعود وتختطف أول ما وقع عيونها عليه تغطي به جسدها، فاتسعت بسمتها بشدة حينما تلمست معطف أرسلان الاسود والذي تمتلك منه الكثير في خزانتها ترفض أن تحررهم بعيدًا عنها .
ارتدته تتحرك صوب الباب تفتحه بهدوء مبتسمة بلطف في وجه الفتاة التي بادلتها البسمة :
_ السلام عليكم مولاتي، أين أضع الطعام.
ابتسمت لها سلمى تتحدث بهدوء :
_ اشكرك عزيزتي، لا أريد تناول الطعام، لا اشعر بالجوع الآن، لذا اعيديه رجاءً عسى أن يستفاد به غيري .
نظرت لها الفتاة بحيرة :
_ لكن الملك اخبرني أ….
_ أخبريه أن الملكة اخبرت جلالتك بالفعل أنها تناولت الكثير قبل قليل .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقف أمام قاعة الطعام وهو ينظر لبداية الممر ينتظر أن يبصرها تعود من غرفة زوجته رافضًا أن يتناول الطعام حتى يطمئن أنها فعلت، لكن تلاشى حماسه وحل مكانه غضبًا قاتلًا من نفسه حينما لمحها تعود بالطعام لم يُمس وهي تخبره الجملة التي ارسلتها معها سلمى .
شعر أرسلان بالضيق يخنقه وهو يشير برأسه للعاملة لتتحرك صوب قاعة النساء تساعد الجميع، وهو ظل واقفًا وقد فقد رغبته في تناول الطعام أو حتى فعل شيء ..
نظر لبداية الممر بتردد حيث بدأ الجميع يتوافد على القاعة، ليتحدث آزار بتعجب وهو يلمح أرسلان يقف هذه الوقفة :
_ ما الذي تفعله هنا أرسلان ؟! لا تخبرني أنك هبطت عن برجك العاجي لتلعب دور المستضيف الكريم والمتواضع، تستقبلنا على أبواب القاعة .
رفع له أرسلان حاجبه بسخرية لاذعة وهو يدفع باب القاعة على مصرعيه :
_ لماذا ألا تستطيع فتح الباب بنفسك أيها العجوز، ثم منذ متى تكبرت عليكم، أنا طوال الوقت استقبلكم في قصري بكل كرم واتحملكم دون كلمة واحدة وهذا بحد ذاته تواضعًا مني معكم.
اطلق بارق ضحكة مرتفعة على ملامح آزار الذي أحمر وجهه وهو يرفع إصبعه في وجه أرسلان:
_ أنت لن تهدأ إلا حينما تجمعنا ساحة حرب، إذ يبدو لي أنك لم تتلق التربية اللازمة لتحترم كبار السن .
نظر أرسلان لإصبع آزار بضيق شديد وقد أمسك لسانه عن قول كلمة حادة احترامًا لسن آزار، لكنه لم يمنع نفسه وهو يرفع يده ينزل إصبع آزار بضيق :
_ لا أحب أن يرفع أحدهم إصبعه في وجهي آمرًا، ومن ثم بعد الصلاة نتجمع في الساحة الخلفية أيها العجوز واريك كيف تكون الحرب، دون أن تختبأ خلف درعك ورجالك .
اتسعت أعين بارق وهو يرى أن الأمر بدأ يأخذ منحنى خطر، فما اسوء من تنافر الاشباه، سوف يسقط الاثنان القصر أعلى رؤوس قاطنيه .
فجأة صدح صوت إيفان بهدوء وهو يبصر الجميع على باب قاعة الطعام:
_ ما الذي يحدث هنا؟! هل جدّ شيء ؟!
لكن أرسلان لم ينزع عيونه عن آزار الذي ابتسم بسمة مرعبة :
_ جهز كفنك يا فتى فلن ارحمك …
اتسعت بسمة أرسلان بشكل يشابه بسمة آزار، لتتسع أعين إيفان الذي نظر بقلق لبارق :
_ ما الذي يحدث هنا ؟؟
تحدث بارق ببساطة وهو ما يزال يراقب الإثنان:
_ أرسلان سيحارب آزار بعد الصلاة اليوم، قرر الاثنان اطلاق حملة جديدة لتخفيف الضغط عن الاعداء وقتل بعضهما البعض .
نفخ إيفان بصوت مرتفع وهو يمسح وجهه بضيق يدفع أرسلان من أمامه بغضب يدخل للقاعة وقد شعر بفقدان الشغف لفك الحرب هذه :
_ أبتعد عن وجهي، هيا ملك بارق لنأكل قبل أن يبرد الطعام..
نظر بارق في أثر إيفان بصدمة ثواني، قبل أن يهز رأسه باقتناع ويتحرك خلفه بسرعة، تاركًا الإثنان في الخارج ما يزالان يحدقان في بعضهما البعض وكأن من يخفض نظره أولًا سيكون خاسرًا في المعركة الأولى…
وفي الداخل جلس بارق رفقة إيفان وقد رفع الأخير رأسه يتحدث بتفكير :
_ أين هو سالار ؟؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خرج من غرفته بعد ساعات هدوء قضاها مع ذاته في الداخل قبل أن يعود ويكمل حياته الرتيبة الرمادية بعيدًا عن نصف روحه الذي تركه في سفيد ولا يطمئنه عنها سوى بعض الرسائل القليلة التي يرسلها كل بضعة أيام.
_ اسوء من الحرب فراقك تبارك .
ولم يكد يخرج من الممر الخاص بغرفته حتى أبصر دانيار الذي اوقفه ببسمة :
– جيد أنني وجدتك يا قائد، هناك من ينتظرك على بوابة قصر مشكى .
رفع له سالار رأسه بعدم فهم، ولم يكد يستفسر حتى سمع صوت دانيار يبتعد وهو يردد بجدية :
_ موكب من سفيد طلب أن تكون أنت في استقباله سيدي، اعذرني سأتحرك لتناول الطعام قبل أن يجير عليه الباقيين .
ختم حديثه بضحكة صغيرة تاركًا سالار بنظر لاثره بعدم فهم، لكنه تحرك بهدوء صوب بوابة القصر وهو يلقي تحية على من يقابله ببسمة صغيرة، حتى وصل للبوابة ينظر صوب الجنود وقد اقترب منه أحدهم يردد بهدوء :
_ موكب من سفيد سيدي وقد رفض قائد الموكب الدخول إلا في وجودك لأستقبالهم، الغريب أن أحدهم لم يمنحنا علمًا مسبقًا بقدوم موكب من سفيد .
شعر سالار بالريبة الشديد وتحركت يده صوب سيفه يتجهز لأي غدر وقد عمل عقله سريعًا يحلل الموقف يدور بعيونه في المكان وكأنه يدرس المكان وجاهزيته لأي هجوم محتمل :
_ افتح الابواب يا بني .
تحرك الرجل ينفذ أوامر سالار بسرعة وطاعة، فأرسلان لطالما أخبر رجاله أنه إن كان لغريب عن مشكى كلمة وأمر على رجاله فسيكون إيفان أو سالار .
ثواني وبدأت أبواب مشكى تُفتح تكشف عما خلفها، فابصر سالار العديد من رجاله الذين يعلمهم تمام العلم ليخفف القبضة عن سيفه وهو يرفع حاجبه بعدم فهم، يبصر ابتعاد رجاله كاشفين عن هودج خلفهم وقد أشار أحدهم صوب الهودج يتحدث بجدية :
_ جئناك بأمانتك بأمر من القائد تميم سيدي فتسلمها منا رجاءً كي نعود لسفيد بأسرع وقت .
رفع لهم سالار حاجبه وقد بدأ قلبه ينبض بعنف وهو يتحرك صوب الهودج وعقله توقف لثواني عن تحليل محيطه، حتى توقف أمام الهودج يدرك داخله ما سيبصره خلف ستاره، وقد صدق حدسه إذ كان أول وجه قابله حينما أبعد الستار وجهها …
وأول ما سمع هو صوتها وهي تهمس بصوت خافت وبسمة واسعة ودموع مشتاقة :
_ السلام عليكم يا قائد…
اتسعت بسمة سالار دون وعي منه وهو يبعد خصلات شعره عن وجهه بسرعة يمنح نفسه أكبر قدر ممكن من الرؤية وهو يهمس اسمها بصدمة :
_ تبارك ؟؟
ابتسمت له تبارك وهي تمد يدها له كي يساعدها في النزول:
_ انتظرتك طويلًا، حتى غرقت بشوقي، فقررت انقاذ نفسي وجئتك سالار .
أمسك سالار كفها برقة وحنان شديد، يطبع قبله صغيرة على باطن كفها، ومن ثم دون كلمة، مد يده يمسك خصرها يساعدها في النزول، ومن ثم امسك يدها بقوة يجذبها جواره متحدثًا لقائد الموكب :
_ أوصلت الأمانة وتسلمتها، اشكرك .
ابتسم له القائد وهو يهز رأسه باحترام، ينظر لرجاله :
_ إذن انتهى دورنا، علينا العودة لسفيد لمؤازرة باقية الجيش مع القائد تميم، اسمح لنا بالرحيل .
نفى سالار برأسه وهو يشير لرجال مشكى :
_ تريد أن يقتلني أرسلان ولن الومه، حينما يعلم أنني اعدتكم دون تلقي ضيافة مشكى، والله يشن حربًا على سفيد ونحن لا ينقصنا جنونه الآن، ارتح وخذ ضيافتك وأحمل المؤن التي تلزمكم في السفر وعد .
كاد الرجل يفتح فمه يعترض على الأمر باحترام، لولا كلمات أرسلان التي صدحت في الخلف :
_ سمعت ما قال سالار ؟! نفذ وإلا أمرت رجالي بأسركم رهائن جميعًا الآن وستنالون واجب ضيافتكم بالاجبار.
ختم حديثه يشير بعيونه لرجاله الذي تحركوا لمساعدة رجال سفيد في ربط الاحصنة وانزال الهودج وترتيب الأمور الخاصة بهم .
بينما هو نظر صوب سالار مبتسمًا لأجله وقد أبصر وجهه الذين أضاء حين رأى زوجته، اخفض عيونه وهو يميل برأسه في هدوء شديد وتحية راقية :
_ سمو الأمير، انرتي مملكة مشكى…
نظرت له تبارك وهي تلتصق في سالار تتعجب هدوء ورقي أرسلان الذي سمعت ورأت عنه الكثير بنفسها، هذا الرجل كيف يكون بهذا الرقي الآن ؟!
وفي الحقيقة كانت نظرة تبارك السطحية لأرسلان، هي نفسها نظرة الجميع السطحية لسالار، فلا هم ابصروا ما رأت هي بسالار، ولا أحد أبصر ما عثرت عليه سلمى داخل أرسلان.
ولو أُخبرت تبارك أن الرجل الذي تخشى حتى مجرد النظر له، لا يختلف عن زوجها شيئًا في طباعه الخشنة، لشهقت واستغفرت ونفت، الشيء ذاته مع سلمى التي لم تكتشف أن هناك بعد من يفوق لين وحنان زوجها …
ابتسم له سالار يجذب تبارك له وهو يستأذن منه ليردد أرسلان والذي تلقى خبر وجود موكب من سفيد فتحرك ليستقبله بنفسه :
_ سأرسل لكما الطعام حتى غرفتك .
شكره سالار بامتنان وهو يسحب تبارك بعيدًا عن الجميع وقد شعر برغبة قوية في ضمها ليروي ظمأ شوقه، تاركًا أرسلان يراقبه ببسمة صغيرة يدعو الله أن يديم سعادته .
_ أدام الله سعادتك يا أخي.
تنهد بصوت مهموم وهو يتذكر ما حدث مع سلمى :
_ وألحقنا بك…….
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
_ توقفي عن كلماتك هذه وتحلي ببعض الأخلاق واخرجي للمسكين في الخارج ببعض الطعام .
نظرت ديلارا صوب شقيقها بصدمة مشيرة لوالدها بعدم فهم :
_ هل سمعت ما يقول والدك عثمان؟! يدخل علينا برجل غريب ويخبرنا أن نستضيفه بيننا .
_ ألا تعلمين أي شيء عن كرم الضيافة يا فتاة ؟!
_ أي كرم ضيافة هذا ؟؟ رجل غريب لا نعلم له من شيء وتثق به بهذا الشكل ؟!
_ يبدو مسكينًا ضل طريقه..
ابتسم أنمار الذي كان يجلس في الخارج يراقب النافذة وهو يرتشف بعض العصير ببرود شديد يراقب المارة في الخارج :
_ نعم يا عم مسكين للغاية، انتزعوا مني رجالي وسجنوني في سجوني، لا انجح لهم الله بيعة .
ختم حديثه يكبت ضحكة صغيرة كادت تفلت من كلماته لنفسه، ينظر ليده التي كانت ممتلئة بالجروح، ومن ثم حرك عيونه في المكان يردد بضيق :
_ وكأنني اطيق الجلوس في هذا المكان القذر معكم، لم أهرب من حياة المتشردين سابقًا لأحيا في هذا المنزل .
وبالحديث عن حياة المتشردين عاد أنمار بأفكاره صوب نقطة من حياته ظن أنه دفنها وتجاوزها منذ سنوات وعقود طويلة، نقطة ما كان يحبذ العودة لها …
أن تولد ابنًا لأحد المنبوذين لهو اسوء ما يمكن أن تقدمه الحياة لك، وأن تولد ابن قائدهم هو السوء بحد ذاته .
فما بالك بأن تولد ولدًا بين الكثير والكثير من الابناء حتى أنك لا تدرك كم أخًا تمتلك، فوالده العزيز لم يكن يحسب الأمر، فكلما نالت امرأة إعجابه احضر له بذرة فاسدة منها وكأنه أخذ عهدًا على نفسه أن يكون جيشًا من أبنائه، فانجب منهم ما لا يُحصى عدده .
ومن بين كل هؤلاء كان هو …أنمار الصغير المنبوذ بين المنبوذين، المستضعف بين الجميع، يُضرب ويوبخ لاتفه الأمور، والجميع يشاهد ويصفق، يشاهدون الحقير بافل وهو يتخلص منهم واحدًا تلو الآخر، وهو لم يكن بقوة بافل أو محظوظًا بأم تحميه كما زمرد ..
كان أشدهم نحسًا حتى في الأم التي خرج من رحمها، امرأة جاحدة لم تهتم له ولم تنظر له وكأنها تخشى أن ترى صورة أبيه في وجهه، وما ذنبه هو ؟! ما ذنبه هو إن وقعت بقبضة ذلك الرجل وأصبحت إحدى نسائه ؟؟
نشأ على مبدأ القوي يأكل الضعيف، وهو لم يجد أضعف منه سوى زمرد ليجد بها متنفسًا عن ضيقه ويستمر في مضايقتها كلما سنحت له الفرصة، لكن حتى تلك المتعة الصغيرة انتهت حينما تلقى ضربات من يد والدتها، المرأة التي تمنى في قرارة نفسه لو كانت والدته هو، ولا ينسى ضربات زمرد نفسها وسخريتها منه وكرهها له وللجميع .
عاش بينهم حتى ضاقت به نفسه وقرر هجرهم والبحث عن حياة أخرى خارج جحرهم، ليهرب في ليلة مظلمة ولا يعتقد أن والده شعر به او تذكره حتى، ربما ظن أن بافل تخلص منه حتى .
هرب وترك لهم المكان بأكمله وهو ما يزال في بداية مراهقته لا يدري عن الحياة سوى اسوء ما بها، ليصطدم في طريق هروبه بالعائلة التي غيرت حياته وانتشلته من ظلام والده لنورهم، ليكون عرفانه بالجميل لهم ….قتلهم.
أفاق من شروده على صوت الذي انقذه وهو يهتف بهدوء مربتًا على ظهره مشيرًا على بعض الطعام أمامه:
_ تناول طعام يا بني فأنت تبدو ضعيفًا .
ابتسم له أنمار بمسكنة شديدة وهو يرفع عيونه صوب ديلارا التي تحركت خارج غرفة شقيقها لغرفتها، تلقيه بنظرة سوداء في طريقها ومن ثم رحلت لتتسع بسمته يتناول الطعام بهدوء مرددًا بنفسه :
_ يبدو أن الجلوس في هذا المنزل القذر ليس بهذا السوء في النهاية …
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
_ لا افهمك أخي أنت تتحدث بكلمات غير مترابطة ولا افهم منها شيئًا .
نظر أرسلان بضيق حوله وهو يزفر بقوة، بينما إيفان يراقب ما يحدث باستمتاع شديد في انتظار أن ينطق بها أرسلان صراحة .
ليشير له الاخير بضيق :
_ أنت أخرج من هنا أريد التحدث مع اختي وحدنا .
وإن ظن أنه بهذا الشكل سيخجل إيفان ليرحل مكسور الخاطر فقد نسي من يكون إيفان بالتحديد، فقد أرجع إيفان ظهره للخلف بهدوء شديد وهو يهتف ببرود :
_ هذه غرفتي وهذه زوجتي، وإن كان هناك من يجب أن يرحل فهو أنت.
استشاط أرسلان بقوة وهو يشعر بدمائه تفور داخل اوردته، من جهة زوجته الغاضبة ومن جهة برود ايفان وهذا ما لا يتحمله ليوم واحد .
_ إيفان لا ينقصك يومي، لا تزيدها عليّ كي لا اضعك على القائمة بعد العجوز آزار.
اتسعت عيون إيفان بصدمة وبسمة غير مصدقة :
_ مهلًا هل حذفتني من القائمة لتضيفني لها من الاساس ؟!
اشتد غضب أرسلان أكثر ليتحرك صوب إيفان وقد نفذت ذرات صبره المتبقية :
_ حسنًا أنت من جنيت على نفسك …
وقبل التحرك صوبه اوقفته كهرمان التي امسكت مرفقه وهي تربت عليه بحنان تردد بصوت خافت تشعر بالحزن لأجل الحيرة الظاهرة في عيون شقيقها :
_ ما بك أخي، تبدو …حزينًا حائرًا .
استدار لها أرسلان بأعين منطفئة وهو ينظر لها بحزن واضح في مقلتيه :
_ سلمى غاضبة مني .
_ سبحانه المنتقم، أخذ حقي منك دون أن احرك إصبعًا حتى .
حدجته كهرمان بنظرة شرسة ليرفع إيفان كتفه بعدم اهتمام يبرر كلماته تلك :
_ لا تنظري لي بهذا الشكل أنتِ بأم عينيكِ ابصرتي ما كان يفعل معي، والله هذه استجابة دعوة مؤمن خرجت من اعماق قلبي، إذ دعوت أن يقتص الله لي منه ويرزقه بزوجة لها أخ يماثله، لكن تدابير الله تفوق احلامنا، وجعله هو بنفسه العائق أمام نفسه ….
ختم جملته يطلق ضحكة مرتفعة، لينهض أرسلان يتحرك له غاضبًا :
_ أنت أيها الحقير، كنت محقًا حينما رفضت تزويجك أختي، انظري إلى تصرفاته، انظري هذا هو الرجل الـ
_ انتبه إلى الفاظك عزيزي صدقني أنا فقط اعذر أفعالك لأنك في ضيق، ومن ثم ماذا تنتظر مني أو من زوجتي .
رمته كهرمان بنظرة مشتعلة ولم تكد تتحدث كلمة واحدة تعترض فيها على حديثه حتى تابع إيفان بجدية وهو يشير لارسلان:
– الشخص الوحيد الذي يمكنه مساعدتك في شأنك هو نفسه من اوقعك به، نفسك أرسلان، لا أحد منا يدرك زوجتك بقدرك ولا أحد يعلمها مثلك، لذا أنت فقط من يمكنه إيجاد الحل لما أوقعت به نفسك بغبائك أيها الاحمق المتسرع .
كان أرسلان يستمع لكلماته بهدوء شديد وهو يفكر فيها بجدية، قبل أن تتسع عيونه فجأة في نهاية الجملة ويرفع رأسه لإيفان الذي ابتسم له بسمة مستفزة .
_ اشكرني لاحقًا يوم زفافك حينما تصل إليه بسلام .
رماه أرسلان بنظرات حانقة، لكنه رغم ذلك لم يتحدث بكلمة وهو يتحرك من المكان يفكر فيما يمكن أن يفعله ليسترضيها، لكن قبل ذلك تحرك حيث المطبخ ليرسل لها طعامًا للمرة الثالثة هذا اليوم …
وبمجرد أن خرج نظرت كهرمان صوب إيفان بلوم :
_ لم يكن عليك التعامل معه بهذا الشكل إيفان، فأنت تعلم كم هو حساس تجاه التعبير عما يؤرقه .
تشنجت ملامح إيفان بسخرية :
_ كهرمانتي المسكينة أنا أعلم أرسلان قبل أن يصبح شقيقك حتى، وأدرك جيدًا أنه لن يستمع لكلمات أحدهم إن لم تكن بهذا الشكل، هو لن يتلقى نصيحة من أحدهم إلا إن أُلقيت في وجهه بشكل لا تظهر أنها شفقة عليه .
نظرت له ثواني بشك وعدم اقتناع، ليمنحها إيفان بسمة صغيرة لطيفة وهو يرفع كفها يقبله بحنان:
_ كهرمان حبيبتي، أرسلان شقيقي وقطعة من قلبي، رفيقي الأقرب الذي مهما تجادلت معه وتحدثت معه بشكل لئيم وعاملني هو باستفزاز، فوالله لا أقبل له سوى السعادة، فلا تظنين لحظة أنني قد انبذ أرسلان حينما يحتاج ليد العون، والآن هو لا يحتاج سوى لمساعدة نفسه .
ابتسمت له برقة وحب حينما أبصرت صدق مشاعره تجاه شقيقها، تفكر كيف شكت لحظة في الماضي أنه قد يكون عدوًا لأرسلان .
أبصر إيفان بسمتها ليهمس هو لها بحب :
_ ما أسعدني برؤية بسمتك جميلتي، أولست أكثر الرجال حظًا لأنال جوهرة ثمينة مثلك، خبيث ذلك الارسلان اخفاكِ في كهفه عن عيوني لسنوات، لكنني في الواقع لا الومه البتة فلو أبصرتك من قبل والله ما تركتك لحظة بين جدران مشكى .
ابتسمت له كهرمان ليتنهد إيفان بصوت مرتفع وهو يميل برأسه مقتربًا منها يتحدث بصوت خافت مرهق :
_ متى ينتهي كل هذا كهرمان ونعود للديار، فكم اشتقت لمحياكِ بين حدائق سفيد ..
مدت كهرمان كفها تلامس وجنته بحنان شديد وحب :
_ عن قريب إيفان، غدًا ينتهي كل هذا ونعود لسفيد سويًا .
_ عساه يكون قريبًا بين أحضانك حبيبتي ….
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتحرك بين الممرات بأعين متيقظة وهو يبحث عنها هنا وهناك، يسأل كل من يمكن أن يبصرها إن كانت تقاطعت طرقهم أم لا، لكن لا أحد استطاع أن يدله عليها .
توقف المعتصم بعجز في المكان يحاول أن يهدأ يتحرك مرة ثانية صوب غرفة الملكة وهو يدعو من اعماق قلبه أنها هناك، ولم يكد يقترب من الباب حتى سمع صوت خلفه يردد بهدوء :
_ هذا أنت يا رجل، أخذت ابحث عنك من ذلك اليوم لكنك اختفيت، أين كنت سألت عنك زين، لكنه لم يجيبني ربما غار أن اصادقك واهمل صداقتي معه .
نظر المعتصم صوب خالد الذي تحرك صوبه بعدم فهم يحاول معرفة ما يريد، لكنه هز رأسه بعدم إدراك لما يحيطه، يطرق باب غرفة الملكة وخالد جواره يحمل فوق كتفه القرد الخاص بالمكلة :
_ أنت هنا أمام غرفة شقيقتي، يبدو أنك لم تنسها بعد، صدقني زوجها المتجبر لن يكون سعيدًا بهذا كما أنني لا اقبل أن تـ…
نظر له المعتصم وهو يهمس بصدمة من حديثه :
_ أنت عمن تتحدث ؟؟ توقف عن هذه الاحاديث الغبية، أنت ستتسبب في جز عنقي لغبائك .
رمش خالد بعدم فهم وهو يراه يطرق الباب بإصرار، وما هي إلا ثواني حتى فتحت لهم سلمى الباب ترتدي ثوب الصلاة الخاص بها تحدق بهما بعدم فهم، لكن المعتصم لم يمنحها حتى فرصة التفكير فيما يحدث .
_ فاطمة، هل ابصرتيها ؟؟
استدارت له سلمى:
_ نعم كانت معي ومع الفتيات منذ بداية اليوم، لكنها فجأة اختفت ولا أدري أين فأنا تركت الفتيات للأنتهاء من بعض الأمور معها، ربما كهرمان أو زمرد تعرفان مكانها، لكن لماذا هل هي ….
وقبل إكمال كلماتها تركها دون استئذان حتى ولأول مرة يتصرف بوقاحة، لكنه لم يكن يعي حتى ما يفعل يهرول صوب جناح الملك إيفان عساه يجد سلواه هناك .
بينما خالد استدار صوب سلمى يتحدث بجدية :
_ من هذه فاطمة ؟؟ وماذا يحدث هنا ؟!
_ هذه زوجته، ومن ثم ماذا تفعل أنت هنا ؟؟
ابتسم خالد يشير صوب موزي :
_ قررنا أنا وموزي أن نبيت معكِ ليلتنا، مرت سنوات منذ فعلنا ذلك .
رفعت حاجبها تبتسم ساخرة :
_ خالد نحن لم نفعل هذا منذ كنا صغار .
_ إذن آن الأوان لنفعل الآن.
ختم حديثه يدفعها داخل الغرفة وهو يغلق الباب خلفه:
_ أنا لي حق بكِ كما ذلك المتجبر زوجك، وكذلك موزي المسكين الذي اهملتيه لأجله، والآن اجلسي كي اقص لكِ عن ملاكي …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في الوقت المقرر له والمخطط له، والذي كان المعتصم قد أعد له بتخفيف الحراسة عن الباب الخلفي للقصر، يعطي نزار الفرصة ليهرب دون أن يعيقه شيئًا، ويسير في طريقه بكل بساطة.
لكن وهل يفعل نزار ؟!
بالطبع ليس بعدما ابصرها تتهادى أمام عيونه واقعًا وليس مجرد خيال من عقله المريض …بها .
تحرك بين الممرات يدعو الله أن تكون قد استقرت في الغرفة نفسها التي وجدها بها المرة السابقة، يدعو أن يبصرها مرة أخيرة قبل التحرك لمصير بائس لا يعلم له من نهاية .
وصل لبداية الممر وهو ينظر حوله، ومن ثم اقترب من الباب يطرقه بهدوء يختفي جانبًا تحسبًا إن لم تكن هي المجيب .
لكن يبدو أن الحياة اشفقت على نزار وما يحياه وقررت أن تمنحه ولو لمرة واحدة ما يرجو، ذلك الضال الضائع بين طرقات الحياة لا يدري له من مرسى ولا يبصر له من شاطيء.
ابصرها تخرج من الغرفة تنظر حولها بحثًا عن الطارق، وقد شعرت بوجوده في المكان، لتعلو خفقاتها، تترك الباب وهي تبتعد عنه بهدوء تبحث بين الممرات بعيونها عنه، حتى أبصرته يختبأ في أحد الممرات الجانبية البعيدة، لتشهق بصوت منخفض هامسة اسمه :
_ نزار ؟؟
_ مر وقت طويل سمو الأميرة…
سقطت دموع توبة وهي تتحرك صوبه تهمس بصوت متلهف :
_ نزار أنت بخير، لم يؤذك أحد صحيح ؟؟ أنا آسفة، اقسم أنني لا أدري كيف حدث، وجدت فجأة أرسلان يقف أمامي يبلغني بمعرفته اخفائي لك، ووالله كنت على استعداد لقتلي ولا انطق بمكانك، لولا أنه اقسم لي أنه لن يمسك بسوء وسيسلمك لوالدك .
صمتت تبتلع ريقها وهي تهمس من بين دموعها بصوت حزين مقهور :
_ أردت لك الاستقرار، لربما يغفرون لك ما فعلته إن علموا ما فعلته لأجلي وأجل أبي، أنا… آسفة نزار .
كان نزار يتابعها وهي تتحدث بكلمات كثيرة متتابعة دون أن تأخذ فرصتها حتى للتنفس، يبتسم بسمة واسعة شاردًا بها :
_ لا بأس أتقبل كل شيء طالما كان منكِ، ولو كان موتًا توبة .
_ يا ويلي نزار لا تتحدث بهذا الشكل و…
نظرت فجأة حولها وكأنها تستوعب ما يحدث :
_ أنت هنا؟ لقد … ألم يسجنك أرسلان ؟!
_ لقد هربت .
_ يا ويلي، ما الذي فعلته نزار لا يمكنك …
قاطعها بهدوء وهو يقترب منها خطوات صغيرة :
_ ستكون المرة الاخيرة التي أهرب بها توبة .
توقف قلب توبة وشحب وجهها بشكل مرعب وقد شعرت بتوقف أنفاسها:
_ ماذا … ماذا تقصد ؟! ما الذي تنوي فعله نزار، أتوسل إليك لا تتهور و…
_ لم أفعل، بل سأصلح كل ما فعلته سابقًا، سأذهب لهم، لأصلح ما سبق وافسدت، سأحقق ما حلمت به منذ شهور طويلة، أريد أن افعل لأنام بسلام، ولأحيا بسلام .
ختم حديثه ينظر لعيونها ثواني والأخيرة تراقبه بعجز عن الحديث، تنظر للأرض وكل ذرة بجسدها تدعوها لإيقافه، كل همسة داخلها تصرخ بردعه عما ينتوي :
_ لا تفعل نزار .
_ سأفعل توبة، ليس لأجلي فقط هذه المرة، بل لأجل قلبي وروحي كذلك .
_ إن عدت فلا اعتقد أنهم سيسمحون لك بالعودة مجددًا، أرجوك نزار أنا…يمكنني مساعدتك لتبدأ حياتك بعيدًا… بعيدًا عن كل هذا…يمكنني أن أبعدك عن هذا كله إن أردت و….
_ وأنا لن اقبل بالمزيد من البعد توبة وقد نفر قلبي هذا البعاد، آن الاوان ليسكن قلبي ولن يحدث إلا بعدما أفعل ما أردته منذ شهور طويلة.
كانت ضربات قلبها تزداد وهي تشعر بما يخفيه خلف كلماته، لكنها أبت الاقتراب مما يقصد ونفض الغبار عنه، تهمس بصوت خافت وبشدة :
_ إذن هذه النهاية ؟!
_ بل البداية سمو الأميرة.
رفعت نظرها له بتعجب ليهمس لها بحماس رغم عدم احتياجه لها، لكن كل ثانية يقضيها جوارها حاجة ملحة له :
_ ما رأيك بمساعدتي لمرة أخيرة سمو الأميرة ؟؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انعزل بها عن الجميع داخل غرفته والتي كان ينأى بها عن قصر مشكى بالكامل شاكرًا لأرسلان مساعدته في الحصول عليها واحترام رغبته بالابتعاد عن الجميع وضوضائهم، فالضوضاء الوحيدة التي يتقبلها كانت منها .
ضمها له بحنان :
_ اليوم فقط كنت اتلظى بنيران شوقي لكِ وادعو الله أن ينتهي كل هذا لأعود لكِ .
ابتسمت له تبارك بسمة حنون وهي تستكين لأحضانه بحب شديد :
_ القلوب عند بعضيها يا قائد ..
ابتسم بسمة صغيرة يغمض عيونه باستمتاع وقد رفض أن يفتح عيونه ويسحب نفسه من بين احضانها حتى يرتوي بالكامل، وآه لو تدري تبارك أنه يشحذ قواه داخل أحضانه ليقوى على مجابهة العالم .
وتبارك احترمت صمته، بل واستكانت لذلك الصمت براحة شديدة، واستمر الأمر لدقائق طويلة .
_ اريحي قلبي واخبريني أنكِ كنتِ تهتمين بادويتك تبارك ؟؟
_ نعم، كنت سالار لا تقلق .
هذا إن استثنينا آخر مرة سقطت منذ يوم بعدما كادت تسحبها غيبوبة مرضية تودي بحياتها، لكن هل تخبر سالار بذلك ؟!
لا لم تفعل خاصة وهي وحدها معه في هذه الغرفة المنعزلة عن أي مساعدات خارجة قد تلتجأ لها حينما يجن جنونه، فهي تتذكر جيدًا آخر مرة علم بها أنها كادت تسقط ارضًا بسبب نسيانها للدواء لفترة طويلة ما يزال صدى صرخاته يرن بأذنها .
” قسمًا برافـــــع السمـــاوات تبـــــارك إن حــــدث وأهملـــتي ادويتـــك مجــــددًا فستكون قطيعـــة بينـــنـا إلى أن يبرأ صدري ولن يفعل، لست على إستعداد لخسارتك فقط لأنكِ امرأة مهملة، والله لن أسامح أي أحد يصيبك بضرر ولو كان ذلك الأحد هو نفسك ”
_ عزيزتي أنتِ بخير ؟؟
استفاقت تبارك من شرودها على كلماته لترفع عيونها له تبتسم بسمة صغيرة له تبعد صدى كلماته عن عقله، وإن كانت ما تزال لا تصدق أن من أخرج تلك الكلمات القاسية ذلك اليوم هو نفسه سالار الذي يعاملها كقطعة زجاج يخشى أن تتحطم أسفل قبضته الخشنة .
_ نعم بخير، فقط كنت شاردة .
نظر لها بحاجب مرفوع :
_ شاردة فيمن ؟؟ هذا ليس جيدًا أن تشردي في وجودي تبارك .
كان يتحدث وهو ينزع حجابها بهدوء وبسمة حنونة، قرل أن تتوقف يده عن الحركة وهو يسمع صوتها تهمس بصوت هائم بملامحه :
_ كنت أفكر إن كان طفلي القادم سيشبهك، أعتقد أنه عليّ تكثيف النظر لوجهك خلال الشهور القليلة القادمة سالار……….
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقف خلف باب غرفتها وهو يراقبه بصدمة كبيرة لا يصدق ما يصل له في هذه اللحظة، يبتسم بعدم تصديق، وهو ينظر حوله وكأنه يبحث عن تنين مجنح او سمكة طائرة او شيء خارق للطبيعة يشير إلى أنه يحلم .
لكن لا شيء، كل شيء كان طبيعيًا وصوتها الذي يصدح من خلف الباب كان أكثر شيء يجذبه للواقع وهي تردد .
_ آسفة فأنا لا أسمح للغرباء بدخول غرفتي في مثل هذا الوقت من الليل، أنا امرأة يا سيد ولا يمكنني أن اغامر بسمعتي بهذا الشكل .
_ هل …هل جننتي يا امرأة ؟! أنتِ زوجتي .
كانت كلمات أرسلان تخرج مصدومة منها لتتسع بسمة سلمى أكثر وأكثر وهي تهتف :
_ لا اعتقد ذلك، لقد اوضحت لي مكانتي بالفعل منذ ساعات، ولا أتذكر أن أيًا مما نطقت به أوحى لي بهذه الحقيقة، وإن كنت تتحدث عن تلك العهود التي نطقتها عليّ قبل أن يعلننا الشيخ زوجين، فما هي إلا كلمات في الهواء لا تعلم عنها شيئًا جلالة الملك .
شعر أرسلان بالجنون وهو يحاول أن يتحلى بالهدوء ليراضيها :
– حسنًا سليمى أنا…..
_ لا جلالة الملك، لا أسمح لك بانتزاع الألقاب بيننا، فما بالك بتدليلي ؟؟ احتفظ بحق تدليلي لمن أكون له اقرب من روحه، وليس مجرد رجل غريب ينأى بنفسه عني .
جن جنون أرسلان وهو يضرب الباب بقدمه في عنف جعل سلمى تتراجع للخلف وهي تكبت شهقتها بيدها تراقب الباب بأعين متسعة مرتعبة تخشى أن يحطمه أعلى رأسها.
وفي الخلف خالد يختبأ أسفل الفراش تحسبًا أن يحطم أرسلان الباب أعلى رؤوسهم جميعًا وجواره موزي الذي أخذ يطلق صرخات صاخبة ليكمم له خالد فمه بقوة :
_ أصمت أيها الاجرب لئلا ينتهي منها ويكمل علينا .
لم يكد يختم كلماته حتى سمع صوت أرسلان يتحدث بصوت مرتفع صارخ :
_ سلمى افتحي هذا الباب كي لا احطمه أعلى رأسك، ادخليني ودعينا نتحدث كأي اثنين عاقلين .
_ إثنان عاقلان ؟؟ عمن تتحدث جلالة الملك ؟!
سمعت سلمى سبة تخرج من أرسلان، لتتسع عيونها بصدمة تصرخ بصوت موبخ :
_ أنت يا سيد ألزم حدودك .
_ حدودي هذه سأدهسها واحطمها إن كانت حائلًا بيننا سلمى .
_ ارحل من هنا يا سيد ولا تضطرني للتصرف بشكل لن يعجبك .
اقترب أرسلان من الباب يتحدث بسخرية :
_ حقًا وما الذي ستفعلينه يا ترى ؟؟
ابتسمت سلمى بخبث وهي تراقب الباب تضم يديها لصدرها ببرود شديد :
_ سأترك لك القصر بأكمله لتحطم ما تشاء فيه .
_ حقًا، وإلى أين ستذهبين يا ترى ؟!
_ ارض الله واسعة مولاي .
تنفس أرسلان أنفاس ساخنة لشدة غضبه، والفكرة نفسها تودي بتعقله ادراج الرياح، وفكرة أن تتركه أو يفقدها ويعود لحياته قبلها، كانت جحيمًا أكبر من جحيم حياته السابقة :
_ سأجعلها اضيق لكِ من سم الخياط سلمى، فلا يبقى لك في تلك الارض سوى دياري .
فجأة تراجع للخلف حينما فتحت الباب بقوة ليبصرها تطل عليه بفستانها المميزة بالورود وهي تحدق به بأعين مشتعلة وبسمة غريبة ترفع له حاجب واحد :
_ ومن أخبرك أنني سأخضع لأنانيتك ونرجسيتك مولاي ؟؟ أنا وإن أردت الرحيل فستستيقظ غدًا لتجد القصر فارغ مني .
اقترب منها أرسلان حتى أصبح يفصل بينهما شعرة فقط يهمس بصوت محذر :
_ حاولي فقط .
التمع التحدي بعيون سلمى بشكل خطير وقد أقسمت أنها هي من ستعيد تربيته لهذا الأرسلان وتعلمه كيف يكبت غضبه ويتحدث بشكل لائق ويفكر بكل كلمة قبل أن ينطقها :
_ إذن قف وراقبني أفعل……….
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
_ لقد رحلت بحثًا عنك، كان هذا آخر ما قالته أنها ستذهب لتطمئن عليك..
كامت كلمات كهرمان ترن في عقله وهو يتحرك بحصانه بأقصى سرعة عنده صوب المقابر حيث وجدها آخر مرة، يدعو الله أن يجدها هناك، وقد أصبح قاب قوسين أو أدنى من الإنهيار، يدعو الله أن يكف عنهم الحزن والفواجع وقد تحمل ما لا يتحمل بشر .
لكن مهما كان ما تحمله، لن يصل لنصف ما تحملته هي .
هبط عن حصانه وهو يدفع البوابة الحديدية للمقبرة يتحرك داخلها بسرعة كبيرة، وهو ينظر حوله بحثًا عنها، ينادي باسمها وصوته قد بدأ يتهدج من رعبه :
_ فاطمة… عزيزتي أنتِ هنا ؟! فاطمة.
لكن الصمت كان الرد الوحيد، لكنه طمئن نفسه أن هذا كان الرد نفسه سابقًا قبل أن يجدها ترتكن صوب الجدار و….
توقف أمام الجدار والقبر الخاص بعائلتها يبصر فراغًا قاتلًا، استدار حول نفسه يبحث بأعين ضبابية عنها .
وقد خرج صوته ضعيفًا مرتجفًا :
_ فاطمة ….ليس مجددًا فاطمة، والله لم أعد اقوى على ما تفعلينه بي .
فجأة وبلا مقدمات انفجر يصرخ بصوت مرتفع كالمجنون بين القبور وقد أصبح في حالة من اللاوعي يصرخ بكلمات لا يقصدها ولا يدركها حتى، لكن قلة حيلته ويأسه هم من كانوا يتحدثون:
_ طفح الكيل فاطمة، طفح الكيل، أنا استسلم، تبًا لكِ، تبًا لكِ و…….
توقف عن الصراخ وهو ينظر حوله وقد بدأت دموعه تتساقط يهمس بغضب شديد يضرب الجدار بقدمه :
_ تبًا لكِ فاطمة، وتبًا لقلب من بين الجميع لم يحب غيرك، ليتني أُصبت بالعمى وما ابصرتك يومًا .
ختم حديثه وهو يعيد خصلاته للخلف بقوة، يطلق صرخات غاضبة وقد بدأ صدره يحترق من شدة خوفه ووجعه، قبل أن يركض خارج المقابر يغلق بابها خلفه بشكل مدوي، لا يهتم لأي شيء يصعد للحصان وهو يتحرك لمنزلها للبحث عنها بأعين غاضبة مرعبة :
_ هذه المرة لن اسامحك…لن اسامحك ولن امررها لكِ حتى وإن اضطررت لتكبيلك بالفراش سأفعل ……
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان جسدها مكبلًا وفمها مكممًا ملقاه في الصندوق الخلفي لعربة تُجر بواسطة احصنة كثيرة .
لا تعي لشيء حولها ولا تسمع شيء سوى صوت حوافر الحصان التي تصطدم بالارضية أسفلها، وأصوات الكائنات الليلة التي تصدح، وملمس شيء لزج يسقط على وجهها، ورؤية ضبابية لا تظهر لها سوى ظهر رجل يظهر لها من النافذة الصغيرة التي تطل على صندوق العربية .
حاولت الحديث بكلمات قليلة تلفت بها انتباه ذلك الرجل، لكن كان فمها مكمم كما يدها، حاولت أن تحرر نفسها مرات ومرات حتى يأست، واخيرًا استسلمت للضعف والإرهاق وقد سقطت رأسها على ارضية العربة ….
وفي الإمام كان هو يقود خيوله لجر العربة خارج حدود مشكى صوب موطنه، يبتسم بسمة صغيرة يتنفس الهواء براحة :
_ واخيرًا فاطمة، اخيرًا سيتحقق حلمي، لن
اسمح لأحد بإبعادي عن حلمي مهما كان من، حتى ولو كان ذلك الشخص هو زوجك نفسه …..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان يراقبها وهي تتحرك في المنزل تنتهي مما تفعل، ومن ثم دخلت غرفة أخيها تغلق الباب بعنف في وجهه بعدما منحته نظرة قاتلة من عيونها، جعلت عيون انمار تلتمع بالاعجاب الشديد، فلطالما كانت النساء القويات نقطة ضعفه، لذا انجذب لتوبة ونازين وكذلك زوجة أرسلان، يعشق النساء المتمردة، وينفر من الضعيفات مثيرات الشفقة .
_ أنا اعمل ما بين سبز ومشكى، احضر أعشاب من سبز لمشكى لبيعها في السوق واحيانًا تستمر رحلاتي لشهور طويلة.
نظر له أنمار يدعي اهتمامًا بحكايات العجوز، بينما داخله يتلوى مللًا ويصرخ طلبًا للرحمة، ولولا ما يمكن أن يحدث له إن فعل، لكان أخرج خنجره وطعنه وانتهى .
_ أعانك الله يا عم فطلب الرزق هذه الأيام ليس بالهين، خاصة إن كنت تسعى بمفردك على عائلة بأكملها.
تنهد الرجل وهو يمسح وجهه بعجز :
_ منذ إصابة عثمان وأنا اشعر بظهري وقد قُسم نصفين، لكن أمر الله قد نفذ الحمدلله على كل حال .
_ ألا اخوة لك ليعاونوك ؟!
سؤال بسيط أراد به إظهار اهتمام بأحاديث العجوز وعيونه تبحث عن ابنته الشرسة، ليبتسم أنورين بسخرية شديدة وهو يتذكر شقيقه :
_ بلى كنت امتلك واحدًا، رائف أخي العزيز والذي كان ذو نفوذ قوية في المملكة يساعدني بكل ما أريده، قبل أن تغريه حياة المفسدين ويقرر البقاء هناك، نبذني وترك عائلته وراء ظهره، ولم يكتفي بهذا، بل إنه لم يثق بي كفاية ليضع ابنته في عهدتي واوصى بها لرفيقه .
هز له أنمار رأسه يدعي شفقة وعيونه تتحرك مع ديلار التي خرجت من غرفة عثمان تتحرك صوب المطبخ، لا يهتم لما يقول الرجل، يبتسم وهو يتخيل نفسه يمتلكها، شأنها شأن من سبقها من النساء، ودون شعور كان يحذو حذو والده مع من تنال إعجابه من النساء .
ولولا خطته التي يسعى لها لكان أسرها لنفسه .
فجأة سمع أنمار كلمات متطايرة تصطدم بإذنه ليعطي كامل انتباهه للعجوز يضيق عيونه بتفكير :
_ ماذا قلت للتو ؟؟
هز انورين رأسه يهتف بجدية :
_ اخبرتك أنني كنت انتوي تزويج عثمان لها لكن لم يشأ الله أن….
اوقفه أنمار وقد شعر ببوابة سحرية تُفتح أمام عيونه وهو يهمس بشغف غريب واعين ملتمعة :
_ لها من ؟؟ هل ما ذكرته منذ ثواني حول هوية ابنة شقيقك صحيح ؟!
رفع الرجل حاجبه :
_ تقصد تلك الفتاة الدخيلة ؟؟ نعم كما سمعت بالتحديد، ابنة أخي تلك المتمردة فضلت الملك على بني، نفسها زوجة الملك أرسلان……
هنا وأدرك أنمار أن الحياة تفتح له أحضانها باتساع ترحب به بين رغدها، لا يعقل أن يكون بمثل هذا الحظ، فرصة جديدة تُقدم له على طبق من ذهب ليقتص من أرسلان وهذه المرة سيلعبها بالطريقة الصحيحة، وسيكون حليفه في هذه اللعبة هو العجوز …
_ وأنت يا عم ألم تفكر يومًا بلم الشمل مع ابنة شقيقك ؟؟؟؟؟؟؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
نقطة صفر… أم بداية معركة ؟!
كلها حروب عليه خوضها، والنهاية حتمية …..

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية أسد مشكى)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock