رواية ارناط الفصل السادس والثلاثون 36 بقلم حور طه
رواية ارناط الفصل السادس والثلاثون 36 بقلم حور طه
رواية ارناط البارت السادس والثلاثون
رواية ارناط الجزء السادس والثلاثون

رواية ارناط الحلقة السادسة والثلاثون
بعد مرور شهر من الحــ ــادثة…
تفتح ليلى باب الغرفة بهدوء،البيت ساكن
كأنه بيت مــ ـاتت فيه الضحكة من سنين
تمشي بخطى بطيئة، تدخل أوضة شادي.
تقرب منه، تلمس خده وهو نايم.
تطفي النور، وتخرج تقفل الباب وراها.
تدخل أوضتها، تقف قدام المرآة…
مرت صوابعاها بين خصلات شعرها…
وشها مرهق، عنيها فيها وجع العمر كله…
تشد صندوق خشب صغير من تحت السرير…!
تفتحــه!
جواه صورة ليها مع ارنـاط…
وتذكار صغير محفور عليه:
ــ ليلى… لكل العمر
تلمس التذكار، ودمعة تنزل في صمت!
ليلي،تقول بهمس مكســ ـور:
ــ كنت فاكراك هتفضل لآخر العمر…
بس يمكن كان لازم تمشي علشان…
أرجع ألاقي نفسي من تاني!
تسمع طرقات خفيفة على الباب…
عالية:
ــ ممكن أدخل؟
ليلى، وهي بترجع الصندوق لمكانه:
ــ تعالي، يا عالية…
دخلت عالية، وقالت:
ــ يوسف تحت، عايز يشوفك!
ليلى أرسلت تنهيدة ساكنة:
ــ حاضر، هنزل له…
في الحديقة الصغيرة قدام بيت أكمل…
وقف يوسف وسط الهدوء، والهواء فيه ريحة تراب لسه فايح من مطر قديم،دخلت ليلى بخطى هادئة الحزن واضح في ملامحها…لكنه حزن صامت،هادئ.
ليلي قالت بنبرة خافتة:
ــ اتفضل يا يوسف!
يوسف،التفت عليها:
ــ عاملة إيه دلوقتي؟
ليلي،جلست على المقعد الخشبي
ونظرتها شاردة في الفراغ:
ــ بما إني قاعدة قدامك ولسه بتنفس… أبقى بخير!
جلس يوسف في المقعد المقابل
نظر ليها مطولا ثم قال:
ــ من يوم اللي حصل… وإنتي ساكتة!
قولت إنك محتاجة وقت تفكري من غير ضغط!
سكت لحظة، ثم أكمل بصوت أقرب للرجاء:
ــ بس راهب محتاجلك يا ليلى…
محتاج إنك تسامحيه…!
ليلى نظرت للأرض، ووجعها كان أعمق من الكلام:
ــ وأنا كمان محتاجاه…بس هو فين؟مش موجود… راح في الوقت اللي ما كانش ينفع يروح فيه
سابني أنا وابني… واحنا في أشد الاحتياج ليه!
تنهد يوسف، وقال بصوت فيه صدق وأمان:
ــ راهب كان موصيني عليكي… وعلى شادي.
وأنا مستحيل أتخلى عنكم،هتلاقيني دايما جنبك.
بس حتى لو مش موجود بينا دلوقت …
هو محتاج إنك تسامحيه!
ليلى ما ردتش… سكتت
بس صمتها كان أبلغ من كل الكلمات!
يوسف حاول يغير دفة الكلام
قلبه شايل سؤال جواه:
ــ من وقت مرجعنا…
وفي سؤال بيزن في عقلي…
ليه منعتي إني أعاقب أرمان؟
ليه قلتي لي سيبه مع إنه أذاكي كتير؟
وقفت ليلى، وقبل ما تتحرك
بصت له بنظرة هادئة فيها حسم وقالت:
ــ بحاول أنضف… وأمحي الكســ ـور اللي في قلبي!
يمكن أعرف أرممه من جديد!
سارت بهدوء نحو البوابة.
وقبل ما تختفي، ناداها يوسف:
ــ رايحة فين يا ليلى؟
ليلي التفتت، والهواء يلعب باطراف شعرها
وقالت بصوت خافت لكنه واثق:
ــ رايحة للمكان… اللي هرجع منه ليلى من تاني!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في المستشفى…
كانت ناهد تجلس في صمت بجوار سرير شهد
تمسك بالمصحف بين يديها، تقرأ بصوت خافت
يمر في الغرفة كنسيم دافئ.
شهد ترقد بلا حراك، عيناها مغمضتان منذ أن دخلت في غيبوبة… وجهها شاحب، أنفاسها واهنة!
وفجأة…
تحركت أصابع شهد ببطء، كأنها تحاول الإمساك بالخيط الرفيع الواصل بين الحلم والحياة.
ثم، وبثاقل، فتحت عينيها…
لكن هذه المرة، لم تفتح على ظلام،بل علي النور…
نور أبيض طري، يخترق سكون عينيها ويغمر قلبها بدهشة طاغية.
أغمضت عينيها بتعب، ثم عاودت فتحهما
ووجهها التفت ببطء ناحية الصوت الأليف بجوارها.
همست، بصوت مبحوح:
ــ ماما…؟
ناهد شهقت، قلبها انتفض، أغلقت المصحف بسرعة ووضعت كفها المرتجف على جبين شهد بحنان غامر.
ناهد، وعيناها تغرق بالدموع:
ــ شهد! أخيرا فقتي…
الحمد لله، يا بنتي… الحمد لله!
نظرت شهد إلى ملامح أمها، وجهها ارتسم
عليه انبهار طفلة رأت أمها للمرة الأولى.
شهد، بابتسامة باهتة:
ــ شكلك لسه زي ما هو…
ما اتغيرتيش، يا ماما… لسه جميلة!
ناهد طبعت قبلة على يدها، ودموعها تسبقها
تكاد لا تصدق ما ترى وتسمع.
شهد، تهمس برجاء:
ــ كان نفسي أشوفك أوي…
لما عملت الحــ ـادثة وفقدت بصري…
خفت أمـ ــوت من غير ما أشوفك تاني!
ناهد ضمتها بقوة،وكأنها تحاول سد
فجوة الأيام الضائعة، بصوت مرتجف:
ــ انتي رديتيلي روحي يا بنتي…
استني، هأنادي للدكتور…
شهد، وهي تمسك يدها:
ــ لا ما تسيبنيش… أنا كويسة!
بس خليكي جنبي!
جلست ناهد على طرف السرير…
تحيطها بذراعيها، وكأنها تحاول حمايتها من كل ألم!
في تلك اللحظة، دخلت رهيفا وهي تمسك بكوب عصير وبمجرد ما لمحت شهد جالسة… تجمدت لحظة.
رهيفا، بدهشة:
ــ شهد؟ إنتي فوقتي؟!
أنا كنت لسه بكلم يوسف و… بيطمن عليكي!
شهد ابتسمت، نظرتها اتجهت مباشرة إلى وجه
رهيفا كأنها تتأمله للمرة الأولى.
شهد، بابتسامة دافئة:
ــ انتي رهيفا مرات يوسف… ابن عمي، صح؟
رهيفا توقفت مكانها، النظرة على وجهها
كانت مزيج بين الاستغراب والقلق.
رهيفا، بتوتر:
ــ شهد… إنتي… فقدتي الذاكرة ولا إيه؟!
هأنادي الدكتور حالا…
شهد ضحكت، ورفعت يدها تمنعها:
ــ لأ يا ستي، أنا فاكرة كل حاجة…
بس ما كنتش أعرف إن مرات يوسف جميلة كده!
يعني بصراحة… عرف يختار…!
رهيفا احمر وجهها وهي تضحك بخجل:
ــ تسلميلي يا حبيبتي… انتي اللي قمر!
ناهد نظرت لشهد بابتسامة صغيرة
فهمت إن رهيفا لسه مش مستوعبة المعجزة
رهيفا، وهي توجه الكلام لـ ناهد:
ــ تحبي تشربي إيه يا طنط؟ في برتقال وتفاح.
شهد، بدون تردد، أشارت للبرتقال:
ــ ماما بتحب عصير البرتقال…
رهيفا مدت العصير لـ ناهد، لكن يدها توقفت فجأة.
وجهها تغير، كأنها استوعبت الحقيقة للتو.
رهيفا، بدهشة مذهولة:
ــ استني…
شهد، عرفتي منين مكان كوباية البرتقال؟!
لحظة صمت.
ناهد تنظر لشهد وابتسامة هادئة
ترتسم على وجه شهد،وهي تهمس بهدوء:
ــ علشان أنا شايفاك…
وشايفاكم كلكم…!
رهيفا وضعت العصير على الطاولة
واقتربت منها ببطء، وكأنها تختبر الحقيقة
رهيفا، بصوت يكاد لا يسمع:
ــ إنتي… شايفاني فعلا شايفاني؟
شهد، تومئ بابتسامة:
ــ أيوه.
رهيفا وقفت مش مصدقة، عينيها غرقت دموع مسحتها بسرعة وهي بتطلع الموبايل بإيد بترتعش وخرجت من الأوضة بخطوات سريعة
دوسة واحدة…
والمكالمة اتفتحت!
رهيفا، بصوت مبحوح من الفرحة:
ــ يوسف…
شهد فاقت!
ومش بس كده…
شهد رجعت تشوف يا يوسف!
بتـشـوف!
سـكـوت في الطرف التاني…
سكون يشبه السجود
كأن الزمن وقف يستوعب الكلمة…
رهيفا، تكمل بصوت بيرتعش من التأثر:
ــ يوسف… أختك رجعتلك…
رجعت بنور عينيها… وبدفا قلبها…
شهد، وهي تمسك بإيد ناهد برفق
عينيها بتدور في وشوشهم بلهفة:
ــ هو فين راهب؟
ليه لحد دلوقتي ماجاش يشوفني؟
ناهد تبلع ريقها، وتحاول ترسم ابتسامة باهتة
لكنها ما تردش فورا.
رهيفا، تدخل بسرعة تحاول تشتت السؤال:
ــ يوسف قال إنه جاي حالا!
شهد، بعناد رقيق، ترفع حاجبها وتبص لرهيفا:
ــ مش بسأل عن يوسف…بسأل عن راهب؟
ناهد، وهي تمسك بإيدها التانية،بلطف:
ــ المهم دلوقتي إنك بخير يا حبيبتي…
ورجعتي تنوري الدنيا من تاني.
شهد، تراقب ملامح وشها:
ــ ماما… في إيه؟هو كويس؟
حصله حاجة؟
رهيفا تبص لناهـد، ونظرتهم تلتقي للحظة…
حزن صامت، خوف متبادل، وإجابتهم ما نطقتش بيها شفايفهم… لكن كانت واضحة في عيونهم.
الصمت يملأ الغرفة، والهواء يتقل.
و شهد،عينيها بتدمع ببطء
وهي تهمس بصوت خافت:
ــ أكيد حصله حاجة…؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في منزل أكمل، كان جالس على الكنبة
ورائد بجواره. عينهم متعلقة بـراكان
وهو بيلعب على الأرض وسط الألعاب.
أكمل، بصوت فيه حنين:
ــ بعد ما فقدت بنتي… أمكم…
كنت بعيش علشانكم،إنت وأختك…
كنت عايش على ذكرى بنتي…
بس القدر كان مخبيلي في جرابه…
اللي عمري ما تخيلته!
رائد، بصوت هادي:
ــ راكان ابنك يا جدو…
واحنا اتأكدنا خلاص!
أكمل، بنظرة حزينة وابتسامة باهتة:
ــ عارف… عارف إنه ابني…
بس مش عارف…العمر هيسعفني؟
هكون موجود لحد ما أوصله لبر الأمان؟
رائد، شد على إيده بلطف:
ــ ربنا يديك الصحة وطولة العمر يا حبيبي…
وإحنا حوالين راكان، عمره ما هيكون لوحده!
ثم ضحك بخفة، عشان يخفف التوتر:
ــ بس أنا ما كنتش عامل حسابي على خال!
وكمان في السن ده!
أكمل ابتسم، والدمعة لمعت في عينه
بس قلبه دافي لأول مرة من سنين:
ــ أهو ده اللي اسمه لعب القدر!
راكان رفع راسه من لعبه، وببراءة قال:
ــ جدو… رائد بيضحك ليه؟
رائد فتح دراعه:
ــ تعالى هنا يا خالو الصغير…!
أكمل ضحك من قلبه، والدمعة بتلمع في عينه:
ــ مين كان يصدق… إن الخسارة ممكن تولدنا من جديد؟
رائد وقف وهو يلبس الجاكيت بسرعة
لم مفاتيحه من على الطاولة وقال:
ــ أنا هروح المستشفى أطمن على شهد.
أكمل نظر له بدعاء ساكن في ملامحه وقال:
ــ إن شاء الله تفوق وترجع لنا بالسلامة…
ابقى طمني عليها أول ما تشوفها…
رائد هز راسه، وحاول يخفي التوتر اللي في عينه:
ــ هطمنك أول ما أوصل…
وخرج بسرعه…
قلبه كان سابقه، وكل خطوة بيقرب بيها من المستشفى، كان حاسس إنه بيقرب من لحظة مصيرية في حياته!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في المكان الذي لا يسكنه غير الصمت
وقفت ليلى أمام القبر، عيناها معلقة بالاسم المنقوش على الحجر، كأنها تبحث في الحروف عن بقايا نبض… عن صوت ناداها ذات يوم وقال:
ــ أنا هنا…!
سقطت دموعها في صمت…
دمعة وراء دمعة…وكل دمعة
كأنها بتغسل وجع سنين!
ثم انحنت،على ركبتيها كأنها حاملة الدنيا فوق ضهرها وهمست بصوت مكسـ ـــور
يتخلله رجف الدموع:
ــ خلاص… تعبت…!
مش قادرة أتنفس من وجع قلبي!
مدت يدها تتحسس التراب
وكأنها بتلمس روح للمرة الأخيرة
وكأن بين كل ذرة تراب وعد ما اكتملش
أو حضن ما ارتواش:
ــ لما رحتوا، كل شيء وقع جوايا.
بقيت بخاف…من الوحدة، من الليل
من السكون اللي بيصــ ـرخ فيا كل ما اسمعه.
ثم صمتت، كأنها تنتظر ردا من قبر لا يرد:
ــ ليه كل اللي بحبهم بيروحوا مني؟
أنا مش قوية…أنا بتهد كل يوم…
ليه كل مرة بتختارولي الوجع… وتمشوا؟
فجأة، خطوات بطيئة تقطع الصمت
ويظهر شيخ كبير في السن
عصاه تلامس الأرض بصدى هادئ:
ــ قطار الحياة محطات…
واللي تيجي محطته، ينزل.
يسيب خلفه ألم…وجع!
لكن الألم بتتلاشى بعدها
والقطار بيكمل طريقه
كانه لم يقف ابدا!
ليلى استدارت تمشي، وخلفها ظل طويل يمتد فوق التراب شاهدا على حب لم يــ ـمت… ووجع لم ينتهي
وفي آخر نظرة، همست كأنها تحفر كلماتها في الريح:
ــ يمكن الوجع ما بيمــ ـوتش
بس إحنا اللي لازم نعيش
لأن الحزن ما كانش يوم دليل على الوفا
الوفا الحقيقي إننا نكمل الطريق… رغم الكسـ ــور!
ابتسم الشيخ، ناظرا إلى ليلى بعينين أنهكهما الزمن لكن لم تطفئهما الحكمة، وقال بصوت هادئ فيه رنة يقين:
ــ البكا ما بيرجعش غايب
ولا القبر بيوجع غير اللي لسه في الدنيا
اللي راح، ارتاح…
وإحنا لسه على السكة!
افتكري دايما يا بنتي…
اللي بيكمل الطريق هو الأقوى
واللي بيزرع أمل فوق التراب
هو اللي بيخلي الرحيل له معنى!
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية ارناط)