رواية وكأنها لي الحياة (شظايا قلوب محترقة 2) الفصل الثاني 2 بقلم سيلا وليد
رواية وكأنها لي الحياة (شظايا قلوب محترقة 2) الفصل الثاني 2 بقلم سيلا وليد
رواية وكأنها لي الحياة (شظايا قلوب محترقة 2) البارت الثاني
رواية وكأنها لي الحياة (شظايا قلوب محترقة 2) الجزء الثاني

رواية وكأنها لي الحياة (شظايا قلوب محترقة 2) الحلقة الثانية
لم يَمت الحبُّ وحده… ماتت معه كل الكلمات التي كانت تسكن قلبي ذات يوم.
لم يبقَ من المعاني إلا صدى خافتٌ لأنينٍ قديم، دفنوه بأحكامهم الجاهزة، وبعيونٍ لم تُجيد سوى النظر من بعيد.
لم يحاول أحد أن يقرأ حكاياتي من عيني، أو أن يلمس وجع الشعور في صدري.
كانوا سريعين في إصدار الحكم… باردين في مشاعرهم، وكأن القلوب تحوّلت إلى حجارة لا تعرف سوى مصالحها.
وهكذا… سقط قلبي قتيلًا أمام أعينهم، دون أن يرفّ لهم جفن،
وغادرتُ الجنازة وحدي… أنا الميت والباكي والمُشيّع…
عند ميرال قبل ساعات..وخاصَّةً بعد
إغلاقها الهاتف مع إلياس، ضغطت على مقودِ السيارة وتحرَّكت وهي تبكي تتخيَّل صراخ إلياس، تحرَّكت بالسيارة بعض الخطوات، لتشعرَ بحركةِ جنينها بأحشائها وكأنَّه يشعرُ بما تمرُّ به، توقَّفت تبكي بصوتٍ مرتفع، تضربُ على المقود:
-ليه بيحصل معايا كدا، ليه..عملت إيه لدا كلُّه..قالتها تبكي بشهقاتٍ حتى شعرت بانقطاعِ أنفاسها، وقعت عيناها على صورةِ طفلها بالسيارة، لتسحبها بين أناملها ثمَّ ترجَّلت منها تاركةً كلَّ شيء، وخطت بعض الخطواتِ مبتعدة، فجأة..توقَّفت تنظر إلى صورةِ طفلها مرَّة وإلى السيارة مرَّةً أخرى، أسرعت إلى السيارة التي تقفُ على حافَّةِ النهر، ودارت بعينيها بالمكان تلتقطُ أي كاميرا، ولكن المكان كان خالٍ من الكاميرات، فتحت باب السيارة وقامت بتشغيلها تُحرِّكها الخطوة التي تبعدها عن النيل، ثمَّ ابتعدت لتقعَ بالنهر أمام أعينها، مع دموعها التي تنسابُ بصمت، ظلَّت للحظاتٍ تنظر إلى السيارة التي بدأت تسقطُ تحت المياه، ثمَّ تراجعت تزيلُ دموعها بقوَّةٍ تهمسُ لنفسها بضعف:
-ابعدي ياميرال، مالكيش مكان معاهم، عايزة تموتي كافرة، ابعدي، سبيهم يتهنُّوا بحياتهم، ابعدي عن جوزك وابنك مالهمشِ ذنب يتعايروا بيكي
نظرت للصورة التي بين يديها تهمسُ بخفوت:
-يوسف حبيبي، سامحني ياروحي، بس هتلاقي اللي يربِّيك زي اللي ربَّاني، متأكدة من ماما فريدة مش هتفرَّط فيك، حبيبي متزعلشِ منِّي، بكرة تكبر وتعرف عملت كدا ليه، هيجي الوقت ويقولوا جدك وجدتك قتلوا جدك..وقتها مش هعرف ارد عليك، مش اعرف اكدبهم، ياريتها كدبة ياحبيبي، وللاسف الكل بيبص لمامتك انها بنت مجرم، وبكرة لما تكبر هيقولوا كدا، جدك كان مجرم وارهابي، خليك مع باباك، يعرف يحميك اكتر مني، عارفة ومتأكدة أنه مش هيفرط فيك…احتضنت أحشاءها
-ولو لينا نصيب نتقابل اكيد هتسامحني..أما انت مش لازم تيجي على الدنيا دي، حبيبي انا اسفة، بس نصيبي اتنازل عن واحد وانزل التاني، مفيش حد بيهرب من قدره…قالتها لجنينها وتحرَّكت حتى غادرت المكان بالكامل، ظلَّت تتحرَّك دون هدى، خارت قواها وجلست على أحدِ المقاعدِ بالأرصفة، تنظر إلى حركةِ السياراتِ السريعة، وداخلها قطعةً صغيرةً تتلَّوى كأنَّها تشعر بحالةِ ضياعها، دقائقَ إلى وصلت ساعة كاملة وهي جالسة بمكانها، الذي يقعُ بأحد الأماكنِ النائيةِ عن القاهرة، لا تعرف كيف وصلت إلى هنا، يبدو أنها مشت كثيرًا، نهضت من مكانها وظلَّت تتحرَّك دون اكتراثٍ لحالةِ الألم التي تسرَّبت لجسدها، حتى توقَّفت تأخذُ أنفاسها بعدما شعرت بالإرهاق الشديد، استندت على الجدار، ومازالت صورةُ طفلها بين كفَّيها، اتَّجهت بنظرها إلى أحد الطرقِ الفرعية، وتحرَّكت إليه لا تعلم أين تذهب، كلُّ ماتعلمهُ تريد أن تبتعد عن كلِّ شيءٍ يربطها بالماضي،
ظلَّت تسير بالشوارعِ إلى أن توقَّفت بجسدٍ منهك، تنظرُ إلى تلك اللافتة التي يدوَّنُ عليها:
استشاري النساء والتوليد..
وضعت كفَّيها على أحشائها، ثمَّ همست لجنينها:
-سامحني حبيبي مالكشِ ذنب..
قالتها وولجت تصعدُ درجاتِ السلَّم بإنهاك إلى أن وصلت الطابق المنشود، كانت الطبيبة قد أنهت عملها، وتقوم الممرضة بإغلاقِ النوافذ، استمعت إلى خطواتٍ واهنةٍ خلفها، التفتت متسائلة:
-نعم..!!
-عايزة أقابل الدكتورة.
أغلقت النافذة واقتربت تنظرُ إلى حالتها الرثَّة، ثمَّ أشارت إليها بالخروج:
-آسفة، الدكتورة خلَّصت كشف عدِّي علينا بكرة، قالتها بخروجِ الطبيبة:
-خلَّصتي يانعيمة؟..
أومأت لها وقالت :
-أيوة يادكتورة..اقتربت منها تخطو وكأنَّها تخطو فوق سيفٍ مدبَّب:
-عايزة أنزِّل البيبي.
قالتها بدموعٍ تنفجرُ كبركٍ جارية،
وهي تضع كفَّها على جنينها..
رفعت الطبيبة عينيها إلى الممرضة وقالت:
-سيبنا شوية..أومأت الممرضة تتطلَّعُ إليها بحزن، وخرجت من الغرفة،
استدارت الطبيبة متسائلة:
-اسمك إيه؟!.،
هزت كتفها وقالت:
-معرفش..تفاجأت الطبيبة بردِّها ثمَّ اقتربت منها تسألها:
-إنتي حامل إزاي؟!
هنا انتفض جسدها من نظراتِ الطبيبة، ورغم ماشعرت به من انكسار إلَّا أنَّها همست قائلة:
-أنا متجوزة، بس جوزي سافر وسابني لوحدي، وأنا مش عايزة الطفل..
توقَّفت الطبيبة واتَّجهت تجلسُ بمقابلها:
-أومال إزاي مش فاكرة اسمك؟..
رفعت عينيها المرتجفة إلى الطبيبة بتيهٍ وقالت:
-لأن دي الحقيقة، أنا اتربِّيت عند ناس وأهلي ناس تانية..
تنهَّدت الطبيبة فيبدو أنَّها تعاني من أزمة نفسية، توقَّفت وأشارت إليها على فراشِ الكشف قائلة:
-إنتي في الشهر الكام دلوقتي؟!
ترقرقت عيناها بالدموع، وهمست بصوتٍ منكسرٍ كأنَّها تعترفُ بذنبٍ عظيم:
-نصِّ الرابع…
توقَّفت الطبيبة للحظة، وقد بدت عليها علاماتُ الدهشة، ثمَّ تنهَّدت ببطء وابتسمت ابتسامةً باهتة، وقالت بنبرةٍ ناعمةٍ رغم الحيرة التي تشوبها:
– شكلك بنتِ ناس…وكمان حلوة ومتعلِّمة، مفكَّرتيش إنِّ اللي هتعمليه دا حرام؟ دا مش بس هيئذيكي، دا هيقتل روح!.
أخفضت ميرال عينيها إلى الأرض، كأنَّها تحاولُ الهروبَ من ذنبها في وجهِ الطبيبة، ثمَّ مدَّت يدها المرتجفة نحو معصمها وخلعت إسورة ماسية، وقدَّمتها للطبيبة بتوسُّلٍ صامت:
– أنا ممعيش فلوس، بس ممكن أدِّيكي دي…
زفرت الطبيبة، ورفعت كفَّها رفضًا:
– أنا مش بتكلِّم علشان الفلوس.. بتكلِّم علشان الحلال والحرام، الجنين دلوقتي بقى ليه نبض، ليه روح، بدأ يتكوِّن…
– عارفة..!!
قالتها بهمسٍ نادم..
– يعني عارفة إنُّه حرام وبتعمليه برضو؟
– حضرتك…هتنزِّلي البيبي ولَّا لأ؟
ساد الصمتُ لوهلة، قبل أن تشيرَ الطبيبة نحو السرير:
– طيب نكشف ونشوف..
تمدَّدت ميرال ببطء، كأنَّها تتهيأُ لمحاكمةِ قلبها.مسحت الطبيبة السائل على بطنها، ولحظات فقط كانت كافية لظهورِ النبضِ على الشاشة
واضحًا…حيًّا، ثمَّ ارتفع صوتُ الجهاز ينبض، منتظمًا…دُق دُق دُق.
كانت كلُّ نبضةٍ سهمًا ينغرسُ في صدرها، ودموعها تتراقصُ بجفنيها تهدِّدُ بالسقوط..ناولتها الطبيبة محرمة بلطف، ثمَّ ابتسمت بعدما وجدت تردُّدها وأردفت:
– حالة الجنين كويسة جدًا..وشكلها بنوتة كمان…
وضعت ميرال يدها فوق بطنها، تتحسَّسُ نبض جنينها وهمست متسائلة:
-بنت..!!
هزَّت الطبيبة كتفها وقالت:
-احتمال كبير، نعمة مش كدا، تمتمت بها الطبيبة وعيناها تتفحَّصها، فأغمضت عينيها…وعقلها ينخرُ ذاكرياتها مع إلياس..
-إلياس ليه مردتش عليَّا في موضوع الحمل؟!.
“حبيبي، إحنا هنأجِّل الحمل لمَّا تخلَّصي كورس العلاج النفسي…وقتها وعد منِّي هاخدك بنفسي للدكتور.”
– مش يمكن لمَّا أحمل..يساعدني
ياإلياس؟
مرَّر كفِّهِ فوق رأسها، ثمَّ طبع قبلةً هادئةً على جبهتها:
– أنا كمان عايز أطفال..بس عايزك أقوى الأوَّل…أقوي علشان تقدري تواجهي ولادك، متنسيش يوسف عايز مسؤلية كمان مع البيبي..
– أنا كويسة..
هزَّ رأسهِ رافضًا، ورفع ذقنها برقَّة:
– لو كنتي كويسة، كنتي نزلتي شغلك… أنا مش هسيبك كدا..أنا عايز ميرال اللي كانت تقرفني بشغلها، وتيجي عندي وتطلب مقابلة المتَّهمين…مش البنتِ اللي قدَّامي..
– التانية كانت ميرال السيوفي،
ياإلياس…بنتِ مدام فريدة، الستِّ النضيفة اللي الكلِّ بيحترمها…دلوقتي ميرال الشافعي، بنتِ رانيا وراجح.
تغيَّرت ملامحه، واشتعلت نظراتهِ بغضبٍ مكتوم، أمسك وجهها بيديه:
– إنتي ليه مصرَّة تصدَّقي كدبة؟ إنتي بنتِ فريدة، ومحدش في الدنيا يقدر يقول غير كدا.
– بس دي مش الحقيقة…
نهض واقفًا، يتنفَّسُ بثقل، ثمَّ أشار بيده:
– اسمعيني كويس..إنتي مش بنت راجح..أنا مش عايز أسمع الهبل دا تاني، إنتي بنتِ البيت دا، وهتفضلي فيه لحدِّ مانندفن فيه…سمعتي؟
اقتربت منه بخطا متعثِّرة، أحاطت عنقهِ بذراعيها، ومسَّدت على صدره:
– خلاص..متزعلش منِّي…ماتبقاش قفُّوش كدا…أنا مصرَّة ياحبيبي، عايزة أحمل…وأجيبلك بنوتة.
رفع حاجبهِ ساخرًا:
– خلاص حدِّدتي النوع كمان؟ طب لو قولت عايز ولد؟ مش عايز بنات يجنِّنوني…كفاية إنتي.
ضحكت بصوتٍ صادق، ودفنت وجهها في عنقه:
– بس بقى..متبقاش رخم كدا…أنا عارفة…إنتَ عايز بنت، زيِّ…
قطب جبينه:
– ودا استنتاج الأستاذة؟ أكيد لأ… البنات عايزين دلع وأنا مش هعرف أربِّيهم.
– بالعكس، ياإلياس…هتكون أب حنون جدًا…خصوصًا للبنات، أنا متأكدة.
رفع ذقنها ونظر في عينيها بعمق:
– يعني مش هتغيري من شمسِ أبوها؟
تراجعت قليلاً:
– مين شمس أبوها دي؟
ضحك، ثمَّ حملها بين ذراعيهِ وهمس:
– لا..دي متتقالش كدا نظري…
ياروحي.
قطعت الطبيبة شرودها:
– هكتبلك شوية مقويات وتحاليل…
رفعت الطبيبة رأسها بتردُّد، وسألتها:
– لسه عايزة تنزلي البيبي؟
هزَّت رأسها بسرعة، وقد اتَّخذت قرارها:
– لا..مش هنزِّله.
أومأت الطبيبة برضا، ووضعت صورة السونار في يدها:
– اللي كنتي عايزة تعمليه دا..جريمة، حرام شرعًا وقانونًا..لو زعلانة مع جوزك، حاولي تشوفي حل…غير إنِّك تقتلي روح بريئة.
ارتعشت شفاهها، وتمتمت:
– خلاص..مش عايزة أنزِّله..شكرًا لحضرتك…
ثمَّ توجهت نحو الباب، قبل أن تتوقَّفَ فجأة:
– ممعيش فلوس لفيزا الكشف… هعدِّي عليكي في وقت تاني.
أوقفتها الطبيبة :
– استني..اسمك إيه؟ وساكنة فين؟ أخلِّي السواق يوصَّلك؟.
أجابتها بصوتٍ خافت:
– شكرًا لحضرتك…قالتها وغادرت…
نزلت السلَّم بخطا مثقلة، وجلست على الرصيف كأنَّها تحملُ الدنيا فوق كتفيها..الشارع بدا موحشًا، والضوء شاحبًا..مرَّت سيارة، ثمَّ ظهر شاب مترنِّح، تفوح منه رائحةَ الخمر:
– الحلوة قاعدة لوحدها؟ مستنية حد؟ أنا موجود…والليلة برد.
اقترب ومدَّ يدهِ نحوها، لكنَّها انتفضت وصرخت:
– ابعد عنِّي ياحيون..
لطمت وجهه، بعدما حاول جذبها، ثمَّ دوى صوتُ الممرضة التي كانت تتحرَّكُ بالجانبِ المقابل متَّجهةً إلى وسيلةِ مواصلات:
– ابعد عنها ياكلب.
فرَّ الشاب، واقتربت الممرضة منها، بينما ارتجف جسدُ ميرال، وقالت بصوتٍ باكٍ:
– شكرًا لحضرتك..قالتها وهمَّت بالمغادرة، ولكنَّها أوقفتها:
– استني يا بنتي..أنا سمعت كلامك مع الدكتورة…
تردَّدت لحظة، ثمَّ أردفت:
– أوعي تخلِّي راجل يتحكِّم في وجعك…ماتتنازليش عن حتة منِّك، حتى لو العالم كلُّه باعك…لو الحمل دا شر، ربِّنا ماكانش رزقك بيه.
انهمرت دموعُ ميرال، وتمتمت بصوتٍ كصوتِ طفلٍ يدافعُ عن أبيه:
– هوَّ ميعرفش…هو كويس…
اقتربت منها الممرضة، وقد بدا عليها القلق:
– إنتي مين يابنتي؟ إيه اللي وصَّلك لكدا؟!
أجابت ميرال بصوتٍ متقطِّع:
– أنا معرفشِ أنا مين…أنا…معرفش…
تحرَّكت مبتعدة، لكنَّها توقَّفت بعدما شعرت بكفِّ الممرِّضة تمسكُ بذراعها برفق:
– هتروحي فين؟ الدنيا ليل…والجوِّ برد.
هزَّت كتفيها، وأجابت بيأس:
– معرفش…همشي يمكن..ربِّنا يخلَّصني من الدنيا دي، بس مش عايزة أموِّت نفسي علشان ماكونش كافرة…
سكتت المرأة لحظة، ثمَّ قالت بهدوءٍ حنون:
– طيب…إيه رأيك تباتي عندي الليلة؟ والصبح يبقى ربِّنا يحلَّها…
توقَّفت ميرال عند الرصيف، متردِّدة، قدماها كأنَّما التصقت بالأرض، عيناها متشبثتانِ بنظراتِ السيدة التي مدَّت لها يد النجاة..جسدها يرفضُ أن يستجيب…
اقتربت نعيمة وربتت على كتفها بعدما انهمرت الأمطارُ بغزارة، ومالت عليها بحنوِّ :
– الجو بيمطَّر يابنتي…وأنا مستحيل أسيبك هنا، ياتقوليلي اسمك أو رقم جوزك، ياتيجي معايا.
وضعت ميرال يديها المرتجفتينِ على بطنها المنكمشِ من الخوف، فاسترسلت نعيمة:
– علشان خاطر اللي في بطنك…ده أمانة، حرام عليكي تسيبيه، هتتسئلي عنَّه.
هزَّت رأسها بعنادٍ موجوع، وابتعدت ببطءٍ كأنَّ كلَّ خطوةٍ منها تُجرُّها بأنين:
– شكرًا…أنا همشي.
لكن نعيمة اعترضت طريقها، بعد أن اشتدَّت زخَّاتُ المطر وضربت الأرض بجنون، ثمَّ سحبتها من كفِّها برفق، وهمست برجاء:
– مستحيل أسيبك في الجوِّ ده..حتى لو لقيتي حيطان تحميكي من البرد… هتلاقي كلاب الشوارع بينهشوا لحمك من غير رحمة.
توقَّفت ميرال للحظة، وهي تشعر بوهجِ حنانها يتسلَّلُ لجسدها البارد، هنا..تذكَّرت “فريدة”، وكيف أمسكت يد “رؤى” يوماً ما، وقالت لها: “الحياة الوحيدة اللي فيها أمل، هيَّ اللي بنلاقي فيها حدِّ يمسك إيدينا، عمر الخير مايضيع يابنتي، ودي بنت، مفيش حاجة اسمها ارمي الخير في البحر، وزي ماأنا لقيت مصطفى وغادة..رؤى كمان لقيتنا، وهكذا الحياة”
تحرَّكت بجوارِ نعيمة تردِّدُ في عقلها:
هل تُعيد مأساة فريدة من جديد؟
أقنعت نفسها: لعلَّها تجدُ عند هذه السيدة ماوجدتهُ فريدة عند غادة ومصطفى، ورؤى عند فريدة..
استسلمت لجسدها المرتعش، وتحرَّكت بجانبِ السيدة التي أسرعت بخلعِ وشاحها الثقيل ولفِّهِ على أكتافِ ميرال المرتجفة تربتُ عليها بحنوٍّ بالغ:
– متخافيش يابنتي…واللهِ ماهعمل فيكي حاجة.
ابتسمت بهدوء، ولكنَّها توقَّفت بعدما شعرت بشيءٍ داخل كفَّها حين سحبته…صورة مشوَّشةُ الملامح تبلَّلت من المطر، سألتها بدهشة:
– مين ده؟
نظرت ميرال إلى الصورة،فملأتها بالدموع، ورفَّت أناملها المرتعشة عليها تحاولُ أن تعدل من وضعيةِ الصورة بعد ماأصابها المطر، وهمست بأنينِ أم:
– يوسف..ابني.
شهقت السيدة وهي تضربُ على صدرها:
– أوعي تقولي مات؟
هزَّت ميرال رأسها نافية، ثمَّ تمتمت بصوتٍ مخنوق:
– بعد الشرِّ عليه من أي ألم، لا..هوَّ مع باباه، سبتُه مقدرتش آخده معايا.
وصل الميكروباص، فأشارت السيدة إليه:
– طيب اركبي بسرعة.
تردَّدت قليلاً، لكن هتف السائق بصوتهِ الغليظ كسر تردُّدها:
– يلَّا ياأبلة…عايزين نروح من البرد.
صعدت السيارة بجهل، وجلست بجوارِ النافذة، وعيناها لا ترى سوى قطراتِ المطر تحاولُ عبثًا أن تمحو ماضيها…
ظلَّت نعيمة جوارها طوالَ الطريق، حتى توقَّفت السيارة في موقفٍ آخر، ثمَّ استقلَّتا توكتك عبر شوارعَ ضيِّقة متشابكة كأنَّها متاهة من قدر…
ترجَّلتا في حيٍّ شعبي متواضع بأطرافِ القاهرة..
نظرت ميرال حولها بخوفٍ كأنَّها دخلت كوكبًا غريبًا، حتى شعرت بكفِّ نعيمة تسحبها من ذراعها:
– حتى الكهربا قاطعة…ياترى ياهند بتعملي إيه ياقلبي لوحدك.
تبعتها ميرال متردِّدة، إلى أن دلفت إلى بيتٍ صغير..
صاحت نعيمة من الداخل:
– تعالي يابنتي، ادخلي.
خرجت فتاة صغيرة تحتضنُ مصحفها وتنيرُ وجهها بطاريةَ شحنٍ خافتة، وقالت بلهفة:
– اتأخرتي أوي ياماما.. والكهربا قطعت.
ضمَّتها نعيمة وقبَّلت جبينها:
– معلش ياحبيبتي..الدكتورة مسافرة، وكان عندنا كشوفات كتير…بس الحمدُّ لله جيت.
نظرت هند إلى ميرال، وسألت بفضول:
– مين دي ياماما؟
استدارت نعيمة تنظرُ إليها برقَّة:
– ادخلي يابنتي..دي هند بنتي، ومفيش غيرنا في البيت، جوزي متوفي من سنين…ارتاحي، اعتبريه بيتك.
دخلت ميرال بتردُّد، تسمَّرت عيناها على المصحفِ بين يدي هند، فهدأ قلبها قليلًا..
– اسمك إيه يابنتي؟ تساءلت بها نعيمة، فأضاءت الكهرباء فجأة..
ابتسمت ميرال بخفَّة وقالت:
– اسمي..مروة.
لم تعرف لماذا نطقت بهذا الاسم..
هل الماضي أصبحَ جزءًا منها…أم أنَّ حياتها أُجبرت على دفنها لاستقبالِ الماضي؟
جلبت لها نعيمة ثيابًا نظيفة:
– عارفة هدومنا بسيطة، بس حاولي تقضِّي بيهم لحدِّ ماهدومك تنشف، جسمنا واحد..قالتها ثمَّ التفتت لهند:
– روحي مع أبلة مروة، وورِّيها الحمَّام، تاخد دش سخن..وأنا هسخَّن شوربة العدس..
بعد قليل، جلس الثلاثة على “طبلية” صغيرة، أمامها شوربة العدسِ الساخنة وبعضَ المخلَّلات..
نظرت ميرال إلى الطعام، وارتعشت جفونها…متذكِّرةً حديثَ فريدة، عن شوربةِ العدس الدافئة وأهمِّيتها بالشتاء..
ربتت نعيمة على ظهرها:
– عارفة أكلنا بسيط، بس نضيف وهيدفِّيكي.
تناولت الملعقة بأصابعَ مرتعشة، وقالت بخفوت:
– ريحته حلوة…وأنا مش قرفانة.
رفعت الملعقة إلى فمها، لكنَّها لم تتذوَّق الطعم…بل تذوَّقت مرارةَ الفراق..
مرارة صورةِ زوجها وطفلها وهي تعصفُ بها من الداخل..
وضعت الملعقة بهدوءٍ وقالت:
– مليش نفس..أنا عايزة أنام شوية، ممكن؟
هزَّت نعيمة رأسها بأسى:
– يا بنتي، إنتي حامل…ولازم اللي في بطنك يتغذَّى.
– شكرًا..بجد، بس مليش نفس.
وقفت نعيمة، وساعدتها على النهوض:
– دي أوضة هند..بتذاكر فيها، وبتنام معايا، أنا هخلِّيها تذاكر برَّة، وإنتي نامي وارتاحي، زي أختي بالظبط.
– شكراً لحضرتك..
دخلت الغرفة الصغيرة، وطافت عيناها على الأركان، شعرت بدفءٍ غريبٍ لم تعرفه من قبل..
اتَّجهت للفراشِ البسيط وتمدَّدت… كانت تظنُّ أنَّها لن تنام، لكنَّها غابت في سباتٍ عميق، وكأنَّ الحياةَ منحتها فرصةً للهرب..ولو لساعات.
بقصرِ الجارحي.. بعد عدة أيام
كان الجميع يجلسون على طاولةِ الطعام ولكن هناك من الألمِ ماتنطقهُ العيون، بعد ماصار لميرال..
رفع فاروق رأسهِ وتساءل:
-أرسلان في فيلا السيوفي دلوقتي؟.
أومأ إسحاق وقال:
-حالتهم صعبة جدًا، المشكلة ميعرفوش إنَّها عايشة ولَّا ميِّتة، وإلياس بيقول طول مادفنَّهاش يبقى لسة عايشة..
تآذر الوجعُ بالقلوب لتتمتمَ صفية:
-حبيبتي لسة صغيرة، وكمان ابنها ياحبيبي..إزاي وقعت في النيل؟.
زفر اسحاق باختناقٍ يمسح على وجههِ بسأمٍ وقال:
-محدش يعرف لحدِّ دلوقتي إيه اللي حصل، وزي ماغرام قالت دي كانت فرحانة علشان حامل..
شهقت صفية تضربُ على صدرها:
-ياحبيبتي يعني حامل كمان، ياربِّ يصبَّرك يافريدة إنتي وابنك، الله يكون في عونهم.
-ربِّنا يصبَّرهم فعلًا، إلياس عامل زي المجنون، ومصطفى اتحجز في المستشفى هوَّ وفريدة..الاتنين حالتهم توجع القلب..
-لا حول ولا قوَّة إلا باللهِ العليِّ العظيم..
طيب إيه ياإسحاق مش المفروض نكون معاهم في الوقتِ دا؟..قالها فاروق.
تأرجحت عيناهُ بحيرة، ونطق:
-واللهِ ماعارف يافاروق، كلِّ اللي أعرفه
إلياس رافض أيِّ كلام في الموضوع دا، وأنا سيطرت على الخبر، كلِّ اللي قاله إنَّها سافرت برَّة مصر وبس، غير كدا مقالش..مش عارف بقى هنروح إزاي.
أصدرت صفية ايماءة بسيطة وقالت:
-خلاص خلِّي غرام وأرسلان هناك، وكدا كدا همَّا بيزوروهم على طول، يعني إلياس مش هيتكلِّم.
بعيونٍ مكدَّسةٍ بالحيرة هزَّ كتفهِ ورد:
-والله أنا مقدرشِ أقول حاجة لأرسلان، لأنُّه أصلًا تايه ومش حاسس بحاجة، مهما كان دا أخوه ومرات أخوه، بغضِّ النظر لو رفضنا إنَّها بنتِ عمُّه..
نهضت ملك معتذرة:
-أنا شبعت هطلع أكمِّل مذاكرة..قالتها بنبرةٍ حزينة..
ربتت صفية على كتفها وقالت:
-روحي حبيبتي، ومتنسيس تكلِّمي خطيبك تسأليه عن مامته وباباه..
حاولت كبحَ دموعها، هزَّت رأسها بعدما فقدت النطق، وصعدت إلى غرفتها، دلفت للداخلِ ولم تستطع مقاومةَ طوفانِ دموعها التي انسدلت كزخَّاتِ المطر، وضعت كفَّيها على فمها تمنعُ شهقاتها، واتَّجهت إلى فراشها، تتَّخذهُ ملجأها بعدما فقدت قدرتها على الحركة، جلست لبعضِ الوقت، اتَّجهت بنظرها إلى هاتفها، مرَّرت أناملها عليه لبعضِ اللحظات ثمَّ رفعتهُ دون تراجعٍ وطلبت رقمه، لحظات إلى أن رد:
-ألووو..
نطقها إسلام بنبرةٍ ثقيلةٍ ممزوجةٍ بنيرانِ الألم..
-عامل إيه؟.
-مش كويس خالص..
تمتم بها بتنهيدة، واستطرد بنبرةٍ حزينة:
-ماما تعبانة أوي ياملك، وإلياس حياته ادمَّرت..
-إسلام ممكن تهدى، وإن شاءالله كلِّ حاجة هتكون تمام.
انكمشت ملامحهِ بألمٍ يصرخُ داخله:
-إيه اللي هيكون تمام بس ياملك، ميرال اللي خلاص مش لقينَّها، ولَّا ماما اللي مش حاسة بحاجة من وقتِ الخبر، ولَّا أخويا اللي عايش ومش عايش..
حاولت أن تخرجهُ من حالته، فقالت:
-طيب إنتَ فين دلوقتي، عمُّو إسحاق بيقولِّي باباك ومامتك في المستشفى..
اتَّجه بنظرهِ إلى الغرفة التي تُحجزُ بها فريدة وطالعها بأعينٍ هالكةٍ بالألم وأجابها:
-بابا فاق والحمدُ لله كويس، ماما بس اللي تعبانة شوية، أنا عندها في المستشفى، وغادة هنا كمان.
-أجيلك؟..همست بها بصوتٍ خافت..
صمتَ ولم يجبها، ردَّت:
-هكون معاك بس مش هنتكلِّم في حاجة، بس لازم أكون جنبك، قلبي بيقولِّي كدا ياإسلام..
قالتها بتوسُّلٍ اخترقَ قلبه، وشعر كأنَّها سلبت فؤادهِ بنعومتها، أومأ رأسهِ وقال:
-مستنيكي..
اغروقت عيناها بالدموع وابتسمت ناهضةً من فوق الفراش قائلة:
-عشر دقايق وأكون عندك.
-ملك..نطقها بنبرةٍ خافتةٍ وقال:
-خلِّي بالك بلاش تسوقي بسرعة، الجوِّ مطر، متقلقنيش عليكي..
لامست كلماتهِ حوافَّ قلبها، ممَّا جعله ينبضُ بعنفٍ من فرطِ سعادتها وردَّت:
-متخافشِ عليَّا..
بمنزلِ يزن..
جلس في الحديقة، يحتضنُ رأسهِ بين كفَّيه، وعيناهُ تقذفانِ شررَ الألم.. اقتربت منه إيمان، وجلست بجواره، تُطوِّقُ كتفه بيدها بحنو:
– حبيبي، عامل إيه؟
تنهَّد بعمق، وتراجع بجسدهِ للخلف، يهزُّ رأسهِ نفيًا:
– مش كويس خالص ياإيمان..
هتجنِّن وأعرف إيه اللي حصل..مش معقول حادث طبيعي!!.حتى لو كان طبيعي…إيه اللي ودَّاها هناك؟!
أنهى كلماتهِ بوصولِ كريم، الذي جذب مقعدًا وجلس بجوارهم:
– فيه جديد يايزن؟
– لأ…تلات أيام ومفيش أيِّ خبر..كذا فريق إنقاذ، وبرضو مفيش نتيجة.
أجابهُ كريم بنبرةٍ واقعية تخالطها الحذر:
– النيل كبير وعميق يايزن..مش سهل يلاقوها بسرعة، وكمان ممكن الحادثة حصلت قبل ماإلياس يعرف بوقتِ طويل.
تساءلت إيمان، وقد بدا القلقُ في نبرتها:
– هوَّ طارق ورؤى فين؟
أجاب يزن وهو يطالعُ الأرضَ بشرود:
– رؤى في فيلا السيوفي، وطارق راح الشركة مع رحيل، عندهم اجتماع مهم..
عايزين كلِّ حاجة تمشي طبيعية… محدش يشكِّ في حاجة، الحكاية دي لو انكشفت هتكون خبطة كبيرة لإلياس..متنسيش من فترة كانت قضية راجح، ودي ممكن تحطُّه في دايرة الاتهام تاني.
شهقت إيمان، وقد بدأ الخوف يتسلَّلُ إلى صوتها:
– يعني ممكن يتِّهموه بقتلها؟!
أغمضَ يزن عينيهِ بقوَّة، وأرخى رأسهِ على ظهرِ المقعد، كأنَّ الغصَّة التي شقَّت جوفهِ تحاولُ أن تخنقه:
– دي مشكلة كبيرة جدًا لإلياس للأسف..إسحاق الجارحي لمَّحلي إنِّ رانيا لو عرفت، ممكن تتِّهمه بقتلها، وتقول إنُّهم أرغموها وهدِّدوها تزور تحليل DNA
صاحت إيمان بدهشة:
– مش معقول يايزن!.. دي لسة هتقدر تعمل حاجة بعد اللي حصل؟!
-طيب ناويين على ايه؟!
معرفشِ والله ياكريم، أنا كلِّ اللي يهمِّني دلوقتي، ميرال عايشة ولَّا ميتة،
ربت كريم على كتفه:
-إن شاءالله هتكون عايشة، وأكيد هيوصلولها.
-على ماأظن إلياس مش هيسكت ولا حيرتاح غير لمَّا يوصلَّها.
بالمشفى وخاصَّةً بغرفةِ فريدة..رفرفت أهدابها متأوِّهة، نهضت غادة سريعًا من مكانها واتَّجهت إليها، بدخولِ أرسلان وإسلام:
-ماما حبيبتي..قالتها غادة، لتفتح فريدة عينيها تتجوَّل بأنظارها في الغرفة، نظرت إلى الأبرِ التي تُغرزُ بكفَّيها وهمست متسائلة:
-أنا فين؟.
اقترب إسلام ورسم ابتسامة قائلًا:
-إيه يامدام فريدة على رأي إلياس كدا توقَّعي قلوبنا..
تاهت بنظراتها بينهم:
-إيه اللي حصل؟..
انحنت غادة تساعدها في الجلوس، تضعُ خلفها وسادة:
-حبيبتي ارتاحي مفيش حاجة..
رفعت رأسها تنظرُ بعيونِ غادة:
-فين ميرال، محدش قالَّها إنِّي تعبانة..
قالتها محاولةً الهروب من صفعاتِ عقلها عندما تذكَّرت ماصار..
اقترب أرسلان الذي يحاولُ التماسك أمامها بشقِّ الأنفس:
-حبيبتي ارتاحي دلوقتي الدكتور قال ممنوع الإرهاق..
أمسكت كفَّيه وحاوطتهُ بنظراتها:
-فين أخوك ومراته؟.
جاهد في إخفاء اعتصارِ أضلعهِ أمامها، ولكن خانت قواه رغم محاولاتهِ المستميتة لتتدحرجَ دموعه، ابتعد وأدار ظهره، بينما اقترب إسلام بدخولِ ملك ملقيةً السلام:
-مساء الخير..إزي حضرتك ياطنط فريدة، حمد الله على سلامة حضرتك..
-أهلًا حبيبتي.
دلف مصطفى يجرُّ أذيال جراحهِ المتلاطمة بصدره:
-حمد الله على السلامة يافريدة.
-مصطفى…فين إلياس وميرال؟..
-ماما..تمتم بها إسلام في محاولةِ تهدئتها، فوالده يمرُّ بوعكةٍ صحية غير عتابه الدائمِ لنفسه لما جنتهُ يداه..
اتَّجه مصطفى وجلس بجوارها، يطوِّقها تحت جناحِ ذراعيه:
-فريدة، ميرال عملت حادثة، والعربية وقعت في النيل، وبيدوَّروا عليها، ادعيلها..
كانت مشدوهة لما تسمعه، حتى شعرت بثقلِ لسانها ممَّا جعلها فاقدةً النطق لبعضِ الدقائق..
مسَّد مصطفى على رأسها بحنان:
-عايزك قوية زي كلِّ مرَّة لو سمحتي.
تسارعت نبضاتها، وشعرت بالاختناق، وألمًا حادًّا استوطنَ خلاياها، تهمسُ باسمِ ميرال..
في حين نكس مصطفى رأسهِ أسفًا، وتمتمَ بألمٍ اعتصر روحه:
-الانقاذ بيدوَّروا على الجثة في النيل.
شهقت بصوتٍ مسموع، ثمَّ رفعت رأسها وارتسمَ الألمُ بمقلتيها وهي تطوفُ بنظرها بينهم، تحاولُ استيعاب ماتلفَّظهُ مصطفى..حرَّكت شفتيها التي بهتت مع شحوبِ وجهها:
-ميرال مين؟!.
قالتها لتخترق صدورَ الموجودين..
-ماما..لو سمحتي، كفاية إلياس
هنا شعرت وكأنَّ أحدهم ألقاها بعصا غليظة فوق رأسها، ليترنَّحَ جسدها من شدَّةِ ماأصابهُ تهمسُ بخفوت:
-إلياااس..همست بتقطُّعٍ تكبحُ غلالةَ دموعها التي وخزت جفنيها، لتعود بالنظرِ إليهم:
-قصدك بيدوَّروا على جثِّة ميرال بنتي؟!.
قبَّل مصطفى جبينها واحتضنَ وجهها ينظر لعينيها التائهة:
-آسف يافريدة مقدرتش أحميها، أنا كسرتها..
-بابا مش وقته، نطقها إسلام بغضب..
سقطت الكلمة كسكِّين على قلبِ فريدة..
ونظرت حولها، تبحثُ بأعينهم عن أي منجى لكلماتهم، ولكن هناك قدرًا، لابدَّ أن تهربَ منه، لا مفرَّ من الوجع أيتها الأمُّ المفجوعة، نعم لم تكن ابنتك، ولكنَّها كانت تمثِّل لكِ الحياة..دارت حولها كالذي يحلم بكابوس، بل كمن انتُزعت الحياة من بين يده..
-ميرال بنتي!!.
رفعت عينيها إلى نجلها، ودقَّقت بملامحهِ ورغم حالتهِ إلَّا أنَّها تساءلت غير مستوعبة ماتلفَّظتهُ شفاههم:
-فين أخوك يابنِ الجارحي؟.
أيام أخرى خيَّمت على الجميع بالحزنِ بعدما فقدوا الوصول إليها..
عند إلياس كان جالسًا بالحديقةِ ينظرُ أمامهِ بشرود..وصل إليه مصطفى وظلَّ يراقبهُ لبعضِ الدقائق، ثمَّ اقترب منه ووضع كفِّهِ على كتفه:
-عامل إيه ياحبيبي ؟!
لم ينظر إليهِ وكأنَّه لم يكن موجود، اتَّجه بنظراتهِ إلى طفلهِ الذي يلهو بالحديقةِ مع غرام وبلال، سحب المقعد وجلس بجواره:
-مش عايز ترد على أبوك ياإلياس، وصل أرسلان بتلك اللحظة وقال:
-عمُّو مصطفى، لو سمحت مش وقته..لم يلتفت إلى أرسلان ولكنَّه اتَّجه يجلسُ أمام ذلك الحاضرِ الغائب واحتضنَ وجهه:
-آسف..
نزلت دموعهِ بصمتٍ دون أن يتفوَّهَ بحرف، ورغم ذلك ظلَّ كما هو.. كالجسدِ الذي فقدَ الحياة، انحنى أرسلان يرفع مصطفى من أمامه:
-لو سمحت، علشان خاطري..
رفع عينيهِ إلى أرسلان:
-مكنشِ قصدي، ولا كنت أعرف دا كلُّه هيحصل.
-عمُّو مصطفى لو سمحت..نطقها وهو يراقبُ أخاهُ إلى أن هزَّ مصطفى رأسهِ وقال:
-فين فريدة؟!
أشار إليه أرسلان إلى الاعلى:
-فوق منزلتشِ النهاردة..خطا إليها بخطواتٍ ثقيلة، يعلم أنَّ المواجهة صعبة، ولكن لابد أن تحدث..إلى متى سيهربُ من المكتوب..
بينما اقتربَ أرسلان من إلياس وجلس بمقابلته:
– إلياس هتفضل لحدِّ إمتى كدا، أنا مش عارف أقولَّك إيه، بس لازم تفوق علشان ابنك، إنتَ مش ضعيف أبدًا، يصعب عليَّا أشوفك كدا.
لم يكترث لحديثهِ وظلَّ كما هو يتابعُ طفلهِ الذي سقط على ركبتيهِ يصرخ، نهضت غرام من جوارِ أطفالها واتَّجهت إليه:
-مالك ياحبيبي..
أشار إلى ركبتيهِ وارتفع بكائه:
-اتعوَّرت وجابت دم، أنا عايز ماما..
نهض أرسلان من مكانهِ بعدما وقع بصرهِ على ذلك المشهدِ الذي أدمى قلبه، وهو يرى دموعَ أخيه تتساقطُ بصمتٍ على بكاء طفلهِ ومطالبتهِ بوالدته..
حملهُ أرسلان وتحرَّك به إلى جلوسِ إلياس، ينادي على الخادمة بإحضارِ الإسعافات الأولية..
أجلسهُ فوق الطاولة وفرد ساقهِ مع بكائه:
-إنتَ بتوجعني، عايز ماما علشان تبوسها والألم يهرب زي ماكانت بتقولِّي.
نهض إلياس يتحرَّكُ للداخلِ بعدما فقد اتزانهِ أمام طفلهِ واتَّجهَ إلى غرفته، وجد فريدة ومصطفى بداخلها، اقترب بخطا ثقيلة ينظرُ إلى فريدة التي تحتضنُ ثيابها وتبكي، بينما جلس مصطفى بجوارها يضمُّها لأحضانه..
طاف بعينيهِ على الغرفة التي تمتلئُ برائحتها، فلم يدخلها منذ تلك الحادثة.
وصلت الخادمة إليه:
-نعم ياباشا..؟!
أشار إلى ملابسِ ميرال وأردف بلسانٍ ثقيل:
-جهِّزي الشنط، مش عايز أيِّ حاجة هنا، لمِّي كلِّ هدومنا، وهدوم يوسف، وكلِّ متعلَّقات المدام، وخليهم ينزِّلوا الشنط في عربيتي، وقولي لحنان المربية تجهِّز يوسف هننقل بيتي.
شهقت فريدة ونهضت بجسدٍ مترنِّحٍ مقتربةً منه بعدما أشارت الخادمة:
-روحي يابنتي شوفي وراكي إيه..
تشبَّثت بذراعِ نجلها تنظر إلى ملامحهِ التي بهتت ولم يظهر منها سوى الألمِ والحزن:
-عايز تبعد عنِّي ياإلياس!!.. خلاص عايز تمشي، تقطع علاقتك بالبيت
ابتعدَ دون حديث، وسحب حقيبتهِ يجمعُ ملابسهِ بصمت، مع مراقبةِ فريدة ومصطفى إليه، تحرَّك مصطفى وتوقَّف ينظرُ إليه بأسف:
-إلياس..أنا آسف، واللهِ يابني ماكان قصدي.
رفع رأسهِ أخيرًا إلى مصطفى وهمس بكلماتٍ متقطِّعة:
-شكرًا على كلِّ حاجة، جميلك فوق راسي، بس مبقاش ينفع تقولِّي يابني، خلاص مفيش حاجة تربط إلياس الشافعي بمصطفى السيوفي، إنتَ عندك حق، أنا مش ابنك، وهيِّ كمان مش بنتك، أنا اللي بتأسِّف لحضرتك، آسف علشان أخدت أكتر ماليَّا، وصدَّقني مش زعلان منَّك، أنا زعلان من نفسي علشان طلعت مش قدِّ المسؤولية، معرفتش أحميها من نفسها، رغم تحذيرات الدكاترة بس كنت بسيبها بالساعات والأيام، وهيَّ استحملتني كتير، حضرتك مش مذنب، أنا أذنبت وغلطت وربِّنا عاقبني، علشان يعرَّفني قيمة النعمة اللي ضيَّعتها..
-شكرا مصطفى باشا على كلِّ حاجة..
وصل إليهِ بخطوةٍ ودفع الحقيبةَ بكلِّ محتوياتها وصرخ بصوتٍ زلزل المكان:
-أنا أبوك يالا، سواء رضيت أو لا، وإياك تقولِّي مصطفى باشا دي تاني، سمعتني يابنِ مصطفى..
نظر إلى عيناهُ مباشرةً وتمتم:
-أنا مش ابنك، آه أنا ابنِ الستِّ دي، بس مش ابنك، حاول تعيش على الحقيقة دي، هيَّ مش مُرة أوي، علشان كدا هتنسى بسرعة، وماشاء الله عندك ولدين أحسن منِّي مليون مرَّة.
-إلياس..قالها مصطفى وهو يطبقُ على ملابسهِ يهزُّه ببكاءٍ وأردف باكيًا:
-حبيبي متعملشِ فيَّا كدا، أنا عارف إنِّي غلطت، بس وحياة ربِّنا ماكنت أقصد.
أمسك يديهِ المتشبِّثة بقميصهِ ونظر إليه بكمِّ الألمِ الذي يشعرُ به قائلًا:
-وأنا قولت لحضرتك، إنَّك مش غلطان، الغلط والذنب عندي، دا عقاب من ربِّنا ولازم استحقُّه يامصطفى باشا.
-أنا مش فاهمة حاجة إيه اللي حصل، ممكن تفهِّموني.
ابتعد إلياس قائلًا:
-مفيش، أنا عايز أبني نفسي على إنِّي إلياس الشافعي، كتَّر خير حضرةِ اللوا، هيفضل متحمِّلنا لحدِّ أمتى.
هل هذا ماأخبر به والدته، هل لا تعلم بما صار إلى الآن؟!.
استدار مصطفى يتطلَّعُ إلى فريدة التي تنظرُ إليهم بجهلِ مايتلفَّظونه وقال:
-اللي حصل لميرال بسببي يافريدة، ولكن قاطعه إلياس
-أنا همشي ياماما من البيت خالص، عايز اعود نفسي على إلياس الشافعي ، لأن دا اصلي
اقتربت فريدة منه، تراقبهُ بعينيها المرتجفتين، تشعرُ وكأنَّ قلبها يلفظُ أنفاسهِ بتخبُّطه الزائدِ بصدرها، أمسكت ذراعهِ تنظرُ إلى حدقتيه:
– يعني إيه!!…يعني إيه ياابني عايز تسيب بيت أبوك؟! وايه إلياس الشافعي دي…!!
إنتَ بتقول إيه؟! إنتَ اتجننت؟!
نظر إليها بعينينِ غائرتين، لا دموع فيهما…من يراها يجد أنَّها لوحةً من الحزنِ والألم..
-خلاص مبقاش ليَّا مكان في البيت دا، ولا ليَّا حق في حضرةِ اللوا، خلاص ياماما، لازم كلِّ واحد يرجع لأصله.
– أنا مش فاهمة حاجة؟! إيه الكلام اللي بتقوله ده؟!
لم يُجِب، فقط انحنى يقبِّلُ جبينها بحنانٍ مُر، حنانًا بشعورِ الفقد من كلِّ مايمتلك.
– ماما…محتاج دعواتك وبس، مش تعارضيني..أنا قرَّرت وخلاص، مبقاش ليَّا مكان هنا، افهمي بقى.
نظرت إليه وكأنَّها لا تصدِّقُ ما تسمعه:
–مصطفى إنتَ سامع ابنك بيقول إيه!! بيقول إلياس الشافعي، لا وعايز يمشي، مش زي كلِّ مرَّة لا عايز يبعد، مش عايز تقول حاجة؟!..
ابتلعَ أنفاسه، وأردفَ بصوتٍ خرج مخنوقًا بالخذلان:
– ماما لو سمحتي، أنا فيَّا اللي مكفِّيني، متضغطيش علشان مش هرجع في كلامي مهما قولتي، وكلامك لحضرة اللواء لا هيأخَّر ولا حيقدِّم..قالها وانحنى ليحملَ حقيبته، لكن أوقفهُ صوتُ مصطفى:
– إلياس..
تجمَّد للحظة..لم يلتفت إليه، وظلَّ كالتمثالِ المتجمِّد، إلى أن استمعَ إلى رجائه:
– ما تسبنيش، علشان خاطري، بالله عليك يابني، انا آسف خد حقك بالطريقة اللي تعجبك، بس متبعدش عن ابوك
أغلقَ عينيه، وكأنَّ شيئًا ما كُسرَ داخله، ثمَّ قال بنبرةٍ ثابتةٍ لا تقبلُ الرجاء:
– خاطرك على راسي ياحضرةِ اللوا، مش موضوع ابعد عنك، هتفضل برضو ابويا اللي رباني، بس أنا، أنا خلاص قرَّرت..
التفت إلى والدته، وأضافَ بصوتٍ أضعف:
– من وقت ماعرفت حقيقتي، وانا اقتنعت اني مش ابنِ البيت ده، أنا بس كنت ضيف في حضنِ وهم إلياس السيوفي، وجه الوقت لاحتضان إلياس الشافعي..
ارتبكت فريدة، ونظرت لمصطفى:
– مصطفى…هوَّ بيقول إيه؟! يقصد إيه؟!
انخفض رأسُ مصطفى، وارتجفت يدهِ وهو يمسحُ على جبينه، ولم يجرؤ على النظر إليها:
– ميرال…مشيت بسببي.
– قطبت جبينها فلان تشعر أنهم يتحدثون بالألغاز فقالت
-يعني إيه؟! صرخت بها كأنَّها طُعنت، بعدما فشلت في فهم كلماته وهتفت بضياع:
– مش فاهمة..إنتَ بتقول إيه
يامصطفى؟! يعني إيه ميرال مشيت بسببك؟!
هنا تذكَّرت كلماتهِ عندما دخلت عليه:
-لو كنت أعرف إنَّها بنتِ راجح مكنتش هقبل بيها..دارت كلماتهِ تصفعُ عقلها:
-هل مااخترقَ أذنها حديثُ زوجها!!
استدارت إلى إلياس، تصرخُ بانكسار:
– مصطفى قال على ميرال إنَّها بنتِ راجح ولو عرف كان مستحيل يوافق صح؟.ولَّا أنا اللي كنت بحلم؟!!
نظر إليها بعينينِ يغمرهم الوجع، وقال:
– ماتلوميش حضرة اللواء يامدام فريدة، هوَّ قال الحقيقة، ودا اللي كان لازم أواجه المجتمع بيه، بس أنا للأسف عملت زي النعامة اللي دفنت رأسها في الرمل، كنت بضغط عليها، وأقنعها إنَّها مش بنته، وهيَّ عملت إيه..كانت بتضغط على نفسها علشان متزعلنيش، أنا كنت بحاول أخرَّجها من حقيقة لازم منها، وهيَّ كانت بتحتضر ياماما، ميرال لو ماتت فأنا اللي موَّتها محدش تاني..سمعتيني..أنا السبب، محدش تاني..ضرب على صدرهِ،
أنا اللي ضغطت ودوست وحاولت أخرَّجها من حقيقة مُرَّة لتدخل لحقيقة أصعب وأمَّر، أنا بس ياماما اللي موِّت مراتي..قالها بانهيارٍ حتى فقد اتِّزانهِ ليهوى على المقعد، اقتربت فريدة منه تحتضنُ رأسهِ إلى صدرها:
-حبيبي اهدى، دا عمرها، أنا مش عارفة أعمل إيه، هقولَّك حاجة ومش عارفة هتصدَّقني ولَّا لأ..أنا مش مقتنعة بفكرة موتها دي، أنا حاسة ببنتي عايشة، مش عايزة أديلَّك أمل بس مش مقتنعة يابني غصب عنِّي..
أزال دموعهِ واعتدلَ واقفًا:
-عارف إنَّها ممكن تكون عايشة، بس مش بإيدي حاجة، مش قدَّامي غير إنِّي أستنى لحدِّ ماتظهر، ماهي لو عايشة بحالتها أكيد هتظهر، أكيد مش هتقدر تبعد كتير..اقترب مصطفى منه:
-إلياس..ولكن قاطعهم دخولُ الخادمة في تلك اللحظة:
– جمعنا هدوم البيه الصغير ياباشا.
أشار إلياس إلى الحقيبة بصوتٍ أجوف:
– نزلِّوا الشنطة دي..استدار يرمقُ مصطفى بنظرةٍ تحملُ خذلانًا غير متوقَّع، وقال:
-عايز ألمِّ حاجتي لو سمحتوا..سحب فريدة وتحرَّك بعدما شقَّ صدرهِ نظرةُ إلياس المتألِّمة..
ظلَّت نظراتهِ على مغادرتهم إلى أن أغلقَ الباب، ثمَّ اتَّجهَ إلى غرفةِ نومهما، كأنَّ خطواتهِ تقودهُ إلى مقبرته.
جنازة مؤجلة ..
قبر بلا شاهد..
من ننعي؟؟ من نواسي ؟؟ من نؤازر؟؟
ألم من نخفف ؟؟ وأيُّ جرح أولى بالضماد؟؟
كلناااا نازفون ، كلنا نخفي انكسارات لا يصلحها احتضان، ولا تشفيها الكلمات ،،
من ننعي وقد مات فينا كل شيء ، ماتت الحكايات قبل أن تروى ..
من نؤازر وكلّ من حاولنا التمسك بهم أفلتونا بصمت موجع، وبعضهم غادر كأنه لم يكن وكأنّ مشاعرنا لاتستحق الالتفات..
لم أغادر لانني
أنا السيف والجريح والقا*تل
انا القيد والسجين والسجان
بعد خروج فريدة ومصطفى، اتجه إلى غرفة الملابس، دفع الباب بخفَّة، ينظر بأركانِ الغرفة كأنَّه يبحثُ عنها، ولكن لم يجد سوى رائحتها التي أسكرته، لتتضاربَ الذكريات في عقله، هنا كانت ابتسامتها، هنا كانت شقاوتها، هنا عزفت ألحان القلب بنبضه، دار بجسدهِ سريعًا بالغرفة، وكأنَّ الغرفة لم تفقد صاحبتها، كلَّ شيء مازال على حاله…إلّا قلبهِ الذي تمنَّى منها همسها باسمه، ليشعر هنا بانتفاضةِ الاشتياقِ الذي عجزَ عن كبحها، ليخيَّلَ إليه وهي تهمسُ في أذنه باسمهِ بأعذبِ ألحانِ العشق..
أغمض عينيهِ مبتسمًا للحظات، يتمنَّى أن يطيلَ حلمه، ولكنَّه أفاقَ على الوهمِ حينما ارتفع رنينَ هاتفه:
-إلياس..عامل إيه؟.
-كويس، اسمعني ياشريف، أنا بعت لك ورق مهم وفلاشات مع أرسلان، سلِّمهم للقائد وعندك استقالتي ضمن الورق.
-إيه اللي بتقوله دا؟!.
-شريف..خلاص أنا قرَّرت، مش هنزل الشغل تاني.
-إلياس اسمعني..لكنُّه أغلق الهاتفَ دون الاستماعِ إلى شيئ،
خطا إلى أشيائهِ الخاصَّة يجمعها، لم يكن يخطو نحو الرحيلِ من المنزل، بل كان ينسحبُ من عمرٍ بأكمله، كلَّ خطوةٍ كانت تُزيحُ عن روحهِ ألمه، وكلَّ نفسٍ يختنقُ به كان يطفئُ فيه حياةً عاشها بذلك المنزل، نعم كان يتركهُ في بعض الأحيانِ ولكنَّه كان ابنُ هذا المنزل، كان يعلم أنه سيعودُ إليه حينما يريد، إنَّما الآن وكأنَّه يكتبُ شهادةَ وفاتهِ منه.
انتهى من أشيائه واتَّجه الى خزانةِ ميرال..فتحها وتنقَّلت نظراتهِ بين فساتينها، مرَّر أناملهِ بين منامتها الخاصَّة، وتذكَّر لحظاتهم سويًا، هنا اختلَّ جسدهِ وتراجع للخلف وفقد توازنهِ تمامًا، ليهوى على المقعد وصوتها يهمسُ داخل أذنهِ بنبرتها الرقيقة واعترفاتها بعشقه، أطبق على جفنيه وسحب نفسًا حتى لا يبكي..وقعت عيناه على وشاحها الذي يُوضعُ فوق المقعد..
سحب وشاحها من عليه، ضمَّه إلى أنفهِ بشوق، نهض من فوق المقعد وجلسَ على الأرض، حينما شعر بأنَّ الأرضَ هي الوحيدة التي تحتملُ ثقلَ آلامهِ الآن..طاف بنظراتهِ متسائلًا::
– يا ترى إنتي فين ياميرال؟! غرقتي زي ما بيقولوا؟ ولَّا بعدتي عنِّي بإرادتك؟
أنا مش عارف، بس اللي أعرفه، إنِّي هموت مش قادر أتحمِّل بعدك..
رفع وشاحها إلى وجهه، واستنشق وعبأ رئتيه براحتها المسكرة، وكأنّه يريدُ أن يختنقَ برائحتها..
لفَّ الوشاح حول معصمه، ونطق بصوتٍ خرج منكسرًا، متحشرجًا:
– مش قادر…مش قادر أتنفِّس من غيرك…إيه الحبِّ الصعب دا.
صرخة خافتة خرجت من عمقِ روحه، وهو يملس على صدره موضع نبضه:
– آه ياوجعي، آه..يارب تطلع عايشة مش حمل الوجع ده، خرَّ متمددًا على الأرض، لا يصرخ، لا يبكي، فقط يحتضنُ وشاحها واشتياقهِ لها يزداد تجرعًا، يشعرُ بروحهِ تتآكل، فرد ذراعه ونظراتهِ دارت بالغرفة، يشاهدُ ذكرياتهم تنهار بالكامل بصمت..
استمع إلى رنين هاتفه الذي يبعده، اعتدل وأسند رأسهِ إلى الحائط، وأغمض عينيهِ كمن ينتظرُ موتًا بطيئًا… لكنَّه لا يأتي..يهمسُ لنفسه:
-هستناكي، عارف هنتقابل في يوم من الأيام..متأكد مش هتقدري تبعدي عن حضني كتير..
هزَّ رأسه وتجمَّدت ملامحه:
-مستني رجوعك، هترجعي أكيد، ووقتها هعرَّفك إزاي يكون دمار الحبيب.
بالأسفل قبل قليل..
هبطت فريدة إلى الطابقِ السفلي، بخطوات متثاقلة كأنَّ كلَّ كلمةٍ تفجَّرت من فمِ إلياس قد سكنت عقلها، تدورُ بداخله كالرصاص..توقَّفت، والتفتت نحو مصطفى، تحدِّقُ فيه بعينينِ مثقلتينِ بالخذلان، وقالت بصوتٍ مخنوق:
يعني إيه اللي حصل يامصطفى؟..
ليه قلت كده؟ أنا مش مصدَّقة اللي سمعته..مستحيل!!.
دخل أرسلان يحملُ طفلته، وتحدَّث بنبرةٍ هادئة:
– إحنا هنمشي ياماما، عندي شغل ولازم أعدِّي على ماما صفية بالولاد…
لكنَّها لم تلتفت، ظلَّت عيناها مسمَّرتينِ على مصطفى، الواقف كالتلميذِ المذنبِ ينتظرُ صفعةَ عقاب، اقتربَ أرسلان خطوةً أخرى وهمس:
-ماما..حضرتك سامعاني؟.
دمعةٌ انسالت عبر خدِّها، وهمست بنبرةٍ متقطِّعة:
-قتلت بنتي بكلامك يامصطفى!!.
رفع مصطفى عينيه، والحزنُ ينهش ملامحه، وهزَّ رأسهِ بالنفي:
– ماكنتش أقصد، والله ما كنت أعرف إنَّها هتسمعني، هوَّ انتي شاكَّة إنِّ ميرال كانت بنتي؟
كانت تنظرُ إليه بصمت، ودموعها تتوالى دون انقطاع، ورغم صمتها إلَّا أنَّ نظراتها تحكي مدى قهرها.
سألها أرسلان بقلق:
-ماما…إيه اللي حصل؟ إيه الجديد في موضوع ميرال؟..
التفتت إليه، وطالعتهُ بعينينِ تقدحُ بنارِ الأسى والغضب:
– ليه ميرال انتحرت ياأرسلان؟ مش كانت مبسوطة مع جوزها؟ إيه اللي وصَّلها ترمي نفسها في النيل؟
أشاح ببصرهِ بعيدًا عنها وقال:
– معرفش، وما اتكلمتش مع إلياس..حضرتك عارفة من يوم الحادثة وهوَّ قافل على نفسه…
اقتربت منه، غرست عينيها في عينيه، وهتفت بصوتٍ مخنوق بالغضب:
– لا…عارف، ومن النهاردة تتكلِّم على إنَّك ابنِ جمال.
ردَّ مذهولًا:
– ماما..إنتي بتقولي إيه؟
صرخت:
– اخرس، مش عايزة أسمع صوت حدِّ فيكم.
ثمَّ التفتت إلى مصطفى، تصفعهُ بنظرتها، وصرخت بصوتٍ شقَّ السكونَ كالسيف:
-حضرة اللوا العاقل، ممكن تشرحلنا إزاي بنتي وصلت ترمي نفسها في النيل؟!
ضربت صدرها بقبضةٍ مرتجفةٍ وصرخت صرخةً زلزلت الجدران:
-دي بنتي أنا..أنا اللي تعبت فيها، اللي سهرت عشانها، اللي كنت أم وأب وسند..ميرال بنتِ فريدة، ومحدش ليه حق يشوفها بغير كده، وأنا متأكِّدة إنَّها هترجع، بنتي هترجع لحضني
يامصطفى، وساعتها ورِّيني هتعايرها بإيه..
اقتربت منه، ولكزت صدرهِ بإصبعها: -ميرال بنتي يامصطفى…عارف يعني إيه بنتي؟! وبعد اللي سمعته منَّك، لو بنتي ماتت..فإنتَ المسؤول قدَّامي..
– ماما، لو سمحتي..
حدجتهُ بنظرةٍ لو تقتل لقتلتهُ بالحال وصاحت:
– روح لصفية، جاي لي ليه؟..جاي تضحك عليَّا بكلمتين؟!
أشارت إلى أعلى، والشرر يتطايرُ من عينيها:
– بدل ما تطلع تسند أخوك اللي مش عارف ياخد عزا مراته، لا هوَّ عارف إذا كانت عايشة ولا ميِّتة، وإنتَ كلِّ همَّك إنَّك تروح لماما صفية..
اقتربت منه خطوة، وأردفت بألمِ سنواتٍ من القهرِ من فراقه:
– وأنا فين من حياتك ياحضرة الظابط؟! أمَّك اللي اتحرمت منَّك سنين، فين حقَّها؟! صبرت ورضيت وقلت بكرة يجي، يجي يرتمي في حضني، بس لا..لسه بتتعامل معايا على إنِّي فريدة مامت إلياس، الأم اللي مالهاش مكان في حياتكم…
ثمَّ فجأة، بدأت تدفعُ كلَّ مايقابلها من أنتيكات، ومزهريات، ولا ترى سوى صورٍ قديمةٍ من حياتها التي لا تحملُ سوى القهر والألم، صرخت وصرخت وكأنَّها تطردُ وجعَ السنين، كأنَّها تهدمُ ما تبقَّى من صبرها..
استمع إلياس إلى صوتِ صراخها، فنزل الدرجَ سريعًا، وجدها تجلسُ على الأرضيةِ وصوتُ بكاءها يشقُّ القلوب، في محاولاتٍ من أرسلان بمساعدتها الوقوف..
-أنا عايزة بنتي، هيَّ بنتي أنتوا مش ولادي، هيَّ بس ، هيَّ اللي كانت بتمسح دموعي وبتهوِّنها عليَّا، أنتوا مين؟!..أنا معرفكمش، حتى ابني البكري مكنتش بهمُّه، وكان بيعاملني على إنِّي عدوِّته، أنا عايزة ميرال يامصطفى زي ماضيَّعت بنتي ترجعالهي.
انحنى يرفعها من فوقِ الأرض، بينما ابتعد أرسلان وهو ينظرُ إليها بذهولٍ وحديثها الذي أدمى قلبه، توقَّفت بجسدٍ يرتجفُ وحال عيناها كزخَّاتِ المطر، وقعت عيناها على إلياس الواقفِ على الدرجِ ينظر بتيهٍ وكأنَّها وضعت سيفًا على عنقه؛ تقابلت العيونُ في حديثٍ مؤلمٍ رغم عدم البوحِ به إلَّا أنَّ النظرات كانت كفيلة به.
ولجت غادة من الخارج تطوفُ بنظراتها بين الجميعِ ثمَّ تساءلت:
-فيه إيه؟!..ركضت إلى فريدة تلقي نفسها بأحضانها:
-ماما حبيبتي أخيرًا خرجتي من أوضتك، حمدَ الله على السلامة.
ضمَّتها بحنانٍ أمومي، ونظرت إليها بعيونها الدامعة:
-أنا كويسة حبيبتي، كويسة..قالتها وابتعدت عن مصطفى تستندُ على الدرج وصعدتهُ وهي تردِّد:
-أنا كويسة، أنا كويسة..وصلت إلى وقوفِ إلياس وتوقَّفت أمامه:
-لسة واقف عندك ليه؟..إيه مش لمِّيت حاجتك؟. يالَّه مع السلامة وخد أخوك معاك، أنا عيشت من غيركم وهفضل أعافر في الدنيا من غيركم..فريدة مش منتظرة حدِّ فيكم..
تمتمت بها وصعدت باقي الدرج، اقتربت غادة من والدها وتساءلت:
-بابا،ماما فريدة مالها؟..وقعت عيناها على صعودِ إلياس..هرولت إليه:
-إلياس..توقَّف يواليها ظهره..وصلت إليه وتمتمت بنبرةٍ باكية:
-وحشتني أوي.
أغمضَ عينيهِ وقبضَ على كفَّيهِ للحظاتٍ محاولًا السيطرة على نفسه، ثمَّ استدار إليها:
-عاملة إيه ياغادة؟.
صعدت إلى أن وقفت أمامهِ مباشرة:
-مش كويسة، أخويا الكبير منعزل عن العالم، وأخويا الصغير تايه وأنا ضعت معاكم، فين إحنا؟.
تجمَّعت العبرات في عينيهِ وهمسَ بتقطُّع:
-إحنا مين؟..لو تقصدي ولاد السيوفي ماتجمعينيش معاكوا، أمَّا لو تقصدي أخوكي اللي بتقولي عليه، فأنا مش أخوكي، اقنعي نفسك بدا..
دنت وكأنَّها لم تستمع إلى مانطقه، ولفَّت ذراعيها حول خصرهِ تبكي بشهقاتٍ مرتفعة:
-لا، إنتَ أخويا الكبير وغصب عنَّك وعن أي حد، وأنا هفضل أختك سواء رضيت ولَّا لأ..بكت وبكت حتى ارتجفَ جسدها بتجمُّدِ حواسهِ بالكامل وشعورهِ بأنَّ أحدهم كبَّله بالقيود، ولم يقوَ على ما فعلته..حاول الابتعاد ولكن كأنَّ جسدهِ شُلَّ بالكامل، همست بنبرةٍ باكية:
-حضنك وحشني أوي ياإلياس..
-غادة..تمتم بها بتقطُّع..هزَّت رأسها بالرفضِ وهتفت بصوتها الباكي:
-أنا ماليش دعوة باللي بيقولوه، إنتَ أخويا، دا اللي أعرفه وبس، أنا كبرت والياس أخو غادة..
أخيرًا حرَّرها من أحضانه، وضمَّ وجهها بين كفَّيهِ ينظرُ لعينيها الباكية:
-يعزِّ عليَّا دموعك حبيبة أخوكي، بس خلاص إنتي كبيرة وعارفة إنِّ دا مينفعش، إنتي غادة مصطفى السيوفي، وأنا إلياس جمال الشافعي..
-إلياس..متسبنيش، هيَّ سابتني وإنتَ كمان..عايز تسيبني زيَّها..
-غادة مش تصعَّبيها عليَّا، بيتي هيفضل مفتوح لك في أي وقت، بس مبقاش ينفع حبيبتي، لازم أمشي من هنا..
هزَّت رأسها بالرفض وقالت باعتراض:
-أنا مش موافقة، أنا عرفت اللي حصل بينك وبين بابا، بابا ميقصدشِ واللِه صدَّقني..
مش كدا يابابا؟..قولُّه حاجة..
صعد إلى الغرفة دون النطقِ بحرفٍ واحد..تراجعت غادة تشيرُ إلى سرابه:
-بابا هتسيبه يمشي كدا!!. بابا اعمل حاجة..
ولكنه استدار متَّجهًا إلى غرفةِ مكتبه، وكأنَّه لم يستمع إلى شيء..
بمنزلِ يزن وخاصَّةً بغرفةِ أولاده..
قامت بتبديلِ ثيابِ أبنائها، ثمَّ دثَّرتهم بالغطاءِ وقبَّلت كلَّ واحدٍ على حدة:
-يالَّه حبايب مامي عايزين ننام بدري علشان نكبر بصحَّة كويسة.
-حاضر مامي..أردف بها آسر، بينما رفعت طفتلها كفَّيها لتتشابكَ أناملها بعضها البعض:
-مامي، هوَّ بابي هيجي إمتى؟.
ملَّست على خصلاتها بحنانٍ وردَّت عليها:
-هيخلَّص شغله حبيبتي ويجي، ياله نامي ولمَّا يوصل هيدخلكم.
-حاضر، طيب مش هتحكي لنا حدوتة، حضرتك وعدتيني.
انحنت تقبِّلها على وجنتيها ثمَّ قرصتها قائلة:
-مبتنسيش أبدًا ياقردة.
قهقهت الطفلة، ليرتفعَ صوتها حتى يصلَ إلى أذنهِ وهو يترجَّل من دراجتهِ البخارية، التقطت عيناهُ جلوس رؤى بالحديقة، خطا إليها:
-رؤى.
أزالت دموعها وتوقَّفت مستديرةً إليه:
-حمد الله على السلامة يايزن.
قاعدة في البرد ليه حبيبتي؟.
هزَّت كتفها وأجابته:
-مفيش، حبيت أشمِّ شوية هوا، وقولت أستناكم، هوَّ طارق لسة مارجعش؟.
حاوط جسدها ودلف للداخلِ وهو يتحدَّث:
-هيجي بكرة، كلِّمني وقال راحت عليه نومة، ومفيش حجز النهاردة..
أومأت متفهِّمة ثمَّ توقَّفت:
-مفيش أخبار جديدة على ميرال؟.
هزَّ رأسهِ بأسى، وتجلَّى الحزنُ على ملامحهِ مردفًا:
-للأسف مفيش، رغم كلِّ اللي عملناه.
-أوعى تقولِّي إنَّها كدا خلاص، مبقتش هشوفها، لا يايزن ميرال أكيد عايشة.
احتضن وجهها وأزالَ دموعها قائلًا:
-رؤى إحنا مش ساكتين، بس بعد الأيام دي كلَّها ماأظنش إنَّها لسة عايشة، النيل كبير جدًا، ممكن تكون المية رمتها بعيد.
-لا..أنا متأكدة، لو زي ماإنتَ بتقول كان إلياس لقاها، ميرال عايشة، وهيَّ اللي بتقنع الكلِّ إنَّها ماتت بعد اللي حصل..
ضيَّق عينيهِ مستفهمًا عمَّا نطقته:
-مش فاهم..إنتي تقصدي إيه؟.
-الموضوع يخصِّ طارق الصراحة، طارق كان معجب بغادة، وقالِّي وأنا رحت قولت لميرال، وهيَّ حكت لإلياس، ومش بس كدا، طارق راح لإلياس وقالُّه كمان، معرفش إلياس قال لعمُّو مصطفى إيه، خلَّاه يرفض وقال كلام جارح علينا كلِّنا، وميرال سمعته بالصدفة..
-إيه اللي بتقوليه دا!! مين اللي قالِّك الهبل دا؟!.
-النهاردة سمعت أرسلان بيتكلِّم مع غرام وأنا في فيلا السيوفي..
-مفهمتش حاجة، إيه اللي يجيب ميرال في الموضوع؟.
قطع حديثهم وصولُ رحيل، التفتَ إليها:
-الولاد ناموا؟.
هزَّت رأسها وقالت:
-سألوا عليك، يبقى شوفهم، حاول ترجع بدري شوية، أنا هنام عندي سفر لشرم الشيخ بكرة، عندي اجتماع مهم، والنانا مش هتيجي بكرة، شوف واحدة تانية.
-وإيه لازمة السفر..مش طارق المسؤول عن السفر؟. ولَّا دا كمان علشان تعاندي؟.أنا مش موافق.
-يزن اهدى..تمتمت بها رؤى، التفت إليها:
-إنتي مالك أنا بتكلِّم مع مراتي، اطلعي فوق..ثمَّ استدار إلى رحيل:
-اسمعيني كويس، مش معنى إنِّي وافقت علشان تنزلي الشركة يبقى راضي، غير لبس المدام الزبالة، سفر مش موافق، والله لو أخلِّيكي تقفليها، ومن غير وجع دماغ..آه أنا متخلِّف، من الآخر كدا مفيش سفر ولا مبيت خارج البيت..
ظلَّت تستمعُ إليهِ بهدوء، إلى أن انتهى ثمَّ قالت:
-طلَّقني يايزن، وولادك هتشوفهم وقتِ ماتحب، أنا مبقتشِ قادرة أتحمِّلك حقيقي، أتمنَّى بكرة نخلص من كلِّ حاجة..وياريت المرَّة دي نعقل، حاولت أتغاضى كتير علشان ولادي، لكن حقيقي طاقتي استُهلكت، ومقدرشِ أنحني ولا آجي على كرامتي أكتر من كدا.
فتح فمهِ للرد، ولكنَّها رفعت إصبعها أمامه واستأنفت بنبرةٍ تنزفُ كلَّ
مابداخلها:
-أنا كنت مقرَّرة من فترة، بس موضوع ميرال خلاني أجِّل، ووعد..ولادك وقت ماتحبِّ تشوفهم في أيِّ وقت هتشوفهم، ودا مش علشانك أبدًا، دا علشان ولادي، أنا خلاص مبقتش متحمِّلاك أكتر من كدا..
قالتها وهرولت للداخلِ دون أن تلتفتَ خلفها، بينما هو تسمَّر بمكانه، هل ماوقع على أذنهِ حقيقة أم خُيِّل له كلماتها..دقيقة اثنتان وهو بمكانهِ غير مستوعبًا ماتلفَّظته، هل حقًّا سيخسرها مرَّةً أخرى..فاق أخيرًا على رنينِ هاتفه:
-أيوة.
-يزن يبقى عدِّي الصبح على بيت إلياس هوَّ قالي أقولَّك، وبلَّغ طارق كمان.
-طارق مش هنا مسافر الإمارات.
-تمام، لازم تكون موجود الصبح قبل الشغل، الموضوع مهم.
-أرسلان إيه اللي سمعته دا، حقيقي عمُّو مصطفى قال لميرال كلام جارح!!
-لمَّا تيجي الصبح هتعرف.
قالها أرسلان وأغلقَ الهاتف..أمَّا يزن فصعد إلى غرفتها، دفع الباب دون طرقهِ ودلف للداخل، بحث عنها ولكنَّه لم يجدها، استمع إلى صوتِ المياهِ بالداخل علم أنَّها بالحمام..
خرج إلى الشرفة وأشعل سيجارة، يحرقها كاحتراقِ صدرهِ الذي يغلي داخله، خرجت بعد دقائقَ معدودة، لم تراه..دلفت إلى غرفةِ ثيابها وانتقت شيئًا للنوم، ثمَّ قامت بفكِّ منشفةِ شعرها، مع دخولهِ الغرفة، وقعت عيناهُ على ملابسها الملقاةِ على الفراش، اتَّجه إلى غرفةِ الملابس يدفعها:
-رحيل..ولكنَّه توقَّف متجمِّدًا بعدما سقط جزءًا من المنشفة، ليظهر بعض جسدها أمام عيناه، ارتجف جسدَ كلًّا منهما، وتجمَّد العقلُ عن التفكير، ولكن تقابلت العيون للحظاتٍ بذهول، اقترب منها مسلوبَ الإرادة كأنَّها مغناطيسًا يجذبه، كلَّ هذا وهي متوقَّفة وكأنَّه سحب كلَّ حواسها، ولم تشعر بشيئ..إلى أن وصل إليها ومرَّر أناملهِ على كتفها، لينتفضَ جسدها وكأنَّ لمستهِ ماسًا كهربائيًا:
-إن..إنتَ بتعمل إيه هنا وإزاي تدخل عليَّا كدا..تمتمت بها بتقطُّعٍ وقلبٍ يرتجفُ من لمساته..
لم يكترث لحديثها وانحنى يدفنُ رأسهِ بخصلاتها الندية، وأنفاسهِ الحارَّةِ تضربُ عنقها بقوَّة، ليختلَّ جسدها مستندةً عليه، لم يرحم قلبها الضعيف حين لمست شفتاهُ جيدها، هامسًا لها بأنفاسهِ التي أحرقت جلدها:
-كنتي بتقولي إيه تحت؟.
-يزن ابعد لو سمحت.
رفع رأسهِ وتعلَّقت عيناهُ بعينيها:
-ولو مبعدتش، هتعملي إيه، إنتي ناسية إنِّي جوزك، وأي وقت احتاجك المفروض تبقي جاهزة من غير اعتراض.
هنا فاقت من مشاعرها لتدفعهُ بقوَّةٍ تلملمُ منشفتها وانسابت دموعها تشيرُ إلى الباب:
-اطلع برَّة، اطلع برَّة..صاحت بها بصوتٍ متحشرجٍ بالبكاء.
صدمهُ ردَّها، فهزَّ رأسهِ قائلًا:
-متعليش صوتك، أنا كنت خارج أصلًا..
قالها وغادر بخطواتٍ جنونيَّةٍ كالذي يهربُ من عدوِّه.
بفيلا الجارحي..
دلف للداخلِ يشيرُ إلى أطفاله:
-ياله على نانا بسرعة..ركض بلال ينادي:
-تيتا صفية إحنا جينا.
خرجت ملك على صوتِ بلال، فتحت ذراعيها:
-حبيب عمِّتو جه يامامي.
ألقى الطفل نفسهُ بأحضانِ ملك، لترفعهُ وتقبِّله، مع مداعابتها:
-مين حبيب ملوكة؟.
صفَّق بلال يشيرُ إلى نفسه:
-بلال..ضمَّته بحبٍّ قائلة:
-أحلى بلال حبيب عمِّتو، دلفَ أرسلان بجوارهِ غرام:
-عاملة إيه ياملوكة، وفين ماما صفية؟..
أشارت إلى الأعلى وقالت:
-فوق مع دينا، عمُّو جابها من شوية، شكلها تعبانة.
التفتَ إلى غرام وأردف:
-اطلعي شوفي مالها..
باليومِ التالي وخاصَّةً بعد شهر من حادثة ميرال..
دلف إلى منزله بخطواتٍ متثاقلة، يشقُّ طريقهِ بصمتٍ موجِع..أشار إلى الخدمِ دون أن ينظرَ إليهم:
– طلَّعوا الشنط فوق.
ثمَّ استدار ناحيةَ يوسف، وحنَّ صوتهِ رغم أحزانه:
– حبيبي…اطلع أوضتك، غيَّر هدومك، والنانا هتساعدك لو احتجت أي حاجة.
اقترب منه الطفل بخطا صغيرة، وعيناهُ تبحث عن أسئلتهِ الصغيرة باختفاءِ والدته:
– بابا…ماما هترجع إمتى؟
تيتا قالت قريب…عدَّى كتير ولسه مرجعتش…
انحنى إليه، وجثا على ركبتيه، واحتضنهُ بذراعهِ محاولًا أن يتشبَّث ببقايا روحه، وهمسَ بصوتٍ مخنوق:
– يوسف..ياحبيبي، إنتَ كبرت، وبقيت راجل مش كدا؟..سحب نفسًا وتابع:
ماما بعيدة قوي…ومحدِّش عارف هترجع إمتى.
ممكن بكرة…أو بعده…أو حتى بعد سنة…
سكت، حينما شعر بأنَّ الهواءَ انسحب من حوله، وغصَّة حارقة اعتصرت حنجرته، فتمتم بكلماتٍ مثقلةٍ بالوجع:
– أو.. ممكن ماترجعش.
شهق الطفل، وارتجفت شفتاه:
– يعني إيه يابابا؟ يعني…يعني ماما راحت عند ربنا؟
ارتعش جسده، بانتزاعِ روحه من كلماتِ طفله، فقال بسرعةٍ خشيةَ أن ينهار:
– لأ ياحبيبي، لأ… إن شاء الله لأ..
إن شاء الله تكون قريبة، وترجع بسرعة.
طالعهُ يوسف بحيرة وتمتم متسائلًا:
– حضرتك كنت زعلان من ماما؟
علشان كده هي زعلت ومشيت؟
أغمض عينيه، وقبَّل جبينهِ كأنَّه يعتذر عن ماوصلت إليه، ثمَّ استدار نحو المربية وأشار بنبرةٍ متحجِّرة:
– خدي يوسف…شوفي ناقصه إيه..
خلِّي بالك منه، شغلك هنا راحته وبس..
ظبَّطي مواعيد دروسه…وماتخلِّيش حاجة توتَّره.
هزَّ الطفل رأسهِ بالرفض وقال ببكاءٍ متقطِّع:
– بس أنا مش عايز دادة…أنا عايز ماما..حضرتك وعدتني إنَّك هترجَّعها
يابابا…
انكمش وجهُ الياس، وشعر بأنَّ أحدهم ضرب قلبهِ بألفِ خنجر، ورغم ذلك قال بجمودٍ يحاربُ فيهِ انهيارهِ أمام طفله:
– يوسف، اطلع أوضتك دلوقتي… بعدين نتكلِّم.
تجمَّدت نظراتُ يوسف للحظاتٍ في صمتٍ موجع، ثمَّ التفت، وركض صاعدًا الدرج وهو يتمتمُ بدموعه:
– أنا مش عايز دادة…أنا عايز ماما… محدِّش يطلعلي..
ظلَّ يراقبه، حتى اختفى من أمامه..
عندها فقط، ترنَّح في وقوفهِ كمن فقد كلَّ شيء، وسحب قدميهِ كأنَّها مقيَّدة بسلاسل، حتى وصل إلى مكتبه..أغلق بابه خلفهِ بإحكام…
نظر حوله ليرى بيتًا لم يعد بيته،
كلُّ شيءٍ فيه صامت، وكلُّ ركنٍ يصرخُ باسمها.
اتَّجه نحو مقعده، سقط عليه بصمتٍ مهيب، ووضع كفَّيهِ على وجهه، يختنقُ من كلماتِ طفله…كلماتٍ غُرزت فيه كخناجرَ من وجعٍ لا يندمل..
“ميرال! إنتي فين؟ معقول تكوني خلاص…؟”
شعر بالاختناق، فنهض من مكانهِ واندفع نحو النافذة، فتحها على مصراعيها ليقابلهُ الهواءَ البارد يصفعُ وجهه..جالت عيناهُ في الحديقة الشاسعة، يتتبَّعُ السراب…صوتها، همسها، ضحكاتها، كلُّ شيءِ منها يسكنُ زوايا البيت..راح يتخيَّلها أمامه، تلهو كعادتها بطفولتها العفوية التي لطالما ميَّزتها.
صمَّ أذنيهِ صدى ضحكتها…
وظهرت له، خاطفةَ أنفاسه، تشير نحوهِ بابتسامتها التي لم تفارقهُ لحظة.
“إليااااس…”
هنا سقط كلُّ شيء، تجمَّد الزمنُ حوله، وحدها دموعهِ بقيت تتحرَّك، تصرخُ في صمتٍ موجع:
“يكفيك عذابًا أيَّها القلب الضعيف…”
نيرانًا لا يعرف من أي مزيجٍ خُلقت، تنشبُ في صدرهِ بلا رحمة..
تراجع بجسده، وانهار على الأرضِ باكيًا..كيف له أن يتنفَّس؟
هو حقًّا يشعر بالاختناق..
كيف لها أن تتركهُ لهذا الضعف؟
أهذا ماجناه من حبِّها؟
بلى والله، لقد تخلَّلت دمه، سكنت شريانه، باتت جزءًا منه لا ينفصل.
لم يقوَ على كبح دموعه أو شهقاتهِ المتواصلة، بعدما شك أنه لم يراها مرة اخرى، رفع يده، وضرب بها رأسه بمكتبهِ بقوَّةٍ كأنَّها خلاصهِ الوحيد..
أزاح كلَّ ماأمامه بعنفٍ جنوني..
وفقد السيطرة على ذاته، على كينونته، على حزنه…
هي لم تعد في حياته، رغم أنَّه منحها قلبه…طواعيةً، وبكلِّ طيبِ خاطر.
بدأ يحطِّم ماحولهِ وهو يصرخ:
“ليه؟! عملت إيه علشان تعملي معايا كده؟
ليييييييييييييييه!”
قالها وهو يدفع المقعدَ نحو النافذة، فتهشَّمت، وتبعثرت شظاياها مع دخولِ يزن ورؤى إلى الحديقة..
توقَّف يزن للحظة، ممسكًا بكفِّ أخته بشدَّة:
“مش عايز كلمة مع إلياس…
ادخلي شوفي ابنِ أختك، وأنا هدخلُّه..
رؤى، بحذَّرك تتكلِّمي قدَّامه عن ميرال.”
ردَّت رؤى بسخرية متألِّمة:
“على أساس إنُّه نسي؟!
مش سامع صوت التكسير؟..
على العموم، ماليش دعوة..
أنا زعلانة عليها بس..غبية!.
ربِّنا مدِّيها راجل بيحبَّها وابن زي العسل..
هوَّ إحنا ليه طمَّاعين يايزن؟”
ردَّ عليها وهو يشدُّ على أسنانه:
“الطمع صفة في الإنسان…بس مش كلِّ الناس..
اطلعي وبطَّلي فلسفة..
أنا عندي مشاكل قد مشاكلكم كلُّكم.”
“تمام.”
قالتها ثمَّ انسحبت.
أمَّا يزن، فدخل بخطواتٍ متردِّدة..طرق بابَ المكتبِ أكثر من مرَّة، ثمَّ فتحهُ ودخل..
توقَّف عند العتبة، يتأمَّلُ بعينيه المشهد…
ثمَّ اقترب منه بصمت:
-صباح الخير..تمتم بها يزن مقتربًا منه، رفع رأسهِ ينظرُ إليه ثمَّ اعتدل واقفًا، وأشار إلى الخارج:
-تعالَ نخرج الجنينة، المكان هنا عايز يتنضَّف..
دارت أعينُ يزن بالمكان وقال:
-هوَّ فعلًا عايز يترتَّب، بس ليه دا كلُّه!!
تحرَّك إلياس دون النطق..وصل إلى الحديقة وجلس على المقعد يخرجُ سجائرهِ وبدأ بالتدخين..عيناهُ تطوف بالمكان، تنهَّد يزن واقترب جاذبًا المقعد بدخولِ سيارةِ أرسلان..تابعهُ إلياس إلى أن وصل إليهم، ملقيًا السلام:
-صباح الخير..أومأ له إلياس دون حديث، بينما ابتسم يزن قائلًا:
-حمد الله على السلامة، رجعت إمتى؟..
إمبارح بالليل..تمتم بها وعيناهُ على إلياس الصامت ينفثُ تبغه..
وصلت الخادمة إليهم:
-أعملُّكم قهوة ياباشا ولَّا تشربوا حاجة تانية؟..
مسح أرسلان على وجههِ وأردف:
-أنا سبريسو، رفع يزن رأسهِ قائلًا:
-وأنا سادة..أشار إليها إلياس بالحركةِ وتساءل:
-فين طارق؟!..
نظر يزن بساعةِ يده وردَّ قائلًا:
-زمانه في المطار.
أشار إليه قائلًا:
-كلِّمه وقولُّه يجي على هنا..
نظر يزن إلى أرسلان ثمَّ رفع هاتفهِ وقام بمهاتفةِ طارق الذي ردَّ عليه سريعًا:
-أنا وصلت، نصِّ ساعة وأكون في البيت.
-لا تعالَ على بيت إلياس.
توقَّف قبل وصولهِ للسيارة وتمتم:
-إلياس!..قصدك بيت السيوفي؟.
-لا..بيته اللي في العاصمة.
-تمام..قالها وأغلقَ الهاتف..
-إلياس إنتَ ناوي على إيه، بلاش تتسرَّع في حاجة..قالها أرسلان..
نقر يزن على الطاولة وهو يوزِّعُ نظراتهِ بينهم ثمَّ قال:
-من يوم حادثة ميرال ومجتشِ مناسبة نتكلِّم في اللي حصل، ودلوقتي أنا سامع، عايز أعرف إيه اللي حصل وصَّل ميرال إنَّها تنتحر يإالياس؟..
التفت أرسلان إليه سريعًا، يرمقهُ بنظرةٍ اعتراضية على حديثه، ولكنَّه لم يكترث ونظر إلى إلياس منتظرًا إجابته:
-يزن حدِّ قالَّك إنَّك قدَّام عيِّل، إنتَ عرفت..ليه بتلفِّ وتدور..
-والله، دا اللي قدرت عليه..مش يمكن منتظر تفهِّمني إيه اللي حصل.
رجع إلياس بجسدهِ إلى الخلف، أسند ظهرهِ للمقعد، وأطلق نظرةً شاردةً إلى البعيد وأردف بصوتٍ مبحوح:
– اللي أقدر أقوله…إنِّنا بندفع فاتورة أبوك، ولسه هندفع أكتر..الكلِّ دلوقتي عارف إحنا مين، يمكن إنتَ ما اتأثَّرتش زيِّنا أنا وميرال وأرسلان…بس الوضع مبقاش ينفع نعدِّيه.
قالها بنبرةٍ جامدةٍ جعلت أرسلان يتجهَّم ويقولُ بامتعاض:
– تقصد إيه ياإلياس؟ إيه اللي أثَّر على علاقتنا؟ أنا شايف إنِّ صدمة ميرال مأثَّرة عليك، بس…
التفت إليه إلياس، راقبهُ بصمتٍ للحظات، ثمَّ قال بحدّ
إنتَ مصدَّق اللي بتقوله؟ يعني فعلاً شايف نفسك أرسلان الشافعي، وإنتَ لسه بتعيش بجناحِ الجارحي؟
– وأنا إيه اللي يخلِّيني أظلم الناس اللي ربُّوني؟ أنا مش موافقك في قراراتك.
أغمض إلياس عينيه، وسحب نفسًا عميقًا، ثمَّ قال وهو يزفره:
– لمَّا الناس تشوفك دلوقتي، بتناديك بإيه؟ أرسلان الجارحي ولَّا الشافعي؟
– وهتفرق في إيه؟ أنا راضي بحياتي، وبس.
– فوق بقى…ما تدفنشِ راسك في الرمل..ابنك هيكبر، وهيفضل شايل اسم مش اسمه…هتردِّ عليه تقول له إيه لمَّا يسألك: “بابا، إحنا عايشين مع الناس دول بصفتنا إيه؟”
– بس أنا مقدرشِ أبعد عنهم، مستحيل أعمل كده.
ضرب إلياس على الطاولة، وهتفَ بانفعال:
– ومين قالَّك ابعد؟ أنا بقول تبني كيانك، كيان أرسلان الشافعي..ولادك لازم ينادوا عليك باسمك، مش باسمِ حدِّ تاني، خُد خطوة لقدَّام..اللي بنى اسمِ الجارحي، يقدر يبني اسمِ الشافعي.
– اللي بتطلبه صعب ياإلياس..صعب أوي.
لكزهُ في صدره، واختنقَ صوته:
– ما تنساش إنِّ ليك “أخت” مش أختك…بكرة ترتبط بعيلة وسين وجيم، والأسئلة هتبدأ، ومش من حقِّنا حتى نطالب بميراثنا..إحنا بقينا مكشوفين، ما عادشِ ينفع نكدب على نفسنا، لازم..نقطة ومن أوِّل السطر.
ردَّ يزن أخيرًا، بصوتٍ هادئٍ لكنَّه حاسم:
– أنا معاك في كلِّ كلمة ياإلياس..فعلاً اتأخرنا..زمان كنا بنتهرَّب من القرار، بس دلوقتي عندنا ولاد…ومينفعشِ ننسبهم لناس مش منِّنا..اللي قلته منطقي، واللي بنى الجارحي…يقدر يبني الشافعي..خلِّيك فاكر، فيه أقنعة كتير هتقع حوالينا..
قبل أن يردَّ أحد، دخل طارق، تسبقهُ رؤى وهي تحملُ القهوة، ألقى السلام فابتسمَ قائلاً وهو يضمُّها:
– حمد الله على السلامة ياطارق… وحشتني.
– وإنتي كمان، ياحبيبتي…
جلس بجوار يزن، وعيناه تتبعُ رؤى الواقفة..ثمَّ قال بشك:
– فيه إيه؟ في حاجة؟ عرفتوا حاجة عن ميرال؟
ردَّت رؤى بصوتٍ منخفض:
– ميرال ماتت ياطارق..ليه لسه مش مقتنعين؟ ليه عندكم أمل إنَّها لسه عايشة؟..
رفع إلياس رأسهِ فجأة، وأشار ناحيةِ الداخل وهتف بحدَّة:
– مطلبتش رأيك..اطلعي فوق عند يوسف، واهتمِّي بيه، وأوعي تنطقي بكلمة عن أمُّه.
اتَّسعت عينا يزن بدهشة، وردَّ بامتعاض:
– إلياس إنتَ ناسي إنَّها أختها؟!..
نظر إليه إلياس، ثمَّ عاد ببصرهِ إلى رؤى وقال بجمود:
– اسألوها قالت للولد إيه..أنا بس بسكت بمزاجي يارؤى…ماتجيبيش الخنقة لنفسك..بقولها قدَّام إخواتك: ابني ومراتي، اللي هيَّ أختك، تحتهم مليون خط.
-إلياس…تمتمت بها باكية، لكنَّه أشار إلى السلَّم:
– اطلعي…ولمَّا نخلص، نتكلِّم..
– واللهِ ماقصدت حاجة…إنتَ فهمتني غلط، أنا بس كنت بحاول…
– قولت اطلعي فوق، صرخَ بها، فبادلتهُ نظرةً موجوعة، ثمَّ استدارت بسرعة وغادرت.
قال طارق بعتاب:
– مهما حصل منها، دي أختي.
اقترب إلياس منه، وزمَّ شفتيهِ بامتعاض وهو ينفثُ دخانَ سيجارته، وابتسامةً ساخرةً على ملامحه:
– دي معايا بقالها أكتر من خمستاشر سنة، حافظها أكتر من نفسها..متجيش إنتَ اللي بقالك كام شهر، وتعلِّمني أتعامل معاها إزاي…وبعدين، رؤى مش موضوعنا.
ساد الصمت لحظات، ثمَّ قال إلياس فجأة:
– أنا عايز من كلِّ واحد فيكم خمسة مليون جنيه.
شهق يزن، ثمَّ انفجرَ ضاحكًا، يضربُ كفَّيه ببعض:
– ليه ياحبيبي؟ حدِّ قالك عليَّا مليونير؟!..
إنتَ فلِّست ولَّا إيه؟
اتَّجهت نظراتهِ إلى أرسلان، الذي ظلَّ صامتًا، فقال بهدوء:
– سلِّفه..هوَّ معاه، بس بيستعبط…
على العموم، سلِّفه وخده منُّه تقسيط.
قطب يزن جبينهِ متسائلًا:
– إنتَ بتتكلِّم جد؟ فعلاً عايز فلوس؟!
قاطعهُ طارق:
– مش فاهم، خمسة مليون من كلِّ واحد، دي ملايين ياإلياس..ناوي على إيه؟
أسند إلياس ذراعيهِ على الطاولة، وقال بثبات:
– كمبوند خاص بعيلة الشافعي.. مساحة كبيرة، كلِّ حاجة جاهزة..أنا كلِّمت إسحاق، وورَّاني المكان..اتَّفقت مع الشركة، ودفعت عربون، والتشطيبات شغَّالة، واتكتب عليه: “آل الشافعي”.
سرت الصدمة بين الحاضرين، فتقدَّم أرسلان خطوة وقال باعتراض:
– بس أنا مش موافق..
هزَّ إلياس رأسهِ في هدوء، واتَّجه إلى يزن:
– وإنتَ يايزن؟
– موافقك طبعًا…وعجبني جدًّا اللي عملته.
قال طارق بحماس:
– وأنا كمان معاكم.
ظلَّت عيونهم على أرسلان، الذي رفع يدهِ يمرِّرها في شعرهِ بانفعال، ثمَّ قال بصوتٍ غاضب:
– مش هقدر، أنا وعدُّتهم..ردَّ إلياس:
– أنا كلِّمت إسحاق…وفكَّرت، مفيش مجال للرفض؟!
قالها إلياس بحزم وهو يتَّجهُ نحوه:
– الكمبوند هيتعمل، وهنعيش فيه.. حتى لو هتقسِّم وقتك بين هنا وهناك، لازم يبقى أصلك واضح..مش بطلب منَّك تنفصل عن الجارحي…بس لازم تكون أرسلان الشافعي.
هزَّ أرسلان رأسهِ في اعتراض، ثمَّ استدار وغادرَ المكان دون كلمة..
شهرًا اخر، مر عليهم كسنوات، فريدة التي التزمت الصمت والابتعاد عن الجميع، غادة التي حبست نفسها، وتعرضت لإكتئاب بعد خروج إلياس من البيت، بينما اسلام الذي حاول أن يصلح العلاقة بينه وبين ملك، ولكنه استقر معظم أيامه عند إلياس..
بمكتب اسحاق
جلس أمامه وعجز عن الحديث، كأنه لم يعلم مخارج الحروف
تراجع اسحاق بجسده وتابعه بعينه
-بقالك ساعة قاعد بتعد بلاط الاوضة، مالك ماتقول اللي في بوقك
– النهاردة قدمت استقالتي واتقبلت
هز اسحاق كتفه وهو يطالعه:
– وايه يعني، انا زمان رفضت علشان اعرفك انك مش ضعيف، ولا منبوذ، بس دلوقتي براحتك
رفع عينيه إليه وقال:
– لا ياعمو، علشان غيرت كنيتي بالكامل، اللي قاعد قدامك بقى ارسلان الشافعي، وإن كانوا وافقوا على أننا نفضل بمناصبنا علشان اسمائنا متغيرتش، بس انا دلوقتي غيرتها، ومبقاش ينفع
-ايه اللي بتقوله دا يامتخلف، ماالياس غير اسمه ..قاطعه متوقفًا وقال
-مكنش رسمي ياعمو، كله محسوبية، اولا عمو مصطفى برضو مش هين، وكمان تدخل حضرتك وبابا، ومتنساش راكان البنداري، يعني من الاخر، الحظ كان له دور
نهض اسحاق واقترب منه
-ارسلان لو انت عايز تفضل في شغلك مستحيل اسيبك
ابتسم بمحبة وقال:
– لا ياعمو، عايز اكون جنب ولادي، بيشتكوا، وكمان إلياس بيأسس شركة امنية على مستوى عالي، أكيد مش هتقل عن شغلنا
-ربنا يوفقكم ياحبيبي، بس اوعى شيطانك يلعب في دماغك انك تبعد عن عمك وابوك
-فيه حد بينسى أبوه اللي رباه، انا لو بعدت عنك اموت
فتح اسحاق ذراعيه وضمه بقوة
-حبيب عمك، انت مش ابن اخويا يالا، انت ابني
قبّل ارسلان كتفه
-ربنا مايحرمني منك يارب…ارتفع رنين هاتف اسحاق، فقال ارسلان
-اسيبك بقى تشوف شغلك ..رفع هاتفه
-أيوة يابنتي
-اسحاق باشا، فاروق باشا جه وخرج احلام هانم
كور قبضته بغضب ثم قال
-طيب …
عند إلياس خرج هو ويزن متجهينَ إلى الكمبوند الخاص بهما، دلف للداخل..
نظرات سريعة من يزن على المكان، ثمَّ توقَّف ينظر إلى المباني الذي يحتويها:
-دا شكله غالي أوي ياإلياس..
خلع نظَّارتهِ وتنقَّلت عيناهُ بين المباني قائلًا:
-حلو علشان ولادنا يايزن، والمساحة كويسة، وبعدين قريب من قصر الجارحي علشان أرسلان، عارف علاقته بإسحاق، مش عايزه يقف عاجز بينا وبينهم.
-طيب ليه قسيت عليه بالكلام؟..
تنهَّد ساحبًا نفسهِ وقال:
-علشان يشوف نفسه، أنا مقولتش يبعد، أرسلان لحدِّ دلوقتي مغيَّرشِ اسمه، ودا مضيقني.
ربت يزن على ظهره وقال:
-خلِّيه براحته، علشان ميحسِّش بالذنب طول الوقت..
أومأ ودلف للداخل في أوَّل منزلٍ قابله وقال:
-دا بيتي…واللي في الوش دا حيكون لأرسلان..خلِّينا جنب بعض، وإنتَ وطارق في الجنبِ التاني..
رفع حاجبه معترضًا:
-ليه بقى إن شاءالله، اشمعنى إنتَ وأرسلان هنا، وإحنا هناك..
تحرَّك إلياس قائلًا:
-لو مش عجبك اخبط دماغك في الحيطة..
دلف للداخل يفحصُ كلَّ أركانِ المنزل، ثمَّ صعد إلى الاعلى..بينما عند يزن خطا يشاهدُ الحديقة الشاسعة، إلى أن وصل ملعبًا يخصُّ لعبةَ التنس، ابتسم عندما تذكَّر زوجتهِ المغرمة بها، قطع تخيُّلاتهِ رنينُ هاتفه، رفعه قائلًا:
-ألووو..
صمت للحظاتٍ محاولًا استيعاب الصوت الذي استمع إليه..بل نظر إلى شاشةِ هاتفه حتى يتأكد أنَّه حقيقة، ثمَّ رفعهُ إلى أذنهِ مرَّةً أخرى:
-مين؟!..
استمع إلى شهقاتها:
-أنا ميرال..لم يشعر بدموعهِ التي تدحرجت رغمًا عنه:
-ميراااال..إنتي عايشة!! إنتي فين؟..
أزالت دموعها وأجابته:
-أنا كويسة حبيبي، المهمِّ علشان ممعيش وقت، أنتوا عاملين إيه، ابني عامل إيه يايزن؟..
-حبيبتي إنتي فين وأنا أجيلك؟..
ومستحيل أخلِّي حد يقرَّب لك.
-مينفعش..أنا برَّة مصر، المهم طمِّني عليهم عاملين إيه؟..وإلياس..
قالتها بتقطُّع وازداد بكاءها:
-عرف إنِّي موت صح؟..
-إيه اللي عملتيه دا، إنتي مجنونة!!.
-حاجة زي كدا يايزن، المهم خلِّي بالك من يوسف يايزن، وأوعى إلياس يعرف إنِّي كلِّمتك، خلِّيك قدِّ ثقتي فيك.
-جوزك بيموت ياميرال، وابنك مش مبطَّل سؤال عليكي، لازم ترجعي متعمليش كدا.
-يزن..وصيِّتك ابني..
قالتها وأغلقت الهاتف..
ميرال استني..هتف بها ولكن أُغلقَ الخط..كوَّر قبضتهِ يتمتم:
-غبية..إنتي واحدة غبية.
قالها واستدار متراجعًا، ولكنَّه اصطدم بجسد خلفه، توقَّف مذهولًا وهو يرى إلياس واقفًا بجسدٍ متجمِّد..ابتلع ريقهِ بصعوبة ورسم ابتسامة قائلًا:
-عجبني بيتي، ذوقك حلو.
-أختك فين؟!..عايشة مش كدا…؟!
بينما عند ميرال بعد عدَّةِ ساعاتٍ من اتِّصالها بيزن، تذكَّرت شريحة الهاتف،
قامت بنزعها وألقتها في البحر، نظرت للموجِ الهادر بنظرةٍ غائمة، وقالت:
-قلبي وجعني اوي، مش عارفة اعمل ايه، ارجع لجوزي وابني وارضى بنظرات الكل ليا..أطبقت على جفنيها وشهقت:
-خايفة، والله خايفة، إلياس ميستهلش ولا يوسف، يارب ساعدني ..انا عاجزة ومش عارفة اعمل ايه، بس ابني وجوزي وحشوني، هكون طماعة لو طلبت منه نسافر برة ونسيب كل حاجة، طيب ذنبه ايه يسيب شغله اللي بيحبه، وماما فريدة ذنبها ايه تتحرم من ابنها وحفيدها..وضعت كفيها على وجهها ..شهرين وحاسة اني بموت من غيرهم، ازاي هعيش طول العمر، يارب اموت وارتاح
رفعت عيناها للسماء وهمست وكأنها تناجي ربها:
-يارب خدني وريحهم..انا ضعيفة ومش قادرة أواجه.. يارب..ظلت لدقائق على حالتها، ثمَّ التفتت لهند:
– يالَّا نرجع البيت، أكيد مامتك رجعت من المستشفى.
هند بصوتٍ خافت:
– هو انتي كنتي بتعيطي
هزت رأسها وردت:
-لا هوا البحر بس..توقفت هند وتسائلت بنبرة متقطعة:
-هوَّ جدُّو هيموت، صح ياأبلة مروة؟
تجمَّدت خطواتها..انحنت نحو هند وربتت على خصلاتها برفق:
– ليه بتقولي كده ياحبيبتي؟
همست هند بحرج:
– سمعت خالتي وجوزها بيقولوا إنُّهم مضُّوه على البيت، علشان خلاص هيموت.
شدَّت ميرال على أناملها بحنان:
– إن شاء الله يقوم بالسلامة..هوَّ جدِّك عايش دايمًا في إسكندرية ولَّا كان في القاهرة وجه هنا؟
– لا، دايمًا هنا..ماما بس اللي عايشة في القاهرة..بنيجي بس في الصيف، بس طبعا اضطرينا ننزل دلوقتي علشان تعبه ..عايزة ارجع بقى علشان انا مش مرتاحة هنا
أومأت بصمت، ثمَّ أشارت ناحية منزلِ الجد:
– يالَّا، زمان مامتك على وصول.
صعدتا معًا، وما إن دخلتا البيت حتى دوى صوت ناعم حاد:
– إنتَ بتعمل إيه هنا ياحسين؟!
كان يقف يراقب ميرال من الشباك وهو يحكُّ ذقنه، وعيناه تتلاعبُ بمكر:
– هيَّ أختك ماقالتلكيش مين البنت الحلوة اللي معاها؟
وضعت الطعام بغضب، وصرخت:
– وبعدها لك ياحسين، طول عمرك عينك زايغة..قالت بنتِ صاحبتها..
اقترب منها بجذبٍ غليظٍ وسحبها إلى الداخل:
– يا بت ياهبلة، اسمعيني وافتحي دماغك..البنت دي أنا أخدت صورتها للواد زيكو بتاع السيبر..شكِّيت من الخاتم اللي في إيدها، شكله غالي.. كمان لمَّا نسيت السلسلة في الحمَّام، لقيتها وفتحتها، فيها صورة راجل أبَّهة وطفل صغير، دوَّرنا عليه…وطلع الراجل ده ضابط كبير في أمنِ الدولة.
شهقت نادية أختِ نعيمة وصرخت:
– يا لهوي! يانهار مش فايت!.. جايبة أمن الدولة عندنا يانعيمة؟!
وضع كفِّه على فمها بقسوة:
– اسكتي، أنا جالي تأكيد من ناس… البتِّ دي هربانة من جوزها، عارفة يعني إيه؟ يعني فلوس…فلوس بالملايين، مش تعملي فيها المجنونة وتبوَّظي الفرصة.
دفعتهُ بقسوة:
– ناوي على إيه ياحسين؟!
غامت عيناه، ثمَّ تمتم:
– كلِّ خير…بس والله لآخد حقِّي من أختك الستِّ المحترمة، شكلها ناوية تكوِّش على الخميرة لوحدها..
وقبل أن ترد، ظهر وجهُ هند في الباب:
– خالتو؟
دُهشت نادية وهرعت نحوها:
– في إيه ياهند؟
– ماما لسه مجتش؟
هزَّت رأسها، وهي تُلاحق ميرال بنظراتها:
– هتبات عند جدِّك الليلة.
سحبت هند يد ميرال وقالت:
– هنطلع شقة جدُّو، أكلِّمها من فوق… بعد إذنك ياخالتو.
وبالداخل، أمسك حسين هاتفه:
– إلياس السيوفي معايا؟
– إنتَ مين؟!
– فاعل خير..مراتك عندي…بس هتدفع.
– نعم؟ إنتَ بتقول إيه؟!
– عشرين مليون…تستلم مراتك.
ثمَّ أغلق الهاتف، وقفت نادية تراقبهُ بصدمة:
– إنتَ بتعمل إيه؟!
– اشش، متبوَّظيش علينا، دي كنز، كنز بيمشي ياهبلة.
في القاهرة..عند إلياس، وصل إلى شركتهِ الأمنية التي يقومُ بتأسيسها:
– شريف، هبعتلك رقم…عايز أعرف صاحبه فين، خلال دقيقة واحدة..
دخل شاب ثلاثيني:
– إلياس باشا…توقَّف يتطلَّعُ إليه بجهل، مع اقترابهِ يمدُّ يده:
أنا مالك المحمدي، إسحاق باشا الجارحي بعتني لحضرتك، مبسوط إنِّي هكون ضمن الفريق.
لم يلتفت لحديثه، كان عقلهِ هناك… عند صوت ذلك المتَّصل الغامض.
بالعاشرة مساءً بالإسكندرية..
جلست ميرال في شرفةِ الغرفة، تحدِّق في البحر..داعبت بطنها المنتفخ بحنوّ:
– بابا وحشك؟…وأنا كمان نفسي أشوفه..بس لازم نتأقلِّم ياحبيبتي، يمكن نصيبك يطلع أحسن من نصيب ماما…
رنَّ هاتف هند التي اقتربت منها خدي ماما عايزة تكلِّمك:
– مروة، حبيبتي…أوعي تقولي لنادية حاجة عنِّك..أوعي، فاهمة؟
– حاضر.
أنهت المكالمة، وهمَّت بالنوم، ولكن سمعت طرقات هادئة على الباب، اتَّجهت إليه وفتحت بعد أن وضعت الحجاب سريعًا.
– أبلة نادية، خالتي نعيمة لسه مرجعتش…
ولكن ظهر حسين من خلفها، يجذبها بيدٍ غليظة، وسكين يلمعُ أمام وجهها:
– ولا كلمة، همشي بيكي، لو نطقتي… هدبحك، فاهمة؟!
ترقرقت دموعها، وارتجف جسدها.. قرَّب السكين من بطنها:
– خايفة على النونو؟ يبقى اسكتي وامشي.
احتضنت بطنها بخوف، وسارت بجوارهِ صامتة.
صرخت هند التي كانت تراقبهم:
– عمُّو حسين، واخد أبلة مروة فين؟!
هتف بعصبية:
– سكِّتي البتِّ دي، لازم ننفذ قبل مالغندورة اختك تيجي
سحبتها نادية بعنف:
– تعالي ياهند، متخافيش…هوَّ بس هيودِّيها لأهلها.
لكن ميرال رأت الشرَّ في نظراتهم… دفعت حسين بقوَّة وهربت..
صرخ خلفها، وركض…إلى أن خرجت للشارع، على الطريقِ السريع..
حاول سحبها مجدَّدًا، لكنَّها ضربته، وغرست أظافرها في وجهه..
-اتهدي بقى، دا انتي هتجيبي ملايين
انحنت تبعثر التراب بوجهه، وركضت ناحية الشاطئ حتى تستغيث بأحدهم، ولكنه جذبها بعنف من شعرها، وصفعها بقوَّة، لتسقط…وترتطمَ رأسها بصخرةٍ بارزةٍ على الشاطئ حتى اندفعت الدماءُ من رأسها بغزارة ، وارتخت أطرافها..دارت عيناها بالسماء تهمس باسم زوجها
-“إلياس”
تراجع حسين بذعر…ودقَّاتُ قلبهِ تتسارع..
ركض هاربًا، ولم يلحظ السيارة المسرعة…وصريرُ فراملها المرتفع،
حتى دوى صوتُ ارتطامٍ عنيف…
وارتفع جسدهِ في الهواء ثمَّ ارتطم بالطريق كدميةٍ بلا روح.
أمَّا ميرال..فكانت تنزفُ على الأرض، أنفاسها المتقطِّعة تنازعُ الموتَ بصمت..
لتغمض عيناها
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية وكأنها لي الحياة (شظايا قلوب محترقة 2))