روايات

رواية فوق جبال الهوان الفصل الخامس والثلاثون 35 بقلم منال سالم

رواية فوق جبال الهوان الفصل الخامس والثلاثون 35 بقلم منال سالم

رواية فوق جبال الهوان البارت الخامس والثلاثون

رواية فوق جبال الهوان الجزء الخامس والثلاثون

فوق جبال الهوان
فوق جبال الهوان

رواية فوق جبال الهوان الحلقة الخامسة والثلاثون

تعمد أن يأتي اختيار مكان الإقامة الجديد قريبًا من عُصبته السابقة، تلك التي يُدين لها بالكثير، ليلجأ إلى حمايتهم إن تطلب الأمر واضطر لمواجهة ذلك اللعين مجددًا، فيكونوا بمثابة درع الأمان ريثما يتمكن من القضاء على خصمه البغيض في معركة متكافئة الطرفين. راح “فارس” يتفقد البناية من الخارج، كانت مناسبة للسُكنى، في منطقة تعج بالنشاط والحيوية. أغلق البوابة الحديدية للمدخل قبل أن يصعد للطابق العلوي ليتجول في المنزل، بمجرد أن وطأ الصالة، راقه ما أحدث تابعه في المسكن من تغييرات واضحة تسر الناظرين، وفي وقتٍ وجيز، فامتدح صنيعه المضني قائلًا بابتسامة عريضة:
-حاجة آخر ألاجة، مافيش بعد كده!
رد عليه “منصور” مسترسلًا في الشرح وهو يشير بيده:
-أنا حاولت أظبطلك الشقة زي ما أمرت يا معلم، لسه فاضل كام حاجة في الكهربا، على بكرة بالكتير هتكون اتظبطت، وعربية العفش هتيجي كمان شوية تنزل الأوض وتتنصب على طول فيها.
قال بغير مبالاة لما يخصه:
-مش مهم أنا دلوقت، أنا اللي يهمني شقة الجماعة..
ثم مد يده ليربت على كتفه مكررًا بصيغة أخرى تُظهر استحسانه:
-بس الصراحة شغل عالي وعظمة أوي.
ابتسم في نشوةٍ، وقال:
-بنتعلم منك يا معلم.
أخذ يتجول في الصالة، ويده تمسح على مساند الأرائك التي كانت لا تزال ملفوفة بتغليفها البلاستيكي والورقي ليقول في امتنانٍ:
-تعبتك معايا يا “منصور”.
رد عليه مجاملًا:
-ده إنت تؤمر يا معلم…
انحنى بعدها ليتلقط ورقة مصنوعة من الكرتون ملقاة بإهمالٍ على الأرضية، وأضاف في همةٍ:
-هروح المحل أتابع العمال.
تابعه “فارس” ما يقوم به بعفويةٍ ليشدد عليه:
-عينك عليهم، لأحسن دول ما بيصدقوا حتى يغيب عنهم ويكروتوا الشغل.
أومأ برأسه مؤكدًا:
-لأ أطمن، أنا فوق دماغهم.
اصطحبه للخارج، ثم أغلق الباب من ورائه، ليتجول بأريحية في أرجاء المنزل وبداخله سعادة غامرة، خاصة بعدما بذل كامل الجهد لينتهي من تجهيزه ليصلح للإقامة بأريحية في وقت قياسي. توقف عند إحدى الغرف على وجه الخصوص، فجال بعينيه في تمهلٍ على الطلاء الوردي أولًا، لينتقل بنظرته الفاحصة للثريا الصغيرة المتدلية من السقف، قبل أن تهبط نظرته على الفراش المرتب بعناية، دنا منه، ومال بجسده عليه ليمسح بيده على الملاءة في ترفقٍ، كأنما يخشى أن يفسد ترتيبها المثالي. ما لبث أن علا ثغره ابتسامة متشوقة وهو يخاطب نفسه في شيءٍ من التمني:
-إن شاء الله تعجبها الأوضة.
حرص كل الحرص على أن يكون أثاثها حديثًا، مزدانًا بألوانٍ فاتحة، تدخل البهجة على النفس، وفي نفس الوقت مريحة للعين. سرعان ما تسرب إليه شعورًا مقلقًا من احتمالية رفضها لما يسعى لتقديمه من أجلها، فحسم أمره في التو:
-الأحسن إني ماقولهاش إني نقيت العفش بنفسي.
لم يطل بعدها البقاء في الغرفة تجنبًا لما ينتابه من أحاسيسٍ مربكة تجاهها، وغادر البيت في الحال لينتقل إلى منزله الآخر الكائن في نفس البناية وبنفس الطابق، ليتابع ما ينقص فيه على أمل أن يلتهي عقله عن التفكير في شأنها.
………………………………….
ليشرع في تنفيذ خطته الجهنمية بحذافيرها، ويضمن إيقاع فريسته في فخ الطمع المغري، أرسل سيدة ما استأجرها إلى منزلها، بحجة الاستعلام عن عنوانِ أحدهم؛ لكنها كانت وسيلته غير المشكوك فيها لاستدراجها نحو انتقامه المزعوم بأسهل الطرق وأسرعها خداعًا. ضغطت المرأة المجهولة على زر الجرس، وانتظرت أن تقوم تحديدًا بفتح الباب لها، لترمقها “نجاح” بنظرة حائرة مستفهمة، قبل أن ينطلق لسانها متسائلًا:
-خير؟ عايزة مين؟
ابتسمت المرأة في ودية، وسألتها بهدوءٍ:
-مش ده بيت الحاج “مدحت”؟
لوت “نجاح” ثغرها معلقة بتهكمٍ:
-لا “مدحت” ولا “مسعد”! إنتي غلطانة في العنوان.
قطبت جبينها محتجة باندهاشٍ مصطنع:
-إزاي ده مكتوب هنا جوا العلبة دي؟ حتى شوفي…
وناولتها علبة مصنوعة من القطيفة، لتفتحها وتنظر إلى الورقة الموضوعة بداخلها، التقطتها منها، وقرأت ما كتب فيها قائلة بنفس الأسلوب الجاف:
-أه هو نفس العنوان، بس مافيش حد بالاسم ده عايش هنا.
لتعيد العلبة إليها، فأخذتها المرأة، وقد بدأ يظهر عليها شيء من الانفعال، لتهتف مستنكرة:
-مش معقول، أكيد حضرتك مش عايزة تستلمي الأوردر، ده محجوز، ومافيش فيه استرجاع…
ثم أخذت تلوح بيدها في الهواء، لتبدو وكأنها تتشاجر رغم أن ذلك حرفيًا لم يحدث، وراحت تصيح في نفاد صبرٍ:
-لو سمحتي هاتي حسابه، وإنتي حرة مع المحل.
سرعان ما استفزها ذلك الأسلوب العجيب في النصب، فثارت عليها “نجاح” بحدةس:
-إنتي عايزة تلبسيني أي داهية وخلاص؟ فكرك أنا مغفلة وعبيطة وهصدق حوارك ده؟ غوري بدل ما أطلبلك البوليس يا نصابة!
توعدتها المرأة بوجهٍ مربد من الضيق:
-بقى كده، طيب.
صفقت “نجاح” الباب بعصبيةٍ من ورائها، وصوتها الحانق يندد عاليًا:
-إيه ياخواتي البلاوي السودة دي!!!
ببراعةٍ شديدة أخفت المرأة تعبيرات الانتشاء التي كانت تقاتل للظهور على محياها، خاصة وهي تندفع تجاه المصعد لتستدعيه، فقد نجحت ببساطة في توثيق مشادتهما المفتعلة عبر الكاميرا المواجهة لبابها، فتظهر لمن يتابع التسجيل وكأنهما على خلاف معين حول شيء ما دفعهما للتشاجر.
……………………………………..
مؤخرًا، أصبح المطعم مقره الدائم حاليًا لإنهاء كافة أعماله وأموره العالقة، فكان ينجز كافة ما يخص شئونه وهو متواجد به في الغرفة التي تم إعدادها لتكون حجرة مكتبه، وكأنه يخشى العودة إلى التَبَّة لممارسة ما اعتاد على فعله بعدما خسر شقيقه الوحيد. أثناء انشغاله بمطالعة بعض الأوراق الهامة، جاءه “عباس” على وجه السرعة، ليُعلمه بالبشارة:
-كله تمام يا ريسنا، حصل المطلوب.
توقف عما يفعل، ورفع بصره إليه ليستطرد، وتلك الابتسامة المقتضبة قد ارتسمت على طرف فمه:
-زي الفل.
ظل “عباس” منتظرًا أمره التالي، فيما أراح الأخير ظهره للخلف متابعًا في لهجةٍ آمرة ومشيرًا بإصبعه:
-بلغ الصايغ يروح القسم يبلغ عن الحتة الألماظ المسروقة من عنده.
دون جدالٍ هز رأسه في طاعة وهو يرد:
-عُلم.
همَّ بعدها بالتحرك؛ لكنه تراجع ليستدير ناحيته قائلًا في شيءٍ من التردد:
-متأخذنيش يا كبيرنا، أنا بس عندي استفسار كده.
مرة ثانية رفع “زهير” عينيه إليه هاتفًا في تحفزٍ:
-قول.
أجلى أحبال صوته أولًا قبل أن يعبر عما يدور في رأسه من أفكار حيرى:
-ليه اللف والدوران ده كله؟ ما كنا روحنا جبنا الواد الطري ده من قفاه، وخصوصًا إننا عارفين مكانه، وخلناه ينطق ويعترف باللي عايزينه من غير ما نعمل حوارات.
لف “زهير” قلمه الحبري حول أصابعه بحركة دائرية سريعة، وقال في هدوءٍ واثق:
-ولا كان هيأثر عليه أي حاجة، لكن لما يشوف أمه مذلولة، وروحها بين إيديا، هيعمل أي حاجة علشان يطلعها من المصيبة اللي لبساها، ومن غير ما نظهر في الصورة.
حينما تبدد الغموض الذي غلف رأسه وجعل الصورة غير كاملة في ذهنه، أدرك مدى داهية رب عمله، فصاح يثني على ذكائه ونباهته في تفاخرٍ:
-دماغ سم يا كبيرنا.
لكن “زهير” لم يكن مثله في حالة مزاجية رائقة، بل بدا مشحونًا بالغضب الشديد برغم محاولته الظهور بمظهر الهدوء والاسترخاء، إلا أن تعابيره المشدودة وشت بما يجوس في أعماقه. سرعان ما طرح عليه سؤاله التالي في جديةٍ:
-شوفتلي الواد “كيشو” فين؟
أجابه في الحال:
-أه يا ريسنا، مقبوض عليه في خناقة، يومين وهيطلع.
أعطاه أمره غير المردود:
-أول ما يخرج تجيبه عندي.
حرك رأسه في انصياعٍ تام حين رد:
-ماشي كلامك.
انصرف بعدها ليكمل أعماله، بينما نهض “زهير” من موضع جلوسه ليتحرك تجاه الواجهة الزجاجية، دس يديه في جيبي بنطاله، وطاف بعينيه على المارة مرددًا فيما يشبه الوعد:
-مسيري أوصلك حتى لو كنتي مستخبية في قمقم!
……………………………….
وكأن رصيدها من الكرم والسخاء لا ينضب أبدًا، حيث أعدت “سميحة” ما لذ وطاب، واتجهت إلى ضيفاتها الخجلات لتجلس معهن، فاستقبلتها “عيشة” بترحابٍ شديد، حدقت في وجهها بتعبيرٍ ينم عن شعورها بالامتنان قبل أن تخبرها صراحةً:
-تسلم إيدك ورجلك يا حاجة على كل حاجة بتعمليها معانا.
ردت “سميحة” في لطافةٍ:
-يا ريت والله أقدر أعمل أكتر من كده، مكونتش اتأخرت.
تابعت على نفس الوتيرة الشاكرة:
-كفاية استقبالك الغالي لينا في بيتك، واحنا زي ما بيقولوا كده طبينا عليكم ولا القضا المستعجل.
عاتبتها على كلماتها الأخيرة في رقةٍ:
-عيب الكلام اللي يزعل ده، إنتو ضيوف عزاز، وغاليين عندنا.
قالت باسمة:
-ربنا يكرم أصلك.
بحذرٍ واضح سألتها، وهذه النظرة الجادة قد برزت في حدقتيها:
-أخبار “إيمان” إيه؟
حملقت فيها “عيشة” بقليلٍ من الاستغراب، فأسرعت “سميحة” تبرر لها، قبل أن تسيء الظن بها:
-أصل سمعت من ابني إن نفسيتها تعبانة شوية:
انفلتت تنهيدة طويلة محملة بالأسى من صدر “عيشة”، أتبعها قولها الحزين:
-من بعد اللي شافته من اللي ما يتسمى وهي حالتها لا تسر عدو ولا حبيب.
حاولت مواساتها قائلة:
-بكرة ربنا يعوضها بالأحسن، دي مش نهاية العالم.
ردت وهي تحرك رأسها بإيماءاتٍ صغيرة مقتضبة ومتواترة:
-ربنا موجود.
ساد الصمت لبعض الوقت، إلى أن قطعته “عيشة” مرددة في نبرة صارت أكثر جدية عن ذي قبل:
-أنا كنت هفوت عليكي أقولك إننا خلاص هنمشي بكرة.
حلت بها صدمة لحظية، وانعقد ما بين حاجبيها مرددة بدهشةٍ كبيرة:
-بكرة؟!
أوضحت لها في قدرٍ من الاسترسال:
-أيوه، “فارس” ابن عم البنات جابلنا مطرح ننقل فيه، واحنا هنلم حاجاتنا ونمشي.
مضت تنظر إليها معقبة بأسفٍ، وكأنما تستحضر في ذهنها ما قد يشعر به ابنها بمجرد أن يعلم عن رحيلها:
-بالسرعة دي؟ إنتو ملحقتوش تقعدوا.
بشيءٍ من المنطقية أخبرتها:
-مش عايزين نكون تقال، وعلى رأي المثل يا بخت من زار وخف.
عادت لتستعتبها في هدوءٍ:
-برضوه بتقولي تاني الكلام اللي يزعل!
قالت مبررة:
-اعذريني يا حاجة، أنا بفهم في الأصول، وعارفة اللي يصح وما يصحش، وكفاية استقبالكم لينا في وقت مكوناش عارفين نتصرف فيه.
جاء ردها ودودًا للغاية:
-احنا يعتبر أهل، وهنفضل كده بأمر الله.
ابتسمت لمعاملتها الراقية معها، وهتفت مؤكدة لها:
-بأمر االله، وربنا يديم المحبة بينا.
كل ما شغل تفكيرها بعد انقضاء ذلك اللقاء، هو كيفية إخبار ابنها بمسألة قرار العائلة بالمغادرة، حتمًا لن يتقبل هذا الواقع المرير بسهولة.
……………………………….
بعد أيامٍ من المماطلة، والانشغال بأمور أخرى بدت بالنسبة له مصيرية، قصد “عادل” الذهاب إلى عمله على مضضٍ ليتفقد أحواله، ويتابع مع أبيه ما ينقص، فما إن رآه الأخير حتى وبخه في الحال بلهجةٍ لم تكن متسامحة منذ الوهلة الأولى:
-ياه، أخيرًا افتكرت إن وراك شغل ومصالح متعطلة.
تنحنح متسائلًا ببرودٍ مصطنع:
-في إيه يا بابا؟
أتاه تعنيفه منطقيًا:
-في إنك سايب حالك ومالك، وشاغل نفسك بعيلة “فهيم” الله يرحمه، والمفروض تكون بتجهز نفسك اليومين دول علشان تسافر الصين تجيب البضاعة اللي تلزمنا.
كشيءٍ من إراحة الضمير علق عليه:
-حاضر، هانت، أطمن بس إن هما بخير وآ…
أغاظه للغاية إهماله لما يخصه، فقاطفه في غير صبرٍ:
-يا ابني إنت ليه محسسني إنهم مقطوعين؟ ما هما معاهم واحد طول الحيطة شايف مصالحهم، ركز إنت في نفسك، سامعني؟
لم يرغب في الجدال معه، فاكتفى بمنحه ذلك الرد الذي يريح من يسمعه، ويكفه عن إزعاجه:
-ربنا يسهل.
لم يستسغ “رجائي” الحال الذي غدا عليه ابنه، ومع ذلك فضل أن يتجنب خوض النقاش، فلكل شيءٍ نهاية، ولن يظل الوضع معلقًا هكذا.
……………………………….
بمقلتين مشبعتين بنظرات الحزن والانكسار، تأملت “إيمان” الحقيبة اليتيمة التي جمعت فيها متعلقاتها مع شقيقتها، لتستطرد بعدها ساخرة في مرارة، وهي بالكاد تحاول الابتسام لتخفي وراء بسمتها الباهتة إحساسها الراسخ بالانهزام:
-ماما عاملة حوار في لم الحاجة، واحنا أصلًا معندناش اللي نلمه، ده معظم الحاجة شاحتينها.
في نبرة متعاطفة حادثتها “دليلة”، وكأنها تبث لها طاقة خفية لدعمها:
-معلش، بكرة ربنا يعدلها، واللي راح يرجع.
انتظرت قليلًا تعقيبها عليها، لتردف “إيمان” في نبرة يائسة للغاية:
-ده الكلام الخايب اللي بنصبر بيه نفسنا، مافيش حاجة راحت بترجع…
تنهدت بعدها متسائلة في إحباطٍ أكبر:
– ولا إنتي مصدقة إن ده هيحصل؟
كافحت “دليلة” لئلا تستسلم لهذا الشعور المهلك للنفس، فشرعت تستعرض موجزًا لما يجب أن تؤول إليه أوضاعهما لاحقًا:
-اللي احنا شوفناه ومرينا بيه مش قليل، ومحدش هيقف جمبنا لو فضلنا كده ضعاف، بنعيط ونتقهر على اللي حصلنا، احنا محتاجين نعتمد على نفسنا علشان نقدر نكمل ونقف على رجلينا ونواجه الحياة مهما كانت قاسية معانا وما بترحمش.
انقبض قلبها من حديثها المملوء بكافة أنواع المشاعر المتناحرة، وراحت تسألها في توجسٍ:
-قصدك إيه؟
كان جوابها بسيطًا للغاية رغم جدية نبرتها:
-لما نستقر في البيت الجديد لازم نشوفلنا شغل، ما ينفعش نستني اللي يمد إيده في جيبه ويدينا.
اندهشت للغاية من تفكيرها الذي فاق إلى حدٍ كبير سنها، وهتفت تسألها، كأنما تتأكد من شيءٍ ما دار في خلدها:
-تقصدي “فارس”؟
بلا مراوغة أفصحت لها صراحة:
-أيوه، هو نصب نفسه مسئول عننا، واحنا مش مستنين إحسانه علشان يدي لنفسه حق مش حقه من الأساس، ويعمل راجل علينا.
ردت عليها بمنطقيةٍ:
-طب ما احنا يعتبر هنعيش في ملكه.
صححت لها ما قد غفلت عنه نظرًا لتطور الأوضــاع بشكلٍ سريع ومتلاحق:
-مين قال كده؟ ما احنا لينا ورثنا من بابا الله يرحمه، إنتي ناسية ولا إيه؟
رفعت حاجبها للأعلى متمتمة:
-أيوه صح.
فيما استكملت “دليلة” حديثها على نفس المنوال الجاد:
-احنا المفروض نعمل إعلام وراثة، وبعد ما يطلع، نتصرف في اللي يخصنا، سواء كانت الشقة الفقر اللي كنا عايشين فيها أو نصيبه في الفرن، وبالفلوس نشتري المكان اللي هنسكن فيه.
سألتها مستفهمة وهي تحك طرف جبينها بإصبعيها:
-بس ده معناه إن “فارس” داخل معانا في الورث، ده غير عمتي علشان بابا مجابش ولاد، صح كده ولا أنا غلطانة؟
سكتت للحظةٍ قبل أن تعلق:
-بصي احنا الأفضل نشوف محامي يظبطلنا الحوار ده، المهم محدش يبقاله فضل ولا جمايل علينا.
للمرة الأولى منذ فترة طويلة تبتسم في رضا، تفاجأت “دليلة” بردة فعلها، وكذلك بموافقتها عندما أخبرتها وهي تضع يدها على منبت كتفها:
-وأنا معاكي.
مدت يدها هي الأخرى لتربت على ذراعها هاتفة في تحمسٍ:
-اتفقنا.
………………………………
كان لا يزال محلقًا في عالم الأحلام والخيالات الوردية، إلى أن اصطدم بأرض الواقع القاسية. فضح تعبير وجه “عادل” الصدمة الجلية التي شعر بها بعدما أطلعته والدته على ما استجد من أمور، ليهتف في غير تصديقٍ:
-هيمشوا بكرة؟!
أدركت مدى الحزن العميق الذي كسا ملامحه، ورددت وهي تشفق عليه:
-أنا قولت أعرفك، لأن حسيت إن شكلك معندكش خبر.
هتف في استنكارٍ متعاظم، كأنما يرفض تصديق ذلك:
-طب ليه كده؟ في حاجة ضايقتهم؟
أكدت له وهي تهز رأسها نافية:
-خالص، بس على حسب كلام الست “عيشة” هما لاقوا مكان تاني، وجاهز إنهم ينقلوا فيه.
بدا كمن تعلق بحلمٍ آيل للزوال، فانهار جالسًا على طرف فراشه، مستغرقًا في صمتٍ مريب، لينتاب والدته إحساسًا بالقلق تجاهه، فجاورته متسائلة باهتمامٍ وهي تضع يدها على كفه:
-مالك يا “عادل”؟
قال وهو يغالب شعورًا مؤلمًا بالعجز والحزن:
-مافيش يا ماما، بس افتكرت حاجة في الشغل ولازم أروح أشوفها.
كان بحاجة للاختلاء بنفسه بعيدًا عمن قد يكشف ما يجوس في أعماقه تجاه تلك الشابة التي استحوذت على تفكيره وشغلته عن أي شيء آخر منذ أن أصبح متورطًا في مشكلاتها الشخصية طواعية وعن إرادة تامة منه. لم تمانع “سميحة” من ذهابه المفاجئ، وقالت في تفهمٍ مشوب بالتعاطف الضمني:
-طيب يا حبيبي، خد بالك من نفسك.
رد وهو يندفع مسرعًا خارج غرفته لئلا ترى ما ساد على قسماته من كدرٍ شديد:
-بأمر الله.
شيعته بنظرتها الأمومية الحانية، ولسان حالها يدعو له بصدقٍ:
-ربنا يصلح حالك ………………………….!!!

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية فوق جبال الهوان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *