روايات

رواية فتيات القصر الفصل الثاني عشر 12 بقلم اسماعيل موسى

رواية فتيات القصر الفصل الثاني عشر 12 بقلم اسماعيل موسى

رواية فتيات القصر البارت الثاني عشر

رواية فتيات القصر الجزء الثاني عشر

فتيات القصر
فتيات القصر

رواية فتيات القصر الحلقة الثانية عشر

كان السيد — ذاك الرجل الذي اعتاد أن يُملي القواعد ويكسرها متى شاء — يقف خلف زجاج نافذته العتيقة، يُمعن النظر في حركة القصر المنتظمة، فلا يرى إلا اسمًا واحدًا يتكرر بين الخدم… راما.
هي لا تبتسم إلا عند الضرورة، ولا تُخطئ، ولا تهمل، كأنها صنعت من حجرٍ أملس لا يُخدش. وكان في هذا الانضباط ما يستفز رغبة السيد في كسرها… ليس رغبة في فتنة أو مغازلة رخيصة، بل من أجل متعة السلطة ذاتها، تلك التي تقتات على إذلال الأكثر كبرياءً.
كان يحدث نفسه في صمت، وعيناه لا تغادران ظلها الرشيق:
“أعجِبُ لامرأةٍ لم تأتها رعشة خوف واحدة منذ أن وطئت هذا القصر… ألم تُدرك بعد أنها في بيتي؟ أن القوانين هنا توضع لتُخضع، لا لتُحترم؟ ألم تعلم أن العقوبات لا تُسنُّ لإصلاح الخطأ، بل لإثبات اليد العليا؟”
ومع هذا، كانت راما حائطًا أملسًا، يتساقط عليه مطر محاولاته دون أثر. كانت تُحكم غلق كل منفذ يمكن أن يتسلل منه الخلل، وتعرف جيدًا أن أداته في مضايقتها — لارينا — لا تملك حيلةً أمام يقظتها. يتسلل الغضب إلى نفسه، لكنه سرعان ما يلبسه قناع النبلاء، ويتمتم وهو يستدير عن النافذة:
“سأظل أرقبكِ، يا راما… لا رغبةً في جسدٍ ولا طمعًا في استمالةٍ، بل لأراكِ وأنتِ تتعثرين في قانونٍ وضعته أنا… لأن هذا القصر لا يُطيق امرأةً لا تنكسر.”
لكنه، رغم كل شيء، لم يجد لها عثرة. فالقوانين التي وضعها هو للعقاب لا للغزل، بقيت سيفًا في يده، لكنه بلا موطئ على عنقها.
………..

كانت راما — رغم صرامتها في أروقة القصر وقاعات الخدم — تحمل قلبًا آخر حين تطأ قدماها الحديقة الملكية. هناك، وسط النباتات المتسلقة والزهور المتراصة في صفوفٍ أنيقة كجنودٍ في طابور ملكي، كانت تسمح لنفسها بلحظة صفاء نادرة لا يراها فيها أحد.
كانت تتفقد الأعشاب، تُزيل بحرص الأوراق الذابلة، وتُمرر أناملها على البتلات الناضجة كأنها تقرأ منها حكاية صامتة. ولكن ما يشغلها حقًا لم يكن الحديقة ذاتها… بل فكرة واحدة تشبثت بذهنها منذ أسابيع: أن تخلق زهرة جديدة، لا تشبه ما عرفه القصر من ورود.
زهرة تحمل لون الدم القاني عند الغروب، وعطرًا لا يشبه سائر الأزهار؛ لا حلوًا ولا نفاذًا، بل شيئًا يشبه رائحة المطر حين يسقط على الأرض المحترقة. كانت تمضي لياليها في الدفتر الصغير الذي تخفيه بين طيات ملابسها، تدون فيه ملاحظات عن أنواع التهجين، مواقيت الزرع، طبائع التربة.
وكلما جاء الصباح، خرجت إلى الحديقة، لا كخادمة… بل كعاشقةٍ لفكرة، عازمة على أن تترك بصمةً في قصرٍ لا يذكر أسماء الخدم.
كانت تعلم أن السيد يراقبها أحيانًا من شرفته، يظن أن انشغالها هذا ضربٌ من الضعف أو هروب. لكنه لم يكن يعلم أن راما ترى في الزهور ما لا يراه سواه… أنها لا تطمح لإرضاء أحد، بل لتحدي الجمود الأبدي في هذا المكان.
وفي الزاوية القصية من الحديقة، تحت شجرة سرو معمّرة، زرعت بذرتها الأولى… تنتظر صامتةً، لتُثبت أن الخدم لا يتركون أثرًا في السجلات فقط، بل تحت التراب أيضًا.
…………….

مرّت الأسابيع، وتمادى الشتاء في عناده، لكن راما لم تيأس. كانت تخرج كل فجرٍ، قبل أن يصحو القصر من سباته، تتفقد تربتها، تغمر البذرة بقطرات ماءٍ دافئة، وتهمس لها بشيءٍ من الكلمات التي لا تسمعها إلا الأرض.
وذات صباحٍ ملبّدٍ بالضباب، بدت الزهرة. زهرة لم يشهد القصر مثلها قط. بتلاتها مخملية، بلون العقيق الداكن، يتدرج من الأسود المائل للأحمر إلى حواف فضية تشبه حواف الخنجر. وكان لعطرها — حين يقترب منه المرء — وقعٌ أشبه برائحة الكتب القديمة الممزوجة بمطر الليل.
وقفت راما أمامها، تملأ صدرها فخرًا لم تعرفه يومًا. ولأول مرة، أطلقت على نفسها لقب “الخالقة”. في عالمٍ يمنع الخدم من ترك أثر، كانت هذه الزهرة إعلانًا بأنها وُجدت.
لكن… ما أهداه القدر بيدٍ، نزعه باليد الأخرى.
في المساء ذاته، وبينما القصر يغط في صمتٍ لا يكسره سوى صرير النوافذ، تسللت يدٌ مجهولة إلى الحديقة. ولم يكن الدافع إلا الحسد، أو ربما طاعةً لأمرٍ خفي.
وفي لحظةٍ غادرة، سُحبت الزهرة من جذورها، تُركت تربتها مبعثرة، وساقها المهشم يُلقى بعيدًا، كأنها لم تكن.
عندما جاءت راما في الفجر التالي، توقفت خطواتها. كان المشهد أشبه بجريمة صامتة؛ لا شهود لها ولا دليل، سوى أثر التراب المبعثر وقطرة من العطر العالق في الهواء.
لم تصرخ. لم تدمع. بل وقفت صامتةً طويلًا، ثم انحنت، وبهدوءٍ متماسك، جمعت شظايا الزهرة، وضمتها إلى صدرها كمن يحتضن آخر ما تبقى له من حلم.
………….

لم يكن الحريق الذي اشتعل في قلب راما من النوع الذي يُخمده الصمت. كانت قوانين القصر تُحتم على الخدم عدم تجاوز مواضعهم، ألا يرفعوا أعينهم، وألا تلامس أقدامهم الممر المؤدي إلى الجناح الغربي حيث غرفة السيد. لكنه في تلك الليلة… لم تعنِ لها القوانين شيئًا.
بثوبها الداكن الملطخ بتراب الحديقة، وعينيها المتقدتين كجمرتين في ليل معتم، اندفعت راما تعبر الممرات الحجرية. ارتطمت بأطراف الستائر المتهدلة، وتجاهلت نظرات الخدم المذعورة، وأصوات النُدُل الذين تمتموا باسمها في فزعٍ مكتوم.
عند باب السيد، توقفت.
كان بابًا من خشب البلوط المعتق، يعانق جدرانه إطارات منقوشة برسومٍ لأسودٍ نافرة، وعليه قبضة نحاسية باردة، لم تجرؤ يدٌ من قبل على لمسها إلا بأمرٍ صريح.
راما… لم تتردد.
وقفت هناك، صدرها يعلو ويهبط كمن خرج لتوه من معركة دامية، وعيناها تحملان خليطًا من الألم المتفجر والغضب النبيل. أصابعها قابضة على شظايا الزهرة الميتة، وفمها مغلق، لا تنبس بشيء.
في داخل الغرفة، كان السيد قد شعر باضطراب المكان. الحريق الصامت الذي رافق خطواتها بلغ إليه قبل أن تصل. رفع بصره نحو الباب، وحدّث نفسه:
“أتت… رغم القوانين… رغم محاذير الأسلاف…”
وابتسم ابتسامة باهتة تحمل شيئًا من الغرابة.
في الخارج، بقيت راما واقفة. لم تطرق الباب، ولم تعلن عن وجودها. وقفت هناك فقط… كتهديدٍ مكتوم… كإعلان صريح بأنها — هذه المرة — لن تنحني.
وكان صمتها، في تلك اللحظة، أعلى صوتًا من أي صرخة.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية فتيات القصر)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *