رواية لأنه موسى الفصل السابع 7 بقلم ماهي أحمد
رواية لأنه موسى الفصل السابع 7 بقلم ماهي أحمد
رواية لأنه موسى البارت السابع
رواية لأنه موسى الجزء السابع

رواية لأنه موسى الحلقة السابعة
شَعرت “شيماء” بِبرودةٍ مُفاجئة تسلّلت من فَتحة البَاب وكأنَها صَفعة ليلٍ نَسيتها، رَفعت طَرف مَعطِفها اللَيلي واحتضَنته حَول جَسدها الهَش، وقَد كَانت خَطوات “لُقمان” المُتثاقلة سَبب هَذا التَيار البَارد، دَخل يَنفُض عَن كَتفيِه صَمتًا ثَقيلاً
تَقدّمت نَحوه بِسُرعة مُحمّلة بِالغَضب، وكَأن انتظَارها عَلى الشُرفة طيلة هَذه السَاعات لَم يَكن كافيًا ليَجعل الدقَائق الأخيِرة أخفّ وَطأه
” أنتَ لسه فاكر تطلع ياسي لُقمان أنتَ عارف انا مستنياك بقالي قد ايه في شقتنا ورنيت عليك كام مره وانت مابتردش”
دَس كِلتا يَديه في جِيوبه ، وارتَفع كَتفاه في أعتِدال يَتنهد بِثُقل مِن الأعمَاق
” ماسمعتش ياشيماء ”
رَمقَتها عيِنيه بِحذر، لَكنها كَانت بِالفعل تُبعد نَظرها، تُطالع بَاب المَسكن ، كأنها تُفتش فيِه عَن سَبب لِتأخرُه
” مالك يالقمان ، هو انت موسى قالك ماتجيش ورايا صح كده ، عشان كده ماطلعتش وبترد على قد الكلمه ، اكيد هو طالع دلوقتي وراك ”
تَوقفت عَن البَحث ، لِترفع أنظَارها نَحوه وقَد ألجَمها بِنظراتُه التَي أختَرقت جِدار جَسدها
” ايه اللي مقعدك هنا لحد دلوقتي ، مش خلاص ، شوفتي الشقه ، وعرفتي وصلنا فيها لغاية ايه ، مستنيه ايه ”
” مستنياك ”
كان الردّ أقرب لاعتراف مكتوم، تَقطّب جبينه، لا لأنه لم يفهم، بل لأنه أراد أن يسمع أكثر
” انا عارفه طبعاً انك زعلان مني ، بس الحق ليا انا يالقمان اني ازعل مش انت ”
ظلّ صامتًا، يُشدّ على طرف قميصه القرمزيّ، وكأن قبضته عليه تُمسك بما تبقّى من حيلته، لكنه لم يقتنع.
” انت ماشوفتش بنت وداد وهي بتقول انها اتخطبت لمعيد في امريكا ، انت عارف هي قالت كده ليه ، عشان تفرسني ، عايزه تكيدني ، طول عمرها بتكرهني ومابتحبنيش ، عايزه تقولي انها اخدت معيد وهيسفرها امريكا وانتِ واخده …
شَعر بِأن جَسدُه فَجأه بَات ثَقيلاً ، شيء ما في جُملتها جعله يتوقف عن الدفاع، لكنه أومأ أخيرًا، كمن يُسلّم نفسه للحوار.
” تقصدي ايه ياشيماء كملي ، انتِ ليه محسساني انك واخده واحد عاطل انا مدرس ثانوي انجليزي
وبكافح في حياتي وبشتغل كوتش في صالة تدريب بالليل ، عايزاني اعمل ايه اكتر من كده ، انا مش ساكت ياشيماء ولسه الحياه قدامي ، بجهز نفسي وبسعى اني ابقى حاجه في يوم ”
مدّ ذراعه فجأة، وقَبض عَلى مِعصمها بِقوة، لَم تَكُن قَسوة، بَل مُحاولة يَائسة للتَشبُث بِما تَبقى.
” كل ده عشان ايه ما عشانك ياشيماء ، عشان البيلك طلباتك اللي مابتخلصش وبالرغم من كده انا مش ساكت انا بحاول ”
أنتَزعت يَدها مِن قَبضه يَده المُتشبثه بِذراعها بِقوه
وَتراجعت نِصف خَطوه
” وهتفضل تحاول لغاية امتى يالقمان ، انا زهقت انت حتى مابتديش دروس عدله زي بقية الخلق ، اللي زيك مدرس ثانويه عامه كان زمانه بياكل الشهد من كتر الدروس وبقينا في حته تانيه خالص
كَان قَلبه يَهوي مَع كلِماتها، لَكنهُ لَم يُقاطعها.
روح شوف المدرسين اللي في السناتر عاملين ازاي والطلبه عندهم قد ايه ، اقل مدرس دلوقتي بقى مليونير ، وانت واقف محلك سر ، يافرحتي بشغل الكوتش والملاليم اللي بتاخدها من المدرسه ، تفتكر شويه الملاليم دول هيخلونا نعيش زي ما انا بحلم
كَانت أنفاسُها تتسَارع، وَعيونها تَلمع مِن أثَر قَهر قَديِم.
أنتَ نسيت وعدك ليا لما قعدتني من شغل الكوافير بحجة اني ماينفعش اروح بيوت الناس واعملهم ميكب وشعر مع ان دي حاجه كانت بدخلي فلوس حلوه وانا وافقت ورضيت عشان انتَ وعدتني انك هتبقى احسن وخلتني اشتغل كول سنتر باخد في ملاليم عشان خاطرك
أثَارت جُملتها الأَخيره أنفِعاله فَهتف يَبِثها غَضبُه هو الأَخر
” أنتِ كنتِ عايزاني ارضا أن خطيبتي اللي هتبقى ام عيالي ، تفضل تترقص على التيك توك وتحط
فـ ميكب اب وده يبص لعيونها وده يبص على شفايفها وشكلها ، وتقعدي تعملي فيديوهات وتطلعي في تريندات ياهانم ، مافيش راجل عنده كرامه وحر يرضا بده ، انا خيرتك وانتِ رضيتي ”
صَرخت فِي وَجهه، بِكلمة وَاحدة هزّت كَيانهُ:
” عـشــانك ”
وَرد لَها هَذا بِقوله :
” لاء مش عشاني أنتِ وافقتي لما قولتلك ان مقابل انك تقعدي اني هشيل كل حاجه في الجهاز حتى شنطة هدومك هجيبها وبالرغم من كده كل حاجه هتتكتب في القايمه ”
وَرغم ذهولَها وصَدمتها مِما قَاله ، ولَكنها قَالت بِحده :
” أنتَ هَتذلني يالقمان ”
بَلع مَا في حَلقُه يَومأ في قِلة حيله يُجَادلها بِسُخريه مَجروحه
” مش انا خالص اللي اذلك ياشيماء ، لا عشت ولا كنت ، انا بس بفهمك اني بحاول عشانك ، عشان انفذلك كل اللي نفسك فيه ورغم ده كله انا بقالي فتره كنت مقدم اني اشتغل في مدرسه انترناشونال ، مدرسه سانت فاطيما اللي فتحت في السلام اكيد عرفاهه ”
قَلبت نَظرها نَحوه تَعتلي شَفتيها الأبتِسامه
” طبعاً عرفاهه ، دي أغلى مدرسه في السويس كلها مابيدرسش فيها غير ولاد الاغنيا وبس ”
اقَتربت مِنهُ بِلهفه تَلمع نظرَاتها بِالأمل سَائله
” وهما قبلوك فيها ”
استَطاع تَمييز الرَاحه في نَبرتها حينَ عَلمت بِالأمر ، ليَبتسم بِهدوء ، أقتَربت مِنهُ ، مَسحت عَلى شَعرُه ، رَغم فَرق الطول بَينهما وَقد عَاد شَىء مِن الأَمل الى ملامِحهَا
” ماجاوبتنيش بقولك قبلوك ولا لسه ”
هَدأ تَنفسُه وأستكَانت حواسه استَدار نَحوها بِنظره حَانيه يُطالعها بِأبتسامه فِيها مِن الطَمأنينه مَا يَكفيها لأيامٍ وَرد
” أيوه قبلوني ورايح نص الشهر اعمل الانترفيو ”
ضَربتهُ عَلى كَتفِه بِرفق، تُعاتبهُ عَلى كِتمانهُ ، هَامِسه بِنبرة أقرَب إلى العِتاب اللطِيف:
” وما قولتليش ليه يالقمان مش عايز تفرحني يعني ”
كَان يَتحدث بِأبتسامه مَليئه بِالمشَاعر ليَقرص وجنَتيها عَلى حينَ غَره
” كنت هقولك عشان افرحك بس كنت مستني اخر انترفيو لأن كان متقدم كتير جداً للوظيفه دي ، وفضلوا يعملوا اختبارات ويصفوا في المدرسين لحد ما اتبقيت انا واتنين كمان وهيختاروا مننا واحد ، مكنتش عايز اقولك علشان لو مكنتش انا اللي هيختاروني ماتتعشميش على الفا..
وَضعت أصبِعها عَلى شِفاهه
” ان شاء الله هيقبلوك ، وبكره تقول شيماء قالت ”
وَعند هَذه الكَلمه ابتَسمت تَستدير نَحوه
” يــــاه يالقمان لو قبلوك ، ده انا هعمل كل حاجه ، انا بسمع ان المدرسه دي بتدي مرتبات حلوه اوي ولا لو اديت كمان حد من الطلبه درس خصوصي بيدفعوا حلو اوي اوي وحياتنا تتغير بقى ، وهبطس الأرض بتاعت شقتنا ، وهنجيب احسن عفش ، وعربيه ، واجيب الدهب اللي نفسي فيه …
اومَأ مُساير حَديثها
” ياحبيبتي انا عايش في الدنيا دي بس عشان اعملك اللي نفسك فيه ، وعايزك تعرفي اني بحاول عشانك ياشيماء ”
ابتَسم يَغمز لهَا بِعيونه السوداء تِلك لِتدرك أنهُ عَاد لِشخصيتُه
” وهنبطس الأرض ياستي ، مبسوطه ”
أومأت تَهز رأْسها بِأمتِنان
” أوي ، اوي يالقمان ، ربنا يخليك ليا يارب ”
تَجاوزها يَتحرك نَحو البَاب
” طيب يلا بقى عشان اروحك أنتِ اتأخرتي أوي ”
ومَا أن تَحركت خَطوه للامام حَتى دَق هاتفها تَوترت لِلحظات وَهي تَنظر لِلشاشه
” طيب بقولك ايه يالقمان ، انزل انت هبص على حاجه في الشقه وهاجي وراك على طول ”
هَز رأْسه موافِقًا
” ماشي بس ما تتأخريش هستناكي تحت
رَحل وصَوته تَلاشى شيئًا فشيئًا مَع خُطاه ، وَقفت مَكانها لثوانٍ، قَضمت وجنتَاها في استياء غَلفها ، تُمشط خَطواتها نَاحية الدَاخل ، ردّت بِصوتٍ خَافِت:
ايوه ” ياسمير ، مش قولتلك ماتكلمنيش يوم الجمعه ده خالص ”
صمتت لِثواني ،وقَالت بِنبرة غَاضبة هَامسة:
” انا منبهه عليك ، انت ايه ما بتفهمش ”
انصَتت لَما يُقال في الطَرف الآخر، ثُم انفَرجت شَفتاها فَجأة عَن ابتِسامة واسِعة، كَأن مَا سَمعتهُ أطرَبها:
” ونبي صحيح ، قالك انه معجب بيا وعايز رقمي ،
بس يارب ما يكونش زي اللي قبله ”
اومَأت بِرأسَها بِالأيجاب مَا زَالت تَبتسم
” خلاص تمام اديله رقمي ”
أستَدارت تَضع هَاتفِها بِداخل حَقيبتها ، لتِصطَدم بِجسد ” موسى ” أنحَرف ثَغره في أبتِسامه.. داكِنه وبَارده جِداً
خَرجت أنفاسها مُرتَجفه ونَبضاتها تُكاد تَصم أُذناها فَور رؤيَتُه ، فَتخصرت تَرفع يَدها تَمسح عَلى عُنقها بِقوه ، خَرجت حروفها مِن بِين شفتَاها مُرتعشه
” موسى ، مش تقول أنك هنا .. غريبه ماحستش بيك خالص ”
تَبسم “موسى ” يَدس يُسراه فِي جَيبه وقَد كَانت مَلامحهُ هادئه وقَويه ، أعطَتهُ ظَهرها في مُحاوله مِنها لُكي تُلملم شِتات نَفسها
” على فكره نظرتك دي بتقول انك فهمت حاجه غلط ، انا كنت بكلم واحده صحبتي ، انا كنت بقولها بس ان كان في واحد ”
تَمتمت جِواره تَستردف
” كان في واحد بس ، كان عاوز …
استَشعرت أُذناها صَوت خَطوات وئيده وكأنُ صَاحبها يَتثنَى وأُخرى هَادئه .. خَطوه تَليها خَطوه
التَفتت لِتجدُه يُغادر دونَ ان يَنبس ولو بِحرفٍ ، مَدت خَطواتِها لِأيقَافه
” موسى.. استنى .. أنتَ رايح فين ”
لَمح لَمعت خَوف شَديد لا زَوال لهُ بِعينيها ، دَاهمها رُعب لا يُعدلهُ حَجم ، شَعرت بِأرتخَاء عَضلات يَديها ، دَحرجت عِيناها نَحو مَلامحهُ ، فَوجدتُه يُمرر بَصرُه عَليها وَكأنهُ يَبحث عَن شَىء وَقد كَان هَادئًا .. هَادئًا بِشكل لا يَليق بِالموقف الَذي هُما فِيه
طَالعتهُ بِصمت تَتنفس الصَعداء بِصعوبه تَنتظر مِنهُ أي رَد ولَم يَتفوه بِكلمه واحده سَوى
” اتنفسي ”
قَالها وتَركها وَرحل .. تُراقب رَحيلهُ بِصمت ، أحيانًا ثمّة لحظات، لا يُرهبنا فيِها انكِشاف الخَطأ، بَل يُرعبنا الصمت الذي يليه ، فَحين يُخطئ المَرء، يُتوق بشيٍء مِن الغَرابة إلى العِتاب، إلَى أن يُلام، يُصرخ في وَجهه، حَتى إن ضُرب، ليَشعُر وقتَها أن الأَمر انتَهى، وأن الألم قَد قَال كِلمته ومَضى.
لكنّ ذَلك السُكون الخَانق… هو أشدّ أنواع العِقاب.
لأنَك لا تَدري أهو غَضب أم خَيبة ، أتَراه يُخطط للِثأر أم أنُه يَحفُر بيَده قَبراً مِن الأفكَار تُدفَن فيِه طَمأنينَتك
هَو لا يُظهر شَيئًا… لَكنهُ يَعرف جَيدًا كَيف يَترُكك وَحدك تَغرق في بَحر الظنون، تَتخبط في مَوج القَلق، يَنهشك الخَوف مِن كُل احتِمال.
إنُه لا يَحتاج إلى رَفع صَوته، لا حَاجة لهُ أن يُعنفك،
يَكفيه أن يَصمت.
فَهو يُتقن فَن الانهيَار البَطيء… ويُجيد أن يُفقدك النَوم، دونَ أن يَلمسك
.
* . .
.
❄︎•
*
•
•.
❄︎.
.
❄︎
.• ❄︎
أدم ….
كَان مُنهك مِن التَفكير ، مَن النَوم ، مِن الاختِباء ، مِن أفكَارُه مِن كُل شَيء
مُنذ شِجارُه مَع ذَاك المُتَحذلِق “سعد” ، لَم يَقوَ عَلى النَبس بِحَرف أو تَحريك سَاكن ، أكتَفى بِالجلوس في غُرفَته ، دَس نَفسُه بَين وِسادات كَثيره وأغطَيه قُطنيه وَقد فَتح نَافذة غُرفَتُه لِتلفحُه البروده مَع دِفىء الأغطَيه ، حَمل كِتابُه الدِراسي مِن جَانبُه وَثبت بَصرُه عَلى أسطُره كأنّه يُطارد فكرة أخرى، لَكن عَقله كَان قَد سَبق عيِنيه… إلى المَاضي، إلى مَا جَرى.”
وَقف “آدم” دَاخل المَخزن مُمسكًا بِطرف الصَفيحة، يَدهُ الصَغيرة تَجُرّها بِحذر، يُحاول أن يُتمّم ما طُلب منهُ ..لَكن الخَطوات خَلفهُ كَانت ثَقيلة… بَاردة… أقرَب لظلٍّ يَبتلع الضَوء مِن حَوله.
اقتَرب الصَوت…واقتَرب النَفس الحَارّ عِند رَقبتُه.
“آدم، تعالى… خليك هنا شويه رايح فين ”
استَدار بِبُطء، ووَجد نَفسه بيَن ذِراعين،
وابتِسامة بَاهتة فَوق وَجه كَبير، لَم يَعد يَراهُ كَأب لِصاحبُه… بَل كَشيء غَريب يُرعبه.
اقتَرب أكثَر، ولَمس كَتفه بِرفقٍ مُريب،
ثُم مرّت يدٌ ثَقيلة فَوق ظَهرُه، كَأنها تَبحث، أو تُمهّد… لا يَدري.
تَجمّد في مَكانهُ، عَيناه مُتسعتان، لا يَفهم، لَكن جَسدُه بَدأ يَرتعش بِهدوء.
هَمس بِصوت صَغير مُرتَجف:
“أنا… جيبت الصفيحه ياعمو …”
لَكن اليَد امتَدت أكثَر
” حُطها جنبك هنا دلوقتي ”
وَضعها بِجواره ومَازالت يَد الرجُل تَمُر عَلى أمَاكن لا يَعلم ” أدم ” إن كَان يُفترض أن تُلمس،
ضاق صدره، وغصّ حلقه، وبَحثت عَيناه عَن البَاب… عبثًا.
فتَح فَاههُ لِلحديث …او ليَصرُخ رُبما، لَكن لَم يَخرُج صَوته ، وضَع يَدُه عَلى فَمه بِنفسه، غَريزيًا، يَمنع صَرخة لا يَعرف إن كَانت مَسموحة.
عَيناه امتلأتا دموعًا، والرَائحة… رائَحة العَرق المُختلط بِالغُبار… التَصقت بِأنفاسهُ
كُل شَيء أصبح بعيدًا ، “سعد”، اللعبة ..الشارع..
فِي تِلك اللَحظة، لَم يَكن يَعرف ما يَحدث، فِي تِلك اللَحظه شَهقت السَماء مِن الخَوف
انقَطع خَيط شروده حينَ سَمع صَوتٍ خَافت يَأتي مِن الخَارج ، صَوت خَطوات تَقترب مِن بَابُه .. المِقْبَضِ المَعدنيِّ يَدُور بِبُطءٍ، وصَرِير الأُوكرَة القَدِيمَة يَتَسَلل كالوَخز فِي أُذُنهِ.
اتسَعَ الشَّق فِي البَابِ قَلِيلًا… ضَوء بَاهِت اندَفَع مِن الخَارِجِ، وَارتَطمَ بِوَجهِه
فِي لَحظَةٍ، ارْتَبكَ نَبضُه…
كَأَن جَسَدَه استَيقَظ مِن غَيبُوبةٍ، وَقَلبَهُ مَا زَالَ غَارِقًا فِيهَا.
امتَدت يَدُهُ سَرِيعًا، كَأَنهَا تَسبِق وَعيَهُ، لِتَمسَحَ الدمُوع العَالِقَةَ عِندَ زَاوِيةِ عَينِهِ، حَاوَلَ أَنْ يَدفِنَ مَا تَبَقى مِنَ الِارتِعَاشِ فِي صَدرِهِ ، وَضَبَطَ صَوتهُ فِي حَلْقِهِ كَيْ لَا يَنكَسِرَ.
رَسَمَ ابتِسَامَة صَغِيرَة عَلَى وَجهِهِ، لَيجد “نوح ” يَرمي بِجسده عَلى سَريرُه بِجواره ، لَم يَبدُ ” نوح ” أي مَلامح مُستَغربه عِند رؤيه أخَاه ، رُبَما ظَن أن شَقيقه يُطالع كِتابُه لَيس ألا ، وَعلى شَقيقه أن يَبدو طَبيعياً معُه عَليه نِسيان ذَلك الرَجل لِبعض الوَقت أعتَدل ” نوح ” فِي جَلستُه سَائلاً
” بقولك ايه يا ادم ماشوفتش موسى ”
وَضع ” ادم ” كِتابُه أسفَل وِسادتُه
” ايوه ، شوفته نزل بعد ما لقمان ما مشي هو وشيماء بس معرفش راح فين ”
نَهض يُسَارع بِخطوَاته نَحو المَكتب الخَشبي المُتهالك يَلتقط هَاتفه بَعدمَا قَام بِفصلُه عَن بطاريتُه يَبعث برِسَاله عَن طَريق تَطبيق الوَاتساب ليَجدهُ مُتصل
“موسى فينك ، معاكش خمسميه جنيه ”
وَلم يَمضي ثواني حَتى أتَاه الرد
” انا بره انت اللي فينك ”
بَعث ” نوح ” بِرساله يَجيب على سؤالُه
“في البيت ، ايه ماشوفتش انا قولت ايه بعد كده ”
أخفَض “نوح” الهَاتف لِلحظة، يَرمُق شَاشتُه بِنظرة فَاترة، وقَبل أن يُعاود الكِتابة، التَفت تِلقائيًا نَحو البَاب ليَجد ” موسى ” أمَامُه قَائلاً
“بتاعت معاكش 500 جنيه ”
هَز ” نوح ” رأسُه بِالموافقه
اه ..
أشَار ” موسى ” يَهز رأْسُه نَافيًا
لا ماشوفتش
دَلف “أنس” إلَى الغُرفة بِخطواتٍ كَسولة، وألقَى بِجسده عَلى طَرف السِرير ، أطَلق تَنهيدة طَويلة وهَو يَفرُك كَفيه بِبعضُهما
“يــــاه، الله يكون في عون الحريم يا أخي … وعهد الله ما في أوحش من غسيل المواعين”
لَم يَكد يُنهي جُملته حَتى ظَهر “لقمان” يَتقدّم بِخُطى هَادئة، يَتجه نحو السريِر ذَاته ومَا إن اقتَرب حَتى حرّك ” أنس” جَسدُه قليلًا ليَفسح لهُ مكانًا لِلجلوس
ابتَسم “لُقمان” وَهو يَجلس، ليُبادر بِسؤاله
“إيه نعيّمة دبستك في المواعين”
أومَأ “أنس” بِرأسه فِي استِسلام
“حصل يا سطا ، حصل والله… مابتقدرش عليكم فابتتشطر عليا انا ”
كَان “نوح” جالسًا يُتابعهم بِنظرة مَشوبة بالتَذمّر، نَظر إليهُم واحدًا تِلو الآخر وكأنّ في صَدرُه ضيقًا يُفتش عَن مَخرج، ثُم قَال بِصوتٍ يَعلو تَدريجيًا:
“يعني خلاص مفيش حد منكم هيديني خمسميايه يارجاله ”
مَدّ “أنس” يَده إلى جَيبهُ الخَلفي، وأخرَج مَحفظته المُهترئة، قَلبها بَين يَديه ورفَعها نَحو “نوح” ليَراها
“يا سطا بص… لا يوجد سحتوتاً في المحفظه .. ناشفه اهيه ، مافيهاش بريزه حتى تطري عليها ”
انفَلتت ضَحكة قَصيرة مِن “لُقمان”، ثُم أسنَد ظَهره إلى رأْس السَرير وأخَذ يَتنهد قَائلاً بِنبرة مُتعبة مَمزوجة بِالسُخرية:
“يابني إحنا في آخر الشهر… بنحكّ في الأسفلت، لأول الشهر تيجي انت تقولي خمسميه جنيه ، انتَ عايش في ماية اللفت ولا ايه ”
ألقَى “موسى” سُترته عَلى السرير بِإهمال، يُمرّر يَدهُ بَين خُصلات شَعره ، أزَاح ذِراعُه واضِعاً أياها عَلى جَبينُه هامساً بِصوتٍ رَتيب
“يا مساء الضنك والتقشف… مساءٌ ملبد بالغيوم، مع احتمال سقوط ألفاظ رعدية ولكمات خفيفة على خدودكم واحد تلو الواحد دلوقتي
وأنا اللي كنت بقول نلم من بعض وننزل نتعشّى عند عم جوجل”
انحَنى “نوح” قَليلًا، يُفتّش في جِيوبه، يُخرجها فَارغة كأنّه يُقدّم دليلًا عَلى إفلاسُه
“منين يا حسرة .. إنا مفلس يا بني”
تَذمر ” موسى ” بِصوتٍ مُتمرد يَبتسم لـ “نوح” بِسُخريه :
“مفلس مين ياسيدنا ، ده انتَ الجنيه بيخرج من جيبك مربي دقنه ”
أجَاب ” نوح ” بِنبره قَاطعه مَع ابتِسامه ضئيله
“والله ظالمني يا جدعان.. والله ظالمني.. ده أنا لسه كنت بشحت من دقيقتين”
وَقف ” انس ” يَخطو لِلخارج ومَا كَادت قَدمُه أن توضَع خَارجًا حَتى أنتَقلت أنظَار الجَميع نَحوه فَنطق
“لا طالما كده، أروح أشوف في إيه في التلاجة… لحسن حنشي بيجعّر لي ”
أشَار عَلى مِعدتُه
“وانا مش قد الحنش اللي جوه ”
غَادر “أنس” تَحت أنظَار الجَميع، بَينما التَفت “موسى” نَاحية “لُقمان” وسَألُه رافعًا حاجِبهُ بِاستغرَاب:
“أومال كنت فين كل ده يسطا ، كل ده بتوصّل شيماء”
هزّ ” لُقمان” رأْسهُ نافيًا، وارتَسمت علَى ثِغرُه ابتِسامة هَادئِة، وقَال:
“لا ياسطا … شيماء ايه دلوقت ، الساعه داخلة على واحدة بالليل ، أنا روّحتها من بدري، وبعدها طلعت على صالة الچيم، خطفتلي فيها كام ساعه كده، وجيت على طول”
أطلَق “موسى” تَنهيدة طَويلة وَهو يُربّت بِرفق عَلى سَاق “لقمان”
“قد الدنيا ياسيدنا ”
اسَتدار “موسى” نَحو “نوح”، وَهو يَخرج لِفافه تَبغُه مِن دَاخل جَيبُه كَانت شِبه مَطوية، مَدّ “موسى” كفَ يَدهُ طَالبًا
“هات سيجارة يسطا”
دَس “نوح ” الِفافه عَلى شَفتيه يُفتش في جِيوبه عَن شُعله ، يَرفض طَلبُه
“طلعت آخر سيجارة يسطا… معييش غيرها”
اختَطف ” موسى ” لِفافة تَبغُه مِن فَمه، يَضعها بَين شَفتيِه
“ايه ده ”
نَبس بِها “نوح ” بَينما ” موسى” يَشعلها بَين شفَتيه قائلاً
“هولعهالك ياسيدنا ، ما تقلقش”
ألقَى “نوح” بعُلبة الكَبريت الفَارغة مِن جَيبه نَحو سَلة القِمامة القَريبة، لَكنَها ارتَطمت بالأرضيِه تَسقُط بِجوارها ، التَفت “نوح” بِاتجاه “آدم” المُتدثر بِداخل غَطاؤه طَالبًا:
“ما تروح يسطا تحطها جوه السله ، مش عايزين كلام من نعيمة عالمسا ”
أبتَسم “ادم ” بِسُخريه وأشَاح بِمُقلتيه بَعيداً لِكي لاَ يَلمح استصغَارُه لِطلبه قَائلاً
“لا… أنا سقعان مش قادر أقوم، روح إنت ”
دعَم “لُقمان” حَديثُه وَهو يَومأ بِرأسُه
“أيوه صح، ما تروح إنت… هو شغال عند اللي خلفوك”
كَانت نَبرة ” نوح ” حَازِمه بِتَرجي
“هو جبران الخاطر ما عدّاش على اهاليكم خالص ”
مَد “نوح” كَف يَده نَحو “موسى”قائلاً بِنفاد صَبر:
“ما تجيب يسطا السيجارة، إنت بتولّعها ولا بتشفطها ”
أخرَج “لقُمان” عُلبه ومدّ واحدة إلى “نوح” وَهو يَشير لـ “موسى” قائلاً:
“خد يسطا… سيجارة، إدّهاله، ده عيل رِمّة.”
أخَذها ” موسى ” وأشعَلها مِن بَقايا سيجَارتُه القَديمة، يَجلس القرفُصاء على الأرض، وأسَند ظَهره للحَائط، يَنفث لِفافة تَبغه يَتأمل العَليا :
“لا بس الواد سعد رَوّق عليك جامد النهارده الصبح يا “نوح”
ارتَبك “نوح” فَجأة، وعدّل جَلستُه، وقَال
“علّم عليّا أنا.. إنت بتقول إيه يا سطا.. ده عيل ابن …. مالوش فيها بجنيه ، إنتوا لو ما كنتوش جيتوا، كنت زماني معلم عليه، أقسم بالله “
ظَهرت ابتِسامة سَاخرة عَلى وَجه “ادم “، بَينما كَان بَاقي الشَباب يُبادلون النَظرات بِصمت
فَهم “نوح” مِن تعَابير وجوهِهم أنَهم لا يصَدقونه ، فَنهض واقفًا وقَد اشتَعلت الحَماسة في نَبرتُه، يُدافع عَن نَفسُه:
“يا جدعان… إنتوا مش مصدقيني، معاكم حق ما انتوا ماشفتونيش وانا واقف بطولي طيب إيه ببص يسطا منك لي ، لاقيت سبعة داخلين عليّا من نوع الحيتان ، والحيتان دي مش أي حيتان… ده الكلام جاي عالباي والتراي، ومش أي باي ولا تراي… لاء”
رَفع ذِراعه، وأشَار إلى عَضلة سَاعدُه:
“ده الچيم بتاعهم من عند أبو حفيظة اللي واقف عند ميدان الجيزة يسطا”
ابتَسم “لُقمان” وهَو يَنظُر إلى “موسى”، الذي تَظاهر بِالتصديق، ملوّحًا بِلفافة تَبغُه :
“ها، كمل… وبعدين ياسيدنا حصل ايه “
تَابع “نوح” بِانفعال تَمثيلي:
“لقيتهم مقبلين عليا يسطا وجايين عليا ، روحت مشاور لواحد فيهم بإيدي كده وقلتله اللي هيقرب مني… هعمل من وشه دمبل”
تَراجع ” نوح” خَطوة، مُمثلًا لَحظة التَهديد، وأكمَل بِنبرة حَماس:
“الواد خاف بقى .. وشه جاب ألوان، يسطا ، بص حواليه وقالهم ، أنا عايز أعيش وسابهم ومشي “
تَوقّف لَحظة، وأضَاف يُلوّح بِكفّيه:
“لقيت اتنين داخلين عليا بالجوز بقى المرة دي مش واحد بس زي المره اللي فاتت … رفعت كف إيدي، سَدّغت سنانهم الاتنين سوا بكف واحد ، ببص لاقيت وشوشهم جابت شاشة… والواد من دول عمل وشـــشـــش “
ضَحك “موسى” وهو يُلوّح بِسيجارتُه يُمنة ويُسرة:
“والشاشة كانت ابيض واسود ولا الوان ياسيدنا عشان تفرق يسطا “
أومَأ “نوح” بِرأسه، مؤكّدًا بِثقة
“لا طالما تفرق معاك ، تُبقى الوان ياسطا “
انحَنى قَليلًا إلى الأمَام، مُشيرًا بيِدُه نَحو الأرضيِة
“العيال بقت مرمية في الشارع، مش قادرة تقوم أنا برأتلهم بس… لاقيتلك العيال وقعت من برئه”
قطّب “لُقمان” حَاجبيه:
“من إيه يانوح “
أجَابه “نوح” عَلى الفَور:
“من برئه يسطا… من تبريئة يعني”
لَم يَتمالك “آدم” نَفسُه، فَاختَرقت الضِحكة صَمته، واضَطر أن يُغطي وَجهه بِيده ليَخفي ابتِسامتُه. التَفت “نوح” إليِه، وقَد عَلا وجَهه الغَيظ
” انتوا لسه مش مصدقاني … حتى بالأمارة، في واحد منهم قام وقاللي
إيه ده إيه ده إيه ده، يسطا إنت إزاي كده ، الواد كان مرعوب، قولتله عايز تنجى بحياتك اجري على اللي فاتك”
أخَذ نَفسًا تَمثيليًا عَميقًا، وأكمَل بِنبرة سَاخرة مُقلدًا:
“الواد بعد كده بص لسعد وقاله طيب سلام… أنا بقى … عشان رايح أجيب إندومي”
رَفع “موسى” حَاجبُه بِدهشة عَامره بالضَحِكات :
“إن ايه “
هَز “نوح” رأْسه مؤكدًا
“اندونمي حتى بالاماره كان باللحمه “
وَهنا، انفَجر “لُقمان” ضَاحكًا حَتى انقَلب عَلى جَانبُه ، وتَعالت ضَحكاتُه في أنحَاء الغُرفة “آدم” لَم يَعُد يَقوى عَلى تَمالُك نَفسُه، وَقد دَفن وَجهه في الوسَادة مِن فَرط الضِحك ، أمَا “موسى”، فَامتلأت عيِناه بِالدموع وَهو يَهمس ضَاحكاً
“انزل يسطا من على المسرح… مش قادر”
كَانت الضَحكات تَتعالى مِن الغُرفة في موجَات مُتقطّعة، يَهدأون تَاره وَيعودون للضَحكات بِلا سَبب واضِح إلا دِفء الصُحبة
دَخل “أنس” بِخطوات بَطيئة، وَعيناه في أنحَاء الغُرفة، أغلَق البَاب خَلفه بِهدوء، وقَال بِنبرة شِبه جَاده
“ما تبس يا بني إنت وهو ، أبوكوا لو صحي، هيقوم ينفخنا… إيه الضحك ده كله “
رَفع “نوح” نَظرُه نَاحيتُه، وابتَسم ابتِسامة شِبه سَاخره ، ثُم نَظر إلى يَديه ليَجدها فَارغه
“يا سطّا… لاقيت حاجة تتاكل”
هَز “أنس” رأْسُه بِتأكيد بَاهت، ثَم تَنهد:
“آه طبعًا… لاقيت نص ليمونة معطّبة في باب التلاجة، وحتة جبنة عبور لاند مفتوحة من قبل ما أبوك يتعرف أمك باين.”
طالعُه “لُقمان” يَشير بيَده لِلفراغ :
“ليه يسطا فين المحشي بتاع الصبح “
رَفع “أنس” حَاجِبُه بِاستغراب قَائلاً
” أنتَ قد اللي انتَ قولته ده “
طالعُه ” لُقمان” بِعدم فِهم
“ليه يسطا انا شتمتك بأمك ولا ايه “
لَطم “أنس” عَلى وجنَتيه بِخفه
” ده نعيمه مشمعه الحله جوه وحاطه عليها قفل عشان المفروض ان ده غدا بكره .. لو دكر روح قرب من حلة المحشي اللي جوه “
دَحرج ” لُقمان ” مِقلتاه نَحوه طَالباً
“طيب روح سخن لنا رغيفين وتعالا… وهات حتة الجبنه مش هنعتق أبوها برضو”
طَالع “موسى” وَجه “انس” بِاهتمام صَادق، وسَألُه بِنبرة خَفيضه
“مالك يا أنس… حاسس إنك مش مظبوط النهارده فيك حاجه ولا ايه “
وقَبل أن يُجيب، قَفز “نوح” كَعادتُه، ضَاحكًا:
“أنا عارف ماله ، البت سمر كرفتله وطلعت مخطوبة “
راقبُه “موسى” وهو يَتنفس بِبُطء، ثُم رفع عِينيه كَمن ي يَبتلع شيئًا ثَقيلًا
” تاني ياسيدنا حوار سمر ده ، ده عدى عليه اكتر من عشر سنين وبعدين دي اخت طه صاحبنا يعني ماينفعش يسطا الكلام ده “
نَظرات الجَميع كَانت نَحوه الكُل يَنتظر مَا سَيقول ، لِذا أخذت أنَاملُه تَفرُك النَاتىء الخَشبي يَستدعى الهِدوء بَعد أن صَوب نَظرُه عَلى “موسى” الَذي يُطالبهُ بِتَفسير
“ما ينفعش ليه يسطا؟… هو أنا راضع على طه وانا معرفش وبعدين انا كنت ناوي اطلبها في الحلال يعني ، بس يلا… مالهاش في العبدلله نصيب”
هَمس بِها ثُم تَحرك في اتِجاه البَاب دونَ الَنظر إليِهم خَطواته كَانت بَطيئة، كأنّه لا يَعرف إن كَان يُريد الخروج فِعلًا، أم فَقط الهروب مِن تِلك اللَحظه
أوقَفه “موسى” بِصوت خَفيف:
“رايح فين يا بني “
تَوقّف “أنس” لَحظة، ثُم قَال
“رايح أشوف في ايه في التلاجة… يمكن ألاقي فيها حاجة عدلة المره دي”
ضَحك “موسى”، وأشَار بِرأسه ساخرًا:
“وإنت يعني لما تفتحها تاني، هتطلعلك قفطة ما هي هي حتة الجبنه يسطّا”
ثُم طَالع الأخَرين ، ورَفع صَوته كأنُه يُحاول سَحبُهم جميعًا مِن هَذا المَزاج:
“يلا… يلا، البس يا بائس منك له”
غمز بعينه، وابتسم:
” هعشيكم النهارده بره … على حسابي يك يطمر بس “
كأنّ الكَلمات كانت مفتاحًا غير مرئي فجأة، عاد الصخب والقهقهات ارتفعت، والحركة دبّت في الأجساد نَسى ” أنس ” أمر ” سمر ” تَمامًا وأخَذ يُكبر ويُهلل يُصفق بِكفيه
” الله اكبر .. الله اكبر هنتعشا بره النهارده الله اكبر”
فَتح ” موسى ” فاهُه لِلحديث ثُم أغلَقه حينَ رأى رَنين هَاتفهُ يَعلم المُتصل جَيداً وبَدا عَليه الأنزِعاج حينَ رأى أسمُه قَرر عَدم الأجَابه يَضع هاتِفه بِجيب بِنطالُه الأمامي مُنبِهاً
” أنا نازل هستناكم تحت خمس دقايق لو ماحدش نزل هسيبكوا وامشي “
هَرول الجميع هُنا وَهُناك، يَبحثون عن قُمصانٍ وهوُديّاتٍ مبعثَرة، كُلٌّ يُقلّب فِي ما يَجِده كأنّ الوقت يَجري أسرع مِن أن يُدرَك. في ذات اللحظة، كان “موسى” يَهبط الدَّرج على عَجل، يُزرّر أزرار قميصه بخِفّةٍ بينما يُحاول السَيطرة على نَفَسه المُتسارع.
بمُجرّد ما انتهى، ارتدى سُترته الجِلديه السَوداء وأغلق سحّابها بحركةٍ سريعة، ثُمّ مدّ قَدمه على دَوّاسة البنزين يُسخّن دَراجته البُخارية
ألقَى نَظرة جانبيّة نَحو هاتفُه الَذي بَدأ يَرنّ للمَرة الثَانية زَفر بِِملل، ومَرّر أصَابعُه ما بَين خُصلاته الليليّة، ثُمّ أغلق الهَاتف بالكَامل ودَسّه في جَيب سُترته
لَم يَطل انتظارُه، إذ بدأ أشِقائُه فِي الظهور واحدًا تِلو الآخر
وقَف “لُقمان” يُحدّق في الدّراجة، حَاجِباه مَرفوعان باستِنكارٍ خَفيف
“احنا كلنا هنركب هنا ازاي”
رَكب “موسى” وسَحب جسده للأمام، وَقال دونَ أن يَلتفت
“على بعض يلا بسرعه مافيش وقت”
رَفع “لقمان” قَدمُه وَجلس خَلفه، بَينما “نوح” ألقَى بِلفافة تَبغُه ، وسَحقها بِطرف حِذائُه ثُمّ نَظر إلى “أنس” وقال
“والله ما يحصل اركب انت الاول انا هركب وراك.”
رَكب “أنس” مُحاولًا أن يُوسّع مكانًا ضَيّقًا خَلفه، ثُمّ قَال بنَبرةٍ نافِدة
“اركَب وخلصنا ياسي زِفت “
رَفع “نوح ” قَدمُه وَبدأ يَصعد، ثُم أشار بيَدُه للأمَام كأنّه يُرتّب المكَان بصريًّا، وَقال بِنبرةٍ خَفيفة:
“ياجماعه لو سمحتوا نستحمل بعض لحد ما القيامه تقوم مش اكتر.”
رَكب الجَميع، ما عَدا “آدم” الّذي كَان يَقف جانبًا، يُراقب المشهد بِنفورٍ واضح لَم يُحبّ التّزاحم، ولا الاحتِكاك القَريب فَقال بِصوتٍ خَافت مُبطن بِالحَرج :
“خلاص بقى ياموسى مش مهم أنا”
فَهمه “موسى” بِدون شَرْح، بَحث بعينيه على الأرض، يَبحث عَن حَل وبَينما هو يُمسك مقوَد الدرَاجة، لَمح كَرتونة فَارغة قُرب الجِدار، هَز رأْسُه يَشير أليَها
“هات الكرتونه دي”
تَفاجىء “آدم” بِاستغراب مِن طَلبُه ، فكرّر “موسى” الطّلب بحدّةٍ خفيفة
“بقولك هات الكرتونه دي ما تنحش ياسيدنا .”
انحَنى “آدم”، والتَقط الكَرتونة دُون أن يَفهم لِماذا، وما إن ناولها له، حتى قَال “موسى”
“حطها فاصل، حطها فاصل ما بيني وما بينك”
رَجع قَليلًا لِلخلف لِيُفسِح لهُ المَكان، لَكن تَحرّكُه المُفاجئ كاد يُسقط “نوح”، الّذي انتفض صارخًا:
“ياعم حاسب في بهايم ورا.”
ضَحك “آدم” بخفّة، ووَضع الكَرتونة بَينه وبَين “موسى”، ثُم جَلس ، استَدار “نوح” ورَأى “هيما”، شَقيق “بشر”، يَمُرّ من بَعيد ، نَادى عَليه بِصوتٍ عالٍ
لِكي يَصل الِيه صَوته
“ولا ياهيما قول لبشر ينط على التروسيكل وييجي ورانا على مكانا يلا”
أشَار “هيما” بالموَافقة، وَتحرّك “موسى” بِدراجتهُ بِسرعةٍ خَفيفة، تَتزاحم خَلفه أصوَات الضَحك، وموجَات مِن الحَياة لَم تَكُن تَخلو مِن عَبثٍ دَافئ.
.
* . .
.
❄︎•
*
•
•.
❄︎.
.
❄︎
.• ❄︎
كَنسل الشُغله شطب الـ دي
أصلي ع الـأمه أشــغـالـي كِـتـير
جَــــاي وبِيــكـارك قُـــمت مِـــــديِــــه
أنَـتَ فَـكـسَان شَـــبــاب مَا بتجِيش
كَانت أنغَام “المهرجَان” تَنبض مِن مُكبّر صَوت الدرَاجه البُخاريه كأنّها تَسري في عِظام المَدينة ، تَردّد الصَدى في الأزقّة الضيّقة، كَأنَها تَوقظ الحَي بِأكملُه ، بَينما وَقف “نوح ” عَلى مَتن الدرَاجه يَصرُخ بِكلمات الأُغنيه
والحَماس يُلون مَلامحُه
انطَلقوا خَارج أزَقة الحَاره، والمَكان يَتّسع لهم كما لو أنّ الليل نفسه يُفسِح الطَريق احترامًا لِصخبَهُم وكأنّ المَدينة أفسَحت لَهُم طَريقًا خاصًا
ضَغط “موسى ” عَلى مِقبض السُرعة حَتى ازدَاد هَدير المُحرك ..وأخَرج خَوذة صَغيرة مِن أسفَل المَقعد، ووضَعها عَلى رَأْس “آدم” الذي جَلس أمَامُه
ثَبّت الخوذة بِإحكَام كأنّه يَحفظ بِه أمانُه الغَالي ،
اقتربَ من أُذنِ “آدم”، يُحاول أن يتجاوز صَخبَ الأغنية والرياح ، تقدّم بجسده قليلًا، والهواء يُجلجلُ مِن حَوله، كأنّه سَيلٌ يَحاول أن يَبتلع كلماته، لكنّه صَرخ بِها، بِصوتٍ مُرتفعٍ مائلٍ لِلحُريه:
“مبسوط “
اخَترقت الكَلمة ضَوضاء اللَيل، ارتدّت في أُذن “آدم” كأنّها تَطفو فَوق صَوت المَهرجان، فَوق ريَاح البَحر، كأنّها وَحدَها كَانت مَسموعة.
لم يُجب “أدم ” ، فَقط التَفت قَليلًا بِرأسُه، وابتِسامة كَبيرة تُوسّع وجَهه أسفَل الخوذة، عَيناه تُجيب بفرحةٍ لم يَعرف كَيف يُعبّر عنها، لَكنُه كَان يَعلم أن “موسى” شعر بها
انطَلقت ضَحكة “لُقمان” مع لفحة البرد التي لَسعت وجهه ، الهَواء بَارد، رَطب، كأنّ البَحر يَتنفّس فَوق وجوهَهم
الكورنيش كَان شِبه خالٍ، سَوى مِن مصَابيحٍ صَفراء بَاهتة، والأشجَار عَلى الجَانبين تَتمايل بِخفة مَع النَسيم، أمّا البَحر فَكان أسود كَالحبر، يتلألأ فَوقه ضَوء القَمر كأنّه سُكِبَ فضّة
بَينما الهَواء يَتغلغل بَين خُصلات شَعر “موسى ” ، يَنثُرها عَلى جَانبِيه كَأنهُ يُشاركُه الفَرحة ،
ضَحكته كانت واسعة، صافية، وتفاحة آدم في عنقه ترتجف بمرور ضحكاته، ترتفع وتنخفض مع كل قهقهةٍ يَختنق بها من فرط الانبساط.
عَيناه تشعّان بحياةٍ نادرة، والهواء يَجري على بشرته كأنّه يعانقه، يُباركه بلحظةٍ لا تتكرّر
تمايل بالدراجة جهة اليسار، ثم عاد لليمين، كأنّه يرقص بها على أنغام الشارع والريح و”آنس” خلفه يَتشبث بخوفٍ ممزوجٍ بالنشوة، بَينما “نوح” يرفع يديه فوق رأسه، وهو يصرخ:
“أيوه كده يـاخــويـــا”
نَقَر ” لُقمان ” على ظهر “موسى”
“بالراحة شوية يا موسى… أنا عايز أجيب عيال “
ابتسم “موسى”، وعينيه في الطريق، ثم من فرط النشوة، وقف وهو يرَفع كَفيه مِن عَلى مَقود الدراجة البُخاريه ، وكأنّ الجاذبية لم تعُد تُمسكه تَبعه، “أنس” و”نوح” كان واقفًا سلفًا ، ضَحكاتهم انفجرت صرخ لُقمان بِصوتٍ عالٍ
” يالهـــوي ، عايز اتجوز يابن المجانين “
تماهوا مع صوت الأغنية، وجسَد “موسى” تَراقص، كأنّه تحرّر من أي حِمل
انفجرت ضَحكاتهم، وراحوا يُردّدون الأغنية بصوتٍ أعلى، متناغمين كأنّهم فِرقة شارع لا تعرف الحزن.
بَسط “أنس” ذراعيه للريح، وصفّق على إيقاع الأغنية:
“أسيّح الكِبده… أحطه في الطاسه… أُشوّح الكِبده”
أمامهم، كانت المدينة صامتة، لا تنبض إلّا بهم
لاحظ “نوح” وجود تروسيكل “بشر” مِن بعيد، و”طه” يَقف خلفه يُصفّق صرخ “نوح”وَهو يَشير بيديه خَلفه
“وقف يا موسى، وقف الولا بشر هناك اهوه “
خفض “موسى” السرعة قليلاً، واقترب “بشر” منهم. مدّ “طه” يده من التروسيكل، فقفز “نوح” كمن ينتقل بين عالمين، واستقرّ بِجوار “طه”، وراح يُرقصه الهواء والموسيقى و كأنّ الجنون له جناحان.
العربات بدأت تُبطئ، تُشارك الضحك والرقص، بعضها يُزمّر، وبعضها يُخرج الهواتف يُسجّل تلك اللحظة الحُرة.
ركن “موسى” دراجته ، وتبعه الآخرون نزلوا جميعًا، والتفّوا حول بعضهم، يرقصون بلا تَكلّف ، أحضر “بشر” كُرسيًا خشبيًّا من التروسيكل، اعتلاه “نوح”، وبدأ يرقص بحماسة، يُشير بيديه ويهتف، والموسيقى تَعلو ، ضَحك ” ادم ” وهو يُراقب “نوح” يرقص على الكرسي الخشبي بِحركاتُه البهلوانيه يُشجعه ” أنس ” عَلى فِعل المَزيد بِالتصفيق
سيارة تلو أخرى توقّفت، بعضهم نزل، بعضهم صَفّق، والبعض بدأ يُشاركهم الرقص كأنّهم يعرفونهم ، لا أحد يعرف الآخر… لكنّ الفرح، كان جامعًا فرح بسيط، صادق، لا يُطلب منه إذن، ولا ينتظر مُناسبة
التفت ” انس ” فرأى مجموعه من الشبابٍ يمرّون من الجهة المقابلة أشار إليهم، وضحك وهو يُنادي:
“تعالوا يا كباتن ، مستنيين إيه”
وبدون تردد قَطعوا الطريق وهم يُصفّقون، ودخلوا الدائرة بلا سؤال
توقف الزمن قليلًا… طالعهم ” موسى ” يَبتسم بِثقه وفي عينيه شيءٌ من الحنين،
ضوء المصابيح يَلمع على جلده، وعينيه تَتوهجان كأنّ الليل نَقش فيهما ذكرى لا تُمحى
كأنّه يرى سعادته تركض أمامه ثم نفث دخانًا طويلًا، ابتسم بخفة، وهو يراهم سُعداء هَكذا
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية لأنه موسى)