روايات

رواية فتيات القصر الفصل السابع عشر 17 بقلم اسماعيل موسى

رواية فتيات القصر الفصل السابع عشر 17 بقلم اسماعيل موسى

رواية فتيات القصر البارت السابع عشر

رواية فتيات القصر الجزء السابع عشر

فتيات القصر
فتيات القصر

رواية فتيات القصر الحلقة السابعة عشر

في الأيام التالية…
لم يظهر على وجه السيد شيء.
لم تتغيّر ملامحه حين مرّت النسائم الخفيفة من ممر العطر، حاملةً الرائحة الجديدة التي صنعتها راما.
ربما شعر بها.
وربما تجاهلها عن عمد.
فالملوك الحقيقيون يعرفون متى يبدون اللا مبالاة لتزداد لعبة الخضوع اشتعالًا.
في صباح اليوم الثالث…
وقف السيد عند نافذته للحظة، ومرّت تلك النسمة الخافتة، وأخذت معها شيءًا خفيًا من مزاجه.
لكنه لم يقل كلمة.
راما، من ناحيتها، كانت تقف بين الأشجار، تراقب من بعيد دون أن تجرؤ على رفع عينيها إليه.
تعلم أن العطر بدأ يعمل.
وأن الوقت حليفها الصامت.
أما لارينا…
فقد شعرت بتغير شيءٍ لا تعرفه.
كانت تحسّ وكأن القصر بأكمله يدير رأسه ناحية خادمة واحدة دون أن يتحرك.
اشتدّت كراهيتها لراما.
منذ ذلك اليوم، أغرقتها في المسؤوليات. جعلتها تنظف جناح السيد بنفسها بعد انتهاء الاجتماعات.
أمرتها بحمل صواني الطعام الثقيلة إلى الصالة العليا.
أوكلت لها تنظيف السجاد القديم الممتد في الممرات الطويلة، رغم أنه لم يُمَس منذ أشهر.
كانت تقول لها ببرودٍ مصطنع: “طالما أنفك يتدخل فيما لا يعنيه… فلتتعلّمي أن تنشغلي بيديك.”
وفي العلن، لم تترك فرصة إلا ووبّختها أمام الخدم الآخرين: “راما بطيئة… راما كثيرة التمتمة… راما تضيّع وقت القصر.”
والخدم بدورهم تعلموا أن ينأوا بأنفسهم.
فالكل يعلم أن من تقع في خصومة لارينا، تعيش أيامها في القصر كمن يمشي على حافة السكين.
راما، مع ذلك، لم تشتكِ.
لا بكلمة… ولا بنظرة.
كانت تحني رأسها، وتمضي بأعمالها، وفي قلبها شيء واحد:
ذلك العطر.
الذي كان يشق طريقه كل مساء إلى غرفة السيد.
رائحة لا تحتاج لإذن.
ولا تسأل رأيًا.
**

