رواية لأجلها الفصل السادس عشر 16 بقلم أمل نصر
رواية لأجلها الفصل السادس عشر 16 بقلم أمل نصر
رواية لأجلها البارت السادس عشر
رواية لأجلها الجزء السادس عشر

رواية لأجلها الحلقة السادسة عشر
لا تمنع الحب من اختراق حصونك…
لا تشدد الأسوار ولا تغلق الأبواب،
فبعض الغزاة لا يأتون ليُدمّروا،
بل ليزرعوا فيك ربيعًا جديدًا،
ولتُزهر في قلبك حياةٌ كنت تجهلها.
لا تقاوم…
فالحب إن أتى، أتى ليسكن، لا ليُوجِع.
المراجعة والخاطرة للجميلة بزيااادة اوي / #سنا_الفردوس
………………
نتائج هذا القرار الصعب لم تبدأ بعد؟ ربما تم اتخاذه في لحظة غضب فارقة، حين تجلّت الرؤية بوضوح أمامها، ثم ما تبع بعد ذلك من شفاء سريع لابنتها التي بدت وكأن روحها كانت معلّقة بعودته، ثم عادت بعودته إليها.
شيء يثير الدهشة والحسرة أيضًا، رغم ابتهاجها أحيانًا بالسعادة التي تغمر صغيرتها، وهي تعيش الحلم؛ حلم فارس الأحلام الذي أتى بصورة تفوق خيالها، وأفعاله المستمرة في تدليلها منذ ذلك الوقت، بالإضافة إلى ترحيبه وترحيب أسرته بالشروط التي ألقتها عليهم. وهل يوجد في العالم امرأة تستطيع المعارضة بعد كل ذلك؟
حتى أملها الأخير برفض عرفان من داخل محبسه، والذي كانت موقنة منه، بسبب كرهه الشديد لحمزة القناوي شقيق معاذ، والذي ذهب إليه في زيارة بصحبة المحامي وليلى، التي تشجعت ولأول مرة لزيارته من أجل دعم محبوبها حتى لا يغضب عليها، وللمساهمة أيضاً في إقناعه.
فجاء رد عرفان بشرط مُلزم قبل الرد على طلبهم. الماكر الخبيث لم يُنهِ الأمر ويريحها، أو يطرد معاذ على الأقل كما توقعت. ولكن كيف يفعلها؟ لا يكون عرفان إن لم يحرق دمها ويجبرها على ما لا تطيق… وهو: زيارته!
لتأتي الآن مرغمة وترى وجهه البغيض أمامها، يحدّق بها بسفور يثير مقتها، ويحدّثها بتسلية لا تخلو من وقاحة:
– ووه يا مزيونة، أخيرًا شوفتك؟ أخيرًا قلبك الحجر رق وجيتي ورضيتي على جوزك الغلبان؟
طليجي: قاطعته بها بحدة لتردف بتشديد:
– بلاش ياخدك العشم جوي، عشان أنا جاية أصلًا غصب عني. بلغني قرارك ده عن جوازة البت، موافق ولا رافض؟
رد مراوغًا عن سؤالها بسؤال:
– مش لما تجولي إنتي رأيك إيه الأول؟
صاحت به بنفاذ صبر:
– وانت مالك برأيي؟ مش هي بتك وانت أبوها زي الأصول ما بتجول؟ إدينا ماشيين بيها، وجالك الواد وطلبها منك، خلّصني بقى يا واد الناس عشان ننتهي من الموضوع ده… جصدي نرسي على بر.
انفعالها الواضح كان خير إجابة له، وكم أراحه صحة توقعه وسرّب إلى قلبه تشفّيًا، فَلانت ملامحه ليقول بهدوء:
– لا، ما خلاص، عرفت الإجابة واتأكدت منها، يعني معدتش محتاج أسمعها منك. ما هو أنا كمان لازم أكون حسيس وأقدّر الظرف اللي إنتي فيه.
– ظرف إيه؟ سألت بريبة، ليميل برأسه نحوها ويجيب بأعين التمعت بالانتشاء:
– ظرف الخسارة يا مزيونة… خسارة عمرك اللي ضاع في حلم بتك، وفي الآخر برضه هترضخي غصب عنك وتعملي اللي رفضتيه واطلجتي عشانه. ليه؟ عشان البت هي اللي عايزة، عايزة الواد، وده اللي أنا شوفته بعيني. متتصوريش دمي كان محروق وجاتها إزاي، ودلوك بَرَرد، وكأنه عصير ساجع نزل على قلبي ورطّب عليه… يا خسارة تعبك يا مزيونة.
ما أقسى كلماته، وهو يترجم أمامها كل ما يدور بعقلها من هواجس وظنون، عديم الإحساس يتشفّى بها وكأنها هي من آذته، وليس هو. لكنها لن تدعه يرى ضعفها:
– تعبي ماراحش يا عرفان. البت هتتعلم في بيت جوزها، وهيكفيها من كله عشان تجيب مجموع كبير وتخش الكلية اللي بتحلم بيها. دي شروطي أنا اللي فرضتها عليهم.
أشارت في الأخيرة بسبابتها نحو صدرها، لتُصدر له أنها صاحبة القرار، فكان رده ضحكة مجلجلة قبل أن يعارضها:
– جصدك طاطيتي للريح؟ البت ضغطت عليكي عشان رايدة عريس الهنا، وإنتي مجدرتيش ترفضي. وحتى جيتك النهاردة جاية غصب عنك. مش لو كنتي عرفتي مصلحتك من الأول مع جوزك يا بت الناس، وشوفتي نفسك، كان هيبقى أحسنلك…
جاهدت أن تخفي ضعفها أمامه، رغم اهتزازها من الداخل، والحرقة التي اشتعلت بصدرها تأثرًا بكلماته السامة، لتردف مؤكدة بعناد:
– مفيش أم بتندم على اللي عملته مع عيالها، حتى لو قطعت من لحمها. وأنا متأكدة من بنتي ومن رغبتها في التعليم. هتعمل المستحيل وتاخد الشهادة. المهم دلوك، رأيك بجى عشان الزيارة ما تخلصش على الفاضي.
“أممم”، زمّ شفتيه بابتسامة مستفزة يدّعي التفكير قبل أن يفاجئها برده:
– أكيد متوقعة إني أرفض، عشان تجيبي اللوم عليّ جدام البت. لكن أنا مش هنولك غرضك، رغم إني بكره عيلة القناوي كلها. بس إن جيتي للصراحة بجى، أنا إيه اللي يخصني؟ مدام مش أنا اللي هحط يدي في يدهم، وأخوكي بارك الله فيه يسد معاهم، ما هو داخل في زوارقهم.
تساءلت بوجل، بقلب يخفق بقوة:
– جصدك إيه؟
تنهد يجيبها بجدية خالية من عبثه السابق:
– جصدي: مبروك عليها. تشيله ولا يشيلها، يتهنوا ببعض. وإنتي بجى تشوفي نفسك وتراجعيها. أنا لسه شاريكي، ومستعد أصلّح غلط السنين اللي فاتت، واللي عايزاه هعملهولك. وأما عن القضية اللي شغالة، فخلّيكي متأكدة إني هطلع منها. عشان مش أنا اللي عملت الفعل الخسيس ده وسلّطت حد غريب على لحمي. ياريت تستنيني يا مزيونة، خلاص… معدتش ليكي غيري، وأنا بايع الدنيا عشانك.
—
وفي الخارج
كان الثلاثة في انتظارها: ليلى التي مُنعت برغبة من أبيها، والذي أصرّ على مقابلة طليقته وحدها، فمرت عليها لحظات من القلق أشد من المرض الذي تعافت منه مؤخرًا بفضل مغامرها الجميل وفارسها النبيل، ذاك الذي كان واقفًا بالقرب منها، يهزّ قدميه بعصبية مفرطة، وترقُّبٍ يكاد يقتله قلقًا.
يُحجم نفسه بصعوبة عن فعل أحمق، كاقتحام السجن وحضور تلك الجلسة بين النقيضين: مزيونة، العنيدة، الطيبة، الحرة؛ وعرفان، الذي اختبر خبثه منذ زيارته إليه، رجل غير مريح، يمتلك مكر الثعالب في المراوغة للوصول إلى هدفه… ولكنهم مُجبرون على اللجوء إليه.
وفي الجهة الأخرى من السيارة كان حمزة، الذي اتخذ من الجمود منهجًا حتى لا تنفضح مشاعره المتقدة بنيران الغيرة، نحو تلك العنيدة، وهي في الداخل تقابل زوجها السابق وغريمه في الحياة، من أجل الموافقة على زواج العروسين المزعومين.
مرّت الدقائق كالدَّهر، حتى أطلت أمامهم خارجة من البوابة الحديدية. كاد حمزة يقفز راكضًا إليها ويفعل مثل ليلى وشقيقه، ويسبقهما، لكنه تذكّر وضعه ومكانته، ليجبر قدميه على الانتظار، حتى أقتربت، وصوت الإلحاح من الاثنين اللذين تلقفاها من وسط الطريق قبل أن تصل إليه:
– إحنا كنا قلقانين جوي عليكي يا أمه، كل ده في الزيارة؟ – شكلك تعبانه يا خالة مزيونة، هو الراجل ده ضايقك؟
– براحة عليها إنتو الاتنين، خليها تجْعد وتاخد نفسها الأول. قالها حمزة بإشارة نحو السيارة التي فتح بابها، في حركة ذكية لم تمكنها من الرفض، لتأخذ مكانها في الخلف، ثم تنضم ابنتها جوارها من الناحية الأخرى، وحمزة وشقيقه في الأمام. ثم تحرك بهم، وعيناه منصبة عليها من مرآة السيارة، يتابع الحديث الذي يدور بينها وبين الاثنين الآخرين:
– مجوّلتيلناش برضو يا خالة مزيونة، جالك حاجة ضايقتك الراجل ده؟ – ده أكيد، ميِبْجاش أبويا إن ما أعملها، أنا أتوقّع منه أي حاجة!
هتفت بها ليلى بانفعال، جعل والدتها تطالعها بصمت، وعيون احتبس فيها الحديث… كيف تخبرها أن عرفان قد أذلها بها؟ هو لا يعنيه ابنته من الأساس، وبمن ستتزوج؟ المهم أنها ستفعل ما كان مقدمًا عليه هو من البداية… تتزوج، وحلم مزيونة يتبخر في الهواء. تتزوج، ويضيع جهدها هباءً، كأنها لم تفعل شيئًا! ترى، هل ستُعطيه ابنتها هديته بالانتصار عليها؟
– أمه، قلقتيني عليكي… جالك إيه؟ أبويا خلاكي كده؟
– جالي إنه موافق على جوازك. ردّها جاء مباشرة ودون تمهيد، حتى اجفلت الثلاثة به، ليتوقّف الحديث على ألسنتهم لحظات، قبل أن يأتي استفسار معاذ، الذي استوعب أولهم:
– وافق كده على طول؟ وما اعترضتش؟
– لاه ما اعترضتش. ردّت بها خلفه كإجابة، ليتدخل حمزة أخيرًا بقوله:
– ما طلبش حاجة قُبَال موافقته دي؟ تطلعت إلى انعكاس عينيه في المرآة أمامها، قاصدة كلماتها بمكر الأنثى:
– طلب إني أستناه الكام شهر دول عشان هَيطلع براءة، لأنه متأكد منها، وحلفلي إنه عمره ما يسلّط حد غريب على حريمه.
ردّ سريعًا بحدّة مكشوفة، وشرار النظرات القاتلة تنبعث مع انعكاس عينيه في المرآة:
– وانتي صدّجتيه؟ تركته بنيرانه ولم تُجب، بل تعمّدت الالتفات نحو ابنتها، التي وصلها الأمر كابتزاز منه لوالدتها، لتُخاطبها برجاء قطع نياط قلبها:
– لاه يا أمه… لو هيحط شرط جوازي برجوعك ليه، فـ أنا مش عايزة الجواز! أوعي يا أمه، أوعي ترجعيله، أوعي… أنا مش عايزة جواز، مش عايزاه خلاص…
وانفجرت في نوبة من بكاءٍ مريرٍ أجبر والدتها على ضمّها إليها، كي تطمئنها وتطمئن ذلك المجنون الآخر في الأمام، الذي تجلّت عليه الصدمة حتى فقد النطق:
ـ محطهوش شرط يا بت، خلاص، اهدِي؟
ـ يعني وافق ولا ما وافجش؟ صرخ بها معاذ بعد أن وجد صوته أخيرًا، فالتفتت مزيونة بنظرة جانبية إلى ذلك المتربص، قبل أن تعيد القول بنبرة موبِّخة إلى حد ما:
ـ وافق يا معاذ، ما تبجاش خفيف إنت كمان زي البت دي، أنا قلت على طلبه، ما قلتش إنه شرطه عليا.
سمعها، فصدرت ضحكته ببلاهة، مرددًا:
ـ طب ما تجولي كده من الأول! جولي كده وفرّحينا، الله يفرّح قلبك يا شيخة! وإنتي يا ليلى، بطلي نُواح، خلينا نفرحوا يا بت، عايزين نفرحوا!
جاء تهليله وصياحه بنتائج فورية على الأخيرة، لتخرج من حضن والدتها، وتبادله الابتسام بدموعٍ لم تتوقف بعد، فعاد يردف متغزّلًا:
ـ النبي العيون الحلوة دي تبكي؟ طب والله حرام عليكي، والله يا شيخة حرام عليكي.
تحوّلت ابتسامتها إلى ضحكاتٍ يميّزها الخجل، فتدخلت مزيونة تُنهيه بحزمٍ مصطنع:
ـ خلاص يا شيخنا، بص جدّامك، وبلاها معاكسة ها، بص جدّامك!
ضحك، ثم التفت للأمام، مزعناً لرغبتها، بينما عادت ابنتها تضمها، لكن بحبٍ وامتنانٍ أظهر فرحتها، لتربّت مزيونة على ساعدها دعمًا، وارتفعت عيناها نحو ذلك المتربص، وعيناه لم تفارقها بعد، ودار حديثٌ سريع بالنظرات، قبل أن تهرب منه كعادتها، وتذهب بأبصارها خارج السيارة.
—
وفي منزل حماد القناوي، اختلت بشقيقتها التي جاءت في زيارة للمنزل بصحبة عدد من سيدات العائلة من أجل التهنئة والمباركة، مما أثار غضبها، فسحبتها من يدها بخفّة من بينهن، تأتي بها إلى الطابق الثاني بعيدًا عن الجميع، حتى دخلت بها إلي شقتها، ثم أغلقت الباب عليهما قبل أن توبخها:
ـ إنتِ اتجنّيتي يا إسراء؟ جاية برجليكي تباركي وتهنّي بعد عملتهم السودة معاكي وندالتهم؟! إيه اللي خلاكي تاجي؟ إنتي بالذات مكنش لازم تاجي!
طالعتها شقيقتها قليلًا بتفحّص، قبل أن تدلي باستفسارها:
ـ وماجيش ليه إن شاء الله؟ عشان ما هو خطب واحدة غيري يعني؟
شهقت هالة باستنكار قبل أن تجيب على سؤالها:
ـ ودي محتاجة مفهومية يا عديمة الإحساس؟ الواد ده هو وناسه لازم يعرفوا إنك واخدة موقف! كنتي ناجصة إيد ولا رجل إنتي عشان يخطب ويتجوز واحدة غيرك؟!
خطت إسراء لتجلس على أقرب كرسي، تقابل ثورتها بهدوء منقطع النظير، قائلة:
ـ ولما آخد موقف بجى، هيتراجع هو إن شاء الله؟ بجولك يا خيتي، واد عمي معاذ زينة الشباب، وأي واحدة في البلد كلها تتمناه، وأولهم أنا. بس مادام بص لغيري، يبجى ما يلزمنيش.
ـ ما يلزمكيش! هتفت بها هالة، لتأخذ محلها على الكرسي المقابل، قائلة بغيظ:
ـ إنتي حمارة يا بت؟ ما تصحي كده وفوقي من توهانك ده! كونه اختار غيرك، دي في حد ذاتها إهانة! كل الحريم هتستجلك، حتى لو اللي اختارها أقل منك في الجمال، برضو هيشوفوها أحسن منك.
ـ ما يشوفوها أحسن مني؟ عادي. ردّت بها إسراء بعدم اكتراث، ثم أردفت تكشفها أمام نفسها:
ـ أجيبلك من الآخر، لا أنا هالة، ولا معاذ يبقى حمزة. يعني يا بت أبوي، شيليها من مخك الحكاية دي. عن إذنك، أشوف الناس اللي جيت معاهم.
ونهضت تصعقها بمغادرتها، وتتركها على حالتها من الصدمة، لا تصدّق جلافتها بالتلفّظ أمامها بشيء جارح كهذا، وهي التي تعمل على مصلحتها، ولا تريد لها تكرار تجربتها والزواج برجلٍ لا تحبه… بل ولم تكن تضعه في حسبانها من الأساس.
❈-❈-❈
وجفتوا العربية هنا ليه؟ توجهت مزيونة بسؤالها، لياتيها الرد وهي تجد الاثنان يترجلان من السيارة، وحمزة يقول:
هندخل الكافيه نشرب لنا حاجة، ولا هنروح عطشانين كمان.
وقبل أن تدلي برأيها وتعترض، وجدت الباب يفتح من ناحية ابنتها، من طرف معاذ الذي تبسم يدللها بطريقة مسرحية:
ممكن أميرتي تتفضل وتخرج.
بالطبع رحبت الأخيرة بفعله، حتى شرعت في النزول سريعًا على الفور، ولكن منعتها أيدي والدتها التي تمسكت بها رافضة:
مفيش نزول، ولو عايزين تشربوا اشتروا عصير ولا جزايز حاجة ساقعة، كفاية تأخير البت وراها دروس.
دبت ليلى أرض السيارة بقدميها قائلة بتذمر:
ما هو كدة كدة اليوم راح، هبجّي ألم كل اللي راح مني على العشية من البت نسرين ولا سمر.
لا، وانتي العشية بتبقي فاضية جوي. تمتمت بسخرية قاصدة معاذ الذي سارع بالدفاع عن نفسه:
لا، اطمّني، مش هتصل بيها خالص ولا أزعجها عن مذاكرتها، المهم انتي متعطليناش أكتر من كدة، الوجت بيروح، واحنا مش كل يوم بنتفطفط على المحافظة.
جاء صوت آخر من ناحيتها:
سبيها يا ست، مجتش على اللحظة دي، ليلى شاطرة وبتعرف تلم بسرعة ما شاء الله عليها، زكية زي الست ولدتها.
تطلعت إلى باب السيارة المفتوح أيضًا من ناحيتها في دعوة صريحة للترجل، وكأنه يقلد شقيقه، الفرق فقط أن جميع أفعاله بالتلميح، فهي لم تسمح بعد بتعدي الخط الذي ترسمه لعلاقتهما.
ها ست مزيونة، لسة برضه بتفكري؟ اذعنت في الأخير أن تنصاع لرغبة الثلاثة، لتضطر للترجل من ناحيته، بخجل الأنثى التي مهما بالغت في العناد تغلبها نظرة قريبة منه، مصدر الخطر الذي تتجنبه دائمًا، أما ابنتها فترجلت من الناحية الأخرى، ناحية خطيبها، ليلتقيا الأربعة أمام الكازينو المطل مباشرة على النيل، حيث لا يفصل بينهم سوى نصف جدار من الزجاج، ليُمكن الرواد من الاستمتاع بالمشاهدة الكاملة، بالإضافة إلى الجلوس على طاولة لهما وحدهما، وموسيقى هادئة تناسب الأجواء.
كانت مزيونة في هذا الوقت تائهة بعض الشيء فيما تراه من حولها، بالإضافة لإحساس النقص الذي أصابها بأنها غير مناسبة لهذه الأماكن الفاخرة، حتى أتاها صوت معاذ يخاطبها مباشرةً.
ها تحبوا تطلبوا إيه؟ ردت ليلى على الفور:
آيس كريم أو جاتوه، أنا أعرف أنهم بيعملوه حلو جوي هنا.
علقت مزيونة بنبرة حازمة متسائلة:
وانتي عرفتي منين إن شاء الله يا ست ليلى؟ أجابتها سريعًا:
صحابي اللي بييجوا الدرس معايا يا أمي بييجوا هنا ويحكولي.
امممم تطالعها بتشكك، مما جعلها تعيد عليها بالقسم، ليتدخل حمزة:
خلاص يا ست مزيونة، دي أماكن محترمة أصلًا، يعني حتى لو بتيجي، متقلقيش عليها، ليلى بتنا مفيش في أدبها.
تبسمت له بامتنان، ليفصل معاذ ويزيح كرسيه للخلف ناهضًا:
خلاص كدة يبجى تيجي معايا وتختاري بنفسك الآيس كريم اللي تحبيه.
سمعت منه لتهم بالنهوض خلفه، فتمنعها مزيونة للمرة الثانية:
استني هنا، تروح معاك فين بالظبط؟ ما تنده للجرسون ويجيبلها الكراسة تنقي منها براحتها؟
برر معاذ ببراءة:
إحنا مش هنبعد ولا نطلع برا الكافية، أنا هاخدها بس تنقي الطعم اللي هي عايزاه، حكم هنا بيتعمل حسب الرغبة، واطمني برضه، مش هتنأخر، ها، مجولتِش أنتي كمان عايزة إيه؟
عبست بتوتر، وهي تنقل ببصرها نحو ذلك الصامت، الذي يتابع ما يحدث أمامه بمكر، فخرج صوته أخيرًا بتسلية:
جولي يا ست مزيونة على طلبك، أنا عن نفسي ماليش في الساجع، هو طلب الجهوة المخصوص، شوفي أنتِ كمان تحبي زيهم ولا زيي؟
لأ زينا، أمي بتحب الآيس كريم بطعم الفانيليا. تفوهت بها ليلى بلهفة أحرجت والدتها التي غمغمت بغيظ منها، حتى طفت السخونة على وجنتيها بخجل شديد، فحسم حمزة ضاحكًا:
خلاص يا ليلى، روحي هاتليها طلبها، وخليه يعملها الطلب مخصوص، وأنت يا معاذ متنساش جهوتي.
تلقى الاثنان الأمر بابتهاج شديد، يتحركان سريعًا للابتعاد، قبل أن تتراجع مزيونة وتوقفهم، والتي شعرت بحماقتها فعليًا، حينما وجدت نفسها الآن، هي وهو فقط، على طاولة وحدهما في مكان شاعري وأمام النيل مباشرة، يا لها من ورطة.
……………………
في غرفة غسيل الملابس داخل المحبس، سقط بجسده على كومة الملابس المتسخة الخاصة بعدد من زملائه المساجين، إذ كان دوره اليوم في تنظيفها مع مجموعة من زملائه، فالأعمال الميدانية داخل محيط السجن تُعد من إحدى هواياته، في اختلاف جذري عن النزلاء العاديين.
وذلك لما تمثّله من مزايا تمكّنه من الاختلاط بكافة الشرائح المهمة أو المفيدة له من النزلاء، بالإضافة إلى سهولة الحركة، والمصالح التي يجنيها من هذا الاختلاط، وتنقله بين المرافق. لكنه اليوم كان يومًا استثنائيًا بالنسبة له.
لقد رآها اليوم، أثناء مساعدته لأحد العاملين في السجن في تصليح ماسورة المياه في الحديقة ذات السور السلكي الذي لا يمكن اختراقه، لكن يُمكنه من النظر إلى العالم الخارجي، ذاك العالم الذي يفتقده… وقد كان اليوم موعده معها .
تلك الحورية التي سلبت عقله منذ طفولتها، وعادت لتحرك مشاعره مرة أخرى بعد نضوجها وتخلّصها من عرفان البغيض، حتى ظن أن فرصته بالاقتران بها قد اقتربت. ولكن، ظهر ذلك “الغراب” الذي يحول بينه وبينها، والذي كان يحاوطها كما رآه بعينيه أثناء خروجها من مدخل السجن. لقد عرفها من ظهرها، وكيف له أن يخطئها؟! تلك الساحرة، مكتملة الأنوثة من كل الجوانب.
فتح لها باب السيارة كما يفعل الرجال المحترمون في مسلسلات الدراما وأفلام السينما للنساء الجميلات، تقديرًا وتدليلًا خفيًا. تبا له من ملعون ومتلون! تمكّن من حبسه كما أبعد عرفان، ليخلو له الجو.
ـ ماشي يا حمزة الزفت، مسيري أطلعلك وآخد حقي منك. تمتم بها متوعدًا، قبل أن يفاجأ بصوت أحدهم يناديه باسمه:
ـ عطوة. نهض منتفضًا عن كومة الملابس، يطالع صاحب الجسد الضخم الذي كان يتهرب منه طوال الفترة الماضية، ليفاجأ به الآن أمامه، وداخل المغسلة التي لا يعلم متى أُغلق بابها و… نظر حوله من كل الجهات، يبحث عن أحد من زملائه النزلاء داخل المغسلة، ولكن لا يوجد أحد منهم أيضًا…
تحدث عرفان وقدماه تخطوان نحوه بخطوات سلحفائية متأنية: ـ بلاش تتعب نفسك بالبصّ والدوران عليهم، كلهم باعوك يا غالي، وجاعدين حراس دلّوك على الباب من برا، يعني الليلة ليلتنا يا عسل…
انتفض عطوة متراجعًا إلى الخلف بذعر، قائلًا: ـ إيه اللي انت بتقوله دا بس يا عرفان؟ اشحال ما كنت صاحبي، اللي متربي معاك، وعارفني أكتر ما تعرف نفسك! شيل اللي في دماغك بجى، أنا بريء.
ـ بريء يا كلب؟ فاكرني مغفّل وهصدّق كدبك يااض؟ تمتم بها الأخير، وأقدامه قطعت خطوتين بخطوة واحدة، ارتدّ على أثرها عطوة خطواتٍ عدّة، يهادن هذا الثور القادر على تكسير عظامه بضربة واحدة من يده:
ـ أحلف بإيه طيب عشان تصدجني؟ دا فخ، واتنصب لنا إحنا الاتنين! ما تفهم بجى؟
ـ لا، مش عايز أفهم. قالها عرفان، ثم انقضّ عليه ينهال عليه باللكمات، غير عابئ بصراخه، حتى أسقطه فوق كومة الملابس، مواصلًا “تأديبه” حتى صرخ به عقل الشيطان:
ـ يا أخي، حرام عليك! خد روحي بالمرة يا عرفان، ما دمت عايش في الوهم، وغريمك هايص برا، فرحان باللي عمله!
كاد أن يسمع له وترتخي يداه، ولكن غليل الأيام الفائتة ساهم في إغلاق عقله عن التفكير في سمومه، وترك الحرية ليده كي تنفث عن غضبه؛
ـ تاني برضه بتلعب ألاعيبك؟ يبجى انت اللي جبته لنفسك بجى… خد يا عطوة، خد!
وهكذا تمكّن منه، حتى أنقذه النزلاء والحراس بصعوبة من تحت يده، ومن موتٍ محقّق كاد أن يتسبب به عرفان له.
…………………………
“الماء والخضرة والوجه الحسن”… هذا ما دار بخلده في هذه اللحظة، وهو يتأمل النيل وضفتيه، اللتين انتشر بهما النجيل الأخضر، بالإضافة إلى الأراضي المزروعة الممتدة أمام بصره. والجميلة الحسناء أقرب إليه من كل ذلك، وهي تشاركه الطاولة نفسها، تتهرّب من خجلها بالنظر نحو أي شيء سوى عينيه. لقد كانت ساحرة في هذا الوقت، رغم بساطة ملابسها، إلا أنه وبنظرة بسيطة، لو قارن بينها وبين كل النساء حولهم الآن، لفازت عليهن جميعًا. فتنة خالصة، بجمال طبيعي، لا تزينه لمسة واحدة من الزينة. توترها وحياؤها كانا السر في جاذبيتها وبكل وضوح.
ـ العيال دول اتأخروا جوي، مش فاهمة أنا ليه عمايلهم دي؟ قابل انفعالها بهدوءٍ يغيظ: ـ همّا لحقوا أساسًا؟ انتي بس اللي مستعجلة وعايزة تمشي بسرعة وتسيبي الطرابيزة، مع إن الأمر عادي يعني.
ـ عادي إزاي يعني؟ مش فاهمة.
ما أجملها حين تدّعي السذاجة والجهل، رغم يقينه الأكيد بمعرفتها بمشاعره، ولكن لا بأس، فليُجاريها في لعبتها:
ـ أنا جصدي يا ست مزيونة إن إحنا بقينا عيلة خلاص، يعني… مفيش حرج ما بينّا، إن كلّمتيني أو أنا كلّمتك، أو حتى طلبتيني على التلفون أو أنا طلبتك.
ـ تطلبني على التليفون؟!
ـ أيوة أمال إيه؟ أنا عرفت إنك خدتي خط ليلى بعد ما معاذ جابلها تلفونها الجديد، ممكن أسجل رقمي عليه؟
ـ هاا… صدرت منها بتشتّت، متفاجئة من جرأته في الطلب، وحرجها عن صده؛
ـ يا ست مزيونة، مش محتاج الموضوع تفكير، الموضوع سهل خالص على فكرة. بكرة تاخدي رقم الست الوالدة زي ما خدتي رقم منى أختي. يلا بجى، ملّيني الرقم. سجليني “أبو ريان”، وأنا هسجلك “أم ليلى”.
……..
وفي الجهة الأخرى من الكازينو
وبعد أن ابتاع لها المثلجات على ذوقه، توقّف بها أمام السور الزجاجي الصغير، ليلتقط لها وتلتقط له عددًا من الصور الجميلة، مستغلَّين الخلفية الرائعة للنيل والخضرة.
تجبره بابتسامتها الساحرة وضحكاتها ودلالها الفطري على المزيد والمزيد، يريد تسجيل كل همسة لها على هاتفه.
كفاية يا معاذ، أمي وعمّ حمزة هيزعلوا من التأخير.
“سمع عبارتها، وارتسمت ابتسامة على طرف شفتيه، وهو يلقي بنظرة خاطفة نحو الطاولة البعيدة عنهما، دون أن يمنعه البعد من متابعتها من مكانه.”
لا، ما تشغليش بالك إنتِ، إن شاء الله ما يزعلوش. المهم أنا عايز آخد صورة معاكي.
علّقت على قوله بسخرية:
لاه يا خفيف، ما تتعشمش، عشان ولا صورة هتاخدها معايا قبل سيشن الفرح!
ردّد خلفها ببؤس:
ولا صورة؟ ليه طيب؟ وإحنا خلاص فرحنا قرب، أجِّل من شهر وهيتم إن شاء الله.
خلاص، يبقى تصبَّر الشهر ده يا خفيف.
غاظته بها، ثم تحرّكت نحو طاولة أخرى فارغة، كانت قد وضعت عليها علب المثلجات، واقتربت الآن لتأخذهم، فتناولهم هو بالنيابة عنها قائلًا باستعطاف:
طب وإن حلفتك بغلاوة عزوز؟
ضحكت تجيبه:
غلاوة عزوز تخص عزوز، إنت إيه يخصك يا عم؟ أما عجايب دي والله!
وتحرّكت ذاهبة من أمامه تسبقه، ليغمغم من خلفها بتذمّر:
يا دي عزوز، هو ياخد البوس والدلع، وأنا حتى صورة مستكتراها عليّا، ماشي يا ليلى!
—
عودة إلى البلدة
وداخل منزل حماد القناوي، تفاجأت هالة بامتلاء المنزل بنساء العائلة والفتيات، يساعدن حسنية وبناتها المتزوجات في تنقية حبوب القمح وغسلها جيدًا ثم تجفيفها قبل الذهاب بها إلى مطحن البلدة.
لتنظر هالة نحو عدد أشولة القمح الكثيرة بدهشة قائلة:
وه! كام شوال قمح فتحتوه؟ إنتوا ناويين تعملوا ليلة كبيرة للبلد إياك؟
أجابتها منى بتسلية:
لا يا حبيبتي، عقبالك يا رب، إحنا بنحضّر لفرح معاذ، انتي عارفة، يدوب نجهّز الدقيق عشان الخبيز، ما شاء الله… عيش وكحك وبسكويت وناعم…
حيلك حيلك.
قاطعتها هالة لتردف موضحة:
الكحك والبسكويت والناعم على العروسة يا ست منى، إنتي نسيتي ياك؟ إحنا آخرنا خبيز عشان ليلة الرجالة وليلة الحريم بطبيخهم.
تطوّعت إحدى الفتيات مصحّحة لها:
لا يا عمّة هالة، إنتي ما تعرفيش ياك؟ خالي حمزة حلف على العروسة وأمها لا إنهم ما يخبزوش أي خبيز ولا يحضّروا أي عشا!
صاحت مردّدة خلفها بعدم تصديق:
نعم! كيف يعني؟ حتى العشية كمان؟ يعني لا كحك، ولا بسكويت، ولا بيتيفور، ولا ناعم، ولا عشا حمام، ولا فطير مشلتت، ولا أمبواخية (المخروطة)، ولا خروف السابع؟
وه وه، مين دلوك يا بت بيجيب خروف السابع في الغلا ده؟
عقّبت بها حسنية بصيغة استنكار أثناء هزّها لحفنة كبيرة من القمح داخل المنخل، فصاحت بها هالة:
بلاش خروف السابع، مع إن كل عيلتنا تقريبًا بتجيبه! باقي الحاجات التانية، ما عندهاش مقدرة كمان الست مزيونة تعمل لبتها؟
لا يا بنيّتي، أكيد عنديها، بس إحنا نحمل على الولية الفردانية ليه؟ ونقلق البت عن مذاكرتها؟ ما إنتِ عارفة أمها اتشرطت، وإحنا وافقنا، نبقى نشيل بعض، وفي بيتها يعني. أديكي شايفة، محدش معايا غريب، كلهم بنتتي وبنات بنتتي. روحي إنتي كمان يا بنيتي غيري جلابيتك وتعالي اغسلي مع البنات، ولا نجي الحجارة من اللي بغربله أنا.
كمان!
صاحت بها بغل، تعود مرتدة للصعود مجددًا:
كفاية عليكي البنتة وبنات بناتك، أنا بحِ رايحة أسبّح عيالي، عن إذنكم.
إذنك معاكي يا حبيبتي.
غمغمت منى ضاحكة من خلفها:
يا أختي عليكي، أمال لما تشوفي البت ودلعها بكرة هتعملي إيه؟ هتتشلي؟
صدحت ضحكات الجميع من خلفها، لتضيف كل واحدة منهنّ عليها بمزاحها بعد ذلك، مع مواصلة العمل بنشاط تجهيزًا لليوم الكبير. العريس، أصغر أفراد العائلة ومدللهم، على الجميلة ليلى، ابنة الجميلة مزيونة.
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية لأجلها)