روايات

رواية فتيات القصر الفصل الحادي والثلاثون 31 بقلم اسماعيل موسى

رواية فتيات القصر الفصل الحادي والثلاثون 31 بقلم اسماعيل موسى

رواية فتيات القصر البارت الحادي والثلاثون

رواية فتيات القصر الجزء الحادي والثلاثون

فتيات القصر
فتيات القصر

رواية فتيات القصر الحلقة الحادية والثلاثون

حين استقر ضوء القمر شاحبًا على حواف النوافذ المرصعه، جلست راما دي فلور إلى طاولتها.
يدها اليمنى كما اعتقد تمسك بقلم حبرٍ رفيع من ريش غراب، يغمس رأسه في محبرة من العقيق الأسود، ويدها اليسرى تعبث بصفحات كتابٍ جلدي غليظ، حمل على غلافه المهترئ حروفًا متداخلة لا تُقرأ إلا _ في ضوءٍ مائل:
“Le Livre des Brumes_ كتاب الضباب
كتاب فرنسي نادر، نسخته الوحيدة نُسخت من مخطوطة بيزنطية ضاعت في حريق مكتبة الإسكندرية، وجُمعت شذراته من دكاكين العطّارين في حلب ودمشق، وحانات السحرة في مارسيليا.
وضعت راما دى فلور قائمة أوليّة للأزهار والأعشاب التي ستدخل تجربتها، لكنها لم تكن راضية بتلك التي اعتادت سيدات البلاط تداولها من زهر اللوتس الأزرق أو الكاميليا البيضاء، أرادت زهورًا تنمو في الظل… زهورًا لم يُسَمّها أحد
زهورها الخاصة ___
فتحت دُرجًا سريًّا أسفل مكتبها، وأخرجت دفترًا صغيرًا من المخمل العتيق _”دوّنت فيه:
زهر الـ”نيكتافلور”: زهرة بنفسجية صغيرة، تنمو في مقابر الرهبان المهجورة، لا تفوح رائحتها إلا بعد منتصف الليل، تُفرغ صدر من يشمّها من الرجاء.
زهرة “فيتيسيا المرقّطة”: بتلاتها مرقّطة بنقاط داكنة كأنها عروق الدم، تستخرج منها قطيرات تُخدّر العصب الخامس.
عشبة “سيليكا الظلال”: نبتة دقيقة الساق، تنمو في كهوف البحر المحظورة جنوب ويلز، وتفرز عند سحقها رائحة تشبه خليط المسك والفحم الرطب.
زهرة “كريسانثيم الورديّ الأسود”: لا تظهر إلا في شتاءٍ طويل بلا شمس، كانت تحتفظ ببتلاتها المجففة داخل مظروف شمعي، جلبته من أحد أكشاك العطّارين في فالنسيا.
ثم أضافت: أزهار لافندر المحترق ،قطرات من زيت العنبر المتحلل ،شذرات خشب الأبنوس المدخّن
مسحوق نادر من جذر “فيوم النيليّ”، الذي لا يباع إلا عبر وسطاء غامضين في أسواق فينيسيا الليلية.

راحت راما دى فلور وهى تشرب الشاى الأخضر تسخّن مزيجًا من زيت الجوجوبا الأسود ورحيق الزعفران المعتّق في مبخرة نحاسية، محفورة بنقوش رومانية.
حين بدأ الزيت يقبقب ويصدر فقاقيع صغيرة، أسقطت فيه ثلاث بتلات من النيكتافلور، ومع كل بتلة، تلاشت في الهواء رائحة أقرب إلى المندرين الفاسد.
ثم أضافت:
قطرتين من زيت فيتيسيا
_قطيرات من مسحوق السيليكا، الذي بدأ يدخّن خيطًا رماديًا رقيقًا يشبه غيمة رفيعه تخترق السماء
ثم دونت على الهامش:
“كلما مالت الرائحة إلى العفونة، اقتربت من تمام فعلها.”
على الطاولة، تراصّت كتبها:
1. “De Potentia Odorum” — مخطوط لاتيني من القرن السادس عشر عن القوة الباطنية للروائح.
2. “Les Ombres et Parfums” — مجلد فرنسي نادر عن طقوس البلاط الفرنسي السريّة.
3. “The Secrets of Black Fragrance” — كتاب مجهول المؤلّف، ترجمة لإنجيلٍ قديم حول العطور السحرية.
4. شذرات من سجلات راهبات دير القديسة مارثا عن استخدام العطور في طقوس الاستحضار.
5. ورقة معزولة من بردية قبطية تحمل وصفًا لعطر “الريح البكماء”، الذي يُقال إنه يُفرغ النفس من إرادتها.
أغمضت راما دى فلور عيونها وداعبت رأس القطه التى تختبيء فى حجرها ،ثم إستنشقت البخار المتصاعد ودوّنت:
“خفيف… يقظ… يفتقد لسُميّة الضباب العميق.”
فعدّلت التركيبة، أضافت مسحوق جذر فيوم النيليّ، وخمّرت الخليط فوق لهبٍ أزرق باستخدام موقد كحولي صغير.
سرى في الغرفة عبق حاد… يشبه رائحة خزانة مغلقة منذ عشرين عامًا فى منزل غارق بالمطر.
ابتسمت راما
ثم نقلت القطرة الأولى إلى زجاجة زرقاء صغيرة عليها ختم فضّي قديم.

أطلقت عليه “أثير الظلال”
Aether des Ombres
في نهاية الليل، حين اختفى ضوء الشمعة الوحيد في غرفتها، تمدّدت راما على مقعدها الخشبي ، وشمت أطراف أصابعها المغمّسة بالخليط.
شعرت أن العالم كله بدا أكثر طواعية… وأن الجدران باتت تنصت.

: “ليل الزهور الصامتة”
في أعقاب تجربتها الأولى مع أثير الظلال، لم تهدأ راما دي فلور. بل مضت لليالٍ متعاقبة تستجوب عبير كل زهرة، تدوّن ملاحظات دقيقة عن رائحة الساق الرطبة، ودفء البتلة المبللة، وانكسار العطر ساعة امتزاجه بالزيت.
كانت تعرف أن السر لا يكمن في كثافة الرائحة، ولا فوحانها، بل في تأثيرها النفسي الصامت، ذاك الذي يبدل مزاج القلب دون أن يدري.
فتحت دفترها ذو الغلاف الجلد الداكن، وراحت تسجل أسماء الزهور التي جمعتها من مصادر شتى — بعضها من أسواق لندن المظلمة، وبعضها الآخر من حدائق خاصّة لم يُسمح للغرباء بدخولها منذ عقود.
أزهار وأعشاب احتفظت بها في قوارير زجاجية:
زهرة “إيلينورا الغامقة”:
تنمو على منحدرات متهالكة بجوار مصحات عقلية مهجورة في اسكوتلاندا.
رائحتها مزيج بين الخزامى والجلد العتيق، ولها أثر طفيف في بعث شعور بالحنين للطفولة لدى من يشمّها.
زهرة “فيوريس نوار”:
زهرة صغيرة جدًا، بلون أحمر مائل للحدّة، لا تزهر إلا لثلاث ساعات عند هطول أمطار الصيف المتأخرة.
تفوح منها رائحة تشبه الحديد المبلل، ولها أثر غريب في إثارة حالة توتر طفيف بالصدر.
عشبة “سيرافين الباردة”:
تنمو على ضفاف بحيرات ضبابية نائية في أيرلندا.
عند سحقها، تطلق رائحة تشبه النعناع المثلج ممزوجة بدخان شاحب، تُحدث شعورًا عابرًا باليقظة والحدة الذهنية.
زهرة “لاريثيا المخملية”:
لا تنمو إلا داخل دفيئات مهجورة عمرها يتجاوز القرن، قرب القلاع القديمة.
عطرها يُشبه الشمع المحترق مع قطيرات من العسل المُعتّق، يُشاع أنه يُهدئ نوبات القلق الخفي.
بتلات “أورليا الحمراء”:
زهرة بقطر نصف إنش، تمتص رطوبة الجو وتفوح بعبير يشبه النبيذ البارد والسكر الأسود.
لوحظ أن استنشاقها يبطئ النبض لبضع لحظات.
ولم تستخدم راما أيًّا منها بعد… بل احتفظت بها في قوارير زجاجية، محكمة الإغلاق، منقوشة بأحرف لاتينية تعود للقرن السابع عشر على رف قريب من من سريرها
———————))
تجارب راما
في معملها الضيق ، الذي تعلقت فيه رفوف من خشب الجوز المعتّق، راحت راما دي فلور تقف وراء طاولة حجرية ملساء، حولها قوارير وأوعية، ومبخرة فخار قديم.
أرادت استكشاف تأثير المسك المعتّق مع رحيق أزهار “كريسانثيم الورديّ الأسود”.
مزجت قطرتين من زيت العنبر، وبتلة واحدة مجففة.
النتيجة: رائحة خانقة… تشبه ورقًا قديمًا محترقًا داخل مكتبة مبللة.
دوّنت: “لا تصلح… تُثقل النفس بحزنٍ غير محدد.”
الليلة الثانية:
استخدمت مسحوق “سيليكا الظلال” مع رذاذ من “فيوريس نوار”.
استنشقته برفق.
الشعور: ارتجافة غير مفسّرة في أسفل الصدر… ضيقٌ لحظي في التنفس.
دوّنت: “رائحة ذات أثر مؤذٍ… توتر الأعصاب ببطء.”
الليلة الثالثة:
ابتكرت خليطًا من رحيق اللافندر المحترق مع قطرات من زيت خشب الأبنوس المدخّن.
رائحة: هادئة… كثيفة… تبعث رغبة في الجلوس الطويل دون حركة.
كتبت: “مثالية للانزواء… قد تصلح كقاعدة لعطر مسائي يتقن التلاشي.”
الليلة الرابعة:
اكتشفت بالمصادفة — حين انسكبت قطرة من فيتيسيا المرقطة في وعاء به رحيق الزعفران — أن الامتزاج يولّد رائحة شبيهة بالخردل المُحمص.
أثرها: خدرٌ بسيط في نهايات الأصابع.
لم تُعجبها.
كتبت: “تجربة ناقصة… تهدّد بجعل العطر متوترًا لا يثبت.”
الليلة الخامسة:
راحت تُمزج بين الزيوت النادرة:
مسك غزال مُعتّق منذ ثلاثين عامًا
عصارة بتلات لافندر مُجفف فوق رماد مدخنة
نقطة واحدة من “لاريثيا المخملية”
النتيجة:
رائحة شديدة الرقة… كأنها طيف ظل في غرفة عتيقة.
أثرها النفسي: خفض ضغط الدم، وتثبيط أي انفعال مفاجئ.
دوّنت بحروف صغيرة: “هذا العطر لا يُشم… بل يُشعَر به تحت الجلد.”

بعد ثلاثين ليلة، كتبت على الصفحة الأخيرة من دفترها:
“ما من زهرة تصدقك وحدها… كل رائحة تكذب إن لم تجد ما يساندها. العطر العظيم ليس توليفة… إنه خطابٌ مع النفس، بين ما نخفيه وما نخشى إظهاره.”
ثم ختمت دفترها، وأطفأت المصباح، وقررت أن تبدأ في الليالي التالية توليفة نهائية…
لكنها قبل ذلك فتحت قنينة زجاجية، استنشقت “سيرافين الباردة”، وابتسمت.

في الخارج، كان السيد إدوارد دى فلور يتحرك في ظلال قصره الهادئ.
منذ أسابيع، راح يلاحظ أشياءً لا تُقال.
رائحةٌ خافتة تتسلل إلى أروقة القصر قبل موعد المساء، لا تشبه العطور المعتادة.
لم تكن رائحة الزهور المألوفة التي يتعطر بها الخدم قبل استقبال الضيوف، ولا عبق الخزامى والورد المحفوظ في المرايا الفضية… بل شيء أعمق.
رائحة أثيرية… كأنها ليست رائحة بل أثر فكرة نُسيت منذ زمن.
في ليلته تلك، حين أسدل الستار عن شرفته المطلة على الحديقه، جلس السيد إدوارد إلى مقعده الوثير، وكأس النبيذ المعتّق يظل ساكنًا كما هو.
في صمتٍ بالغ، راح يراقب حركة الوجوه.
كان يعرف:
أن العطر ليس مجرد زينة.
في البلاط القديم، كان العطر أداة سلطة… يُستخدم لتثبيت النفوذ، واستمالة المزاج، وترسيخ الولاء.
والآن…
شيءٌ ما ينتشر في قصره بلا إذن منه.

كيف راقبهم ؟
لم يتعجل مواجهة أحد.
بل راح يتتبع أدق تفصيلة:
حركة أصابع الخادمات وهن يعدّلن أكمام أثوابهن في الرواق.
نظرات الطهاة حين تعبر إحدى الغرف عاصفة خفيفة من عبيرٍ لا يشيخ.
الغمغمة الهادئة بين عاملات التنظيف، حين تمر واحدة منهن وقد علِق بأطراف ردائها ذلك الأثر.
عرف أن العطر الأثيري قد وُضع داخل القصر.
وكان يعرف أن لا أحد يجرؤ على صنع شيء بهذه الجرأة سوى امرأة واحدة:
راما دي فلور.

ليالي المراقبة
جلس وراء ستارته السميكة، في ليالٍ متتابعة، لا يظهر إلا ظل وجهه المائل على ضوء المصباح.
يراقب من شرفته العليا الخدم أثناء دخولهم، يتشمم وجوههم بلا أن يتقدم خطوة.
يراقب من خلف الباب نصف المفتوح أحد الخدم حين يمر في الممر الجنوبي، يلتقط أنفاسه ليرى أي أثر سيتبقى.
وهو يدون في دفتر صغير:
“إحدى الخادمات تحمل أثر العطر… الثانية بلا أثر… الثالث يتحاشى المرور من الرواق”
ثم: “في الحديقة الشرقية: بقايا العبير تتبدد في الهواء. جهة الشرفة الغربية، الأثر أقوى.”

لماذا لم يواجهها بعد؟
لأن السيد إدوارد كان يعرف من دروس البلاط أن المواجهة المباشرة تفسد المعرفة ،وهو كان يعشق المعرفه
والاسرار التى تجرها خلفها ويحمل داخل قلبه تقدير خاص للعطر
كان يريد أن يعرف إلى من يدين الخدم بولائهم من دونه ؟
من يكون الشخص الذى يترددون على غرفته أكثر من مره؟
ومن الشخص الذى ينحنون له مثله
كان يثق أن العطر هذا ليس مجرد عبير… بل وعدٌ مخبوء… وإغراءٌ صامت.

وبينما راما غفت فوق طاولتها الخشبية، قطتها مورين تتنفس عبير اللافندر وذيلها يتحرك ببطء،
كان السيد إدوارد واقفًا خلف نافذته، عاقدًا ساعديه.
رآها — من بعيد — عبر زجاج الطابق السفلي، نور المصباح يتوهج، ثم يخفت

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية فتيات القصر)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *