روايات

رواية فتيات القصر الفصل السادس عشر 16 بقلم اسماعيل موسى

رواية فتيات القصر الفصل السادس عشر 16 بقلم اسماعيل موسى

رواية فتيات القصر البارت السادس عشر

رواية فتيات القصر الجزء السادس عشر

فتيات القصر
فتيات القصر

رواية فتيات القصر الحلقة السادسة عشر

لارينا…
عندما أغلق الباب خلف راما، لم تعد الغرفة كما كانت.
حتى اللهب الراقص على أطراف المشاعل فقد شكله، وصار ظلاً يتلوى على الجدران.
لارينا لم تتحرك. بقيت حيث هي…
جسدها العاري المشوب بآثار السوط، لم يعد يشعر بالألم كما في البداية، بل شيء آخر…
شيء داخلي أشد وأبرد من كل لسعة.
كانت تعرف جيدًا هذا النوع من العقاب…
ليس من أجل الضرب ذاته.
بل من أجل أن ترى بعينيها من ينفّذ العقوبة، ومن ينفذ له الأوامر.
راما…
تلك الفتاة الثابتة الصامتة، التي لم تكن تنظر لها يومًا كتهديد، أمسكت بالسوط بيد ثابتة، ونفّذت الأمر.
“أنا… من أجل خطأ واحد؟”
راحت الكلمات تتردد في عقلها، كأن أحدهم يوشوشها من داخلها.
لم يكن الألم على الجلد هو ما يشغلها، بل إحساس آخر:
الهوان…
أن تُعاقب أمام السيد، من يدها،
أن تصبح الحكاية لعبةً يتسلى بها…
أحست لارينا أن قلبها تجمّد.
كأن شيئًا طُعن فيه بهدوء.
كان ثمة شعور خبيث، ثقيل، صاعد من صدرها:
ليس خوفًا… بل غيظ… غيظ خافت، شاحب، لكنه نابع من مكان لا يموت.
تذكرت كيف أن السيد قال:
“هذا ما ينتظرك إذا لم تتخلصي منها.”
فتحت عينيها…
نظرت إلى اللهب… ثم إلى باب الغرفة حيث غادرت راما.
لم تكن الغرفة مظلمة حقًا، لكنها شعرت أن كل شيء حولها اختفى.
“تخلصي منها… أو تتبادلان الدور.”
تلك اللحظة، لم تعد لارينا الخادمة المطيعة.
ثمة شيء انكسر… أو ربما وُلِد.
كان الألم يتخثر تحت جلدها…
وفي عينيها، تلك الدمعة الوحيدة… لم تكن من وجع.
بل من فكرة واحدة ظلت ترددها في رأسها:
“راما… ستدفعين ثمن هذه الليلة.”


في حجرتها الصغيرة ذات الجدران المتآكلة من الرطوبة…
أغلقت لارينا الباب خلفها بصمت.
الهواء كان ثقيلاً، والمكان ضيق، لكنه ملاذها الوحيد.
وقفت أمام المرآة.
لم تكن مرآة فاخرة، مجرد زجاج قديم مضبب الأطراف، ولكنها اعتادت أن تراه هو أكثر مما ترى وجهها.
ببطء، رفعت الغطاء عن جسدها…
آثار السوط كانت خطوطًا رفيعة بلون الدم، بعضها جفّ، وبعضها لا يزال يلسع كأن السوط لم يترك ظهرها بعد.
وضعت أصابعها على واحدة من تلك العلامات…
ثم رفعت عينيها إلى انعكاسها.
كانت ترى امرأة أخرى.
ليست لارينا الخادمة الطيّعة، بل امرأة بعينين تحملان شيئًا يقترب من الحقد… حقد ناعم، ليس صاخبًا، بل باردًا، ثابتًا.
همست المرآة لها:
“كم مرة طأطأتِ رأسك، وكم مرة بكيتِ بصمت…؟”
لم تجب لارينا.
اقتربت أكثر من الزجاج.
رأت وجهها… شاحبًا، وعينيها تلمعان بضوء غريب.
ثم قالت بصوت واهن، كأنها تخاطب نفسها: “لن أسمح لها أن تلمسني مجددًا… ولن أتركها تسير بسلام في هذا القصر.”
جالت يدها على الطاولة، التقطت خنجرًا صغيرًا من بين أدواتها القديمة…
مرّ بباطن كفها، تأملت نصله الرفيع.
همست: “من الليلة… بدأت اللعبة الحقيقية يا راما.”
ثم نظرت للمرآة مجددًا، ولأول مرة، ابتسمت.
ابتسامة صغيرة جدًا، لكنها تكفي لأن تشعل نارًا كاملة في قلب من يراها.
**
ليلٌ دافئ يهبّ على القصر…
والحديقة الملكية تغفو تحت عباءة من العطر والرطوبة والظل.
لم يكن مسموحًا لأي خادمة أن تتجوّل فيها بعد منتصف الليل…
إلا راما.
تلك الفتاة النحيلة، ذات الخطوات التي لا تُسمع، كانت تعرف أن الحديقة هي سر من أسرار القصر — وملاذ من يعرفون كيف يتعاملون مع السيد.
دخلت راما من البوابة الجانبية، تحمل سلة صغيرة من الخيزران، داخلها زجاجات صغيرة، وقوارير كهرمانية، ومقص حاد.
شعرها مرفوع للخلف، ووجهها ساكن كقلب قطة قبل الانقضاض.
توجهت إلى ممر العطر…
ممر طويل بين أشجار السرو والكافور، تمر منه تيارات الهواء لتصل مباشرة إلى شرفة غرفة السيد.
هكذا كان يصله عبق الحديقة مع كل نسمة.
راما أرادت شيئًا آخر الليلة.
عطراً لا يُشبه أي شيء عرفه القصر.
رائحة تندس تحت جلده…
تعشعش خلف أذنه…
وتجعل السيد، مهما قسا، يعود إلى الممر كل ليلة، باحثًا عن تلك الرائحة دون أن يدري.
بدأت عملها.
قطفت أولاً زهور “التيوب روز”، زهور بيضاء ناعمة تعرف في القصر بأنها زهور الليل — يفوح عبقها حين يخفت كل شيء.
ثم التقطت أوراق الريحان الملكي، التي تعرف راما أن عبيرها يعكس رائحة الجسد الحار.
بعدها قطفت بحذر زهور اللافندر البنفسجية — ليس لما تمنحه من هدوء، بل لما تخبئه من أثر حسيّ يتسلل للأعصاب.
مزجت معهم بعض بتلات زهور البرغموت، لدفعة خفيفة من نكهة حادة، توقظ شيئًا غامضًا في الذاكرة.
أخدت قطرات من زهر النارنج — عطر الملوك القدماء — وتركته في زجاجة زجاجية دقيقة.
ثم أضافت لمستها الأهم…
مستخلص عنب الثعلب الأسود…
نكهة لا يتوقعها أحد، بطعم يذكّر بالدم والعشق الأول.
راحت تخلطها واحدة تلو الأخرى…
كل مرة ترفع الزجاجة إلى أنفها، تغمض عينيها، تتنفس ببطء.
بعض التركيبات كانت خانقة.
بعضها أقرب لعطر حديقة مهجورة.
وواحدة جعلت قلبها يرتجف لحظة…
هذه هي.
رائحة تجمع بين الموت البطيء والافتتان الغريب.
كأنها عطر امرأة لا تعود بعدها امرأة.
أفرغت القليل في قارورة كهرمانية صغيرة، ودفنت الباقي تحت شجرة ياسمين عتيقة.
وفي الصباح…
حين تعبر الرياح الممر، سترفع تلك الرائحة حتى شرفة السيد.
ولن يعرف، لكنه سيبحث.
راما مسحت عرق جبينها، وهمست لنفسها: “لن يُفلت مني.”
ثم رحلت قبل أن تسرق الشمس لون السماء.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية فتيات القصر)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *