رواية لأجلها الفصل الخامس عشر 15 بقلم أمل نصر
رواية لأجلها الفصل الخامس عشر 15 بقلم أمل نصر
رواية لأجلها البارت الخامس عشر
رواية لأجلها الجزء الخامس عشر

رواية لأجلها الحلقة الخامسة عشر
قد تظنّ أن بيدك الأمر، وأنك قادر على صدّ الشعور وتقييد القلب، لكنّ الحب لا يُهزم…
فمهما رتّبتَ شروطك، ورسمتَ خطوطك الحمراء، سيأتي يومٌ تُجبر فيه أن تقف وجهًا لوجه أمام أحلامك، بل وأمام كل ما كنت تظنه “ثوابتك”.
عندها… لن يكون السؤال: “ماذا تريد؟”
بل: “ماذا تختار؟”
والاختيار دائمًا….. يكشفك
____________________________
توقفت سيارة الأجرة بالقرب من المشفى الجامعي، ليترجل منها وصفي وولده الأكبر حازم، الذي كان يحمل عددًا من الأكياس البلاستيكية، تحوي بداخلها ملابس ومتعلقات شخصية بالإضافة إلى علب العصائر والطعام أيضًا، بينما يحث والده المتعب على السير:
ـ ياللا يا بوي، هم شوية، هما خطوتين ونبجي في المستشفى، وهنركب الأسانسير نطلع بيه عند الجماعة.
خرج صوت وصفي بتأوّه:
ـ وهما خطوتين للمستشفى، ولا الوصول للأسانسير نفسه، حاجة هينة على راجل جسمه مهدود من سهر الليالي في الحراسة… ياللا بقى، الحمد لله، كله عشان خاطر ليلى وأم ليلى.
ردد من خلفه بتمنٍّ:
ـ ربي يشفيها يا رب، أنا مش عارف بس إيه اللي صابها ده! على رأي أمي، تجولش عين وصابتها… ربنا يجازيهم ولاد الحرام…
لم يعلّق وصفي، فرغم أنه لا يعرف الحقيقة كاملة، إلا أن الشك ينهش قلبه بشأن السبب الحقيقي وراء استمرار مرض ليلى حتى الآن، رغم مرور أكثر من خمسة عشر يومًا دون تحسن يُذكر. وما يزيد من ألمه حال شقيقته الوحيدة، التي أعادته حالتها إلى تلك الذكريات السوداء التي عاشها بعد زواجها من عرفان.
ـ أبو حازم.
أتى الصوت الرجولي المميز بالنداء من خلفه، ليجعله يلتفت ومعه ابنه نحو هذا الرجل الذي لا يفوّت يومًا دون زيارة، وتسهيل الأمور العديدة عليهم في احتجاز الصغيرة.
اقترب حمزة يصافحهم بعجالة قبل أن يواصل طريقه معهما:
ـ إيه الأخبار؟ شكلكم توكم واصلين. أنا كمان حاسس نفسي اتأخرت النهاردة. محدش طمّنكم عن ليلى؟
السؤال المعتاد منه، وكأن وصفي يعلم أكثر منه بخصوص الحالة التي لا يدّخر هو جهدًا في رعايتها والإلمام بكل تفاصيل مرضها الغريب، من الأطباء الذين يأتي بهم يوميًا. لكن المقصود هنا، والذي لا يغفل عنه الآخر، هو “مزيونة”، وما تحمله من تغيّر واضح تجاهه، رغم إنقاذه لابنتها حين أقلّها سريعًا إلى المشفى قبل أن تسوء حالتها كما أخبرهم الأطباء.
ـ هنشوفها دلوقتي يا أبو ريان، نسأل الله الشفاء التام لها.
…………………………..
أما في المشفى، وداخل الحجرة التي أصبحت مأواهم منذ أكثر من خمسة عشر يومًا، كانت مزيونة تمسك بعلبة الأرز، تغرف منها بالملعقة ثم ترفعها إلى فمها، لتحاول الأخرى التناول منها قدر ما تستطيع. تمضغ بصعوبة، ثم تأتي الصعوبة الأكبر في ابتلاعه، الذي لا يتم في معظم الأوقات إلا بتجرع الماء. حتى إذا فقدت قدرتها على المواصلة، أبعدت الطبق بيدها، مما أثار استياء مستمرًا من والدتها:
ـ وبعدين؟ انتي حتى مخلصتيش رُبعه، ده غير اللحمة اللي بترجع زي ما هي! ساعدي نفسك وساعديني يا ليلى، عشان ربنا ياخد بيدك وتجومي على حيلك.
هتفت بها مزيونة كصرخة قهر علّها تصل إليها وتستجيب، ولكن كالمعتاد، جاء الرد برجاء المهزوم الفاقد لإرادة المقاومة:
ـ مش جادرة والله يا أمي، أنا بمنع نفسي بصعوبة إني مرجعش، وبغصب على نفسي أبلع، حتى الوكل حاسة بيه زي الحجارة في حلقي…
تركت مزيونة الطبق من يدها بعنف، لتنهض من جوارها هاربة نحو الشرفة، كي تفرغ همها بالدموع والبكاء. كم واجهت من مصاعب ومصائب تكسر الظهر، واجهتها بضعف أو بقوة، لكن في النهايات انتصرت، وعززت من شخصيتها حتى أصبحت على تلك الحالة… كل ذلك من أجلها؛ تلك المستلقية على سريرها الطبي الآن.
مرّ أكثر من أسبوعين منذ احتجازها داخل تلك الحجرة اللعينة لرعايتها، دون تقدم في حالتها سوى بخفض الحرارة التي كادت أن تقتلها. أما باقي الأعراض، فلا شيء واضح رغم حيرة الأطباء أمام حالتها: وهن شديد، مع بعض الأعراض الأخرى، يلازمه فقدان شهية جعلها تفقد أكثر من نصف وزنها، لتدخل الحسرة قلب والدتها كلما تطلعت إليها.
تتساءل: هل أخطأت حين أجبرتها على الالتفات لمستقبلها فقط؟ حتى لو كانت بالفعل أمًّا متسلطة، هل كان حزمها في اتخاذ قرارات مضادة لرغبة ابنتها سوى من أجل مصلحتها؟ كي لا تكرر تجربتها المريرة؟!
فاقت من شرودها على بعض الأصوات التي بدأت تصلها من داخل الغرفة عند ابنتها، لتجفف بطرف يدها تلك الدموع العالقة على وجنتيها، ثم سحبت كمًّا كبيرًا من الهواء حتى تهدأ من وتيرة أنفاسها الغاضبة، ثم دخلت لمقابلة شقيقها الذي كان يحتضن ابنتها في هذا الوقت، يناجيها بحنوه كالعادة، وبجواره حازم ابنه يضع الأكياس على الأرض، وعلى مسافة ليست بالبعيدة وقف هذا الرجل، الذي لم يتركهم منذ أول يوم أقلّهم فيه إلى المشفى، ليظل متابعًا لهم باهتمامه ورعايته.
استقبل رؤيتها بلهفة، ثم ألقى التحية عليها، فأجابته بروتينية كعادتها، ليدور بينهما حديث يومي سريع بالنظرات، ما بين اشتياق ورجاء تقابله هي بعتب وحزن، قبل أن تهرب بعينيها عنه، لتتابع لقاء البقية:
ـ يا حبيبة خالك انتي، جومي يا بِت، مشتاچتيش لدروسك ولا لمدرستك؟
سمعت مزيونة، لتقلب عينيها مغمغمة بيأس:
ـ مدرسة إيه عاد؟ دا شكل السنة هتروح عليها.
اقترب منها حازم، ابن شقيقها، يضمها من كتفيها بمزاح يعارضها:
ـ لاه، هتروج يا مزيونة، وتبقي عال العال. بطلي انتي التشاؤم دا وفُكّي كده… فُكّي يا ولية انتي باه.
تبسمت بخفة، مستجيبة لمزاحه، تربت على ساعده بامتنان، أثار غيرة الآخر حتى التفت مصرفًا بصره عنهما، متوجهًا نحو ليلى بحديثه اليومي عن صحتها:
ـ الدكتور طمّني، وجالي التحاليل زينة يا ست البنات، غيرش بس شوية مشاكل بسيطة بس… شدي حيلك وانسي المستشفى والمرض.
أومأت ليلى بابتسامة ضعيفة، ارتسمت على ملامحها الشاحبة، ورددت بما أصبح بفمها كالعلكة:
ـ إن شاء الله… ربنا كريم.
الفتاة مستسلمة لتعب جسماني سببه نفسي واضح أمامه، وأمام تلك التي تطالعه الآن بنظرات اتهام. ماذا بيده؟ وقد أوضح لها عدة مرات أن عشق ابنتها لشقيقه لم يكن ليأتي أبدًا إلا برغبة حقيقية من الفتاة.
حتى وإن كان عشق مراهقة أو إعجابًا أو انبهارًا، ماذا سنخسر إن عاش الاثنان التجربة بارتباط صغير، أو حتى وعد بالزواج؟ متى ترأف به وترحمه… قبل الاثنين.
في منزل حماد القناوي صعدت حسنية إلى الطابق الثاني تبحث عن زوجة ابنها، التي كانت جالسة على الأرض في وسط صالة منزلها، تمشط شعر ابنتها بعد أن حمّمتها. لتفاجأ بالمرأة تدلف إليها وهي بهيئة الخروج أثناء مناداتها:
– هالة يا بتي، عايزاكي تنزلي تحت وتسيبي شقتك دلوك، عشان البيت ما يبقاش فاضي.
ردّت هالة باستغراب وهي تتأملها بتلك العباءة السوداء الفاخرة وخمارها:
– والبيت يفضى ليه؟ هو إنتي طالعة؟
أومأت تجيبها وهي تُعدّل من خمارها الذي انفك فجأة:
– إيوه يا هالة، منصور جوز بتي هيعدّي عليّا دلوك بعربيته وياخدني معاه على المحافظة نزور البنيّة العيّانة.
صاحت، لتجفل ابنتها من صوتها:
– خبر إيه؟ هو إنتوا ما عندكوش شغلانة غيرها المحروسة العيانة دي؟ دي عاشر مرة تزوروها في خمسطاشر يوم! ما تحجزوا أوضة جمبيها أوفر.
حدجتها حسنية باستياء وهي تنهرها:
– أعوذ بالله منك ومن فالك! دا كلام برضو يطلع من واحدة كبيرة زيك؟
تراجعت هالة عن حدّتها، مبتلعة ريقها بحرج، في محاولة منها للتلطيف:
– أنا ما جصديش حاجة عفشة والله، ألف بعد الشر عليكم كلكم… أنا بس مضايجة عليكم، مِجطّعين نفسكم في الروحة والجيّة عليها، والبت دي وأمها رفضوا معاذ بكل جبروت، وكأن اللي خلق بتها ما خلجش غيرها! طب ورقدتلها في الخط، لا تعليم ولا جواز… يا كش تفرح بجعدتها جمبيها!
تقلصت ملامح حسنية بضيق واضح، لتتراجع في طريقها للخروج مرددة:
– أعوووذ بالله منك ومن لسانك… وعنك ما نزلتي خالص! خلّيكِ مرزوعة مكانك… يا ستير!
تطلعت هالة في أثرها بغيظ شديد، تضرب بالمشط على الأرض، قبل أن تجذب ابنتها بعنف نحوها:
– آه دراعي يا مّه!
– بس يا بتي خليني أسرّحلك شعرك الزفت المعجّد ده!
____________________
داخل محبسه حيث اللقاء الأول منذ احتجازه بينه وبين زوجته “صفا”، التي أتت بكدماتها التي لم تشفَ إلا نسبيًا، لكن على الأقل بدأت ملامح وجهها تظهر، تحت الشال الذي يُخفي إصابة الرأس والأربطة الطبية، والذراع الذي لم يلتئم كسره بعد، تلفّه بجبيرة مثبتة إلى صدرها داخل الحامل الطبي الذي يلتفّ حول عنقها.
جاءت بهيئتها المُزرية تلك بقصد مكشوف لاستعطافه، ورسم ملامح المسكنة لعلّه يرأف بها ويصفو، وحتى لا ينتقم منها إن تابعت إجراءات القضية التي كانت على وشك رفعها ضده، لكنها عادت إلى عقلها أخيرًا وتنازلت.
أما هو، فقد شملها بنظرة فاحصة قبل أن يبادرها بسخريته:
– كل ده من ضربتين وكام لوكامية على كام جلم؟ أمال لو كنت فشيت غلي للآخر، كنتي رقدتي في القبر على كده؟
وختم بضحكةٍ ارتجفت لها أطرافها، لترد عليه بتهكمٍ خافت:
– عشان تعرف إن يدك كانت تقيلة عليّ، لكن أنا برضو عملت بأصلي وجيتلك أهو أطمن عليك، عشان إنت واد خالتي وأبو ولادي.
–
«لا، وانتي الصادقة… دا عشان عارفة اللي مستنيكي، عارفة إني حتى لو خدت حكم في قضية ضربك ولا تكسيرك، آخرهم كام شهر ولا سنة ولا سنتين، وفي الآخر هطلع وأزودهم أضعاف عليكي، ويمكن آخد روحك بيدي كمان».
ابتعلت ريقها بصعوبة بعد تهديده الصريح، لتردد بمظلومية: «كمان روحي يا عرفان! ليه يا بوي؟ أنا عملت إيه لدا كله؟ طب افتكر إني أم عيالك، مرتك اللي قضيت معاها عشرة سنين! منظري ده وأنا مدشدشة مخلّكش تشفق عليّ ولا حنن جلبك؟»
لع قالها بلهجة تشفٍّ، ليكمل بمزيد من التجبر: «بصراحة؟ لا شفقت ولا قلبي حن. بالعكس، دا أنا حاسس دلوك بانتعاش… هون عليا أيام السجن اللي فاتت كلها! وأحسنلك تجومي حالًا دلوك قبل ما أتبع شيطاني اللي بيوزّني أجوم أكمل سعادتي وأنفضك بعلقة جديدة تستاهليها!»
انتفضت صفا ناهضة من محلها برعب، حين أبصرته يتحرك من على الكرسي الذي كان جالسًا عليه واستقام واقفًا. هرولت من أمامه مغادرة، فجلجت ضحكاته من خلفها حتى أدمعت عينيه. وما إن توقفت، غمغم في أثرها بحسرة قبل أن يأتي رجل الأمن ويسحبه لمقره في المحبس: «يعني اللي عايزها وسايق عليها خلق الله عشان تاجي تشوفني مش معبراني! والبومة اللي مكسّرة ومدشدشة برضو جاية تزحف لاجل تنول رضايا…»
—
في ركن جانبي داخل المشفى، كانت جالسة بجوار شقيقها الذي غلبته الحيرة حتى سألها: «وبعدين معاكي يا بت أبوي؟ أنا لحد دلوك مش راسي معاكي على بر! كلام الناس كلها حواليا يأكد إنه خطيبها، وانتي تجولي مفيش حاجة! طب لما هو كده، الواد نفسه أعلنها جدّام الناس ليه؟»
زفرت مزيونة، ودارت مقلتيها بسأم، لتعود لنفس الإجابة التي لا تكذب فيها: «لاه يا وصفي، وجولتها وهجولها تاني، معاذ أعلن كده في أرض المرماح من دماغه، لما حاش عن البنت وأصحابها الواد اللي كان بيعاكسهم، هو غلط، وأنا رفضته للمرة التانية. وأدي البت عيانة!»
سألها مستدركًا مقصدها: «يعني هو ده سبب عيا البت يا مزيونة؟ طب ما إن كانت عايزاه، ما توافقي وخلاص يا بت أبوي؟ هي أول واحدة اتخطبت ولا اتجوزت وهي بتتعلم؟ مع إني كنت أتمناها لحازم ولدي، بس دا طريجه طويل على ما يتخرج من الجامعة ويشتغل…»
حدّقت به صامتة، بقهر وتعب… بماذا ترد وقد فقدت كل أسلحتها في المقاومة؟ يحدثها عن حازم، وهو من كانت تضعه نصب عينيها الزوج المناسب لابنتها؛ صغير مثلها، يكبران معًا، ويبدآن طريقهما سويًا… لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فابنتها العزيزة لا تراه إلا أخًا.
—
«مزيونة!» جاء الصوت لينتشلها من شرودها، وكان نداءً باسمها من صديقتها الأقرب الآن، منى، التي لم تتركها منذ مرض ابنتها، ولم تقصر يومًا في السؤال والاهتمام. كانت قادمة نحوها بجانب والدتها، وخلفهما رجل وقور، عرفت قريبًا أنه زوجها.
—
بعد قليل، وداخل غرفة ليلى، كانت منى تُعرفها لأول مرة على زوجها، مدرسها للعربي في الصف الخامس الابتدائي.
قالت منى ممازحة: «جولي يا ليلى، لو ضربك! حاكم أنا عارفاه، دا يده تقيلة، واسأليني أنا عليه!»
تبسمت ليلى، مستجيبة لمزاحها، ليأتي النفي من منصور زوجها بابتسامة هادئة: «ليلى كانت شاطرة أصلًا في الدراسة. العصاية دي كانت تخوف البليد والمتكاسل، أو اللي بيرغي كتير في الفصل، يا ست منى… أظن أنتي عارفة أنا أقصد مين بالأخيرة؟»
شهقت منى مرددة باستنكار: «شوف الراجل فاكرهالي من إمتى؟ أهو دا عيب اللي تاخد واحد كان بيدرّسلها!»
ضحكت ليلى هذه المرة، ليأتي تعقيبها بفضول نحو هذا الثنائي الجميل: «يعني حضرتك فعلًا كنت مدرسها؟»
تكفلت منى بالإجابة بحماس: «أيوة يا جلبي، كان هو متخرج جديد، ومتعين في المدرسة اللي اتبنت جديد عندينا. ساعتها كان فيه مدرستين ابتدائي في البلد، واحدة في النجع البحري – دي اللي عندكم واتعلمت فيها أمك – وواحدة في النجع الجبلي، دي اللي اتعلمت فيها أنا وعيالي. صاحبنا بقي كان واد عمي ومن عيلتي، بس والله ما عرفته ولا عرفني غير لما درّسلي!»
أضاف هو بابتهاج أشرق بملامحه: «كانت رغاية ومبتسمعش الكلام! أجولها يمين، تجيلي شمال! كل العيال تسمع الكلام إلا هي! كانت غايظاني بصراحة، منكرش!»
«آه، عشان كده فضلت حاططني في مخك لحد ما خدت الدبلوم، من حظي الحلو!» قالتها منى، فانطلقت ضحكات الجميع، حتى زوجها الذي أومأ مقرًا دون تردد، واستمر السجال الجميل بينهما، أمام ليلى التي لم تتوقف عن الضحك بسببهما.
أما والدتها، فكانت تتابعها بتأمل من الجانب الآخر، حتى قطعت عليها حسنية، الجالسة بجوارها، بقولها:
«مش قصدي أزعلك ولا أضغط عليكي، بس لازم تعرفي إن معاذ، ولدي، في كل اتصال بينا، بيسأل عليكي وعلى ليلى. وإحنا بنقوله: كويسين! محدش فينا، لحد دلوك، جاب له سيرة، بناءً على أمر حمزة ولدي. هيفضل الود ما بينا حتى لو مفيش نصيب يا بتي.»
طالعتها مزيونة بامتنان، رغم تشتتها في تحديد القرار الآن، بعد أن كانت محددة وجهتها منذ البداية…
________________
صدقت حسنية ولم تكذب بقولها، لكنها لم تكن تعلم أن ابنها على حدود المحافظة الآن، عائدًا بالقطار من القاهرة. قلبه، الذي كان يخبره بشيء غير مريح، جعله في تساؤل دائم مع كل من يتحدث معه، حتى أتى إلحاحه بالفائدة، مع أحدهم، ليقر له بالحقيقة وما حدث أثناء غيابه. فحزم حقائبه، مستقلًا أول قطار وجده أمامه، حتى لو كان درجة ثالثة غير مريحة على الإطلاق…
________________
“إنت يا خليفة اللي تجوله ،أنت ياخليفة؟!” صرخ بها حمزة في وجه شقيقه الذي أصر على موقفه مرددًا:
“أيوه أنا يا حمزة، ليه نخبّي عليه من الأساس؟ وإيه الفايدة أصلًا؟”
ضرب الأخير كفًا بكف صارخًا به:
“عشان مينفعش! وعشان ما تتعجدش أكتر ما هي متعجدة. أخوك مجنون، والبِتّ أمها شايفانا إحنا السبب في عياها. مش عايزين نزود، خليها تخف وتعيش، وهو يثبت نفسه في شغله، وعلى ما ربنا يعدلهالهم هما الاتنين.”
“ولو ما حصلش؟”
“يعني إيه؟”
“يعني إنت عارف وأنا عارف يا حمزة، سبب عيا البت. وأخوك نفسه مش مستريح. طول الأسبوعين اللي فاتوا وهو ولا علي حامي ولا على بارد، مش عارف يكيّف نفسه. لموهم على بعض وخلّصوا.”
“وهو بخاطري!” صرخ حمزة في وجهه، ليردف بحنق مضاعف:
“ما هو كان على يدك! وشفت أنا حاولت أساعده، لأني عارف كد إيه هو مندفع، لكن مشاعره صادقة. بس أمها مش عايزة، نغصبها يعني؟”
رقّق خليفة من لهجته كي يهدّئ من وتيرة الانفعال بينهما:
“طب اهدي يا حمزة وبلاش العصبية دي، عشان أخوك كان هيعرف هيعرف، إن مكنش مني ولا منك، يبجى من صحابه على الأقل. وإن كان على أمها، أكيد يعني جلبها مش هيطاوعها على الرفض أكتر من كده. دي مهما كان برضو أمها.”
تنهد حمزة بتعب، يشد بأنامله على شعر رأسه من الخلف بعنف. لا شيء مما يحدث أمامه يبشّر بانفراجة. يتمنى لو يستيقظ من النوم ويرى كل الأمور حوله تسير بيسر ودون تعقيد؛ يرتبط معاذ بخطبة ليلى حتى تكمل تعليمها، ثم يتزوجها، ويجد هو فرصته في التقرب من تلك العنيدة… والدتها.
“طب ما جولتليش، كان رد فعله إيه على الخبر؟”
“هو مين؟”
“أخوك يا خليفة، كان رده إيه بعد ما جولتله عن مرض ليلى؟”
“ما هو جفل السكة في وشي بعد ما صرخ وبهدل الدنيا.”
“وبعدين؟”
“ولا جَبّلين يا سيدي، خد شنطته وركب الجطر، ودلوك زمانه على وصول، إن مكنش دخل المحافظة أصلًا.”
كاد حمزة أن يُصاب بجلطة متعددة الأهداف، لا يصدق السهولة التي تحدّث بها شقيقه، يطالعه فاقد النطق للحظات، قبل أن يتمالك نفسه أخيرًا ليصرخ به:
“الله يخرب مطنك! وإنت عارف كده وجاي دلوك تقولي؟ جاي دلوك تقولي يا خليفة؟”
“دلوك ولا بعدين؟ ما هو كده كده جاي. لما ياجي، إبجى إنت كلمه وعقّله.” ردّد بها خليفة بدهشة، قبل أن يواجه بعاصفة حمزة الذي صار يلملم متعلقاته كي يذهب:
“مش لما ألحقه الأول! ألحقه قبل ما يعمل المصيبة! جاعد إنت وحاطط يدك في الميّة الباردة! مصدق إنه هينزل على هنا الأول يا خليفة؟”
“أمال هينزل على فين؟ هو ليه بيوت غير بيتنا؟” اكتفى حمزة بتوجيه نظرة نارية نحوه، ولم يكلّف نفسه بالإجابة عن التساؤل العفوي الذي صدر منه، ليتّخذ طريقه نحو الخروج مباشرة كي يلحق بالآخر قبل أن يفعل مصيبة جديدة ويزيد من تعقيد الأمور… المعقدة من الأساس.
عودة إلى المشفى التي دلف إليها العائد من سفره، وقد تَكفَّل برمي حقيبته داخل إحدى سيارات الأجرة، ومنح سائقها بعض النقود كي يوصلها إلى منزل عائلته في البلدة، ليتجه بخطواته السريعة نحو موظفة الاستقبال ليسألها عن الحالة التي يقصدها، ثم يصعد مباشرة إلى طابقها.
يعلم أنه قد ألغى التفكير أو الحرص من قاموسه الآن؛ تحركه فقط الرغبة في الاطمئنان عليها، حتى لو تلقّى السباب من مزيونة أو كلفت الأمن بطرده، لن يتوانى عن تحقيق هدفه برؤيتها. يكفي أسبوعين من العلقم قد تجرعهم في البعد عنها. هل كان يتصور أن يأتي الوقت ويعشق بهذا العنف؟ أو أن يقضي في بعدها أسوأ أيامه؟ لم يتخيل أبدًا أن يحدث ذلك.
حبيبة قلبه مريضة منذ سفره وهو في غفلة الانشغال بعمله في العاصمة، فعلى من يُلقي الذنب؟ على نفسه؟ أم على من أخفوا عنه ظروف مرضها؟ فليترك التفكير في ذلك لوقت لاحق.
وصل إلى الغرفة التي كان بابها مفتوحًا، وبدا أنها فارغة من الجميع، حتى والدتها. حمد الله لغيابها في هذه اللحظة، لينقل بصره نحو تلك المستلقية على السرير الطبي، وقد كانت غافية كما يرى.
يتأمل ملامحها الشاحبة، ورد الوجنتين الذي اختفى وحل محله صفار ملحوظ، وزنها الظاهر للأعمى أنها فقدت منه الكثير. ماذا حل بصغيرته لتصبح على تلك الحالة؟
لم تعد لقدميه قدرة على حمله، فسقط بثقله على الأرض بجوارها، وتمسك بيديه الاثنتين بسريرها، ودفن رأسه في الفراش، يطلق العنان لدموعه ببكاء مكتوم صار يهتز له جسده. الذنب عليه أم على من تسبب بفراقهما؟!
اهتزاز بكائه الشديد أتى بأثره عليها، فاستيقظت من غفوتها الصغيرة، تفتح أجفانها للنور، فتُصدم بشبحه أمامها، شعر رأسه شديد السواد هو المواجه لها فقط. تخيلت في البداية أنه محض حلم لا أكثر، قبل أن تعي حالته وذلك البكاء المتواصل بحرقة مكتومة. هل يُعقل أنه علم وحقيقة، وأن حبيبها عاد إليها؟
“معاذ؟” جاء صوتها كإشارة تنبيه تلقفها بلهفة، ليرفع رأسه على الفور إليها، ويقابل وجهها الجميل أمامه وقد أشرق قليلًا يستعيد بعضًا من رونقه، وهي تردد بعدم استيعاب:
“معجول؟ إنت رجعت فعلاً من سفرك ولا أنا بحلم؟” فسارع بالتأكيد إليها:
“لاه يا حبة القلب، والله ما بتحلمي، أنا جدامك، اها، بشحمي ولحمي، جيتلك أول ما عرفت إنك مريضة، لو أعرف من الأول ما كنتش صبرت يوم. سامحيني يا ليلى، سامحيني يا حبيبتي.”
صار يردف آخر كلماته بندم جلي، ودموعه تواصل هطولها بحرقة أجبرتها على التساؤل:
“أسامحك على إيه يا معاذ؟ هو إنت عمرك أذيتني؟ ده أنا ما شفتش الفرحة غير على يدك.”
ضرب بكفيه صفحة وجهه بندم معقبًا لها بصوت مبحوح:
“ما هو ده اللي عايزك تسامحيني عليه! ربنا يعلم إن كل فعل مني كان بعفوية ومن جوا جلبي، شكلي أذيتك فعلاً لما خليتك تبادليني نفس الشعور، ياريتني فضلت كاتم على إحساسي. كل اللي حصلك ده بسببي، أنا شكلي بقيت لعنة عليكي. ياريتني ما قربت منك أساسًا.”
صمتت قليلاً حتى عبرت عما يختلج داخلها، متخلية عن حذرها الدائم:
“وحتى إن فضلت كاتم على إحساسك برضه كان هيوصلني. من أول مرة شوفتك فيها، حسيت إني أعرفك من زمان، وحتى وأنا بتعارك معاك على الأسوِرة، لو تفتكر، كان عقلي بيتوه وتركيزي معاه، وأنا بسأل نفسي أنا شوفتك فين قبل كده؟ وفضل السؤال يلح عليا كل مرة أُجابلك، لدرجة خليتني أقرأ وأبحث عن الحاجة دي، وعرفت إنها تألّف أرواح. روحي اتعلقت بيك من قبل ما تنطجها يا معاذ. وفرحتي بقربك هي الحاجة الوحيدة اللي خلتني أحس إني حيّة. فرحة خالصة ليا، مش بشهادة ولا حاجة حلوة أعملها لأمي وأفرح بفرحتها ليا. الفرحة اللي حسيتها انطفت وطفت عمري معاها في اليوم اللي ودعتني فيه وسافرت. سبتني ليه يا معاذ؟ هانت عليك ليلى؟”
سقطت في الأخيرة دمعتها لتأخذ دورها في البكاء مثله، فيسارع هو بطمأنتها ورجاءه في الصفح عنه، غافلين عمن وقفت على مدخل الباب منذ لحظات واستمتعت لمعظم الحديث، تحمل في يدها زجاجة المياه المعدنية وعددًا من قطع الشوكولاتة التي ابتاعتها من المتجر القريب من المشفى، من أجل أن تفرحها وتنسيها بطعمهم طعام المشفى وأجوائه، لتأتي الآن وتفاجأ بحضور المتسبب الأساسي في مرض ابنتها، والتي فاجأتها بحديثها اليوم، وجعلتها تشعر بحماقة الحرب التي تخوضها وعدم جديتها، فتراجعت بأسف مرتدة إلى الخلف، متهدلة الأكتاف بإحباط ويأس.
تركت الطابق، وتركت المبنى بأكمله، لتخرج إلى حديقة المشفى. سارت حتى وصلت إلى أسفل المظلة التي خُصصت لحماية الزائرين من أشعة الشمس أثناء انتظارهم.
كان عدد الحضور قليلًا في هذا الوقت من العصر، وقد قاربت الشمس على الغروب. وصلت إلى إحدى الأرائك لتسقط بثقلها عليها، وتسقط معها زجاجة الماء وقطع الشوكولاتة على الأرض.
هل كانت مخطئة حين عاشت حلمها في ابنتها؟ أن تحقق ما لم تحققه هي؟ أن تحيا الحياة التي لم تحيَها هي يومًا؟ لقد قاومت كل شيء من أجلها: ظلم عرفان، كيد صفا، وتهميشها كأنها غير موجودة. ضحت، وما زالت مستعدة للمزيد… أما هي؟ يبدو أنها وجدت من يستحق عنها…
وعند مدخل المشفى، دلف بسيارته ليصطفها في المكان المخصص، ثم هرول بخطوات سريعة، يريد إنقاذ ما يمكن إنقاذه، بعد أن تأكد من وجود شقيقه داخل المشفى الآن، كما أخبره السائق الذي ذهب إليهم بالحقيبة.
يتمتم بالأدعية ألا يكون قد تسبب لهم بفضيحة؛ فمزيونة العنيدة لن تسكت، ولن يهمها شيء، كما أصبح يعرف عن شخصيتها و…..
توقف عند هذا الخاطر، حين وقعت أبصاره عليها، جالسة في جانب وحدها على إحدى أرائك الانتظار، بعيدة عن البشر، وكأنها في عالمها الخاص.
وبدون تردد، غيّر وجهته متجهًا نحوها، حتى إذا وصل إليها وهي ما زالت لم تشعر به بعد، ألقى التحية حتى تنتبه:
– مساء الخير، جاعدة عندك ليه يا أم ليلى؟
توقف قليلًا حتى أتته استجابتها بنظرة خاوية رفعتها إليه، يتخللها ضعف غريب يراه لأول مرة فيها، وصمت مُحيّر جعله يتساءل بجزع:
– مالك؟… ليلى جرالها حاجة؟ ولا…
– معاذ معاها فوق.
قاطعته بهذه الكلمات، فعلق الحديث في حلقه، وتشتّت قليلًا أمام ثباتها والسهولة التي أخبرته بها بذلك، ثم ابتلع ريقه بتوجس، واتخذ مجلسه على الأريكة بجوارها، لكن بمسافة جيدة، وقال بتوجس:
– غريبة يعني، ولما جاعد فوق، انتي سايباه إزاي لوحده… مع ليلى؟
– عشان هو دخل لوحده مستغل غيابي، ومن غير ما يستأذني.
قالتها وهي تلتفت إليه وتواجهه بقوة أربكته، فانقبض قلبه من القادم، فقال بريبة:
– آه طبعًا، عندك حق. على العموم أنا جاي مخصوص دلوك عشان أسحبه من قفاه وأمنعه ميجيش هنا تاني.
علقت بسخرية:
– ها؟ وبعدين؟
– بعدين إيه؟ ما أنا بجولك هسحبه وأمنعه ما يعتبش هنا تاني.
تمتم بها متسائلًا، فجعلها تكرر بوضوح أكثر:
– “بعدين” تشمل كله، مش بس زيارة المستشفى، ولا حتى زيارة بيتنا.
انتظر قليلًا يستوعب المقصود من كلماتها، حتى استدرك أخيرًا ليسأل بجدية:
– جصدك على إيه بالضبط؟ خطوبة ليلى لمعاذ؟ ما انتي فصلتي في الموضوع برفضك، وإحنا منعنا ولدنا وسافرناه يشتغل بعيد عن البلد والمحافظة كلها، ولو جصدك على جية النهاردة، فأنا بتأسف، وبوعدك إنها غلطة ومش هتتكرر.
وكأنه يتحدث مع نفسه… تلك الحالة التي تتلبسها من الشرود، والنظرة الثابتة، مع الصمت الطويل، تجعله على وشك الجنون من فرط حيرته، حتى كاد أن يصيح بها، لولا أنها قطعته حاسمة:
– بلاش توعد بحاجة، مهما حاولت مش هتعرف تنفذها. لا إنت هتقدر تمنع أخوك، ولا أنا هجدر أشيله من مخها…
هذه النبرة من المكاشفة تنبئ أن هناك المزيد… حسنًا، فلتأخذ فرصتها للتوضيح أكثر:
– معلش يعني، أنا أفهم إيه من كلامك ده؟
عادت مرة أخرى للصمت، ولكن بتفكير متعمق، جعل الكلمات تخرج منها بصعوبة. طرقت برأسها للحظات قليلة، ثم تكلمت دون أن ترفع عينيها إليه:
– في فترة من الفترات، أيام ما كنت متجوزة عرفان، سكنت جمبنا واحدة… اسمها أم هاشم، وده اسمها الحقيقي على فكرة. المهم، الست كانت في الأربعين تقريبًا، جوزها نقل بيهم من البندر للبلد عشان شغله، كان راجل محترم، وعيالها يفرحوا القلب. لما كنت أشوفهم كنت أتحسر، مكدبش عليك. أسرة مثالية زي ما بيقولوا. لكن مع الوقت والعِشرة، بقيت أكتشف الصورة على حقيقتها. الراجل تقريبًا كان جايد صوابعه العشرة ليها، وهي نفسها كانت عارفة كده. لكني عمري ما شفتها مبسوطة، عمري ما شفت في عنيها اللمعة اللي تبين محبتها لجوزها، أو فرحتها بأي حاجة يجيبها. ومع شوية وجت عرفت السبب. اتاري أم هاشم دي كان ليها ابن عم بتحبه، لكن أبوها رفضه بدل المرة كذا مرة، لحد ما فقد الأمل واتجوز غيرها، وهي استسلمت واتجوزت أول حد اتجدم لها بعديه. حظها طلع كويس، واتوفقت بجوازة ناجحة، لكن عقلها طول الوقت رافض الحقيقة. عايشة جوازها في الواقع، إنما في خيالها وقلبها مشالتش ابن عمها، ولا اتخيلت غيره جوزها. والسبب ده كان دايمًا تعبها، ومخليها دايمًا حاسة إنها ست مش كويسة، رغم إن جريمتها ما تتعداش الخيال. ولذلك، طول الوقت كانت جايبة الذنب على أبوها، إنه ظلمها وحرمها من اللي بتحبه…
رفعت رأسها فجأة، مردفة:
– مع إنها كانت ممكن تتجوزه، ومع التجربة تكتشف إنه ميسواش ضفر الراجل اللي متجوزاه.
– جصدك إيه؟
تساءل وقد زاد الشك بداخله، ليأتي ردها ناهضة فجأة من جواره دون أن تريحه:
– أنا رايحة أشوف ليلى، تعال انت كمان عشان تشوف أخوك.
ردد من خلفها:
– أشوف أخويا! هو انتي عايزة إيه بالضبط؟
______________________
دلفت إلى داخل المحتجزة بها ابنتها، رافعة رأسها بقوة، مستعيدة بأسها، لتجد الوضع قد تغيّر مئة وثمانين درجة، رغم بقاء معاذ جالسًا على الأرض كما هو، مستندًا بذراعيه إلى التخت، يتحدث مع ابنتها التي اعتدلت في جلستها، بوجه استعاد بعض نضارته، وكأن رؤيته أعادت إلى بشرتها الحياة. كانت تتبسم بخجل مع اندماجه في الحديث، حتى إذا انتبهت لحضورها، أطّل الرعب جليًا على ملامحها، مما ارتدّ بأثره على الآخر، فاعتدل عن جلسته ونهض عن الأرض ليقابلها باعتذار:
آسف لو جيت من غير استئذان، بس أنا بصراحة ملجتكيش.
ولو لجيتني، كنت هتستنى برضو على ما أطلع عشان تبجي تجابلها من ورايا.
قالتها بحدة جعلته يطرق برأسه خزيًا صامتًا، لتطالعه بعتبٍ جعل الدماء تغلي في رأسها، فتلتفت عنه حين دلف الآخر، يُلقي التحية ويصافح شقيقه بنبرة عادية خالية من التأنيب، حتى انتظروا ثلاثتهم عودتها، التي جاءت بتماسك مبهر، قائلة:
على فكرة، أنا ممكن أوافق على الجواز، بس عندي شروط.
أجفل الثلاثة بقولها، حتى استوعب معاذ أولهم، فرحّب مهللًا:
الشروط اللي انتي عايزاها، قولي وانا مستعد أنفذها، ولو همشي على الجمر حتى!
بابتسامة خفيفة ظهرت على زاوية فمها، تنقلت بعينيها نحو ابنتها التي صارت تترقب بشغف هي الأخرى، وقالت:
لا اطمن، أنا مليش في الخيال والكلام الفاضي. شرطي الأول إن ليلى مفيش خلفة غير بعد ما تخلص تعليمها تمامًا، وشهادتها الجامعية تبقى في إيدها.
كادت المفاجأة أن تعصف برأس معاذ، وقد فهم ضمنيًا من كلماتها أنها وافقت على زواج ابنتها قبل انتهاء تعليمها، مما أشعل حماسه ليقر موافقًا على شرطها الأول:
موافق، وأبصم بالثلث كمان، أهم حاجة عندي هي ليلى، الخلفة والعيال إن شاء الله بعد الماجستير والدكتوراه.
تدخل هنا حمزة، الذي يعبث داخله الشك، مخاطبًا شقيقه:
بالراحة يا معاذ، متتهورش بحماسك ده، واستنى شوف الشرط التاني.
تبسمت مزيونة، تأخذ منه الأخيرة:
لا اطمنوا، الشرط التاني مش صعب ولا حاجة، دا يمكن يكون الأحسن كمان عنديكم.
توقفت برهة قبل أن تصعقهم بالآخر:
الشرط التاني إنها هتكمل سنتها عنديكم، يعني الجواز في أقرب وقت.
ينصر دينك!
صرخ بها معاذ بفرحة أوشكت على إصابته بالجنون، لولا انتباهه لتلك النظرة من شقيقه، ثم استفسار ليلى:
أكمل سنتي كيف عنده؟ ما انتي عارفة إني ثانوية عامة وعايزة مجموع!
بحدة ظاهرة، ردت مزيونة:
دا شرطي يا ليلى. مدام شاريكي ومتشجع كده، يتحمل بقى معاكي حرقة الأعصاب والمذاكرة والدروس وكله! مش بيحبك برضو؟ ولا هو معندوش استعداد يتحمل مسؤوليتك؟
جاءها الرد من معاذ:
لا طبعًا، عندي استعداد ونص وتلت أربع كمان! بس دا مينكرش إني زيها مستغرب.
كان حمزة في هذا الوقت في وضع المتفرج، يتابع بتركيز شديد، يستوعب صدمة شروطها، شاعرًا وكأنه فخ تنصبه لشقيقه، وبانت الرؤية حين قالت:
أنا هبجى وضعت ثقتي فيك. كنت قد الثقة دي، والبنت تمكنت تنجح وهي على ذمتك وتجيب المجموع العالي، يبجى تمام وكتر خيرك جوي. أما بجى إنك خنت الثقة دي، وتعمدت إنك تجعدها من المدرسة أو حتى خلتها تهمل في دروسها ومتجبش المتوقع، يبقى أنا أمها، ودا سبب كافي جدًا يخليني أطلّقها منك. ولا إيه يا ليلى؟
سمعت منها الأخيرة، لتتردد لحظات قبل أن تنطق خلفها مؤيدة:
أنا معاكي يا أمي في كل اللي تجولي عليه، ومعاذ أكيد لو بيحبني، يبجى أكيد هو كمان معايا.
أومأت مزيونة برضا نحو الأخير، والذي أخذته حماسيته:
أكيد أنا طبعًا شاريها، وجولتها قبل كده إني مستعد أذاكرلها!
أردفت تلقي عليهم شرطها الأخير، موجهة أبصارها نحو الصامت:
شرطي الأخير، ومن غير زعل، ليلى تتعامل في بيتك زي ما بتتعامل في بيتي. يعني متشلش جشاية، عشان تعرف تفضى للمذاكرة، سواء للثانوي أو الكلية، دا لو وصلنا يعني.
إن شاء الله هنوصل، ولو حصلت، أجيبلها خدامة هعلّمها أكيد.
قالها معاذ باندفاع، منهيًا كل الحديث، فكان رد مزيونة:
لا معلش، الشرط الأخير دا بالذات لازم تاخد رأي الحجة.
خرج حمزة بعدم احتمال، رافضًا التدخل، ليصل إلى أسماعه باقي الحديث:
الحجة معايا إن شاء الله.
برضو شوفها يا معاذ، متزعلش مني، دي رأيها هي الأهم.
… بعد لحظات ليست بالقليلة، خرجت من الغرفة، لتجده منتظرًا قرب إحدى النوافذ الصغيرة المصممة بجدار المبنى، والمطلة على حديقة المشفى.
بعد لحظات ليست بالقليلة، خرجت من الغرفة لتجده منتظرًا قرب إحدى النوافذ الصغيرة التي تطل على حديقة المشفى. كادت أن تتخطاه، لكنه لحق بها وأوقفها:
– نيتك واضحة جوي يا مزيونة، الأعمى يشوفها.
اقتربت منه تواجهه باعتزاز:
– والله لو حاسس إن نيتي مش مظبوطة، يبقى تعجّل أخوك من أولها وتخليه يصرف نظر.
قالتها لتجد تحول كاملًا منه، يسألها بحدّة، واضعًا أبصاره نصب عينيها بقوة، متخليًا عن حذره المعتاد، وقد بلغ غضبه ذروته منها، بعد تلك القنبلة التي ألقتها في وجوههم، فقلبت الوضع رأسًا على عقب:
– أنا اللي عايز أفهم، شروطك دي اختبار لمين بالضبط؟ للعيال الصغيرين اللي مش مستوعبين لحد دلوك رغم الفرحة اللي مش سايعاهم؟ ولا للكبير اللي اتصدر في الموضوع من أوله، وأي خلل أو فشل هيلبسه هو جبليهم؟
هي أيضًا لم تزح بعينيها عنه، فكانت تطالعه بندية وتحدٍ خالص، تجلت معالمه في نبرتها، حتى وهي تراوغه:
– وه، وإنت إيه دخلك بس يا أبو ريان؟ شوفتني بوجّه شروطي عليك مثلًا؟ لاه يا بوي، أنا كل كلامي كان مع جوز العصافير اللي حسهم عليّ من جوا الأوضة، وبجى واصلك دلوك بعد ما طلعنا من عنديهم. سيبهم يفرحوا، وبلاش التفكير اللي مش في محلّه ده.
تمتم مشيرًا بسبابته نحو صدره، بحنق شديد، بعد أن حشرته في زاوية لا منفذ منها ولا مهرب:
– أنا برضو اللي تفكيري مش في محلّه؟ ولا إنتي اللي حسبتيها سنة للتجربة؟ إن نجحت الجوازة كان بها، وإن ما نجحتش، يبقى ليلى جربت وشافت اللي يخليها تبقى نسخة تانية من مزيونة، بس نسخة معدّلة.
قابلت قوله بهدوء تام:
– احسبها زي ما انت عايز تحسبها، أنا مش هعمل ضد مصلحة بنتي. وإنتوا لو شايفينها شروط تعجيزية، برضو القرار في إيدكم. عن إذنك بجى.
وتحركت تتركه متسمرًا في مكانه، ليردد بصوت يصل إليها:
– هتنجح يا مزيونة… وبكرة تشوفي بنفسك… لما تبجى إنت كمان معاها في بيت واحد.
قال الأخيرة بصوت خفيض، وعهد يقطعه على نفسه.
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية لأجلها)