روايات

رواية فتيات القصر الفصل الحادي والعشرون 21 بقلم اسماعيل موسى

رواية فتيات القصر الفصل الحادي والعشرون 21 بقلم اسماعيل موسى

رواية فتيات القصر البارت الحادي والعشرون

رواية فتيات القصر الجزء الحادي والعشرون

فتيات القصر
فتيات القصر

رواية فتيات القصر الحلقة الحادية والعشرون

في الغرفة المعتمة، حيث لا صوت إلا خفوت ألسنة اللهب في المدفأة، بدأ عبق العطر يتسلل رويدًا… لم يكن الأمر واضحًا في البداية. مجرد رائحة عابرة، خافتة. لكن مع مرور الدقائق، صار الهواء أثقل، يشبه لمسة يد خفية تُداعب أعصاب من يستنشقه.
السيد جالس في مقعده الوثير، عيناه نصف مغمضتين، وكأن شيئًا غير مرئي يحاول أن يتسرب إلى جلده.
رفع رأسه قليلًا، تنشق الرائحة بعمق… عبير غامض لم يعرف مصدره، كأنه يستحضر ذكرى لا يتذكرها.
أطبق جفنيه لحظة… ثم قام من مكانه.
اتجه نحو الجهاز القديم قرب المدفأة، وأدار أسطوانة قديمة لباخ. المقطوعة تسللت ناعمة… موسيقى شبيهة بالخدوش الدافئة على جدران الذاكرة.
عادت الرائحة تطوف حوله.
دون أن يشعر، خفّت الحدة في ملامحه المتجهمة. شيء ما استقر في صدره… لا يشبه ارتياحًا ولا غضبًا. شيء بينهما. تناقض.
جلس قرب المدفأة، نارها تنعكس على ملامحه. تناول كتابًا كان على الطاولة — مجلد جلدي داكن بلا عنوان.
أشعل سيجارته.
الدخان امتزج برائحة العطر، والموسيقى كانت تهمس في الخلفية.
فتح الكتاب… لكنه لم يقرأ.
عينيه ظلّتا عالقتين على الصفحة الأولى، فيما أفكاره تنسحب بعيدًا، كأن مفعول العطر ينقله إلى مكانٍ آخر.
وظل هكذا… النيران ترقص، الدخان يتلوى، والموسيقى تملأ الغرفة بشيء يشبه الطقوس القديمة.
ظل جالسًا لدقائق… الدخان ينساب من بين أصابعه، والعطر يملأ الجو بثقل لا يُحتمل.
ثم، وبدون سبب ظاهر… ارتسمت على شفتي السيد ابتسامة باردة، لئيمة، كأنما انتبه فجأة لسرٍ لا يعرفه سواه. تلك الابتسامة لم تكن فيها طيبة، ولا حتى سخرية. بل شيء أقدم من ذلك… كأنها تعود لعهد آخر، لرجل كان يعرف كيف يُخضع العالم بإيماءة.
نهض من مقعده. الموسيقى لا تزال تدور، والنار تتوهج.
اتجه نحو الشرفة الواسعة، فتح البابين الخشبيين العتيقين بصوت خافت. الهواء البارد تسلل إلى الغرفة حاملاً معه عطراً آخر… عطر الليل.
أطلّ من علٍ على الحديقة الملكية. الأزهار المتفتحة في الظلام كانت تشبه سرب أرواح نائمة. أوراقها ترتجف كأنها تعرف أنها مراقَبة.
والسماء فوقه… كأن النجوم ذاتها تراقبه من بعيد. نقاط صغيرة من الضوء في سديم أسود كثيف.
رفع السيد يديه ببطء، كأنما يهمّ بأداء رقصة صامتة… حرك يديه في الهواء بخفة، بإيماءات لا تُشبه شيئًا معروفًا. كأنما يرسم شيئًا لا يُرى.
ثم همس بصوت خفيض… كلمات بلا معنى واضح. لا تشبه لغة البشر، ولا صيغة دعاء. مقاطع مبعثرة، فيها شيء من الغناء وشيء من التهديد.
ــ “ڤالين… نازورا… إسليم…”
اختفت الكلمات في الهواء… لكن النجوم ظلت ساكنة، تراقب.
ظل واقفًا هكذا للحظة، قبل أن يبتسم من جديد.
ابتسامة لا يعرف أحد إلى من وُجّهت… ولا ما الذي وُعِد به حين نطق تلك الكلمات وهو يطل على شرفة غرفة راما
في ساعة متأخرة من الليل… حين أسلم القصر الكبير أنفاسه للنوم، وغفت الأرواح خلف جدرانه المهيبة، خرجت راما من جناحها كقطرة ماء تسللت من بين الأصابع. خطواتها تعرف الممرات، تحفظ صرير الأبواب، وتتحايل على عيون الحراس النائمين.
تقدمت نحو الحديقة الملكية، حيث تهمس الأزهار للريح. دفعت البوابة بهدوء، فتلقّفها الليل بعطره البارد. مشت بين أسرّة الزهور، حتى بلغت مكانًا تعرفه… بقعة يطوّقها الياسمين من ثلاث جهات، ويترك الجهة الرابعة مفتوحة للسماء.
جلست هناك. مدت يدها تمسح ندى الأوراق، وراحت تتحدث مع الريح بكلمات لا تشبه البشر:
— “خذيني إلى حيث لا أحد يعرف اسمي…”
عيناها مطبقتان، لا تدرك أن هناك من يتتبعها من خلف ستار الظلمة.
فوقها، في الطابق العلوي، عند الشرفة العريضة المطلة على الحديقة، وقف السيد.
. لم يهدأ قلبه مذ غادرته قبل ساعات، ورائحة العطر لا تزال متشبثة بملابسه. شيء ما فيه تغيّر، شيء أرق روحه، جعله كمن يحيا في نصف يقظة.
وقف هناك، متكئًا بكفه على الدرابزين الحجري، عيناه معلّقتان بتلك الظلال بين الأزهار.
ورآها.
راما… بثوبها الأبيض المتّسخ بآثار النهار، وشعرها المنسدل على كتفيها. تجلس وسط الياسمين كحكاية قديمة ترفض أن تموت. الريح تلامسها، والزهور تحاول الاقتراب.
ابتسم السيد بلؤم خافت.
لم يعرف لماذا.
ثم فتح ذراعيه ببطء… حركة بطيئة كأنه يراقص الليل. همس بكلمات لا معنى لها، ألفاظ غريبة خرجت من بين شفتيه، كأنها تعويذة ضائعة منذ قرون.
النجوم كانت تراقب.
والعطر ما زال يتسلل من سترته.
أما راما… فظلت غافلة، تناجي الريح.
والسيد… لم يشأ أن يوقف المشهد.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية فتيات القصر)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *