رواية شظايا قلوب محترقة الفصل السادس والخمسون 56 بقلم سيلا وليد
رواية شظايا قلوب محترقة الفصل السادس والخمسون 56 بقلم سيلا وليد
رواية شظايا قلوب محترقة البارت السادس والخمسون
رواية شظايا قلوب محترقة الجزء السادس والخمسون

رواية شظايا قلوب محترقة الحلقة السادسة والخمسون
صباح اليوم التالي، فتحت الجميلة عينيها، لتجدَ نفسها محاصرة بين جسده، تسلَّلت بهدوء إلى أن نزلت من فوقِ السرير، ثمَّ اتَّجهت إلى مرحاضها لفترةٍ ثمَّ خرجت تتسحَّبُ بهدوءٍ حتى لا توقظهُ متَّجهةً إلى غرفةِ طفلها، قابلت غادة بطريقها وهي تحملُ كوبًا من الحليب متَّجهةً إلى غرفة طفلها:
-غادة..توقَّفت مستديرةً إليها:
-صباح الخير ياميرو.
-صباح الورد ياقلبي، رايحة فين باللبن دا؟.
نظرت إلى كوبِ اللبن ثمَّ إليها وأخبرتها:
-يوسف عايز يشرب لبن، فطَّرته، وقالِّي عايز يشرب لبن.
-يوسف مين؟..تساءلت بها ميرال باستغراب..
-أجابتها بابتسامةٍ وهي تتحرَّكُ متَّجهةً إلى غرفةِ الصغير:
-عندنا كام يوسف بس ياميرو، توقَّفت تغمزُ لها:
-شكل يوسف الكبير واكل العقل والقلب..
تحرَّكت بجوارها وردَّت قائلة:
-لا ياقلبي، أنا عندي يوسف واحد بس، التاني إلياس، دا ومش هغيَّره..
-يا مسيطر إنتَ يامسيطر، قولتيلي إيه رفض يغيَّر الاسم؟. وأنا اللي مفكَّرة علشان بابا ميزعلش.
لكزتها ودلفت إلى صغيرها، توقَّفت الاثنتين تنظرانِ بذهولٍ للَّذي يفعله، اقتربت غادة منهُ كالمجنونة:
-أوعى تقولِّي دا تليفوني، واللهِ هضربك يابنِ إلياس..
هبَّ من مكانهِ يختبئُ خلف والدته..
ارتفعت ضحكاتُ ميرال وهي تحاوطُ طفلها حتى لا تصلَ يدها إليه:
-خلاص بقى ياغادة، مانتي عارفة أنُّه مهوس بفكِّ الحاجات دي، هبلة هو بيشرب اللبن اصلًا
-ابنك ضحك عليَّا ياميرال، قالِّي عايز أشرب لبن، علشان يستفرد بالتليفون.
-إيه يستفرد دي يابنتي، الملافظ سعد..
-دا أنا هخلِّي أبوك ينفخك، واللهِ لأروح له وأشكي له، ومش بس كدا يجبلي تليفون تاني..
قالتها وخرجت تأكلُ الأرضَ بخطواتها النارية، رفع رأسهِ إلى والدته:
-هيَّ زعلانة ليه، وبابا ممكن يضربني؟..أنا كنت عايز أشوف ليه الكاميرا دي مش زي دي..
ضمَّت طفلها تربتُ على ظهرهِ ثمَّ قالت:
-مش إحنا اتكلِّمنا كتير في الموضوع دا، طيِّب المرَّة اللي فاتت بابا سامحك ومتكلمش، ليه تبوَّظ فون عمِّتو كدا؟..
-واللهِ يامامي أنا كنت بكتشف اللي جوَّاه بس.
-يووووسف إحنا قولنا إيه، بلاش نلعب في حاجات غالية بالشكلِ دا.
سحبت كفَّيهِ وأجلستهُ ثمَّ جلست أمامه:
-ممكن توعد مامي متعملشِ حاجة من غير ماترجع لي.
-أوعدك يامامي..صمت ثمَّ تساءل:
-هوَّ كدا بابي ممكن يضربني؟.
قبَّلت وجنتيهِ ومسَّدت خصلاته:
-لا ياحبيبي، هوَّ ممكن يزعل، بس بابي ميضربش يوسف علشان هوَّ عارف نية يوسف كويس، المهم إنتَ لسة تعبان وفين النانا؟..
-النانا نزلت لنانا فريدة بعتت لها.
-طيب قوم غيَّر هدومك علشان ننزل الجنينة نلعب شوية، ونتمرَّن، إيه نسيت حفلة المدرسة.
-يااااس..قالها وركض إلى غرفةِ ملابسه..
بغرفةِ إلياس..
دفعت غادة الباب وصاحت بصوتٍ مرتفع:
-إلياس قوم شوف ابنك عمل إيه في تليفوني، عايزة تليفون حالًا.
تململَ بنومهِ على صوتِ غادة، وشعر أنَّه يحلم، فذهب بنومهِ مرَّةً أخرى ولكنَّها اقتربت من فراشه:
-إلياس..صرخت وهي تنظرُ إلى هاتفها بحسرة..
هبَّ من نومهِ فزعًا، ظنًّا أنَّ طفلهِ أصابه مكروه، خاصَّةً حينما لم يجد ميرال بجواره، ودخولِ غادة بتلك الطريقة:
-فيه إيه؟..تساءل بها بتقطُّع وقلبهِ ينبضُ بعنف..ألقت الهاتف ليسقطَ فوق الفراشِ أمامه ، تشير إليه قائلةً بغضبٍ وارتفاعِ أنفاسها:
– شوف ابنك اللي فاكر نفسه ماركوس برانولي..
توقَّف إلياس لحظة، يستمعُ إلى كلماتها، زفر ببطء، يحاولُ طرد اختناقه…لحظات من الصمت خيَّمت على المكان، زادت من غضبِ غادة التي صرخت داخليًا من هدوئهِ المستفز، فاقتربت منه مجدَّدًا:
– إلياس، بقولَّك يوسف بوَّظ الموبايل بتاعي، و…
رفع رأسهِ فجأة، يحدجها بنظراتٍ لو كانت تقتل، لما بقيَ منها أثر..ابتعد بنظرهِ ومرَّر كفِّهِ على وجهه، يحاولُ تهدئةَ غضبه الذي كاد أن ينفجرَ بها:
– اطلعي برَّة.
قالها بهدوءٍ متكلِّف، رغم النار المشتعلةِ في صدره..فيه بنت محترمة تدخل بالطريقة دي، وإيه الهبل اللي بتقوليه دا!!
– إلياس..!
صرخ بها لأوَّل مرَّة:
– اطلعي برَّة..واتعلِّمي الاحترام
يامحترمة، إزاي تدخلي عليَّا وأنا نايم بالشكلِ ده؟ شكلك نسيتي نفسك..
صاح بها بانفجار، ووجههِ تحوّل إلى كتلةِ لهب، تذكَّر دخولها عليه وهو لا يرتدي سوى “شورت” قصير، فهاج غضبهِ أكثر.
-برررررة..قالها يشير إلى الباب
تحجَّرت الدموعُ في عينيها، وركضت خارجةً بسرعةٍ نحو غرفتها..
أمَّا هو، فحاول ألَّا يضعفَ أمام دموعها، دفع الغطاءَ عن جسدهِ بقسوة، ونهض متوجِّهًا إلى الحمَّام..
توقَّف أمام المرآة، أنفاسهِ تتسارع، وقلبهِ يصفعهُ بقوَّة..كيف تعاملَ معها بتلك القسوة؟ لكن كلَّما تذكَّر دخولها عليه بتلك الطريقة، عاد صدرهِ يشتعلُ كأنَّ نيرانهِ ستحرقُ كلَّ ماأمامه..
بعد عدَّةِ أيام..
كانت تجلسُ بحديقةِ الفيلا، أسرع إليها يوسف وهو يحملُ هاتفًا من أحدثِ الماركات، اقترب وقبَّلها على وجنتيها:
-آسف عمِّتو، دا تليفون، بابي جابه لحضرتك.
استدارت تبحثُ عنه ولكن خيَّب آمالها، سحبت يوسف إلى أن جلس أمامها:
-مش زعلانة منَّك، المهم جهَّزت نفسك لحفلة بكرة؟.
رفع الطفلُ يدهِ بسعادة:
-أه..ادرَّبت كتير مع بابي، وكمان عمُّو أرسلان، عملنا Acting rehearsal
-rehearsal..رددتها
هزَّ رأسهِ وقال:
-أيوة عملنا بروفة وبابي كمان كان معانا..قبَّلت رأسه:
-أنا واثقة فيك ياحبيبي، وبدل بابي وعمُّو درَّبوك يبقى هتبقى أفضل actor في المسرحية، عايزة اشوف صلاح الدين
-لسة زعلانة؟.
ضمَّته لأحضانها، تهزُّ رأسها بالنفي، وترقرقت دموعها حزنًا من معاملةِ إلياس الجافَّة لها، فمنذ يومين لا تراهُ ولم يهاتفها، هل هي بالفعل أخطأت، كيف تخطئُ وهي التي اعتبرته أخًا..
-يوسف..نادت بها المربية، ليركضَ إليها بعدما قال:
-باي ياعمِّتو، هنخرج..
أومأت له دون حديث وأطلقت لدموعها العنان في صمت، شعرت بجلوسِ أحدهم بجوارها استدارت سريعا تنظرُ إليه..زفر باختناقٍ وقال:
-تعرفي مكنتش ناوي أكلِّمك، طول عمرك عاقلة، بس بقالك فترة مش عجباني، بقول يمكن الفراغ، بس إنتي آخر سنة يعني المفروض تكوني اعقل من كدا
دموع فقط كانت تنسابُ على وجنتيها، ورغم دموعها قال:
-غلِّطي ولَّا لأ ياغادة؟.
-معرفشِ ياإلياس ليه مكبَّر الموضوع، أنا كنت مضايقة على اللي حصل، إنتَ عارف التليفون دا هدية بابا وغالي عليَّا جدًا، بس إنتَ عملت إيه..طردتني من أوضتك، عمرك ماعملتها، اتغيَّرت أوي..
التفت اليها وتعمَّق بالنظرِ لعينيها الدامعة:
-غلطي ولَّا لأ يابنتِ اللواء مصطفى السيوفي؟.
شهقة أخرجتها تهزُّ رأسها بالإيجاب:
-أه غلطت، بس دا من ضيقي..
-حاجة تافهة زي دي تدخلي عليَّا بالشكلِ دا!!
-حاجة تافهة ياإلياس!..شايف دا تافه؟!..
-أه..مالوش غير كدا، اقعدي مع نفسك وشوفي غلطك وصل لحدِّ فين..
قالها ونهض من مكانهِ ثمَّ أشار إلى الهاتف:
-التليفون دا اعتبريه من يوسف، عوضًا على اللي بوَّظه، والتليفون التاني بعتُّه الشركة بتاعته وهيصلَّحوه وخلال أيام هيرجعلك، مش تليفون اللي ينسيكي الأدب والاحترام ياأستاذة غادة..
قالها وانسحب دون الالتفاتِ إليها.
بعد عدَّةِ ساعات دلفت إلى غرفةِ ميرال بعدما أرسلت الخادمة إليها:
-دودي إيه رأيك في الفستان دا؟..
تعالي شوفيه، جبته علشان أحضر بيه حفل افتتاح معرض يزن الجديد..
صمتت ولم ترد عليها، مازال الحزنُ مخيَّمًا على وجهها..اقتربت منها ورفعت ذقنها:
-إنتي معيطة؟!..هزَّت رأسها بالنفي:
-لا..مخنوقة شوية، حلو الفستان، وهيكون عليكي قمر.
مسحت دموعها وقبَّلتها:
-عارفة انشغلت عليكي، بس والله مانسيت موضوعك، وكلَّمت أرسلان وهوَّ قالي هيكلِّم رحيل، محبتش أدخَّل علشان يزن وكدا، أرسلان أحسن منِّي ومن إلياس، وكمان الشركة هتنفعك، ورحيل نشيطة جدًا.
-وافقت يعني؟.
أومأت لها وقالت:
-أه بكرة هتروحي تعملي مقابلة في الشغل، وتشوفي الدنيا خلال فترة الدراسة، عجبتك كان بها..معجبتش، شوفي غيرها..ارتفع رنينُ الهاتفِ فرفعته:
-أيوة ياأرسلان.
-اتكلِّمت مع طارق هوَّ اللي مستلم الشغل حاليًا، بكرة تروح وخلِّيها تتواصل معايا.
-أوكيه، شكرًا ياأرسو..قالتها ميرال وهي تنظرُ إلى غادة:
-كلَّمته قبل ماتيجي، علشان أتأكِّد منُّه برضو، رحيل الأيام دي مهتمة بولادها وطارق مستلم الشغل، بس هيَّ بتروح مش كتير..
-يعني المقابلة هتكون مع طارق؟.
-أيوة..رتِّبي نفسك وعرَّفي بابا مصطفى وأهو تدريب من جهة وخبرة، ومن جهة تانية تسلِّي نفسك.
-شكرًا ميرال.
– حبيبتي مفيش شكر بينا.
بشركةِ العامري كانت منشغلة بجهازها، دلف إليها، رفعت نظرها حينما شعرت بدخولِ أحدهم، تراجعت على المقعد تنتظرُ حديثه:
-طارق فين سألت عنُّه قالوا مش موجود.
-في شرم هيرجع بالليل
جلس بمقابلتها ونقر بأناملهِ على المكتب، ثمَّ رفع رأسه إليها و قال:
-هننقل بكرة أو بعده في بيت جديد، عايز ألم أخواتي فيه مع بعض، البيت دا هيكون قريب من الشركة، جيت لك علشان نعدِّي عليه وتشوفيه، لو محتاجة حاجة معينة تتعمل فيه قبل ماننقل.
-لا والله..دا بجد ولَّا إيه؟!.
-رحيل ممكن نهدى شوية، إيه رأيك نعمل هدنة بينا.
توقَّفت من مكانها واستدارت تجلسُ بمقابلته:
-هوَّ أنا عاملة حرب، غلطان ياسيادة المهندس، أنا في حالي، وزي ماإنتَ قولت مضطرِّين نقبل بعض علشان ولادنا.
-رحيل..نهضت من مكانها:
-عندي شغل ومش فاضية..ممكن تمشي دلوقتي وبعدين نتكلِّم، وبالنسبة للبيت مش فارق معايا أي مكان، المهم بيئة كويسة لولادي..
توقَّف واقترب يقبضُ على ذراعها وتحدَّث بنبرةٍ حادة:
-أنا خلقي ضيِّق وعلى أخري، اتعاملي معايا على إنِّي جوزك..
نفضت ذراعها بقوَّة وفتحت فاهها للتحدُّث إلَّا أن قاطعهم طرقًا على بابِ المكتب:
-أستاذة رحيل الاجتماع جاهز.
سحبت هاتفها وتحرَّكت دون أن تلتفتَ إليه..ظلَّ يراقبُ تحرُّكها إلى أن أغلقت الباب خلفها، اتَّجه إلى مقعدها وجلس على جهازها وبدأ يقلِّبُ به، مرَّت فترة وهو مازال بمكانهِ ثمَّ تحرَّك للخارج.
عند إسلام..
توقَّف أمام كليَّتها الخاصة، بعد انتهاء حفل يوسف، ظل بمكانه يراقب بوابة الكلية إلى أن خرجت وجدتهُ يقفُ مستندًا على سيارته، تحرَّكت إليه بهدوء رغم حزنها منه..وصلت إليه تتلفَّتُ حولها ثمَّ تساءلت:
-فين غادة..!!
فتح باب السيارة وأجابها:
-غادة معندهاش كلية النهاردة..اركبي أنا اتكلِّمت مع أرسلان وعرَّفته إنِّك هتخرجي معايا.
هزَّت كتفها للأعلى وردَّت:
-بس أنا مش عايزة أخرج، تعبانة وعايزة أرجع على البيت.
سحبها من كفَّها وساعدها على الصعود، ثمَّ استدار إلى القيادة، تحرَّك إلى وجهته، صمتًا دام بالسيارة وهي تنظرُ للخارج..توقَّف، وتنهَّد قائلًا:
-معرفش إنتي زعلانة ليه، طيب ممكن أعرف إيه فايدة خروجك مع صحابك؟.
-عايزة أروح ياإسلام، تعبانة كنت سهرانة طول الليل بذاكر وماليش مزاج..
-ملك متفكريش لمَّا تعملي كدا هغيَّر رأيي، أنا مش حابب موضوع خروجك مع صحباتك، طيب غادة مابتخرجش مع صحباتها، لمَّا تحب تخرج بتخرج هيَّ وميرال..
التفتت إليه وهتفت بنبرةٍ حادَّة:
-إسلام اسمعني، أنا لمَّا كلَّمتك علشان أستأذنك دا احترام للعلاقة اللي بينا، بس دا ميمنعش إنَّك متحكمش أعمل إيه، أنا لسة عند بابا، دي حاجة..الحاجة اللي المفروض تاخد بالك منها، أنا ملك الجارحي يعني محبش اللي يضغط عليَّا ويفرض رأيه..
-أفهم من كدا إيه؟..
-إسلام لو سمحت عايزة أروح.
أوكيه..قالها وشغَّل السيارة متَّجهًا إلى فيلا الجارحي..
بمنزلِ إسحاق..
كانوا يجلسون يتناولونَ الطعام بجوٍّ من الفرحة، وضحكاتِ الأطفال حولهم..
تحدَّث إسحاق:
-يعني عايز تقدِّم لبلال British International Modern
أومأ له بالموافقة ثمَّ قال:
-أه بحثت كويس والمدرسة تمام، وعجبني فيها كذا حاجة، بس غرام مش موافقة.
اتَّجه بنظرهِ إلى غرام متسائلًا:
-ليه، المدرسة حلوة على فكرة، وكمان منهج تعليمي ممتاز، أنا شايف حمزة استفاد منها في كذا حاجة.
-الاختلاف مش على المدرسة ياعمُّو، أنا عايزة ولادي يكونوا في جو متفاهم
غير طبعًا قواعد التربية الإسلامية، بقول نشوف مدرسة كويسة عربي أو لغات بس أهم حاجة الجانب الديني والثقافي يكون موجود، أنا عارفة مدرسة حمزة بيرفكت، بس برضو مفيهاش أي أنشطة دينية، يعني تقدر تقولِّي حضرتك ليه دايمًا بيهتمُّوا بالمناهج الحديثة، ونسيوا أصلًا أهمها القيم والأخلاق؟..
-غرام..أوقفها أرسلان وهو ينظر إلى إسحاق:
-هيَّ كل اللي تقصده عايزة بلال يدخل مدرسة عربي، رافضة أي مدرسة لغات..
-لا ياأرسلان، مش دا قصدي على فكرة..
أهم حاجة عندي مش عايزة ابني يفقد هوية اللغة العربية، وقبل دا كلُّه يعرف دينه..على فكرة السن الصغير تعرف تبني فيه قيم وأخلاق، وإنتَ كنت معارض إلياس على دخول يوسف مدرسة عربي، رغم أنُّه عجبني طريقته..
قال المدرسة يتعلِّم فيها الأساسيات وأنا هضفله اللغات..
ردَّ أرسلان معترضًا:
-بس يوسف دخل لغات حبيبتي، مش عربي.
تنهَّدت وقالت:
-دا لمَّا عمُّو مصطفى تدخَّل بنفسه، مع إن أنا شايفة فكرة إلياس كويسة، فكَّر معايا السن الصغير دا، إيه لازمة اللغات الكتيرة دي في بلد عربي، هتقولِّي أساسيات، سوري بقى هقولَّك عبث، إيه الأساسيات في سن من خمس سنين لتناشر أو تلاتشر سنة يعرف فرنسي وألماني وإيطالي، إيه الفايدة، علشان أفرح بابني أنُّه عارف لغات كتيرة، في وقت كان المفروض يعرف إن رمضان شهر الصوم، الصلاة في أوقاتها..
حقيقي أنا مش موافقة على المدارس اللي بالشكلِ دا…عندنا مدارس عربي كتيرة في منتهى الخبرة، وإزاي بيقدِّموا منهج تقييمي، عايزة أعلِّم ابني لغات في سن يكون محتاج أنُّه يضيف لغة يُستفاد بيها، مش أزخم عقله بأساسيات مالهاش لازمة..
توقَّفت قائلة:
-آسفة ممكن يكون انفعلت شوية، بس حقيقي الموضوع دا تعبني أوي، لأنُّه متوقِّف على حياة ولادي، آسفة حقيقي عمُّو إسحاق، أنا بقول مجرَّد رأي واللي عايزه أرسلان أكيد هوَّ اللي هيحصل..
أشارت إلى الطعام وقالت:
-كمِّلوا أكل، وأنا هعملُّكم القهوة، بعد إذنِ دينا طبعًا.
نهضت دينا وابتسمت:
-أنا شبعت، وهاجي معاكي.
صمتًا دام للحظاتٍ على طاولةِ الطعام إلى أن قطعهُ إسحاق:
-عجبني كلامها جدًا على فكرة، حاول تتفاهم معاها، هيَّ من حقَّها تشوف المناسب لأولادها.
-إن شاءالله..قالها ونهض قائلًا:
-شبعت الحمدُ لله هستناك في البلكون..
مرَّت فترة وهم يتحادثون في مختلفِ المواضيع إلى أن قاطعه:
-أنا اتكلِّمت مع إلياس علشان الكمبوند، هوَّ قال بابا هيرفض، مضحكش عليك، حسِّيت أنُّه هوَّ اللي رافض، بعد كام يوم كلِّمني وقال خلاص..
المشكلة هنا في فاروق مستحيل يوافق، روحه في القصر، مستحيل يبعد عنُّه..
-طيب ماحضرتك ياعمُّو، ليك حق في القصر، مش هيصعب عليك..
ابتسم وتذكَّر طفولتهِ ثمَّ أجابه:
-لا..أنا مش مرتبط بيه أوي، إنتَ عارف شغلنا كان معظم الوقت برَّة، وأنا مكنتش حابب القصر من وأنا صغير، صمت يتذكَّرُ حديثَ والدته، ومشاهدَ عابرة أمام عينيهِ ثمَّ أردف:
-مش فارق معايا القصر، المهم ححاول أتكلِّم مع فاروق.
عند غادة..
هرولت سريعًا لتلحقَ المصعدَ قبل صعوده، أوقفتها إحدى العاملات:
-الأسانسير دا خاص بالمدير وصاحب الشركة ياأستاذة.
قطبت جبينها وأشارت على نفسها بثقة:
-اعتبريني صاحبة الشركة، وسَّعي كدا خُلقي ضيَّق، متعرفيش أنا مين؟.
أوقفتها السكرتيرة:
-لو سمحتي ياأستاذة، شكلك لسة جديدة في الشغل..
جزَّت على أسنانها واستدارت ترفعُ هاتفها تتحدَّث مع أرسلان بصوتٍ مرتفع:
-دا الشغل اللي هشتغل فيه ملكة؟!.. طردوني من على الباب..
توقَّف معتذرًا من عمِّهِ محاولًا استيعاب مانطقته، ثمَّ سألها:
-إنتي فين دلوقتي؟!
نظرت حولها إلى أن وقعت عيناها على اسمِ الشركة وقالت :
-في الشركة اللي حضرتك قولت عليها..
قالتها واستدارت للمغادرة ومازالت تتحدَّث:
-خلاص قفلت من الشركة دي ومستحيل أشتغل فيها، قال المدير ليه أسانسير لوحده..
-طيب ياغادة فهِّميني إيه اللي حصل؟..
-أرسلان خلاص انسى، مش هشتغل.
-يابنتي اهدي، خلِّيكي زي ماإنتي، وأنا هتصرَّف..قالها وأغلقَ الهاتف وقام الاتصالَ بطارق:
-طارق إنتَ في الشركة؟.
كان متَّجهًا إلى غرفةِ الاجتماعات، فتوقَّف قائلًا:
-أيوة..عندي اجتماع بعد عشر دقايق، فيه حاجة؟.
-آسف ياطارق، غادة السيوفي تحت، وشكل حد من الموظفين ضايقها، وهيَّ بنت رقيقة، مالهاش في الكلام الناشف، لو هتعبك كلًِّم السكارترية يوصُّولوها لمكتبك، وزي ماقولت لك البنتِ شاطرة بس هيَّ كيوتي ومالهاش في المعاملة الجافة..
-تمام ياأرسلان، هتولَّى الأمر بنفسي، لو الأفضل كانت ميرال كلِّمتني، مالوش لازمة إنَّك تتوسَّط لها.
-لا يابني مش اللي في دماغك، إحنا مش عايزين ضغط على رحيل..علشان يزن بس، فهمت؟.
-تمام …بالأسفل عند غادة توقَّفت للحظات مثلما قال أرسلان، استمعت إلى إحدى العاملات خلفها:
-إنتي غادة السيوفي؟.
استدارت ترمقها ببرود، إنَّها نفس الفتاة التي منعتها من الصعود.
-أيوة..أشارت الفتاة إليها:
-مستر طارق منتظرك في المكتب.
تحرَّكت بجوارها متَّجهةً إلى المصعد، فلوت شفتيها بابتسامةٍ ساخرة:
-مش دا بتاع المدير؟.
لم ترد عليها الفتاة وتحرَّكت دون حديث، دقيقة وكانت بداخلِ مكتب طارق، الذي يتحدَّثُ بهاتفه، أشار إليها بالجلوس وتابعَ حديثهِ إلى أن انتهى من المكالمة:
-أهلًا أستاذة غادة.
-أهلًا بحضرتك…استدعى السكرتارية الخاصَّة به وطلب منها:
-هتاخدي أستاذة غادة مكتب أستاذ علام، وهوَّ عارف هيعمل إيه.
-حاضر يافندم..أشارت إليها الفتاة:
-اتفضلي أستاذة غادة…اتَّجهت بنظرها إليه:
-هوَّ أنا هشتغل إيه؟.. أنا حاسبات ومعلومات..
نصب عودهِ وحمل هاتفهِ متَّجهًا إلى غرفةِ الاجتماعات وهو يتحدَّث إليها:
-هتشتغلي في الحسابات، أستاذ علام عارف هيعمل إيه..
-يعني أستاذ علام عارف وأنا اللي هشتغل معرفش؟!.
توقَّف فجأةً يرمقها بابتسامةٍ على طريقةِ ردِّها الغاضبة:
-لأنُّه هوَّ المسؤول على قسم الحسابات، أكيد مش هروح أجيب موظف الأمن يقولِّك هتعملي إيه، وهوَّ اللي حيعرَّفك هتشتغلي إيه..كدا كويس؟..بعد إذنِ الأستاذة تدخل لأستاذ علام وبعد كدا نشوف الشغل هيعجبها ولَّا لأ..
توسَّعت عيناها بغضبٍ من ردِّهِ الساخر، جزَّت على أسنانها وهي تراقبهُ بنظراتها الحادَّة وهو يتحرَّكُ متَّجهًا إلى غرفةِ الاجتماعات..
مرَّت عدَّةُ أيامٍ على عملها في الشركة، شعرت بالتوافق أحيانًا بينها وبين وظيفتها، ولكن أحيانًا كانت تشعرُ بالغضبِ من طريقةِ طارق الباردة وأسلوبهِ الفظ..
صباحَ يومٍ جديدٍ دلفت إلى مكتب رحيل التي استدعتها:
-مبروك الشغل ياغادة، سعيدة بوجودك، يالَّه خلَّصي السنة دي واعتبري نفسك صاحبة المكان.
ضحكت بصوتٍ مرتفعٍ تشير إلى مكتبِ رحيل:
-صاحبة المكان مرَّة واحدة، لا وحياتك بلاش أنا بزق نفسي بالعافية علشان الشغل..
أشارت إليها بالجلوس ثمَّ تساءلت:
-قوليلي مرتاحة ولَّا لأ..فيه حد مضايقك؟.
-أه..قالتها سريعًا، لتنظر إليها رحيل بجبينٍ مقطَّب:
-مين اللي مضايقك؟.
-أخو جوزك، هذا الكائن لوح تلج ماشي على الأرض.
قهقهت رحيل وتوقَّفت متَّجهةً تجلس بالمقعدِ الذي يقابلها:
-قصدك طارق؟.
هزَّت رأسها ومازالت ابتسامتها تنيرُ وجهها:
-بالعكس طارق شخص كويس جدًا.
-لا بس مش زي يزن خالص، أينعم يزن أوقات بحسُّه شخص جد، بس مش بارد زي الكائن دا.
هنا تذكَّرت قاهرَ قلبها، فتنهَّدت بألمٍ يحرقُ روحها وحاولت رسمَ ابتسامة، إلَّا أنَّ غادة التقطت حزنها:
-أنا عارفة المشاكل اللي بينك وبين يزن، ممكن أقول رأيي ولَّا حتزعلي؟.
صمتت رحيل تهزُّ رأسها بالموافقة:
-إنتي غلطانة أكيد، لازم الدنيا تهدى بينكم علشان يزن شخص يستاهل بجد، أنا طبعًا مش هقولِّك هوَّ قدِّ إيه شخص عصامي وراجل، أنا سمعت عنُّه كتير من ماما وميرال، غير طبعًا زيارته لينا وكلام إلياس وإسلام، وأنا واثقة في أخواتي، عمرهم ماهيقولوا على واحد راجل إلَّا هوَّ فعلًا راجل، الغلط حصل وخلاص، يبقى ليه نضيَّع أوقات حلوة نعاتب بعض على الغلط دا!!.
آسفة حقيقي يارحيل، بس أنا بعتبرك زي ميرال، يزن شخص كويس حاولي تصفُّوا اللي بينكم.
كان يقفُ لدى الباب فاستمعَ إلى حديثها مع رحيل، تراجعَ إلى مكتبه، وجلس يفكِّر بتلك الفتاة التي لم تتجاوز الخمسةَ وعشرين عامًا ولكن حديثها يسبقُ عمرها، هنا تذكَّر ميرال ورؤى، نعم نفس التفكير بالمنطق، هل هذا لأنَّهم تربُّوا داخل أسرة سوية، أم هناك عامل مشترك بينهم بقربهم لشخصٍ مثل إلياس..مسح على وجههِ بدخولِ السكرتيرة:
-مستر طارق، مواعيد النهاردة.
أشار إليها أن تضعهم على مكتبه، وضعتهم وخرجت مع ارتفاعِ رنينِ هاتفه:
-طارق هات رحيل على البيت الجديد، إحنا هناك، وهنبات فيه..
-تمام..عند رحيل ظلَّت تفكِّر بما ألقته عليها غادة إلى أن ارتفعَ رنينُ هاتفها:
-أيوة؟.
-رحيل يبقى شوفي الفينال بتاع مشروع العربيات اللي بعته يزن، وشيِّكي عليه، وخلِّي بالك المشروع دا مهم أوي، وأنا شايف فكرته حلوة مع المهندسة يارا.
-أه المهندسة يارا، هيَّ اللي عملت التصميم دا مش كدا؟.
-أكيد هي، ماهو جوزك مش مهندس الكترونيات، أنا شايف البنت شغلها حلو، وزي ماشوفتيها في الاجتماع لبقة وشاطرة جدًا، وأفكارها رائعة، يزن بيقولِّي المشروع دا أخد منها تصميم تلات شهور، تخيَّلي بقى يكون إزاي بالدقَّة والمهارة دي.
-تمام ياطارق، والاجتماع بتاع المهندسة العبقرية دي إمتى، وهل يزن باشا لازم يكون موجود؟.
-الاجتماع بالليل، أه يزن لازم يكون موجود، إنتي ناسية نسبته في الشركة؟.
-خلاص..قالتها وأغلقت الهاتف وهي تتآكلُ من الغضب ..نهضت من مكانها ودارت حول نفسها بغضب، بدخول غادة:
-أستاذ علام بعتلك الملف دا، وبيقولِّك شوفي أرقام آخر مشروع وقارنيه بالميزانية..
توقَّفت غادة عن الحديث بعدما وجدت حالتها المنهارة:
-في حاجة؟..هزَّت رأسها بالنفي وقالت:
-حطِّي الملف عندك..أومأت وهمَّت بالمغادرة إلَّا أن أوقفتها رحيل:
-غادة..
التفت اليها تنتظرُ حديثها، لتقتربَ منها رحيل:
-طالبة منِّك خدمة، بس ..توقَّفت ثمَّ قالت:
-هيَّ مش خدمة قد ماهوَّ وجع دماغ..
قطبت غادة جبينها لتقصَّ لها رحيل مايدورُ بذهنها..
-طيب أنا هاخده بصفتي إيه؟.. أنا هنا شغَّالة محاسبة، ودا ورق تصميم، وبعدين حسَّاه إهدار لتعب وجهد مهما اختلفنا..
-غادة البنتِ دي مش طيقاها، ولا عايزة تشتغل عندي، وإنتي فاهمة قصدي إيه..
-حاضر..اتصرَّفي وربِّنا يستر، بس عندي اقتراح اعمليه قبل ماتتصرَّفي..
بعد عدَّةِ ساعاتٍ على طاولةِ الاجتماعات:
-يعني إيه ياطارق مشروع زي دا يكون مع موظفة لسة مكملتش شهر؟..لا وكمان تحت التدريب.
-ممكن الباشهندس يهدى، إحنا في اجتماع، وزي ماحضرتك قولت، مكنتشِ تعرف، أنا بعت المشروع علشان تعمل دراسة مالية، مش دا تخصُّصها ياأستاذ علام؟.
-أيوة فعلا أستاذة رحيل بتقول اللي حصل، وهيَّ من الصبح شغالة عليه، وأنا أتحمِّل جزء من المسؤولية، مكنتش واخد بالي والقهوة وقعت منِّي أنا..
شعرت يارا بأنَّ أحدهم سكب فوق رأسها كوبًا من الماءِ المثلج، التفتت إلى يزن بعيونٍ دامعة:
-شغل تلات شهور ضاع، دي ثقتي فيك ياباشمهندس!!.
توقَّفت رحيل تجمعُ أشياءها قبل أن تطبقُ على عنقها وقالت:
-بدل المشروع اتحرق مع القهوة، يبقى الاجتماع مالوش لازمة..رمقت يزن بنظرةٍ ساخرة:
-إيه يازوجي الحنون مش هنمشي ولَّا هنقعد نبكي على الورق المدلوق عليه قهوة..قالتها وخطت للخارج بخطواتٍ أنثويةٍ سعيدة بما حقَّقته، ليهبَّ يزن خلفها يشيرُ إلى طارق:
-خلِّي حد يوصَّل الباشمهندسة يارا..
بينما عند رحيل صعدت إلى سيارتها متَّجهةً إلى منزلها وهي تدندنُ مع أغنيتها..
بسيارةِ يزن توقَّف على رنينِ هاتفه:
-يزن عدِّي عليَّا، محتاجاك في موضوع ضروري.
-حاضر ياميرال…
بغرفةِ ميرال قصَّت لها غادة ماصار، ظلَّت تضحكُ على مافعلته، واتَّجهت إلى الأسفل:
-طيب تعالي ماما فريدة مجمَّعة الكل، أرسلان تحت، وكمان يزن جاي في الطريق..
-رحيل جاية معاه؟..أنا خايفة يكون عرف وينفخني.
-لا متخافيش، إنتي هنا وسط أخواتك، الصراحة أنا مضمنشِ يزن هيعمل إيه، بحثت عن هاتفها فأشارت إلى الأعلى:
هطلع أشوف الفون فين، شكلي نسيته عند يوسف ودا كارثة متحرِّكة..
قالتها راكضةً إلى غرفةِ يوسف، بينما هبطت ميرال إلى التجمُّع بدخولِ يزن
ملقيًا السلام..
أشارت إليه فريدة:
-اإيه يابني متجيش غير لمَّا نبعت لك؟..
انحنى يقبِّلُ رأسها:
-آسف شغل والله، بنقل بيت جديد..جلس يبحثُ عن غادة بعينيهِ ثمَّ تساءل:
-هيَّ غادة فين؟.
رفع إلياس رأسهِ من فوق هاتفهِ وتساءل:
-بتسأل عن غادة ليه؟.
حمحم وقال:
-عايز أسألها عن حاجة في الشغل بس، مالك اتخضِّيت ليه، هوَّ عمُّو مصطفى مش موجود ولَّا إيه؟.
-لا بابا في اسكندرية، له صديق مريض.
-ألف سلامة..
-تعالَ يايزن جنبي عايزة أتكلِّم معاك شوية..
قالتها فريدة لينهضَ أرسلان قائلًا:
-هشوف الولاد فين..
بينما تحرَّكت ميرال وغرام إلى المسبح..
تابعتهُ فريدة ثمَّ قالت:
-مجبتش رحيل معاك ليه؟.
-ميرال قالتلي أعدِّي لأنَّها عايزاني في موضوع، مقلتش حاجة تانية..
-طيب حبيبي الدنيا هديت ولَّا لسة زي ماأنتوا؟..
رسم ابتسامةً وهزَّ رأسه:
-أه الحمدُ لله، كلِّنا بنمر بأوقات صعبة وبنعدِّيها، التفت إلى إلياس الذي يتابعُ الحديثَ بصمتٍ ثمَّ قال:
-منكرشِ الموضوع كان صعب في الأوَّل، لكن كلِّ حاجة ربِّنا مسيَّرها بقدره.
-ونعمَ بالله ياحبيبي..المهم حاول تجبها لو مرَّة واحدة في الأسبوع، خلِّيها تقرَّب من البنات، واعذرها حبيبي، أنا سبتها علشان تهدا، وزي ما إلياس أقنعني، حياتك الخاصَّة ومحدش له أنُّه يتدخَّل..
هزَّ رأسهِ دون تعليق، لمح بعينيهِ تحرُّك غادة إلى ميرال وغرام، ظلَّ يراقبُ تحرُّكها إلى أن قال إلياس:
-إيه رأيك تنضم للكمبوند اللي بيقول عليه إسحاق الجارحي، وأهو نكون قريبين من بعض..
ضيَّقت فريدة عيناها متسائلة:
-كمبوند إيه؟.
قصَّ لها إلياس مااقترحه إسحاق، بوصولِ إسلام وأرسلان..
-يعني إيه مش فاهمة..وباباك وافق يسيب الفيلا هنا؟..
-أه وافق..
-بابا قال بدل هنكون كلِّنا في مكان واحد، علشان شايف كلِّ واحد منِّنا في مكان يعني..
-معقول مصطفى وافق يسيب الفيلا دي ويروح مكان تاني؟!..
عند ميرال..
كانت غادة تتحدث معها بعدما تركتهم غرام متجهة نحو ابنائها
-دمُّه تقيل ياميرال وبارد، يخربيت تقلِ دمُّه..قاطعهم وصول يزن يحملُ كاسة من العصير، يتطلَّع إليهم بتساؤل:
-واقفين هنا ليه، ميرو جوزك كان بيسأل عليكي..
هزَّت رأسها ثمَّ همست لغادة:
-اهربي قبل مايزن ينفخك..
قطبت جبينها ترمقُ يزن بصمت، ثمَّ قالت:
-ليه وأنا مالي، يروح يحاسب مراته، عايز يتشطَّر عليَّا، لكزتها بخفَّة وهي تنظرُ إلى يزن الذي يراقبهم بصمت، ثمَّ تحرَّكت ميرال وهي تضحك، فتراجعت مستديرةً إلَّا أنَّه أوقفها:
-استني عندك..
أغمضت عينيها محاولةً الثبات، فاستدرات وهي ترسمُ ابتسامة:
-إلياس قالِّي أتعامل معاك زيَّك زي أرسلان، يعني هعتبرك ابنِ عمي..
إزيَّك يابنِ عمي؟..قالتها مع اقترابهِ منها وقال:
– وأنا برضو هتعامل معاكي على إنِّك أختي الصغيرة..
-إزيك ياأختي الصغيرة؟..
-إنتَ هتستهبل..وصل إليها بخطوةٍ واحدة:
-بت أنا على أخري منِّك.
-وأنا مالي، هيَّ لا هو ، لا هما الاتنين..
أطبق بعنفٍ على ذراعها فانبثقت دمعةً من جفنيها مع وصولِ إسلام يصرخُ به:
-يزن..ابتعد يزن عنها مستغفرًا ربَّه، باقترابِ إسلام من أخته..
دفنت نفسها بأحضانهِ تبكي بصمت،
ربتَ على ظهرها:
-إيه اللي حصل؟..حاول أن يسحبَ أنفاسهِ بهدوء، ولكن كلَّما تذكَّر ما فعلتهُ يشعر بأنَّه يريد أن ينقضَّ عليها،
اقترب من وقوفِ إسلام:
-إنتي مرتاحة يعني لمَّا تبوَّظي شغل لواحدة تلات شهور سهر وتعب وإرهاق، متأكد إنِّك عملتيها بقصد..
-أه عملتها بقصد، قالتها بصوتٍ مرتفع..
أزالت دموعها واقتربت منه:
-تصدَّق بالله أنا غلطانة علشان حاولت أساعدك، بس إنتَ فعلًا متستهلش..
غادة..صرخ بها إلياس الذي وصل على صوتِ صراخهم ثمَّ أشار إليها:
-اعتذري..
نظرت إليه بعيونٍ جاحظة، كيف يطلبُ منها ذلك وهو لا يعلم ماصار، اقترب وأمسكها من ذراعها بقوَّة:
-اعتذري بقولِّك..
رمقت إسلام الصامت بخزي، ثمَّ رفعت عينيها إلى يزن:
-أنا آسفة، يبقى عرَّف حضرة الظابط إنَّك حاولت تضرب أخته، دا لو كنت أخته..قالتها وصعدت سريعًا إلى الأعلى..بتوقُّفِ إلياس ينظرُ إلى يزن بصدمة:
-يعني إيه اللي بتقوله دا؟!..
همَّ بالمغادرة وهو يسبُّ رحيل بداخله، يريدُ أن يصل إليها ويعلِّمها درسًا لا يُنسى، بينما اقتربَ إسلام يربتُ على كتف إلياس:
-أنا عارف قصدك من اعتذار غادة، علشان تمادت مع اللي أكبر منها، بس كان لازم تسمعها الأوَّل، معرفش إيه اللي حصل بس متوقعشِ غادة غلطت ياإلياس..
صعدت ميرال إلى غادة بعدما علمت ماصار، وجدتها شاردة بالشرفة، جلست بجوارها وجذبتها لأحضانها:
-متزعليش من إلياس ويزن حبيبتي، أنا عارفة الاتنين غلطانين، بس الغلط الأكبر عندك، من إمتى ياغادة وإحنا بنكلِّم اللي أكبر منِّنا كدا؟!..
مسحت دموعها وتراجعت بجسدها:
-أنا معترفة إنِّي غلطانة، انسي، أنا ممكن أكون الأيام دي مضغوطة من الكل والشغل علشان كدا بتأثَّر جدًا..
المهم سمعت من ماما فريدة أنكوا هتعيشوا في بيتكم على طول صحيح؟..
أنا مش عايزة تمشوا من هنا ياميرال..
احتضنت وجهها وأزالت دموعها:
-حبيبتي أنا هنا مش هنمشي، وكمان سمعت..قطع حديثهم دخول إسلام ينظر إلى توأمهِ بحزن، اقترب منهما فنهضت ميرال وقالت:
-هروح أشوف يوسف، أكيد بلال مش دلوقتي..
أومأت لها فتحرَّكت بينما جلس إسلام بجوارها:
-عاملة إيه دلوقتي؟..عارف مقصَّر معاكي، بس ضغط شغل وجامعة..
-وملك..قالتها وهي تنظرُ للخارج..
أدار وجهها ينظرُ لمقلتيها:
-مش ملك اللي بعداني عنِّك، وعلى فكرة بقى أنا وملك احتمال كبير نترك بعض.
تطلَّعت إليه بذهول وهتفت بغضب:
-إنتَ بتقول إيه؟!..اتجنِّنت، مش دي ملك اللي كنت هتموت عليها!!
جذبها من أكتافها وضمَّها تحت حنانِ ذراعيهِ وقال:
-مفيش بينا تفاهم ياغادة، أنا دلوقتي فهمت خناقات إلياس وميرال ليه، يمكن ميرال كانت بتحبِّ إلياس وحاولت تتغيَّر علشانه، إنَّما ملك مصرَّة تفضل ملك الجارحي.
-يعني إيه ياإسلام؟..
زفر باختناق وابتعد بنظرهِ عنها قائلًا:
-يعني لسة محتاج شوية وقت علشان أشوف حياتي صح، أنا مش عايز
أتسرَّع.
شهقت غادة تهزِّ رأسها بالرفضِ وقالت:
-بابا مستحيل يوافق، إنتَ كدا بتصغَّره..
توقَّف قائلًا:
-بعدين نتكلِّم في الموضوع دا..المهم اهتمِّي بدراستك علشان متقصريش في الكلية، وحاولي تبعدي عن الخلافات الشخصية، استمعوا الى طرقٍ على الباب، دلفت فريدة تنظرُ إليهما بحزنٍ وقالت:
-ينفع كدا ياغادة؟!! آخر من يعلم باللي بيحصل معاكي..
توقَّفت وتمتمت بنبرةٍ تصرخُ بالألم:
-ماهو حضرتك لو كنتي بتهتمِّي زي الأوَّل كنتي عرفتي..
ابتلعت فريدة ريقها بصعوبة وشعرت بالحزنِ وهي تنظرُ إلى إسلام الذي ابتعدَ قائلًا:
-أنا هنزل لإلياس تحت..
بالأسفل..
كان يجلسُ أمام المسبحِ ينظرُ إليه بحزن، وكلماتِ غادة ترن بأذنه، هل هو بالفعل تسرَّع، وصل إسلام يرمقُ أرسلان الذي يجلسُ يطالعهُ بصمت، فاقتربَ من أرسلان وجلس بجواره:
-إيه اللي حصل؟..
-معرفش، بس اتخانق مع ميرال علشان غادة..
أممم قالها إسلام وهو يهزُّ رأسهِ ثمَّ غمزَ إليه:
-سمعت آخر الأخبار ياأرسو؟.
-لا ماسمعتش..
مش إحنا هننقل في مكان اسمه كمبوند..
ضحك أرسلان وقال:
وهنكتب عليه لافتة:
(كمبوند المخطوفين)
لكزهُ بخفَّة وهو يضحكُ غامزًا:
-لا هنكتب عليه كمبوند اليأس وشركائه، هوَّ أنا ماقولتلكش
لا..ماقولتليش..يالَّه افضح
كان يامكان ياسادة ياكرام، فيه واحد غصبوه على الجواز، حتى العروسة كانت بتناديه اليأس، وكانت بتقول دا يكلبشوه، مش يجوزوه، جوم إيه بقى
ماتقول يابني بالصعيدي
ضحكَ الآخر وقال:
جوم إيه بقى..قالها بضحكاتٍ مرتفعة..إلَّا أنَّ إلياس رمقهم بنظرةٍ حادة وبحثَ عن شيء، ومازالت ضحكاتهم بالارتفاع فقام بخلعِ حذائه وألقاهُ عليهم:
-امشوا من هنا ياأوباش
قهقه إسلام واتَّجه إليه يعانقهُ من الخلف:
-واللهِ ماتتنرفز النرفزة غلط عليك..
دفعهُ إلياس وتوقَّف يشير إلى حذائه:
-هات الجزمة ياجزمة.
دفعها أرسلان بقدمه، ورفع هاتفه:
-ياله امشي حافي علشان أصوَّرك وأعمل ترند..ابتعد إسلام عنه يرفعُ يدهِ إلى أرسلان:
-شوط يابني أنا هنا وإنتَ صوَّر.
-هات الشوز يابغل بدل ماطلَّع غضبي عليك..
باليومِ التالي وصل مصطفى ودلفَ إلى الداخلِ ملقيًا السلام..
هبَّت غادة من مكانها متَّجهةً إليه كالطفلةِ تشعرُ بأنَّها يتيمة ولا أحد يشعرُ بها..كانت فريدة تراقبها بحزن، فمنذ حديثهما بالأمس وهي تشعر أنَّ هناك جدارًا وُضعُ بينهم يصعبُ هدمه..
بينما إلياس الذي شعر بالغضبِ من نفسه، هل تلك طفلتهِ البريئة التي كان يعتبرها ابنتهِ وليست أخته، هل ماحدث جعلَ بينهم محيطاتٍ وبحار؟..
أراد أن يلقِّنها درسًا بأن تفرِّقَ بين الصحِّ والخطأ ولكن استعمل طريقتهِ الخطأ.
ضمَّها مصطفى مع ارتفاعِ بكائها:
-حبيبتي اهدي مالك؟!..ابتعدت عن والدها وقالت:
-آسفة يمكن وحشتني.
توقَّف إلياس ينظرُ إلى ميرال:
-هبات في الشغل، خلِّي بالك من نفسك ومن يوسف، قالها مقتربًا منها، ثمَّ انحنى يهمسُ إليها:
-خلِّيكي مع غادة، واعرفي إيه اللي قلبها كدا؟.
-حاضر…ذهب إلياس وجلس مصطفى يوزِّعُ نظراتهِ على الجميعِ مبتسمًا:
-ليلة واحدة أرجع ألاقي الدنيا كدا!!
بسطت ميرال كفَّها إلى غادة:
-تعالي نتمشَّى شوية يادودي ، بينما التفتَ إسلام لوالدهِ وقال:
-بابا..لسة فيه أخبار جديدة.
التفت إليهِ متسائلًا:
-أخبار جديدة، إيه اللي حصل؟!..
ابتلع ريقهِ ونظر إلى فريدة التي تتطلَّعُ إليهِ بتساؤلٍ تنطقهُ عيناها:
-أنا وملك انفصلنا.
-نعم..صاح بها مصطفى وهبَّ من مكانهِ يشير إلى فريدة بغضب:
-إيه اللي بسمعه دا؟..ارتدى إسلام نظَّارتهِ وحمل حقيبتهِ قائلًا:
-أنا قرَّرت يابابا، مالوش داعي حضرتك تضايق..
توسَّعت عيناهُ ينظر إلى حركةِ ابنه بغضب، وتحدَّث بصوتٍ غاضب:
-بقى الراجل بيكلِّمني علشان نتجمَّع كلِّنا في كمبوند، ليرضي الكلِّ من غير زعل، أنا أكلِّمه وأقولُّه آسفين ابننا طلع عيل..
اقتربت فريدة منهُ وحاولت تهدئته:
-مصطفى ممكن تهدى.
-أهدى، إنتي شايفة بعد اللي ابنك عمله أهدى؟!..دار حول نفسهِ وبدأ يحدِّث نفسه:
-أرُّد على الراجل وأقولُّه آسفين، بدل ماأقولُّه موافقين إنِّنا ننقل الكمبوند..
وصلت ميرال وغادة على صوتِ مصطفى الغاضب:
-اسمعي يافريدة، الواد دا تعقَّليه، مستحيل أوقَّع علاقتي بالجارحي علشان ابني عيِّل؛ وفهِّميه بعد شهر كلِّنا هننقل الكمبوند خلاص مبقاش ينفع كلِّ واحد منِّنا في مكان..وأنا ضايع بينكم، إلياس في حتة، وأرسلان في حتة، والأستاذ إسلام اللي كبر على أبوه كمان، وإنتي وزعلك على أولادك رغم محاولاتك إنِّك مش مهتمَّة ببعدهم..
-يعني إيه يابابا..حضرتك عايزنا نسيب بيتنا اللي اتربِّينا وكبرنا فيه؟..
-غادة أنا مش فايق لك، كلِّنا هننقل من هنا.
-كلِّنا هننقل من هنا!! عايز تبعدنا عن ذكريات أمِّي، طيب أنا مش عارفة أحسِّ بيها غير هنا، يعني حضرتك مستخسر فيَّا ذكرياتها!!..
-غادة..اقتربت فريدة:
-مصطفى اهدى، اسمع لبنتك..
دنت غادة منهُ وهتفت بدموعها:
-برافوو ياحضرةِ اللوا، امسح كمان وكمان ذكريات أمِّي من كلِّ الجدران..ولَّا أقولَّك اهدم البيت دا كلُّه
قبل ماتنقل من هنا..
-ميرال..خُدي غادة على فوق..
سحبتها ميرال ولكنَّها توقَّفت تنظرُ لوالدها لأوَّلِ مرَّة بألمٍ حكتهُ عيناها قبل شفتيها، ثمَّ قالت:
-النهاردة بس اتأكِّدت إنِّي يتيمة..رمقت فريدة بنظرةٍ خاليةٍ من الحبِّ وصعدت إلى غرفتها، تحرَّكت ميرال خلفها سريعًا وهي تقول:
-مفيش حاجة إن شاءالله هتهدى..ثمَّ قامت بمهاتفةِ زوجها الذي أجابَ سريعًا:
-إلياس تعالَ على البيت، الدنيا شايطة..
توقَّف قبل صعودهِ إلى مكتبه:
-إيه اللي حصل؟..
قصَّت له ماصار، سحبَ نفسًا وزفرهُ ثمَّ قال:
-سيبي بابا يتعامل، مينفعشِ أدخل بينهم..إنتي خلِّي بالك منها وقرَّبي واعرفي إيه سرِّ التغيير..
مرَّت الأيامُ سريعًا إلى أن دلف مصطفى يحملُ تذاكرَ سفرٍ وقال:
-هنسافر كلِّنا بعد بكرة نحجّ، لازم نبعد شوية عن الخلافات، وإن شاءالله نرجع بأفضل حال..قالها وهو ينظرُ إلى ابنته التي تتلاعبُ بطعامها دون أن تتحدَّث، نهضَ إسلام قائلًا:
-إن شاءالله..قالها وغادر المكان..
بالأعلى بغرفةِ غادة..
جلست ميرال معها وبدأوا يتحدَّثون في كثيرٍ من المواضيع إلى أن ذكرت اسمَ إلياس بمنتصفِ الحديثِ حتى تعلم ماصارَ بينهما..
ردَّت عليها ساخرة:
“جايسون ستاثام”
إيه ياختي، إنتي بتشبَّهي جوزي بالعميل بتاعك دا!..
نفخت بخصلاتها التي تتطايرُ على وجهها وقالت:
هوَّ إنتي تطولي، إنتي عارفة أنا بتكلِّم عن مين؟..
آلة الأكشن التي لا تهدأ
الرجل الذي لا يبتسم كثيرًا…لأنَّه مشغولٌ دائمًا بكسرِ العظام أو قيادةِ سيارةٍ خارقةٍ وسطَ انفجارات..
-تصدَّقي بالله إنتي اللي عايزة آلة أكسَّرلك بيها عظامك..
-أنا..ليه قولت حاجة غلط، ولَّا أقولِّك هنتظر من واحدة متجوزة أفلام الرعب والأكشن، وأخت واحد عايز صاروخ أحول يدخل في دماغه، لا دا مش واحد دول اتنين..يالهوي على كمِّ الغتاتة اللي فيهم، الصراحة العيلة دي كلَّها مفيهاش غير أرسلان..ودا كمان ساعات بيبقى بارد ومستفز، حتى عدَّى أخويا الوحيد حبيبي..
-أخوكي الوحيد ياغادة؟!….يعني مالكيش أخوات غير إسلام دلوقتي!!..
اهتزَّ داخلها والتفتت سريعًا للذي توقَّف على الباب يشيرُ إلى ميرال:
-جهِّزي يوسف خارجين..قالها وتحرَّك سريعًا دون أن ينطقَ بحرف..
رمقتها ميرال وأردفت:
-أنا مش عارفة إيه اللي حصل بينكم من فترة، بس متأكدة أنُّه مش غلطان..
بعد مرورِ عدَّةِ أيامٍ بالحرمِ المكِّي..
خرجت من الحرمِ متَّجهةً إلى زوجها الذي ينتظرها بمكانٍ بالقربِ منها، ولكنَّه ابتعدَ حتى يدعَ لها الفرصة لكي تقل بما في مكنونها، بسطَ كفِّه لتعانقهُ وتحرَّكت بجوارهِ كفراشةٍ تتحرَّك بين الزهورِ الزاهية، توقَّف يتطلَّعُ إليها بحبور:
-ياااه اللي يشوفك كدا، يقول كنتي مسجونة وأخدتي حريِّتك، أوعي يكون السجن دا أنا؟..
تأمَّلته بعيونٍ تلتمعُ بلآلئها، ثمَّ أردفت:
-إنتَ زعلان علشان طلبت منَّك نعمل عمرة لجمال؟.
صدمهُ حديثها ورغم ذلك رسمَ ابتسامةً وقال:
-يبقى لسة متعرفيش مصطفى يافريدة، بعدِ العمر دا كلُّه وللأسف فشلتي…
هزَّت رأسها بالنفي وردَّت بنبرةٍ ممزوجةٍ بالألم والعتاب:
-فريدة عاشت مع مصطفى أكتر من جمال يامصطفى، إنتَ اللي لسة لحدِّ دلوقتي مش مقتنع بفكرة إنِّ جمال مات.
تنهَّد بتثاقلٍ ثمَّ أشار إلى أرسلان المتوقِّفِ بجوار زوجتهِ وأولاده:
-يالَّه ابنك بقاله فترة مستنِّينا، قالها وسحب كفَّها وتحرَّك إلى وقوفِ أرسلان..
مرَّت الأيامُ سريعًا وعاد الجميعُ بعد بعد انتهاءِ مناسكِ الحج..
باليومِ التالي دلفت إلى الشركة، لاتعلم لماذا اشتاقت إلى كلِّ ركنٍ بها، استمعت إلى صوتهِ الغاضبِ بسكرتيرتهِ الخاصَّة..
طرقت على بابِ مكتبهِ ولا تعلم لماذا ساقتها قدميها إليه..
كان منكبًّا على جهازه، فصاحَ غاضبًا:
-قولت مش فاضي، خلَّصي شغلك.
-آسفة انا كنت جايبة لك ميِّة زمزم..
رفع عينيهِ سريعًا ينظرُ لتلك التي خطفت لبَّ قلبهِ وعقله، فمنذ سفرها يشعرُ بأنَّ قلبهِ توقَّف عن النبض، نصب عودهِ وتوقَّف مقتربًا منها، حاول السيطرة على دقَّاتهِ العنيفة ولكنَّه فشل، ابتسمَ لا إردايًا ينظرُ للذي بيدها:
-دا بجد، جايبة ميِّة زمزم؟!..
دلفت للداخلِ ووضعتها بين يده:
-رغم شامَّة ريحة تريقة، بس جبتها يمكن تغيَّر لوح التزلج..
-لوح التزلج!!..مين دا؟.
-لا بكلِّم الكرسي اللي وراك..يالَّه سلام شكلك مشغول، حبِّيت أسلِّم عليك كمِّل شغلك..قالتها واستدارت إلَّا أنَّهُ أمسكها من كفَّها:
-استني..
ابتعدت سريعًا بعدما شعرت بانتفاضةٍ بداخلها..رفع كفَّيه معتذرًا ثمَّ قال:
-آسف، بس كنت عايز أتكلِّم معاكي..
تلجلجت بالحديثِ وقالت:
-هعدِّي على رحيل..قالتها وتحرَّكت سريعًا.
عند إسلام خرج من عملهِ واتَّجه إلى سيارتهِ وجدها تستندُ عليها، اقترب منها وتعمَّقَ بالنظرِ إليها، نعم لقد اشتاقَ إليها كثيرًا، ولكنَّه لم يتقبَّل ما تفعله:
-إزيك ياملك
قالها بهدوء..اقتربت منه وقالت:
-المفروض مين اللي يسأل على مين ياحضرة المهندس؟..أعرف بالصدفة سفرك من أرسلان وكمان رجوعك صدفة!!..
-ملك أنا سبتك تفكَّري براحتك، محبتش أضغط عليكي..اقتربت منه واحتضنت ذراعه:
-لازم نتكلِّم ياإسلام، لازم نعرف رايحين على فين.
بمنزلِ يزن..
كان يلهو مع أطفاله، اقتربت رؤى تحملُ بعضَ الحلويات ونادت عليه:
-يزن يالَّه الكيك سخن وحلو..
-كيك وسخن..يابنتي بطني، بطَّلي تجارب فيَّا..
قهقهت وقالت:
-أعمل إيه اعتبرني دكتورة وبتعمل تجارب على مرضاها.
-يخربيت ألفاظك ياشيخة..كانت تقفُ بشرفتها تنظرُ إليهم بابتسامة، استدارت وقامت بتغييرِ ثيابها..ارتدت فستانًا ناعمًا من اللونِ الأحمر، وقامت بوضعِ لمساتٍ تجميليةٍ خفيفة، ثمَّ نهضت وتحرَّكت للأسفل، كان ملقيًا بظهرهِ على العشبِ ينظرُ للسماءِ بصمت، بينما يلهو أطفالهِ مع رؤى وضحكاتهم ترنُّ بالمكان..شعر بخطواتها، فأدارَ رأسهِ ينظر لتلك التي توقَّفت على بُعدِ خطوةٍ منه ثمَّ قالت:
-النهاردة عيد ميلاد الأولاد، هيكمِّلوا سنتين..اعتدل يقيِّمها بنظراتهِ العاشقة، ثمَّ نهض من مكانهِ ودنا منها:
-بس اللي أعرفه عيد ميلاد الأولاد لسة بكرة، إنَّما النهاردة عيد ميلاد حدِّ تاني..
ابتعدت بنظراتها منه وأردفت بتقطُّع:
-معرفشِ تقصد إيه، اللي أعرفه النهاردة عيد ميلاد ولادي..
حاوطها بين ذراعهِ والجدار وسبحَ بنظراتهِ على ملامحها القريبة التي اشتاقها حدَّ الجنون قائلًا:
-الولاد يوم عشرة، النهاردة لسة تسعة، اللي فاكره عيد ميلادي أنا النهاردة، وشكل التجهيزات الحلوة دي علشاني مش كدا؟.
هزَّةٌ عنيفةٌ أصابت جسدها وهو يمرِّر أناملهِ على عنقها، ثمَّ دنا يهمسُ بجوارِ أذنها:
-مالوش داعي، تنسي عيد ميلاد أولادك، بكرة يبقى احتفلي بيه يامدام..
قالها وابتعدَ عنها يشيرُ إلى أطفالهِ وصعد إلى الأعلى…بينما هي ظلَّت كالذي أصابهُ سهمًا مسمومًا بنيرانِ الحبِّ اللاذع.
عدَّةُ أسابيعٍ أخرى..
خرجت من عند الطبيبة تحملُ صورةَ طفلها الذي يسكنُ أحشاءها سعيدة، تريدُ أن تطيرَ لتخبرَ زوجها بالخبرِ السعيد، بينما بغرفةِ مكتبه، ثار مصطفى يطرقُ على المكتبِ بغضب:
-وأنا مش موافق، مستحيل أجوِّز بنتي لابنِ مجرم..
-بابا اسمعني، الولد اتغيَّر، وماشاء الله هوَّ اللي ماسك دلوقتي كلِّ شركات العامري..
-إلياس مهما كانت ليك سلطة في البيت دا، بس مايدلكشِ الحق تقول قرارات مهمَّة بمستقبلِ ولادي، أنا عارف بعمل إيه، مستحيل أوافق على كدا..
لو كنت حاطط ميرال زيَّها زي أخوها تبقى غلطان، دي متربية على إيدينا، ورغم كدا لو كنت أعرف من الأوَّل إنَّها بنتِ راجح كنت مستحيل أوافق ترتبط بيها..
هزَّةٌ عنيفةٌ أصابت إلياس من حديثِ والده، ليقتربَ ينظرُ إليه بضياع:
-إيه اللي حضرتك بتقوله؟!..
-إلياس أنا مقدَّر اللي بتحاول تعمله، بس متنساش إنِّ دي بنتِ راجح، لو كنت متقبِّل دا مكنتش غيَّرت اسمها ياحضرةِ الظابط.
كانت تقفُ على باب المكتبِ تستمعُ إلى حديثهم الذي شعرت أنَّه أوقعها بهوَّةٍ ساحقة، لتدورَ بها الأرض، وتشعرُ بأنَّ روحها تُسحبُ لبارئها، استندت على الجدارِ تتحرَّكُ بخطا ثقيلة، تضعُ كفَّها حول أحشائها، ودموعها بالانهيار..
وصلت إلى سيارتها بأنفاسٍ ثقيلة، مع وصولِ إسلام ينظرُ لحالتها المزرية:
-ميرال إيه اللي حصل؟..ولكنَّها تحرَّكت بسرعةٍ جنونيةٍ بعد سقوطِ تحاليلها وصورةِ جنينها، انحنى إسلام يحملُ الورق الذي وجدهُ وتحرَّك للداخلِ مع ارتفاعِ صوتِ مصطفى الغاضب:
-إنتَ ليه بتحاول تثبتلي إنَّك مش ابني ياإلياس..قالها بوصولِ فريدة وإسلام بتلك اللحظة.
-إيه اللي بيحصل؟..تساءلت بها فريدة..
التفت إليها ينظرُ إليها ولأوَّلِ مرَّة تتساقطُ دموعهِ أمام الجميع ثمَّ قال:
-أنا فعلًا مش ابنك ياسيادةِ اللواء..
-ميرال مالها؟..شوفتها خارجة بتعيَّط وركبت عربيتها ومشيت بحالة مش كويسة..
هنا شعر بأنَّ أحدهم غرسهُ بخنجرٍ باردٍ بعدما تيقَّن من استماعها لحديثِ مصطفى..ركض كالمجنونِ خلفها يبحثُ عنها ولكن لا يوجد أثر..
رفع هاتفهِ سريعًا وقام بمهاتفةِ أرسلان:
-شوفلي بنتِ عمَّك فين..
هبَّ من مكانهِ منتفضًا بعدما استمع إلى صوتهِ الباكي:
-إيه اللي حصل؟.
-شوفلي ميرال فين..هذا مانطقه ثمَّ أغلقَ الهاتف مستندًا على القيادة لتنفجرَ بركَ عينيهِ بعدما شعر بسوادِ كلِّ شيءٍ حوله، اليوم أعلنها مصطفى مباشرةً أنَّه لم يكن ابنه..
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية شظايا قلوب محترقة)