رواية فتيات القصر الفصل الثامن والعشرون 28 بقلم اسماعيل موسى
رواية فتيات القصر الفصل الثامن والعشرون 28 بقلم اسماعيل موسى
رواية فتيات القصر البارت الثامن والعشرون
رواية فتيات القصر الجزء الثامن والعشرون

رواية فتيات القصر الحلقة الثامنة والعشرون
على مدار شهرٍ كاملٍ، واصلت راما طقسها العتيق.
كانت تغمر غرفتها بعطر الأثير كل فجرٍ، ترشّه فوق ثيابها، بين خصلات شعرها، وحتى ستائر النافذة، لتغدو الحجرة عالماً آخر لا يشبه سواه.
رائحةٌ تشبه الأحلام الأولى… تلك التي لا يذكرها أحد، لكنها تبقى قابعةً في جوف الروح.
ومع كل يوم، كانت الرائحة تثقل الهواء شيئًا فشيئًا.
الخدم الذين يدخلون غرفتها، أو يمرّون بجوارها، لم يعودوا كما كانوا.
عيونهم نصف مغمضة، أنفاسهم متباطئة، وكأن العالم خارج رائحة راما بات لا يعنيهم.
وبات القصر بأكمله يتحرك على إيقاع أنفاسها.
كل خطوة، كل صوت، كل أمر صغيرٍ أو كبير — يُرفع أولًا إلى السيدة راما.
لم يكن أحدٌ منهم يُدرك متى بدأ هذا الخضوع.
متى باتوا لا يستطيعون أن يرفعوا أعينهم عنها، أو يرفضوا طلبًا يصدر من شفتيها.
حتى السيد نفسه، وإن لم يكن يدري، كان القصر يتصرف من خلف ظهره تحت إرادةٍ خفية.
وفي كل ليلة، كانت لارينا — التي أدمنت عطر الأثير كمدمنٍ فقد القدرة على الرفض — تدخل غرفة راما راكعة، تسرد لها أحوال القصر، وأوامر السيد، وما يدور في الزوايا الغامضة، وتنال جرعتها… نقطة صغيرة فوق أنفها، تكفي لأن تغمرها بيومٍ آخر من الطاعة.
تكرّر الأمر يومًا بعد يوم.
أسبوعًا يتبعه أسبوع.
ثم شهرًا كاملاً.
وفي نهاية الشهر، لم يعد الخدم مجرد أيدٍ تعمل أو أفواه تنفّذ.
صاروا أتباعًا…
مريدين…
يدينون بالولاء لراما كما يدين المرء لإلهةٍ خفيةٍ تقيم بينهم ولا يُرَى إلا أثرها العابق.
وهكذا، تحوّل القصر العتيق إلى حديقةٍ من الولاءات الغامضة.
أرضٌ يفوح من جدرانها عبق لا يُفسَّر، وخدمٌ يمضون في مهامهم بلا اعتراض،
يطيعون أمر راما حتى قبل أن يُقال.
كأنها عقدٌ خفيّ كُتب تحت ضوء القمر، وربطهم جميعًا بتلك السيدة التي تحمل القنينة الصغيرة في جيبها… وتبتسم.
في مساءٍ هادئٍ يوشك فيه الضوء أن ينحسر، جلست العتمة على أكتاف القصر العتيق، وأخذت الظلال تنسلّ بين أعمدته ككائناتٍ متوارية.
في تلك الساعات، بدأ السيد — رجل القصر الأوحد — يشعر بأن ثمة شيء يتبدل، يتناثر في الأجواء… أمرٌ غامضٌ لا تُرى معالمه، لكن أثره كالوخز في صدرٍ يعرف صاحبه أن وراء الهدوء كارثة وشيكة.
لم يكن السيد من الرجال الذين يستسلمون للأوهام، لكنه منذ أيامٍ يستفيق على إحساسٍ ثقيل، كأن الجدران تهمس، وكأن الهواء يشهد ما لا يقال.
خُطى الخدم صارت أهدأ مما يجب.
النظرات تغضّ كلما مرّ.
الأوامر تُنفَّذ، نعم، لكن بلا الحماس المعتاد، بل كأن كل يدٍ تمتد للعمل تحمل أمرًا آخر خفيًا لا يعرفه سواه.
حتى رائحة خافتة، لا تشبه شيئًا يعرفه، باتت تسكن الردهات… عبقٌ لا يستطيع الإمساك به لكنه يلاحقه كذكرى مبهمة.
في ذلك المساء، حين جلس السيد إلى مقعده الوثير خلف النافذة المشرعة على الحديقة، وأخذ يتأمل حركة الخدم الباهتة في الساحة، أيقن أن الأمر تجاوز حدود المصادفة.
فأمر على الفور بإحضار لارينا.
—
دخلت لارينا الغرفة برأسٍ مطأطأ ويدين معقودتين أمامها.
كان قلبها يضرب بين ضلوعها، لكنها تخفّت خلف قناعٍ من الهدوء.
جلس السيد، متكئًا بكامل هيبته إلى مقعده العريض، وعيناه تلاحقانها كما يلاحق الصياد طائرًا يعلم أنه قد يفرّ في أية لحظة.
ثم بصوتٍ منخفض لكنه نافذ قال:
“أغلقي الباب يا لارينا.”
فأغلقت الباب دون أن ترفع عينيها، وساد صمتٌ ثقيلٌ، حتى ظنّت الجدران أنفاسها تكاد تُسمع.
ثم بدأ استجوابه.
نصف ساعة كاملة جلس السيد يحدّق في لارينا، يطرح عليها الأسئلة الواحدة تلو الأخرى، بصيغةٍ ثابتة لا تحتمل الإفلات:
“من يحرّك الخدم مؤخرًا؟
لِمَ صارت الأوامر تصلني متأخرة؟
من صاحب الرائحة التي لا تغادر القصر؟
من يأمر خلف ظهري؟
وأين تذهبين بعد الغروب؟
ومن سمح بأن تُنقل الأنباء دون علمي؟”
سؤال يتبعه سؤال، كأمطارٍ متلاحقة، لا تمنح التربة فرصة لتجف.
ولارينا، بوجهٍ شاحب وعينين متسعتين، كانت تكرر ذات الجواب، بصوتٍ أقرب للهمس:
“سيدي… أقسم لك… لا علم لي بشيء.
لا أمر يحدث إلا بأمرك.
لم أسمع عن أمرٍ خفيّ.
ولا أحد تجرأ على مخالفة جنابك.”
تكررت كلماتها مرارًا، حتى خيّل للسيد أن ثمة جدارًا غير مرئي يفصل بينه وبين الحقيقة.
كان يشتم رائحة الكذب — لا من كلماتها، بل من السكون المرتعش في عينيها، ومن ارتجافة أصابعها الدقيقة التي تخفيها خلف ردائها.
أراد أن ينهض، أن يهزّها بكلتا يديه ويخرج السر من بين شفتيها، لكنه أمسك غضبه، وأطلقها بأمرٍ حاد:
“إن بلغك شيء — أي شيء — مهما صغر، يصل إليّ قبل أن يتنفس في القصر.
لن أحتمل خيانةً واحدة، يا لارينا.”
فأومأت برأسها مطيعة، وهي تخفي لوعتها وعلمها العميق بما يدور.
وخرجت من الغرفة، وقد التصقت الرائحة في أطراف ردائها، تلاحقها كما يلاحق الذنب صاحبَه.
حين خفتت الأضواء في القصر، وتسللت الريح العليلة عبر النوافذ نصف المغلقة، تحرّكت لارينا بخطى حذرة بين الممرات المظللة.
كان القصر، في ساعاته المتأخرة، يشبه بطن مخلوقٍ عملاق يتنفس ببطء، جدرانه تتنهد، وأرضه تئن تحت وقع الأقدام الخفيفة.
عَبَرت الرواق الطويل، والشموع تترنح على الجدران كأنها تتهامس.
ورائحة الأثير العالقة في زوايا المكان — عبق السيدة راما — لا تزال تبث أثرها الخفي في الأجواء.
وقفت لارينا أمام باب غرفة راما، ترددت لحظة…
ثم طرقت ثلاث طرقاتٍ خفيفة، لا يخطئ وقعها أحد.
من الداخل، جاء صوتٌ رقيق لكنه مشبع بسلطةٍ لا تقبل جدالًا:
“ادخلي.”
فتحت الباب ببطء، ودخلت…
كانت راما جالسة في منتصف الغرفة، وقطتها تنام ملتفةً عند قدميها.
الشعلة الوحيدة على الطاولة تنعكس على بشرتها فتزيدها فتنةً وغموضًا.
تقدمت لارينا حتى باتت تقف عند عتبة السجادة المفرودة، وانحنت قليلًا.
“سيدتي…”
نطقت بصوتٍ خافت، كمن يخشى أن يسمعه الحائط.
رفعت راما عينيها إليها، ولم تقل شيئًا، فقط نظرت — وتلك النظرة وحدها كانت كافية.
تنفست لارينا بارتباك، ثم بدأت تنقل ما جرى.
“استدعاني السيد… فتّشني بالكلمات كما يُفتَّش الخشب في ليلة عاصفة…
سألني عنكِ… عن العطر… عن الأوامر… عن طاعة الخدم.
ألحَّ عليّ، سيدتي… نصف ساعة كاملة، وأنا أُنكر وأُقسم…”
توقفت لارينا، وعيناها تراقبان وجه راما تبحث عن أدنى بادرة انزعاج، لكنها لم تجد سوى سكينةٍ مخيفة.
“لم أذكر اسمك… ولا قلت كلمة واحدة تدلّ عليك… كما أوصيتِ.”
صمتت لارينا لحظة، ثم قالت بتردد:
“سيدتي… إنه يشكُّ الآن… قلبه يلهث خلف الحقيقة… وأظنه سيبدأ بمراقبة الخدم… وربما يتبعني.”
ابتسمت راما، ابتسامة خافتة لا تحمل خوفًا ولا حدة… بل ابتسامة من اعتاد أن يُمسك بالخيوط الطويلة.
ثم قالت، بصوتٍ ناعم كأنما يتسلل من بين ستائر الليل:
“كلما ازداد ظنُّ السيد… ازدادت حاجته إليَّ.
اتركيه يشك… ولا تمنعي عنه شكوكه… فالغريق لا يعرف لمن يستغيث حتى تبتلّ أنفاسه.”
ثم أخرجت من جيبها القنينة الدقيقة ذات الزجاج الياقوتي، ورفعتها في الهواء.
انعكس ضوء الشعلة في سائلها الكهرماني، فأضاءت الغرفة للحظة كوميضٍ خاطف.
“اقتربي…”
فتقدمت لارينا، وانحنت حتى صارت أنفها قريبًا من أصبع راما.
وضعت الأخيرة نقطة صغيرة فوق طرف إصبعها، ثم رسمت بها خطًّا خافتًا خلف أذن لارينا، وهمست:
“هذه حصتك… لا تخافي، فالقلوب التي تذوقت هذا العطر لا تنسى، ولا تتجرأ.”
ثم أردفت، بعذوبةٍ تحمل ظلّ الوعيد:
“انصرفي الآن… وارقبي لي قلب السيد…
وأي نسمة شك تمر به… تعالي بها إليَّ، حتى قبل أن يعلم هو.”
انحنت لارينا مطيعة، وخرجت من الغرفة كمن يحمل في جسده سرًّا لا يجب أن يُقال.
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية فتيات القصر)