كانت راما تعرف — بقلب العارف — أن التجربة الأولى وإن تسللت إلى أنفاس السيد، لم تزل بعد حاجز الجليد عن ملامحه.
وربما… وربما فقط، كان صمته رسالة أو امتحانًا صامتًا.
لم تستسلم.
لم يكن في طبعها أن تنحني إلا في مواطن الطاعة.
أما حين يخص الأمر يدها وصبرها… فكانت كمن تعقد ميثاقًا مع النسيم.
في تلك الليالي، عكفت راما على زاوية بعيدة في الحديقة الملكية.
حيث يحيط بها ممر السرو والزيزفون، وعلى ضفتيه أقواس من الياسمين الهندي.
كان ذلك المكان يعرفها منذ صغرها، وحفظ سرّ تجاربها الأولى حين لم تكن شيئًا في القصر.
هذه المرة… أرادت رائحة لا تُشبه العطور المعتادة التي يعشقها النبلاء
ولا حتى عبق الصندل والورد الطائفي الذي تفضله سيدات الحريم.
بل شيئًا لا يُعرَف مصدره… رائحة تشبه أول قطرة مطر على أرض جافة، وأول أنفاس عاشق تائه.
بدأت بزهور الجاردينيا البيضاء، لما فيها من نقاء يرافقه غموض شهي.
أضافت إليها نقاطًا من زيت زهور الكاميليا، تلك التي تشبه بشرتها إذا لامستها أشعة القمر.
ثم قطفت بتؤدة زهور البرغموت من أطراف البستان، لعطرها اللاذع الرقيق الذي يمنح النفس يقظة لا تفسير لها.
أخذت من قلب وردة الأوركيد السوداء — النادرة التي لا يسمحون بقطفها إلا بإذن، لكنها تجرأت.
ومن شجيرة خلف البحيرة الصغيرة، جمعت أوراق النعناع البري، الذي يمنح العطر نفسًا متوحشًا غير متوقع وسط الرقة.
وأخيرًا… أضافت زهرة واحدة من زهور السوسن البنفسجية، التي لا تتفتح إلا في الليالي القمرية.
كان لابد أن تنتظر ليلة مكتملة الضوء… وقد جاءت.
في تلك الليلة، والقمر يلقي بنوره على ممر العطر، جلست راما وحدها.
مزجت الزيوت بحذر، نقطة بعد نقطة، حتى تشكل الخليط.
بخار خفيف صعد من القارورة النحاسية، وتبددت الرائحة في الهواء… لم تكن قوية، بل ناعمة تتسلل بين الأنفاس فلا تُدرك حتى تستقر.
وما إن اكتمل…
رفعت القارورة إلى شفتيها، تمتمت همسًا:
“هذه… لك.”
دون أن تحدد لمن — للسيد أم لذلك الشيء العميق في قلبها الذي يأبى الاعتراف.

بعد أن أتمّت راما عطرها الجديد، وبلغت الرائحة جناح السيد، واكتفت بتلك الارتعاشة الخفيفة التي بدت كأنها لم تحدث…
قررت أن تمضي إلى اللعبة الأعمق.
لم تكن لارينا لتدرك أن راما، بوجهها الهادئ وطاعتها التي تبدو خالية من الحيلة، كانت تخوض حربًا صامتة.
ولأن القصر لا يرحم من يخطئ توقيت المعركة…
انتظرت راما بحنكة.
كل مساء، حين تغيب الأنوار الثقيلة عن الممرات، وتتوارى الأوامر تحت أستار الليل، كانت راما تدخل غرفة لارينا بحجة ترتيب الوسائد أو رش العطر المألوف في أرجاء القصر.
لكن ما كانت ترشه لم يكن ذاك العطر المعتاد.
قطرات من عطرها الخاص — الرائحة اللامرئية التي تخترق الأعصاب بهدوء.
لم يكن عطرًا يعلن وجوده، بل رائحة تتسلل من بين خصلات الشعر ومن أطراف الوسائد ومن زوايا الغرفة.
في البداية، لم تنتبه لارينا.
ظنّت الأمر من بقايا عطور الحديقة أو عبق الممرات.
ثم…
بعد أيام، بدأت تعتادها.
صار أنفها يتوق لتلك النغمة الغامضة وسط هواء الغرفة.
ثم…
دون أن تعي، صارت تنزعج إن غابت الرائحة.
تتقلب في فراشها بلا طائل.
تشعر بوخز مبهم في صدرها وضيق يجهل سببه.
وفي ليلة بعينها…
كانت الرائحة قد غابت — عمدًا.
لم تدخل راما تلك الليلة.
لم يُرش شيء.
جلست لارينا في منتصف فراشها، بعيون نصف مذعورة، تراقب الزوايا.
أنفها يتحرك كحيوان ضال يبحث عن أثر.
رمت الغطاء جانبًا، بحثت بين الوسائد، فتحت الدرجات، دفعت النافذة.
ثم عادت إلى الفراش، تتقلب بلا نوم.
الساعة مرت… والثانية… والثالثة.
وقبيل الفجر، حين لم تعد تحتمل، خرجت في ممرات القصر، متوترة، وشعرها مبعثر.
ولم يكن في تلك اللحظة من يراها سوى راما…
التي كانت تقف خلف قوس الياسمين، تحمل القارورة الصغيرة، وتبتسم لنفسها.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية فتيات القصر)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *