روايات

رواية الماسة المكسورة الفصل السادس والسبعون 76 بقلم ليلة عادل

رواية الماسة المكسورة الفصل السادس والسبعون 76 بقلم ليلة عادل

رواية الماسة المكسورة البارت السادس والسبعون

رواية الماسة المكسورة الجزء السادس والسبعون

الماسة المكسورة
الماسة المكسورة

رواية الماسة المكسورة الحلقة السادسة والسبعون

[بعنوان: عناد لا ينتهي واوجاع بلا صوت ]
سحب سليم المسدس من خصر أحد الحراس المتوقف بجانبه، ورفعه بثبات لا يتزعزع، صوبه نحو عمار وأطلق الرصاصة، وعيناه تشتعلان غضبًا،ويطبق على أسنانه، لا ندم يظهر على ملامحه، اتسعت عينا ماسة حتى كادت أن تخرجا من محجريهما، فور أستماعها للطلقة بينما صرخت سعدية باسم عمار بخوف.
ركض مكي نحو سليم، فيما تجمد عمار في مكانه، أدار وجهه إليه ببطء وذهول، كأن لسانه أنعقد عن الكلام، الرصاصة لم تصبه، بل مرت بجانب قدمه فقط عن قصد.
سليم بنبرة جهورة وتهديد صريح: لو مشيت خطوة كمان، المرة الجاية الرصاصة هتاخد مكانها الطبيعي، أرجعي يا ماسة، عشان ماعملش حاجة تخليكي تعيشي طول عمرك ندمانة.
حاول مكي تهدئته: سليم نزل مسدسك.
لكن سليم دفعه من صدره، ولوّح بيده، فهجم الحراس وأمسكوا بمكي.
عمار بشجاعة: فاكر نفسك هتخوفني؟
كانت ماسة واقفة مصدومة، لا تستوعب أن سليم فعل ذلك، كأنها تعيش كابوساً، لم تتحرك من مكانها، ولم تصدر منها أي ردة فعل، الصدمة أقوى من أي تفكير.
سليم بنظرة حادة وتهديد: أنا هعد لحد تلاتة، تلاتة يا سعدية وألاقيكي اختفيتي من قدامي إنتِ وإبنك وماتيجوش هنا تاني، عشان المرة الجاية هطلّعكم على ضهركم ولو عايزة تجربي.. جربي.
تابع بصوت جهور: واحد.
في تلك اللحظة، سحبت سعدية عمار من يده بخوف:
يلا يا ابني.
لكن عمار رفض الخروج: أمي ده بيهوّش!
سليم بعين لا ترمش: أتنين.
هنا، صفعت سعدية عمار على وجهه بغضب وهي تصرخ فيه: أمشي قدامي، والله لو مامشيت معايا، لا إنت ابني ولا أعرفك. يلا! ماتوجعش قلبي عليك حرام عليك.
سحبته بقوة وخرجت به.
نظر سليم إلى الحراس بإشارة أمر: معاهم، راوية خدي ماسة وطلعيها أوضتها.
راوية اقتربت من ماسة: يلا يا هانم، لكن ماسة مازالت تحت تأثير الصدمة، تتوقف مكانها تحاول أن تستوعب ما حدث
سليم بنبرة غليظه: يلا يا ماسة، على أوضتك
لكنها مازالت في عالم آخر، تنهد بضجر تابع بصوت جهوري: ماسة خلصي ويلا على اوضتك قولت.
هنا بدأت ان تنتبه ماسة لصوته بوضوح أخيرًا، وكأن الغشاوة انزاحت فجأة في لحظة واحدة فقط، كسرت الصمت الذي خيم على المكان
وهي تتمتم بتعجب وهي تحرك بأصابعها نحو الباب بصدمه: إنت كنت هقتل أخويا؟!
سليم بأمر: ماسة يلا مش هعيد تاني.
فجأة ركضت نحوه، وضربته على صدره بكفيها الأثنتين، لم تكن ضربة قوية، لكنها كانت تحمل كل وجعها، أهتز سليم في مكانه، وعاد إلى الخلف قليلاً.
صاحت ماسة، وصوتها يرتجف من أعماقها، وعيناها تتقدان بالصدمة والخذلان: إنت اتجننت؟! اتجننت بترفع سلاحك على أخويا؟! خلاص غضبك عماك للدرجة دي؟! هتموت أخويا؟!
اتسعت عينا سليم، كأنه يحاول الدفاع عن نفسه قال بصوت مضطرب: كنتِ عايزاني أعمل إيه؟ وهو بيخدك مني أقف اتفرج؟! لازم تفهمي إللي يفكر ياخدك مني هقتله مهما كان مين.
ضربته مرة أخرى على صدره، لكن هذه المرة كانت أقوى، تحرك جسده قليلًا تحت وطأة الضربة، بينما صرخت هي في وجهه، وصوتها مبحوح، تغرق في دموعها:
إنت خلاص اتجننت، عندك وكبريائك جننوك! إنت كنت هتموت عمار! عارف يعني إيه كنت هتموت عمار؟! كنت هقتل أخويا هتقتل أخويا يا مجرم.. عمل إيه عشان تقتله.
تحدث سليم من بين أسنانه بعين غامت بسواد موحش دون أدنى أثر للندم، بصوت جاف متملك:
قولتلك أنا عندي استعداد أحرق الدنيا كلها وأقتل لو حد فاكر ياخدك مني، تحت أي ظرف مهما كان هو مين، خليكي فاهمة كده مش هتخرجي من هنا غير بموتي يا ماسة يا قاتل يا مقتول.
هز ماسة رأسها بتعب وهي تبكي: إنت مش طبيعي إنت مش بتكرهني خلاص سبني.
سليم بنبرة قاطعة: لما يجيلي مزاجي.
جزت ماسة على أسنانها بضجر بعين تتساقط من الدموع: لازم تفهم إني، مش هسامحك طول حياتي يا سليم! عمرى ما هسمحك وهاطتدفع الثمن وهتشوف.
“ظل سليم صامتًا، وجهه جامد كالحجر، عيناه إلى الأرض، لا يجرؤ على النظر إليها، لا ندمًا بل لأن النار تغلي في صدره، ثم أدار وجهه وقال بصوت منخفض، لكنه حاد كالسكين: راوية، خدي ماسة على أوضتها يلا.
صرخت ماسة، وصوتها يعلو وهي تلوّح بيديها في الهواء: أوعي ايدك! إنت فاكر إللي حصل ده هيعدي كده؟! ده ماهيتعداش! والله العظيم ماهعديها! ومش هعيش معاك لحظة تانية، وهخرج من هنا! وماحدش فيكم هيقدر يوقفني!
همت بالتحرك، لكن سليم ظل واقفًا، لا يتحرك، مدّ يده في الهواء، في إشارة صامتة تمنع الجميع من الاقتراب منها.
ثم قال بهدوء، مرعب في سكونه: لو فكّرتِ تخرجي من باب الفيلا، هخلي حياتك كلها ندم وجحيم، هعمل حاجات خيالك حتى مايقدرش يستوعبها ولا يتصورها، جربي تتحركي خطوة، وشوفي.
تجمدت ماسة في مكانها، شعرت وكأن شيئًا ما يمسك قدميها، التفتت ببطء، فرأته يقترب خطوة واحدة، نظر داخل عينيها مباشرة صوت هادئ لكنه يحمل في طيته تهديدا:
قلتلك يا ماسة، مش هاتخرجي من هنا غير لما أنا آمر، ماخدش يقدر يخليني أعمل حاجة غصب عني ولا بالحب، ولا بالعند ولا بالتحدي، لإن إللي يتحدى سليم، لسه ماتخلقش، وكويس أوي إني ماعملتش أكتر من كده، لو واحد تاني غير عمار كان هو إللي عملها، كنت محيته من على وش الدنيا، بس أنا أهو اديته فرصته الأخيرة.
رفعت ماسة نظرها إليه، وصوتها يرتجف، والدموع تلمع في عينيها: إنت بتهددني بأهلي؟
سليم دون أن يرمش: لا ده إللي هيحصل، البوابة أهي قدامك ماحدش هيمنعك ولا حتى أنا، بس الخروج من هنا ليه تمن، وتمن غالي أوي يا ماسة وخلّيها مفاجأة علشان تشوفي بنفسك الحدث، وهو بيحصل.
تراجع خطوة إلى الوراء، تاركًا إياها واقفة وحدها، ووجهه يحمل ملامح لا تعرفها كأنها تراه لأول مرة
ظلت ماسة واقفة، عقلها يدور في دوامات متضاربة نظرت إلى الباب لا أحد يمنعها، حتى سليم، توقف صامت لا يتحرك ساكنًا ينتظر قرارها لكن في عينيه، لمعة مرعبة، لم ترها من قبل.
فجأة، عاد إلى ذهنها حديث محمود، صافيناز، رشدي، فايزة…
سليم لما يقرر يأذي، مابيأذيش الشخص نفسه، بيكسر إللي بيحبهم، بيوجّع في نقطة ضعفه شوفي نقطة ضعفك فين وهتبقى هي، سليم هايهددك بأهلك وهتشوفي لما تجي الفرصة او فكرتي تبعدي عنه.
أغمضت عينيها ببطء، كأنها تحاول إقناع قلبها بأن مارأته لم يكن حقيقياً، بأن سليم لم يقف أمامها قبل لحظات، ولم يرفع سلاحه في وجه أخيها، ولم يهددها بأعزّ ما تملك هبطت دموعها مسحتهم
اقتربت منه حتى توقفت أمامه مباشرة وكأنها تتمنى أن يمحي تلك الاتهامات تلك الأفكار أن يمحي مافعله يقول أي شيء أي شيء يربط على قلبها.
نظرت له ماسة بعينين ترتجفان، وصوتها بالكاد يُسمع:
يعني… يعني إنت ممكن تأذي أهلي يا سليم ممكن تأذيهم إنت ماتعمليش كدة صح قول آاه؟
كانت ترجوه أن يقول “لا”، لكنه نظر إليها طويلاً، دون رد، دون إيماءة، دون حتى رفّة حاجب… مجرد صمت وملامح متجمدة.
ثم استدار وتحرك بعيداً، تاركًا إياها تغرق في دوامة أفكارٍ تتلاطم بداخلها كأمواجٍ عاتية، بلا رحمة كأنما منحها حرية الاختيار: عائلتها أم حريتها.
لكن قلبها لم يستوعب، شعرت أن العالم انطفأ، وأن سليم، الذي عشقته بروحها، يهددها بأعز ماتملك عائلتها، لم تتخيل يومًا أن يفعلها كانت تقول دائمًا بثقة: “سليم مستحيل أن يؤذيني أنا أثق به.”
لكن ما فعله كسرها، كأنها كانت تقف على قمة جبلٍ شاهق، تحاول التقاط أنفاسها، فهبت ريح عاتية وأسقطتها أرضًا، ربما تلك النهاية، ربما لم يكن سليم ينوي الأذى، بل أراد فقط أن يمنعها من الرحيل وتتركه، أن يخيفها أن يُبقيها، فهي كلّ شيءٍ بالنسبة إليه، ولذلك، اختار الصمت، ذلك الصمت الذي جعله يدفع ثمنًا باهظًا دون أن يدري، وقَرّب النهاية أكثر مما يظن، أما ماسة، فظلت واقفة، تتأرجح بين خيارين حريتها أم عائلتها.
كان كلّ ذلك يحدث، ومكي يقف بعيدًا، يراقب المشهد بضيقٍ وصمت، في تلك اللحظة، تحركت ماسة وحدها، بخطوات ثقيلة، ودخلت الفيلا.
صعدت إلى غرفتها دون أن تنطق بكلمة، لكن في عينيها، شيءٌ لم يكن يشبه الحزن فقط، شيئًا أقرب إلى الكره والخذلان.
أما سليم، فقد بدا كمن أرتوى من نشوة الانتصار أبتسم في هدوء، ظانًّا أنه قد فاز، لكنّه لم يعلم أنّه، بما فعله، قد حفر بيده قبره في قلب ماسة.
أقترب مكي من سليم، وقال بنبرةٍ منخفضة: إنت راضي على إللي إنت عملته ده؟
تنهد سليم، وصوته يحمل توترًا متصاعدًا: كنت عايزني أعمل إيه عمار كان بيتحداني علنًا! اخدها من بين أيدي ويقول لي: أعلى مافي خيلك أركبه! كنت عايزني أسكت؟ كنت هتعمل إيه لو مكاني ؟
مكي بنبرة فيها حزن: مش برصاص يا سليم ولا بالطريقة دي.
سليم، بعصبية: لو كنت قلت للحراس يرموه بره، كنت هتقول برضه مش بالطريقة دي، ولو مدّيت إيدي عليه، كنت هتقول ماتمدش إيدك برضه غلط، أنا كام مرة قلت له: يمشي؟ كام مرة؟! وهو عند
مكي، وهو يهز رأسه بأسى: سليم، أنا فاهم بس برضه، ما كانش المفروض كدة إللي حصل فوق الإحتمال لو خليت الحراس يرموا برة أهون.
سليم، بإصرار: دي كانت الطريقة الوحيدة إللي تخلي عمار يختفي من هنا، أنا ماكنتش هقتله، كنت بهدده، علشان يخاف، عشان مايرجعش تاني غير كده؟ كانوا هييجوا كل شوية، ويعملوا نفس المسرحية دي أنا مش حمل ده.
مكي بحسم: عمومًا، إللي حصل غلط مهما حاولت تبرره.
سليم، وقد بدا عليه الضيق: كام مرة قلت لك: خفّ الحرج عن نفسك، واشتغل معايا في المجموعة، بعيد عن الفيلا، بس إنت مش راضي، مكي لو باقي على صداقتنا من فضلك شغلك معايا يبقى خاص بالمشاوير غير كدة لا.
مكي، بثقة: مش هعمل كده وصدقني، مش علشان سلوى حتى لو كنت متجوز واحدة تانية، كنت هقول لك: إللي عملته غلط، معاك عمار ذودها بس وقفه بأي طريقة.
قاطعَه سليم بعصبية شديدة: هو إنت فاكر إني كنت هقتله صدقني، مجرد تخويف ماكنت قادر أجبها برجله مش هيموت، وكان هيبقى تحذير حقيقي بس كنت بخوفه هو وسعدية عشان مايجوش تاني، مش مصدقني ليه؟؛
مكي بحدة: أنا مصدقك، بس في نظرهم، كنت ناوي تقتله سليم لازم تعترف إللي عملته غلط
سليم، وهو يدفع الهواء بيده بعدم أعتراف بالخطأ: يووووه…أنا طالع لها فوق
تحرك سليم بينما نظر مكي لأثاره بضيق وضجر ومسح وجهه.
💕________بقلمي_ليلة عادل______💕
غرفة ماسة
نرى ماسة تجلس على الفراش، مسنِدةً ظهرها إلى قائمته. لم تبكِ، لم تصرخ، بل كانت تحدّق في الفراغ بصمتٍ غريب، وكأن الصدمة جمّدت ملامحها وقيّدت دموعها، ما شعرت به لم يكن مجرد ألم، بل شيئًا أعمق، وجعٌ لا يصفه الوجع.
بدت وكأنها انفصلت عن العالم، ذلك السكون الذي احتواها لم يكن عاديًا، بل مخيفًا، حتى لها، هدوءٌ غريب يسكنها، بينما في الداخل… الجدران تتهاوى، والروح تتفتّت، والنور الذي أضاء قلبها يومًا، تحوّل إلى جمرةٍ حارقة تلتهمها بصمت.
لم تكن تفكّر بما جرى، فالألم لم يكن نابعًا من الفعل ذاته، بل من خذلان لم يخطر لها يومًا، سليم الذي دافعت عنه باستبسال، وثقت به حدّ العمى، يفعل الآن ما فعله الآخرون ببساطة، صورته لم تفارق خيالها، نظرته الجامدة، الباردة، الخالية من الرحمة أو الندم.
راحت تستعيد المشاهد، كأنها تُعرض أمامها من جديد، مشهد عمار، والرصاصة التي مرّت بجواره، نصف خطوة فقط فصلته عن الموت، حديثه عن إسماعيل، وما حلّ بهم، وصوت سليم، حين قال لها بجفاء: “انسَي سلوى، واعتبريها ماتت. عباراته كانت كسكاكين، تقطعها ببطء، وقلبها يحترق.
بعد دقائق، فُتح الباب، ودخل سليم كمن يقتحم نهاية لعبة يعلم أنه المنتصر فيها، وقعت عيناه عليها، ارتسمت على شفتيه ابتسامة جانبية، وكأن المشهد أمامه يرضيه تمامًا.
سليم بنبرة باردة مستفزة: شاطرة، قاعدة هادية، يعني حاجة غير متوقعة، أنا قلت هاجي ألاقي الأوضة متكسّرة.
لم تُجبه ماسة، ولم ترفع عينيها حتى، وكأن الصمت بات درعها الوحيد.
اقترب سليم منها بخطى واثقة، ثابتة، وصوته ينخفض تدريجيًا، يحمل في نبرته ثقلًا واضحًا، مزيجًا من السيطرة والتحكُّم:
طول ما إنتٍ قاعدة مطيعة كده وبتسمعي الكلام، كل ما كان أفضل لك، أديكي شفتي، ممكن أعمل إيه؟؛ لازم تفهمي ثمن خروجك من هنا مش هايعجبك، أرضَي بالواقع، وأدفعي ثمن اختيارك، هي دي الحياة إللي تستهليها أنا مش هقفل أبواب، وها أدي الحراس أوامر يسيبوكي براحتك بس كل خطوة هاتخطيها أعرفي في ثمن غالي هيندفع مهما تخيلتي وسرحتي بخيالك مش هتوصلي للي سليم ممكن يعمله فيكي وقتها.
حينها، رفعت عينيها نحوه للحظة، ابتلعت غصتها، ثم تقدّمت ببطء، لم يكن في نظرتها خوف، بل صدمة وتعجّب، تأمّلته طويلًا، تتفحّص ملامحه بعينين لا تبحثان عن انتقام، بل عن الأثر كأنها تفتّش في وجهه عن الرجل الذي أحبّته يومًا لكنها لم ترى الا وحش مخيف.
خرج صوتها مرتعشًا، لا عن خوف، بل من هشاشةٍ داخليّة لم تعد الدموع تجدي معها نفعًا… خذلانٌ فوق خذلان، حتى تهالكت الروح:
عارف؟ أنا عمري ماتوقعت إنك ممكن تهددني بأهلي
في يوم، أنا لحد اللحظة دي كنت بحبك وشيفاك في البشر، كنت بقول: لنفسي الفترة الأخيرة، سليم بيعاملني وحش، وحابسني، وبيتعامل معايا كأني مجرمة، حتى لما طرد أهلي من هنا أكتر من مرة، بس بقول ليه حدود، حدود استحالة يتعدّاها مهما كان متعصب، كنت بخلقلك الأعذار، وأقول أنا إللي غلطت، وهو مش فاهم، موجوع، أنا لو مكانه هعمل زيه، يمكن أكتر بس…
اقتربت منه خطوة، هبطت دموعها بصمت، تحدثت بنبرة موجوعة ممزوجة بضجر:
بس لما رفعت مسدسك على أخويا، وخليت رجالتك يطردوهم، ووقفت قدام عينيّا وهددتني بأهلي من غير مايتهزّلك جفن، ولما عرفت إنك خليت إللي اسمه إسماعيل يرفع سلاحه على امي وابويا ويهددهم علشان يعرفوا مكاني، كأنهم مالهمش لازمة، مالهمش تمن، مين دول أصلاً؟ يتداس عليهم؟ يتقتلوا؟ عادي؟
إزاي عمار يقف قدام سليم عزت الراوي؟ ابن الباشا الكبير؟ وفايزة هانم؟ نسيوا نفسهم ولا إيه؟ الرعاع دول؟ ساعتها عرفت، عرفت إني كنت غلطانة، عرفت إن بقالي سنين مضحوك عليا، وإني نمت سنين في حضن إنسان وحش، ومجرم قاتل..
رمش سليم وهتز للحظع لكن مازل محافظ على ثباته تابعت وهي تهز راسها بإنكسار بوجع خنق نبرة صوتها:
آه طلعت إنسان وحش ومجرم، وطلع كلامهم صح حقيقتك وسوادك ظهر، بس ظهر عليا أنا ماسة حبيبتك.
كانت كل كلمة تخرج منها كأنها طلقة نار تشق قلبه، لا تترك خلفها سوى رماد ووجع.
واصلت بنبرة منهارة، كأنها تُنكر ما تنطق به، والدموع تنهمر بلا توقّف:
طلعت لما حد بيأذيك، مابتسامحش وبتنتقم، وبتوجّع وبتمسكه، من إللي بيتوجّع منه، أنا فاكرة إنك قولتلي الجملة دي، حتى اتقالت قدامي كتير من أهلك من محمود يوم ماخطفني فاكراها كأنها دلوقتي بتتقال..
(عايز تنتقم من حد وتأذيه؟ أوجعه بأقرب ما ليه؟)
صمتت لحظة تنظر إليه بألم فقلبها يبكي قبل عينيها واصلت وهي تتك على أسنانها بخذلان يكسر القلب:
بس أنا ماكنتش متوقعة إنك هتعمل ده معايا أنا، أنا ماسة، حبيبتك، أنا مش مصدقة، والله العظيم مامصدقة، أنا استنيتك تعتذر، استنيتك تقول لا مش هعمل كده، اتمنيت لحظة ندم حتى تبان في عينك، بس إنت واقف قدامي أهو تاني بكل بجاحة وبتكمل في تهديداتك القذرة، قولي إنت فرّقت عنهم في إيه؟ هو أنا لو كنت عدوتك، كنت عملت فيا إيه؟ يعني الأعداء بيعملوا كده في بعض عادي! لكن أنا.. انا عشقك مراتك، مش عدوتك عشان تعمل معايا كده! أنا تلوي ذراعي؟ بأقرب ما ليا؟ أنا تستخدم جملتك الشهيرة؟! أقسم بالله أنا مصدومة فيك، مش قادرة أستوعب، حاسة إن دماغي هتنفجر، حاسة إن قلبي بيتحرق، كأن في حريقة جوايا بتحرق كل قطعة فيا، إنت كسرتني.
تابعت بحرقةٍ وحسرة، وبخذلانٍ يعصف بها من الصدمة، بعينين أحمرّتا من الدموع:
أنا واهلي طولنا أذيتك؟ بتساوينا بأعدائك باللي مالهمش أي قيمة عندك؟! آمال فين بقى بحبك وعشقي، وإنتي غيرهم واموت من غيرك؟! إنت طلعت مالكش أمان، كلنا زي بعض عندك، لما حد ييجي عليك، مابتسامحش، مابتغفرش، بتدوس بس بتدوس أوووى، من غير رحمة، من غير ما ترجع تبص وراك..
ضحكت بسخرية من الوجع والخذلان والصدمة:
وأنا إللي كنت أقول لااا، سليم مستحيل يعمل معايا أنا كده، أنا حاجة ثانية، طلعت زيي زيهم، يمكن أقل كمان، على الأقل هما أذوك، لكن أنا عملت إيه؟ عملت إيه عشان تعمل فيا كل ده؟ حتى لو كنت غلطت، إللي بيحب بجد مابيأذيش حبيبته، ولا بيعاقبها، ولا بيعذبها، مابيستحملش، قلبه مابيستحملش يأذيها، بس إنت قلبك استحمل، وتجبرت عليا وعلى أهلي، وكنت هتقتل أخويا، ده إنت حتى ماسألتش نفسك أنا استاهل كل إللي بتعمله ده والالا! نسيت كل حاجة عملتها معاك، مش إنت بس يا سليم إللي عملت، ماسة كمان عملت كتير، بس أنا مش بمن زي ما إنت ما منيت عليا، بس إنت الظاهر بتنسى، كله بيتنسى، كله بيروح عندك، إنت خليتني أندم إني حبيتك، وإني صدقتك، وإني افتكرت يوم إنك أحن عليا من أهلي، من أبويا وأمي، ده أنا كنت بلتمس لك العذر، لحد النهاردة، كنت بقول يمكن عنده حق، حتى لو إللي بيحب ما بيأذيش؟! بس هو مجروح، والمجروح بيبقى عامل زي الأسد، إللي أطَعن من أعز أصحابه، وقعد يجري ويعور كل حد بيجي قدامه، من وجعه، من خذلانه، بقول هو مش فاهم، بس توصل للقتل!! للقتل؟! لاااا أنا أسامح في إللي عملته فيا في كلامك في حبسك في ضربك أي حاجة لكن توصل لأذية أهلي وإنك تهدد اهلي بالموت وترفع مسدس على أخويا! لا يا سليم خلصت، حتى كان لو كان لك حق إنت ضيعت كل حقوقك.
استجمعت أنفاسها، ومسحت دموعها، ثم اقتربت أكثر، لم تعد كلماتها مجرّد أصوات، بل لهبٌ يمشي على قدمين، يتقد بثبات، وكأنها على يقينٍ أن ما بداخلها أقوى من أن يُطفأ.
بينما كان سليم يستمع إليها بصمتٍ غريب، كان يدرك في أعماقه أنه أخطأ، وأنه ما كان ينبغي أن يترك لغضبه العنان بتلك القسوة، ومع ذلك، ظلّ متماسكًا، يُخفي القشعريرة التي تعصف بمعدته ألمًا، وغصّات قلبه التي تئنّ وجعا بصمت، ودموعًا تقاتل كي تنزل لكنه بقي صامتًا، يستمع.
ماسة بنبرة بها القليل من التحدى والقوة:
إنت قلتلي: إنتِ هتقعدي هنا عافية، ولو خرجتِ من هنا هاتندمي، مظبوط؟ على فكرة، أنا متراجعتش علشان تهديداتك، أنا تراجعت بإرادتي، تراجعت بمزاجي.
ضحك سليم ضحكة صغيرة، ساخرة خفيفة، على حديثها وكأنه لا يصدق ماتسمعه أذناه.
ضحكت هي الأخرى، لكن ضحكةً ممزوجةً بالوجع، ثم علّقت على ضحكته، وقالت بتحدٍّ وقوّة:
أضحك يمكن تكون أخر ضحكة، لسة في ضحك جاي كتير أوي، شكلك مش مصدق؟ أنا بكلمك جد، أنا رجعت هنا علشان آخد حقي، مش أنت إللي بتقول إنك بتكرهني؟ وإني هنا مسجونة بقضي مدتي؟
نظرت فى ملامحه بتركيز متعجبه:
عارف أنا قعدت، أفكرلك، مالقيتش حد غالي عليك أو نقطه ضعف… إخواتك؟! ولا الأخوّة الأعداء استغفر الله العظيم يا رب، أسوأ مثال ولو قتلتهم قدامك؟ ممكن تجيبلي بوكيه ورد وتقوللي: شكراً.. أب وأم؟ هكون مؤدبة وأوصفهم بالخبث والخباث؛ مكي يهزّك بس أنا فكرت في حد يهزّك أكتر عارف مين؟
تبسمت بتفاخر: لقيتني أنا.
ضحك سليم من جديد، مقاطعًا بتقليل؟! إنتي؟
ردت ماسة بثقة عمياء وهي تنظر داخل عينه: أيوه… أنا نقطة ضعفك.
نظر إليها بإستغراب، عاقدًا حاجبيه دون أن يرد، وعيناه تتنقلان عليها كأنها لا تعني شيئًا، كأن كل ما قالته لا وجود له
ردت على نظراته بهدوء وثقة:
مستغرب ليه؟ إنت لو كذبت على الناس كلها، مش هتكذب عليا أنا، إنت بتحبني بتعشق حاجة اسمها ماسة، إنت بتتنفس ماسة، بس حبك على قد ما هو كبير على قد ما هو جحيم، حب يأذي، لعنة، وده إللي أنا اكتشفته، إنت مابتعرفش تأذيني، بس بتعرف تأذي إللي حواليّا.
ضيّقت عينيها بنظرةٍ متحدّيةٍ يملؤها الانتقام، ونطقت بنبرةٍ ممزوجة بالمرارة والوجع، بينما دموعها تتجمّع بصمت في عينيها:
وعلشان كده، والله يا سليم، لهدفعك التمن، مش على إللي عملته في عمار وأهلي بس، لأااا، علشان أنا ماتوجعتش عليهم قد ماوجعني إنك عملت معايا زيهم، استغلتني، استغليت نقطة ضعفي، وحبي، وخوفي على أهلي، علشان تفضل مقيّدني هنا جنبك، بالإجبار، بالطعن، بس وإنت باصص جوه عنيا، أنا هقتلك من أكتر حاجة بتوجعك.
مدّت يدها إلى صدره، حرّكت القميص قليلًا، ومرّرت أصابعها على الوشم المحفور قرب قلبه بإسمها واصلت:
أسمي مش موجود هنا على جلدك بس، أنا أسمي هنا، جوا قلبك، محفور، بيجري في دمك، ما بين كل نبضة ونبضه، في كل رمشة، وهقتلك منه.
اشتدّت نظرتها في عينيه، مزيجٌ من التحدّي والانتقام، بينما تسلّل الوجع من كلماتها كالسّم، قالت بأسنان مشدودة، وعينٍ لا ترمش، وهي لا تزال تشير بإبهامها إلى قلبه:
هقتلك من هنا بالظبط، يا سليم يا راوي، وحياة كل لحظة قضيتها في حضنك، وحياة كل دمعة، وحياة كل ثقة أنا وثقتها فيك، وكل فرصة اديتهالك لدفعك تمنهم غالي، إنت قادر تقتلني بأهلي بنقطة ضعفي؟ لكن أنا قادرة أقتلك وأنهيك من قلبك، من حبك ليا.
قاطعها سليم، بصوتٍ مهزوز رغم محاولته الظهور بثباتٍ لا يملكه: إنتي فاهمة غلط، أنا بطلت أحبك من زمان.
ضحكت ماسة بسخريةٍ خفيفة، واليقين يملأ عينيها:
تؤ، أنا فاهمة صح، إنت بتحبني (أتكت على كلمة) بتعشقني.
قاطعها سليم بشدة وهو يتك على جملة: كنت بحبك كنت.
نصف ابتسامة ارتسمت على شفتيها، وعيناها تتأمّل ملامحه بثقةٍ لا تعرف الشك:
ولسة بتعشقني وبتموت في ترابي رجلي، والنظرة إللي كلها كره وجبروت دي! قريب هتبقى توسُّل، هتبقى دموع بتطلب فرصة، بس مش هاتلاقيها.
تبسم سليم إبتسامة جانبية بتقليل: واثقة من نفسك أوي، يا ماسة.
ردّت بثباتٍ لا يلين، وعينٌ جامدة لا ترمش: أكتر ما أنا واثقة إني واقفة قدامك دلوقتي وبهددك كده.
سليم بسخرية مريرة وهو يعطيها ظهرة: زمان، قبل ماتهربي، لو كنتي قولتي الكلام ده كنت هصدقه، لكن دلوقتي؟ إنتي بتراهنى الحصان الخسران.
تقدّمت ماسة بخطًى محسوبة، توقفت في وجهه، بثباتٍ ونظرةٍ لا تهتز، وابتسامةٌ يملؤها التحدّي تعلو ملامحها: وحياتك، أنا ماتراهنتش إلا على الحصان الكسبان هو شهر وهترجع بتطلب السماح.
رفع سليم حاجبيه ساخرًا وهو يضحك: وشهر؟ ده إنتي واثقة كمان إني بعد شهر هاجي لك ندمان وبطلب السماح!
ضحكت ماسة بثقة: لا هو هيبقى أقل من كده بكتير، بس أنا قلت أخليها شهر كده شكليًا، هم عشرة أيام أسبوعين بالكتير أوي.
مد سليم وجهه متهكما بسخرية: مدية لنفسك إنت قيمة أكبر من قيمتك، قولتلك كان زمان الكلام ده، كان زمان لما كنت بحبك.
اقتربت ماسة منه بخطوات واثقة، تلك الابتسامة الصغيرة ما زالت ترتسم على شفتيها، لكنها لم تكن سخرية… كانت يقينًا.
مالت بجسدها صوبه، حتى صارت أنفاسها تلامس بشرته، همست عند أذنه بصوت خافت دافئ:
ولسة بتعشقني، وبالعكس أنا مش مدية لنفسي غير قيمتي وبس.
تجمّد سليم في مكانه، وكأنه فقد السيطرة على عضلاته، حتى رمشه خان توقيته. ظلّ واقفًا، وعيناه تحدّقان للأمام، دون رد، دون نفس.
ابتعدت عنه بخفة، وعينيها تتفحصان رد فعله، كأنها تنتظر ارتعاشة واحدة، أي شيء يفضحه.
ثم قالت بصوت أعلى، ولكن بنفس الهدوء: أنت لو كذبت عالدنيا كلها، مش هتعرف تكذب عليا، أنا منك، أنا فيك، وإنت، لسة بتعشقني..
تابعت مستخفة وهي تتحرك مبتعده قليلاً وتعطي ظهرها: بعدين إنت زيرو تمثيل لازم تاخذ كورسات بالتمثيل.
رمقها سليم بنظرة فيها مزيج من التهكم والحذر: واثقة في نفسك أوي؟ عموماً أنا مابدخلش مراهنات خسرانة.
التفتت له ردّت، بثبات قاتل: مادام إنت واثق في نفسك، واثق إن قلبك بقى بيكرهني، وإني مابقاش ليا مكان فيه، خلاص، خايف ليه؟ ماتسيبني ألعب.
مرر سليم يده على وجهه، وتنهد: ماشي، هبقى أشوف، في حاجة تانية؟ عايزة تقوليها؟!
أومأت ماسة دون تردد: آه طبعاً، ده إحنا لسه مابتديناش، لسة في شوية حاجات لازم أقولها لك.
سألته بهدوء غريب: مش إنت سألتني قبل كده: إنتي بتهربي ليه؟
أومأ سليم برأسه دون أن ينبس، اقتربت منه حتى توقفت مامة مباشرة تابعت وعيناها تلمعان بتحدٍ:
كنت بهرب، علشان كان فيه حاجة، بس والله العظيم ماهقولك عليها، خليك بقى تدور، وتلف حوالين نفسك إنت وصاحبك، ودماغك تتحرق، وأنا؟ أنا هقعد أتفرّج، وأتشفّى فيك.
ضاق سليم بعينيه، قال بنبرة مشحونة: إنتي كذابة إنتي ماعندكيش أسباب أصلاً!
ضحكت ماسة، لكنها ضحكة تقطر وجعًا: أقسم بالله عندي، والله العظيم عندي، بس مش هقولك.
حدق سليم في ملامحها، يحاول أن يقرأها، أن يعرف إن كانت تكذب او اا، أهتز للحظة، لكنّه سرعان ماحاول التماسك، فأعاد الجملة، كمن يردّدها ليقنع نفسه:
إنتي كذابة بتعملي كده علشان تبرري موقفك.
ضحكت ماسة بسخرية ودموعها في عينيها، قالت بمرارة ممزوج بتحدى: أنا كذابة؟ براحتك ماتصدقش، بس والله العظيم في سبب، ولما تعرفه يا سليم، هتندم ندم ماندمتوش في حياتك.
رفعت صوتها بالتحدي ممزوج بشميزاز:
هدد بقى، أضرب، ورينا جبروت سليم الراوي وابتزازاته واجرامة، إنت شاطر في ده، عندك القدرة، بفلوسك ونفوزك، تهدد إنك تفتح قضية عمار تاني، تقتل إخواتي، تلبس أمي الأسود طول عمرها، تقتل أختي زي ماقولتلي اعتبرها ماتت، إنت بتعرف تعمل ده حلو وبتعرف تخلي رجالتك يرفعوا سلاحهم على اخواتي ويعاملوهم كأنهم عبيد عندك..
ضيقت عينيها ونظرت داخل عينه بانتقام:
لكن أنا؟ أنا شاطرة في حاجة تانية، حاجة بتوجع أكتر، إللي بيموت بيرتاح،؟ الصح تسيبه، عايش وتشوفيه بيتعذب قدامك وإنه عاجز. مش ده كلامك، أنا هوجعك من نقطة ضعفك، من قلبك، من حبك ليا، وأوعى تغني عليا الأغنية دي: أنا بطلت أحبك وبكرهك ورميتك، الكلام ده مادخلش من الودن أصلاً علشان يطلع من التانية.
تابعَت بنظرة أكثر حادّة، وكأنها تعني كل كلمةٍ قالتها:
بس أوعى تفتكر إنك هتقدر تنطقني، وتهدد بأهلي، وتحط مسدسك على راس حد منهم، علشان أنا مش هتهز أنا مش سلوى! عارف وقتها هعمل إيه؟ هسحب أقرب مسدس ليا، وأموت نفسي، لو مش مصدق.. جرّب، جرّبني! لو سليم القديم مات، فماسّة كمان ماتت، والله يا سليم، ماهتاخد مني معلومة، ولو وصلت لحاجة، هعمل جهدي إني أمسحها، زي إللي عمل الحادثة كل مايعرف إنك وصلت لمعلومة، يمسحها عشان يجننك، أنا هعمل زيه بالظبط، ده بقى قدوتي، جرّب بس تقرّب من حد منهم، وهتشوف هعمل فيك إيه هموتلك نفسي لانك ملكش حد غيري تتوجع عليه؟!
ابتسم سليم بسخرية وهو بيهز راسه: إنتي واثقة في نفسك أوي يا بنتي، أنا بقيت بكرهك مش هتفرقي معايا؟! متأكد إنك بتكذبي وإنك ماعندكيش أسباب.
ماسة بهدوء لاذع بنبرة بها نوع من الاستخفاف: أسمع بس، سيبك إنت من الأغنية الهندية دي، خلينا في المهم.. أسمع الشروط إللي هنمشي عليها حتى الآن لاني لسه هفكر تاني:
أول هام، اسمك مش هايتقال تاني على لساني، مش هقول غير يا سجاني يا مجرم. مش إنت إللي بتقولي يا قطعة المر المتمردة الكذابة؟ خلاص، أنا هقولك يا سجاني، ويوم أحب أدلعك؟ هقولك يا سجنجن ..
ضحكت بسخرية:
لحد ما ألاقي لك اسماء تانية، شبه الأسماء إللي إنت بتسميهالي، الكراميل المملّح، الكراميل المزّز، أي حاجة كده بطعم السُم.
تابعت بثبات وهي بتقرب منه أكتر: رقم اتنين بقى… سكتت للحظة ثم قالت:
لأ، خليها مفاجأة. شوفها وهي بتحصل، حصري هي ورقم ٣.
ضحك سليم بسخرية، وعيناه تضيقان بحدة وهو يراقبها تتحدث بطريقته، بأسلوبه، وحتى بكلماته ذاتها، قبل أن يعلّق قائلًا: طب ما تخلي عندك شخصية مستقلة؟ اختاري لنفسك طريقة، اختاري كلماتك، مش لازم تاخدي كلماتي وإنتي بتتحديني. ده أنا شايفني فيكي، بس على أنثى صغيرة.
ماسة بإبتسامة باردة: تربيتك يا روح قلبي، لازم أستخدم كلماتك وطريقتك وأسلوبك وأبقى.. الصغنن بتاعك وبعدين أنا قلتلك، أنا هوجعك من قلبك، هحاربك بطريقتك من سيفك هدوق من نفس الكاس، أنا إللي مش عايزة أمشي دلوقتي يا سجاني، أنا قاعدة بمزاجي، وحياة كل الوجع إللي هتشوفه.
سليم بصوت واثق: وأنا مستني، أسبوعين أو شهر؟ هنشوف مين هايرفع الراية الأول.
خطا سليم تجاه الباب، لكن صوتها أوقفه.
ماسة قالت بهدوء قاتل: استنى، فيه حاجات كده عايزاك تاخدها معاك وإنت ماشي.
تحرّكت بخطى هادئة نحو الخزانة، فتحتها وأخرجت البلّورة الصغيرة والرسالة التي أعادها له.
ثم اقتربت منه نظرت إليه، وصوتها يخرج محمّلًا بألمٍ قديم حاولت دفنه طويلًا:
مش دي البلورة إللي جبتهالي في عيد جوازنا؟ قلتلي ده بيتنا، وهيفضل بيتنا، أنا كنت واخداها معايا وأنا هربانة، كانت أماني هناك، بس دلوقتي؟ ماتلزمنيش.
نظرت إليه نظرةً تفيض بالكراهية والانتقام، ثم رفعت البلّورة بكلتا يديها، وألقتها على الأرض بعنف، حدّقت فيه بعينين تتفجّر منهما الذكريات، تتفتّت البلّورة تحت قدميها، وكأنها تعلن خروجه من قلبها… وتحطّمه كما حطّمها في تلك اللحظة، شعر سليم بالوجع يتسلّل إلى أعماقه، وكأن شيئًا انكسر بداخله، شيئًا لا يمكن إصلاحه أبدًا رمشت عينينا وابتلع غصته
تابعت ماسة وكأنها لم تنتهي وهي تلوح برسالة أمامه: مش دي الرسالة؟ الرسالة إللي كانت ملجأي، وبتقويني، بس هي كمان مابقاش ليها مكان.
مزّقت الرسالة أمامه، فتساقطت الأوراق تحت عينيه، وتبعثرت معها رائحتها القديمة، وقف عاجزًا، لا يملك سوى الصمت، لكن ما كان يعصف بقلبه لم يكن سوى عاصفة وجع، تتكسر على أضلاعه من شدّتها، تمزّقه في صمت، وتتركه واقفًا كجدارٍ مهجورٍ نالت منه السنون.
نظرت له بعينين مليئه بتحدي بنبرة قاطعة:
زي ما البلّورة دي اتكسرت، وزي مالرسالة ده اتقطعت، أنا هشيلك من قلبي، أنا مش هقول لك أنا شلتك من قلبي وبكرهك لا لا.. أنا بحبك… بحبك أوي كمان، بس أنا هقدر أدوس على قلبي، وهعرف أخلّيه يكرهك أنا مش زيك بكذب أنا هعرف أخليه يكرهكك.
أخذت نفسًا عميقًا، وبدأ صوتها يرتجف، لكنها تماسكت وأكملت بثبات:
وإنت؟ ما شاء الله، عندك قدرة إنك تخلي الناس تنفر من وجودها معاك، حتى لو بيحبوك. علشان قلبك قاسي، وإنسان وحش، ووحاشتك بتبان في غضبك. لما حد ييجي عليك بتدوس عليه من غير شفقة، من غير رحمة. فـأنا كمان؟ مش هشفق عليك حتى وأنا بحبك. هدوس على قلبي بالجزمة، وهاجبّره إنه يبطل يحبك.
سكتت لحظة، عيناها تدمع وتبتسم ابتسامة مجروحة: وهتشوف… الكرة سهل لكن المحبة هي إللي صعبة، صدقني، الفترة الجاية مش هانواجه صعوبة في فكرة. كراهيتك؟ يا طعنة العمر، وكسرة الضهر، والخذلان؟ إيه رأيك مش أنا بعرف أقول اسماء أحلى من اسمائك يا بتاع يا قطعة المر المتمردة الكذابة.
مرّر سليم عينيه عليها بصمت، لا ردّ يخطر بباله، ولا كلمة تخرج من فمه كان مصدومًا لم يتوقّع منها هذه الطريقة، لم يتخيّل أن تصل الأمور إلى هذا الحد فما رآه لم تكن ماسة. كانت شخصًا آخر؛ نظراتها، طريقتها في الحديث، اختياراتها للكلمات، كل شيء تغيّر. حتى ملامحها لم تعد كما يعرفها، لم تكن تلك الفتاة البريئة التي عرفها يومًا.
خرج من الغرفة دون أن ينطق، يسير كأنه تائه، كل خطوة أثقل من التي قبلها، وعقله مشوّش كانت نبرتها لا تزال تتردّد في أذنه، تتكرّر داخله بلا رحمة، تابع طريقه حتى غرفته، أغلق الباب، وجلس على الأريكة، ظهره محني، وعيناه ساكنتان، تائه في الفراغ، يبحث في الصمت عن معنى لما جرى.
أخذ يتذكّر حديثها. تحدّيها، ونظرتها الثابتة التي لم تهتز، لكن جملة واحدة ظلت تطرق رأسه بثقل، تعود وتدور بلا توقّف:
“هروبي كان له سبب سبب كبير. وهتندم على إللي عملته معايا.”
تلك الكلمة تحديدًا، أكثر ما ظلّ يتردّد داخله،
نعم، كان يشكّ منذ البداية، لكن غضبه كان يحجب عنه كل شيء، يعمي بصيرته، ويغلف قلبه بعاصفة لا ترى سوى الخيانة كل ما رآه أنها خانته لكن الآن؟ كلماتها زلزلت قلبه، رجّت عقله، بعثرت يقينه.
ورغم ذلك ما زال هناك صوت داخلي يلحّ عليه، يهمس بثباتٍ مخيف كشيطان: لا تصدّقها.
وسليم، بصوت داخلي مهزوز، يردّد:
دي بتكدب، ومش هتعمل حاجة، ولا عندها أسباب بتقول أي كلام علشان تجننك، زعلها على عمار هو السبب وبعدين، إنت ما غلطتش إللي عملته كان الصح.
لكن صوتًا آخر داخله يصرخ، يقاطعه بقسوة:
لأ يا سليم، إنت غلطت، غضبك عماك، حتى لو كنت بس عايز تخوّفه، حتى لو كنت بتحاول تمنعها تمشي، إنت غلط كان ممكن تعمل أي حاجة.
كان سليم وكأنه انقسم إلى نصفين صورتها أمامه، وهي تصرخ في وجهه، تزرع الألم في قلبه دون أن تدري، تحاول أن تزيح عنه ذنبًا أثقلها، وتؤكّد له، بعينيها المرتجفتين وصوتها المرتفع، أنه كان على صواب:
لا، ما غلطتش، راجل بيهجم عليك، عايز ياخد مراتك من بين إيدك، وإنت حاولت، حاولت تقول له: امشي… امشي، بس هو قلل منك.
لكن صوتًا داخله ردّ، أقرب إليه من نفسه: غلط؟ كان في طريقة تانية؟”
فيجيبه صوت آخر، مُصرّ: لا، ماغلطتش.
صوت يرفض: هربت بسبب
لكن الصوت الآخر، حادّ ومندفع، لم يرحمه:ما عندهاش سبب بتقول كده بس، علشان تعصبك تجنّنك بتكذب.
وصوته يصرخ من جديد، كأنه يردّ على ذاته: لا أنا عارف ماسة لما بتكذب.
كانت معركةٌ تدور في داخله، صراعٌ حقيقي لا يعرف كيف يُوقفه كلُّ صوتٍ يشدّه إلى جهة، وكلُّ فكرةٍ تصطدم بأخرى، ولا شيء يخلّف وراءه سوى وجعٍ يتضاعف وجنونٍ يتّسع، اشتعل صدره، لا من الغضب فحسب، بل من العجز أيضًا، الحجج تتصارع في رأسه، كأنها تتقاتل على امتلاك الحقيقة.
وفجأة، مدّ يده إلى منفضة السجائر أمامه، قبض عليها بقوة، ألقاها على الأرض بأقصى ما أوتي من غضب تناثر الزجاج في كل اتجاه، وكأنّه هو أيضًا قد انفجر معها.
في الجهة الأخرى، عند ماسة.
ظلت واقفة في منتصف غرفتها، تتنفس بصعوبة، تحاول أن تُبقي ما تبقّى منها حيًّا، لكن النبض يخذلها، والدموع تتراقص في عينيها، وشفتيها ترتجفان تعثّرت خُطاها نحو المرآة، أمسكت بحافتها بيدين مرتعشتين، ونظرت فلم ترَ نفسها، رأت شبحًا غريبًا، فارغًا، مشوّهًا.
ماسة، بصوت خافت ودموعها تتلألأ بنبرة مكسورة مليئه بالحسرة:
ياريتك كنتي ظهرِتي من زمان، ما كانش كل ده حصل لي، ماسة أم فستان بفراشات ووردة، ماسة البريئة إللي بتصدق كل حاجة وبتخاف ماتت، وإنتي إللي ظهرتي، بس كنتي لازم تظهري من زمان سليم قال من زمان إن البراءة ماتنفعش، وكان عنده حق، بس هما السبب، ماتزعليش مني، هما إللي قتلوكي هو كمان قتل آخر نفس فيكي عمل زيهم، هددك زيهم، طلع كلامهم صح، يا غبية، كان هيقتل أخوكي، سليم بيحبك صح!؟ بس حب مؤذي، حب مش طبيعي، عنده استعداد يقتل علشان تفضلي جنبه، كلام إخواته طلع صح، لو وقفتي قصاده، هايموت أهلك وعملها، ده حتى مادافعش عن نفسه، ولا حاول يبرر، إنتي لازم توجعيه وتاخدي حقكك فاهمة، فوقي بقى يا عبيطة وبطلي مسامحة، قلبك الأبيض ده هو إللي دمرك..
بدأ الانعكاس في المرآة يتبدل، لم يعد يشبهها الآن، ظهر وجهها حين كانت في الخامسة عشرة من عمرها، بجلبابها الوردي، بملامح بريئة، وعين دامعة
تابعت بنبرة أكثر في دموع تغرق وجنتيها:
ماتعيطيش هو وأهله موتوا براءتك، موتوا ماسة، غيروني، أنا مش حابة أكون كده، بس مضطرة عشان آخد حقي وحق أهلي والله هايدفعوا التمن، ماتزعليش يا ماسة، أنا آسفة، بس مضطرة أموت آخر حاجة فيكي وأخلق ماسة جديدة، بس أوعدك، هنرجع زي زمان في يوم.
نظرت حولها، كأنها تبحث عن شيء،
وقعت عيناها على مزهرية زجاجية فوق الطاولة.
أمسكتها، رفعتها ببطء، ثم ألقتها بكل ما أوتيت من وجع على المرآة، تفتّت الزجاج، وتبعثرت ملامح ماسة القديمة مع الشظايا مع الانعكاس، وقفت وسط الركام، مسحت وجهها بكفّيها، تنفّست بعمق ثم تبسّمت لكنها لم تكن ابتسامة كانت إعلان ولادة، ولادة ماسة جديدة… لا تخاف، لا تثق، لا تتراجع.
♥️________بقلمي_ليلة عادل_______♥️
فيلا عائلة ماسة، السادسة مساءً.
هبطت سعدية من السيارة برفقة عمار، وما إن وطأت قدماها الأرض حتى بدأت تدفعه من ظهره للامام بغضب، وتصيح بصوتٍ عالٍ.
سعدية: أمشي قدامي حرام عليك تعبت قلبي، أدخل يا ابني وأسكت بقى، حرام عليك، ماتصعبهاش عليّ أكتر من كده.
فتحت لهم الخادمة الباب بعد أن طرقت سعدية عليه بقوة. دخلا معًا إلى الصالون، حيث كان مجاهد جالسًا على الأريكة يشاهد الأخبار بصمت، من الأعلى، خرجت سلوى ويوسف من غرفتهم بعد أن جذبهم الصوت المرتفع.
مجاهد بخضه: في إيه يا سعدية؟ مالك؟ إيه إللي حصل؟
سعدية وهي تشير بيدها بغضب بصوت مبحوح:
أسمع يا مجاهد، أنا عايزاك تحلف، حتى لو هتحلف بالطلاق مش مهم، بس تحلف على إبنك ده مايقربش من أخته تاني، ولا يكون له أي علاقة بسليم، لا هو ولا اخواته، لو عايز تحافظ على ولادك، لمّهم، وإلا والله العظيم لأعمل عليهم مصيبة النهاردة قبل بكرة والله همشي وماتعرفوا لي طريق.
عمار بتهكم نظر لها: طول ما إحنا خايفين منه كده، هايدوس علينا بالجزمة.
سعدية ضربته على كتفه بعصبية أسكت، إنت عايز تقف في وش مين؟ سليم الراوي؟ ابن الباشا الكبير؟ نسيتوا نفسكم ولا إيه؟ نسيتوا إنتو مين؟ وولاد مين؟ إنتو مالكوش لازمة، وأنا مش مستغنية عنكم، هو هيعمل فيها إيه يعني؟ مش هيقدر يأذيها، البت كانت واقفة على رجليها، وشكلها كويس، بيحبها، سيبوها، هي عارفة تتصرف، وأنا عارفة بنتي كويس.
سلوى بإستهجان وهى تقترب: ماتفهموني إيه إللي حصل؟
عمار بضجر تحدث من بين أسنانه: البيه جوز أختك، روحت عشان أخد ماسة رفض ولما خدتها عافية، ضرب عليا بالنار.
مجاهد انتفض من مكانه، واهتزت ملامحه، كأن قلبه سقط في الأرض: ضرب عليك بالنار؟
عمار هز راسه بصمت وحسرة: أيوه، وقالّي لو قرّبت تاني المرة الجاية هصيب الهدف، يعني هيقتلني، وهدد أمي كمان.
مجاهد جلس مكانه وهو يشعر بغصة في قلبه وقشعر بدنه بقلة حيلة قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله.
يوسف وهو يمرر عينه عليهم: خلاص، نبلّغ البوليس.
ضحكت سلوى بسخرية: تبلّغ على مين؟ دول شغالين معاه يا حبيبي؟ إنت مش فاهم إزاي الدنيا ماشية؟
مجاهد: خلاص، أنا هروح لعزت باشا، وهو يعرف يتصرف معاه.
سعدية صرخت بصوتٍ متهدج وهي تلوّح بيدها:
والله العظيم يا مجاهد، لو عملت كده، ما أنا قاعدالكوا في البيت، ولا هاتعرفولي طريق، والله أموت نفسي قدامكم أنا مش مستغنية عن عيالي، هيعمل إيه؟ البنت قالتلي إنه كان بيمشي كلمته على أبوه، وإنه محدش بيعرف يرفع عينه فيه، أنا مش مستغنية عنكم. عايزين تموتوا نفسكم؟ وتموتوني بحسرتي؟!
يوسف بتعب ممزوج بتهكم: يعني إنتي عايزة إيه يا أمي؟ نسيبها هناك معاه؟ ده إحنا مانبقاش رجالة ياما.
سعديةبتعب: أختك أصلا ماكانتش عايزة تيجي معانا.
قاطعها عمار بشدة: علشان خايفة.
سلوى بقلق:طب ولو خايفة؟ ده معناه إنها تحت تهديد.
سعدية وهي تضع يدها على قلبها بغضب: أختك كانت واقفة كويسة، مابيعملهاش حاجة، بس عشان يسكتها، وعلشان ماتاخدهاش منه، عمل كده، هو بيحبها، وعارف إنها لو بعدت هاتضيع منه، مش هيأذيها لو ناوي كان خلص عليها هناك، حتى مكي قال كده بس إنتم دماغكم دي ناشفة مش هيموتها بس هيموتكم هنا وهيحرق قلبي عليكم سيبوها له مش هيعمل لها حاجة بيحبها.
مجاهد بهدوء: طب ياسعدية، خلاص، أطلعي فوق وأهدي.
سعدية وهى تمرر عينيها عليهم بتحذير:
بقولكم أهو، لو أي حد قرب منه، هاسيب البيت وأمشي. ولا هتعرفوا لي طريق، والكلام لكل واحد فيكم، ولا حتى تروح تشتكي لأبوه يامجاهد، إحنا مش هنعمل حاجة إحنا هنقعد كده مش هنقول غير حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله ونعم الوكيل في القوي الظالم.
استدارت سعدية وصعدت الدرج، وخلفها ظلال التهديد واليأس.
جلس مجاهد، وأشار لعمار أن يقترب: تعال يا عمار، أقعد يا ابني، أحكيلي بهدوء.
اقتربت سلوى ويوسف، وجلسوا في صمتٍ ثقيل.
عمار بدأ يروى ما حدث، خطوة بخطوة، كيف ذهبوا لأخذ ماسة، وكيف تصدى لهم سليم، هدده بالسلاح.
مجاهد هزّ رأسه بعد رضة: بس أنت، ماكنش ينفع تعمل كدة، دي مراته.
يوسف متعجباً: يعني كنت عايزنا نسيبها يا بابا؟
مجاهد موضحاً بعقلانية: لا يا ابني، بس حط نفسك مكانه، هو عمل ماينفعش، بس برضه دي مراته، ولو بلغنا البوليس، هيقولك ده جوزها، ربنا قال كده والقانون كمان. وربنا فوق الكل.
سلوى بحزن: يعني يا بابا حتى لو عمار غلطان، ينفع إللي حصل؟
مجاهد بحكمه: لا يا بنتي، ماينفعش، ده لو كان خلى الحرس يطردوهم زي كل مرة، كان أهون، لكن الرصاص؟ ده جديد ومُخيف، بس برضه، عمار ماكانش ينفع ياخدها من بين إيده وعافية كان اخد الكلمتين ومشي، هو وأمه يروحوا له تاني وثالث، وكل شوية نروح له، أنا كنت ناوي أعمل كده، وعشان كده سِبتكم تروحوا، بس ماكنتش عارف يا عمار إنك هتعمل كل ده، وتعرض نفسك للخطر ده، أنا بقولك اهو أوعى تروح هناك تاني، سامع؟ أنا عارف إنك زعلان على أختك بس خلينا نهدي الجو.
يوسف بحزن وصدمة وهو ينظر أمامه: أنا والله العظيم مش مصدق، أنا كنت بحبه، كنت باعتبره أخويا الكبير، للدرجة دي كان بيمثل علينا؟ ولا هو اتغيّر؟
عمار تنهد بمرارة: مش لوحدك والله يا يوسف مش لوحدك.
مجاهد تنهد متساءل ومكي؟ ماعملش حاجة؟
عمار مد وجهه موضحاً: مكي عمل إللي قدر عليه. حاول يوقفه، بس سليم ماسمعش كلامه، كان هايتخانق معاه هو كمان.
سلوى بضجر بعين دامعة: شايف يا بابا؟ أنا للي كنت صح، مكي مش قادر عليه، وأنا مش هتجوز راجل مايعرفش يحميني في وقت غضب صاحبه إللي مشغله ولي نعمته.
مجاهد قال وهو ينظر في الأرض: لا إله إلا الله استغفر الله العظيم ربنا يحفظك يا بنتي، ويحميكي من شر سليم ومن ظلمه.
سلوى بحزن ودموع: إحنا طلعنا غلابة أوي يا بابا مش عارفين ناخد حقنا، ولا نقدر نعمل حاجة لأختنا. أول مرة في حياتي أكره إني بنت خدامين، كانت نفسي أطلع بنت واحد زي عزت الراوي، كان زماني خدت حقي، ويمكن كنت عرفت أوقفه عند حده، الضربة إللي ضربها لنا كنت ردّيت عليها بعشرة.
مجاهد: حسبي الله ونعم الوكيل، هتفرج إن شاء الله هاتفرج.
فيلا سليم وماسة
غرفة ماسة، الساعة الثامنة مساءً
نرى ماسة مازالت تجلس في غرفتها، شاردة الذهن، تفكر في خطتها، كيف ستتمكن من هزيمة سليم؟
ما هي خطوتها الأولى؟ وبينما كانت تغوص في أفكارها، دخلت سحر بهدوء.
سحر: مساء الخير يا هانم، أنا حضرت العشاء.
نظرت إليها ماسة لوهلة، وكأنها تفكر في أمر ما، ثم قالت بهدوء: هاتي هنا، أنا هاكل هنا وبعد إذنك، تعالي لمي الإزاز ده.
سحر: عنيا.
غادرت سحر الغرفة، وظلت ماسة في مكانها، تنظر نحو أحد أركان السقف، وكأن عينيها تفتّشان عن كاميرات خفية، تنهدت، ثم نظرت أمامها، وهزّت رأسها بإيجاب، بدت كمن اتخذ قرارًا حاسمًا، وكأنها على وشك الإقدام على شيءٍ لا عودة منه.
في الأسفل/ السفرة
جلس سليم وحده أمام مائدة الطعام اقتربت منه سحر: ماسة هانم هتاكل فوق.
أجابها دون أن يرفع عينيه: ماشي يا سحر، روحي إنتي طلعلها العشا.
ابتعدت سحر بخطًى متسارعة، بينما ظل سليم جالسًا في مكانه، ينظر في الفراغ، غارقًا في التفكير.
مدّ يده نحو الطعام، تناول قطعة صغيرة، لكنه سرعان ما أسقطها، كان صوت ماسة، نظراتها، وتحدّيها، لا يفارق ذهنه.
ما شغله أكثر كان حديثها عن ذلك “الشيء” الذي دفعها للهرب، وضع الشوكة بتعب، وغاص في تفكيره:
“يمكن بتقول أي كلام علشان تعذبني؟ طب مانزلتش ليه تاكل معايا؟ بتعاقبني يعني؟ ماشي يا ماسة، نشوف بقى آخرتها معاكي إيه، ونشوف التحدي ده هايوصل لفين.
أكمل سليم طعامه، لكن ملامحه لم تُخفِ ما في داخله، كان متأثّرًا، حائرًا، يشبه من يتذوّق الطعام ولا يشعر بطعمه.
(وخلال اليوم)
لم تهبط ماسة إلى الطابق السفلي، بل آثرت البقاء في غرفتها، تتأمل السكون وتُعمل التفكير: من أين تبدأ؟ وكيف تردّ بطريقتها؟
ورغم تلك الحيرة التي تنهش قلبها، تناولت طعامها بهدوء، ثم اشغلت فيلم على اللابتوب جلست تتابعه كأن شيئًا لم يحدث، وكأنها تُرسل لسليم رسالة صامتة:
“وجودك لم يعد يعني لي شيئًا.”
كان سليم، كعادته، يُراقبها عبر شاشة التابلت…
عيناه لا تغفلان عنها، وقلبه وإن أنكر، لم يكفّ عن الرجفان.
ظل يفكر بكلماتها، بذلك التحدّي الذي ألقته في وجهه دون أن ترتفع نبرتها، بتلك الجرأة الهادئة التي لم يألفها منها من قبل…هي تغيّرت، وهو يعلم…ويعلم أيضًا أن زمام الأمور بدأ ينفلت من بين يديه.
في مساء اليوم ذاته، قاد مكي سيارته نحو فيلا عائلة ماسة.
توقف أمام البوابة دون أن يترجّل، ظل حبيس المقعد يُصارع أفكاره:
هل يدخل؟ هل يواجههم؟ هل يحاول إصلاح ما أُفسِد؟ لكنه تذكّر…
تذكّر كيف رفضت سلوى الاستماع إليه، تذكّر صمتهم الجارح، ووجوههم التي لا يطيق رؤيتها، شعر أن لا جدوى من الزيارة، وأن وجوده لن يكون سوى عبءٍ جديد، أدار المحرك بهدوء، وغادر كأن شيئًا لم يكن
منزل سارة، العاشرة مساءً
الريسيبشن
نرى عماد يجلس بصمت على الأريكة، بينما توقفت سارة أمامه، وقد بدأ على ملامحها علامات الضيق والغضب.
سارة بعصبية: يعني أنا دلوقتي مهددة بالموت أنا وولادي بسببك؟ يعني ممكن أموت في أي لحظة أسمع انا ماليش دعوة بيكم لو في حاجه ممكن تاذيني او تاذي ولادي تطلقني فاهم.
عماد يحاول التهدئة: مش هيعمل حاجة لو كان عايز يعمل، كان عمل من زمان هو بيأمن نفسه وأنا استحالة أعمل حاجة من غيره، بس خدي بالك، وخليكي مع الحراس دايمًا.
تقدّمت سارة نحوه بحدة، عيناها تكادان تطلقان شررًا: أنا سألتك كام مرة؟! كام مرة؟! وقولتلي: “لأ، مش أنا، أنا أصغر من كدة وطلعت بتخبّي عليا! طلعت إنت إللى وراها ويا ترى مين بيساعدك
عماد ببرود: عثمان هو الحارس الوحيد إللي قدرت أشتريه من عند سليم ،هو إللي بلغني بخط سيره،
كنا مجهزين كمينين: واحد في طريق الدكتور، تحسبا لو راح مع ماسة، والتاني في طريق الاجتماع كل تحركاته كانت بتوصلني أول بأول عن طريقه.
سارة بغضب مكتوم:وياترى مخبّي إيه تاني؟ قولي!
خفض عماد نظره إلى الأرض، صوته بالكاد يُسمع:
مافيش حاجة تاني.
لكن سارة لم تقتنع، ضيّقت عينيها فيه وهي تقرأ كل حركة في ملامحه: إنت بتكدب، في يلا قول، أنا قاعدة، اتفضل أتكلم، قول كل حاجة والله لو ماقولت الحقيقة لختفي من حياتك أنا والولاد.
عماد نظر لها للحظات بصمت تنهد ومسح وجهه هز راسه بإيجاب: هقولك كل حاجة.
صباح اليوم التالي
مجموعة الراوي
مكتب سليم العاشرة صباحاً
نرى سليم يجلس خلف مكتبه، عيناه شاردتان في نقطة بعيدة، وكأن ما جرى بالأمس لا يزال يطارد أفكاره، وبعد دقائق، فُتح الباب دون طرق، ودخل مكي بخطوات واثقة، رفع سليم عينيه إليه، تبادلا نظرة قصيرة، ثم جلس مكي على المقعد المقابل له.
مكي: خير فيه إيه؟!
سليم بصوت منخفض: هو إنت، ماعرفتش أي معلومة من سلوى؟
مكي ضيق عينيه بتعجب: معلومة؟ إزاي يعني؟
سليم بتنهيدة متعبة: أي حاجة أي تفصيلة صغيرة عن اسباب التغييرات.
هز مكي رأسه: لأ معرفتش حاجة أكيد لو عرفت هقولك.
سليم بمرارة: ماسة إمبارح أقسمت إن في سبب، وقالتلي: مش هقولك، وهخليك تلف حوالين نفسك، ولو وصلت له أنا هخفيه بإيديا.
حاول مكي يخفف التوتر: مش شرط. يمكن أقسمت إن في سبب فعلاً بس أكيد السبب إللي تقصده تهديدك ليها عشان قسمها يبقى صادق.
مرر سليم يده على رقبته، وكأن التعب استقر فيها: أنا مش مطمن، خايف فعلاً يكون في حاجة، وإحنا إللي عمينا نفسنا بالغضب ماتنساش إننا كنا شاكين.
مكي بهدوء: تمام بالمناسبة، عماد رجع إمبارح وطلع على بيت سارة الجديد، وزوّد الحراسة عليها، ورشدي شكله هيغرق في الإدمان، دخل جامد جدًا.
سليم بتركيز: سيبك من الكل دلوقتي، كل تركيزنا على ماسة خلي عشري ياخد هو المراقبة عليهم مكانك، إحنا لازم نلاقي أي ثغرة، أي طرف خيط، إنت علاقتك بأهلها أفضل جرب تدخل منهم، راجع تاني المكالمات حتى من سنة راجع كاميرات القصر كلها تاني اسأل الخدامين هددهم عايز ده يبقى كل شغلك.
مكي بنبرة حاسمة: ماشي هعمل كدة، بس أنا بقولك، مافيش، هي بتقولك كده علشان تاخد حق إللي عملته في أخوها وبصراحة؟ عندها حق.
سليم بهدوء: خلينا ندور، مش هانخسر حاجة، وأنا ها أجرب أكلمها النهاردة تاني.
سكت للحظة، ثم نظر في عين مكي وقال بصدق:
مكي، لو حابب تبعد عن كل ده، أبعد، صدقني، مش هزعل منك.
وقف مكي فجأة، قائلاً بنبرة قاطعة: لو قلت كده تاني، أنا إللي هزعل منك، تفتكر إني ممكن أخسر أخويا، علشان واحدة ست؟
سليم رفع عينه له بجدية قال: الست دي كانت هتبقى مراتك دلوقتي، وبتحبها يعني هي شخص مهم في حياتك.
مكي بهدوء مشوب بالمرارة: صح ومازالت، بس هي باعت من غير سبب، لو عندها سبب المفروض تيجي، تواجهني، تشرحلي، تفهمني، مش تعاقبني على حاجة أنا ماعملتهاش، أنا مش هعيد الكلام لو ماسة عندها نص سبب يخليها تهرب، فسلوى ماعندهاش حتى “حرف” يخليها تبعد، وتتعامل معايا بالشكل ده.
سكت لحظة، ثم أكمل بحرقة وهو ينظر بعيد:
هي كرهتك، بسبب كلام أختها، وشايفة إني شبهك نسخة أسوأ كمان، هي قالتها، عشان كان المفروض اقف ضدك وأمنعك.
ألتفت لسليم ونظره حاد تابع: فهمتني؟ ماتفتحليش الموضوع ده تاني إنت مالكش دعوة هي إللي ماحبتنيش وخلاص بس أنا هفضل أختارك، مهما حصل طول ما أنا شايفك مش مذنب..
ابتسم بسخرية خفيفة: حتى موقفك إمبارح، برغم غبائك، وإنك ضيعت حقك، بس أنا مش هلومك، لإني لو كنت مكانك ومراتي بتتاخد مني بالشكل ده، يمكن كنت تصرفت بطريقه اصعب منك.
سكت لحظة، وهو بيجهّز نفسه ليرحل: عموماً، أنا هبحث أكتر في الموضوع إنت خليك مع ماسة، وبطل عند، واعتذرلها، وفهمها إنك ماكنتش ناوي تقتل أخوها، هروح أنا.
خرج مكي دون أن يشعر بندم، خطواته ثابتة، وعينيه مليئة بتصميم، أما سليم، فظل جالسًا في مكانه، يشعر بضيقٍ يعتصر صدره، وراسه تكاد تنفجر من التفكير.
تمتم لنفسه، بنبرة منخفضة: نجحِتِ يا ماسة، خلّيتيني أتجنن من التفكير يمكن فعلاً بتلعبيها صح، عشان حافظاني! عارفة إن الموضوع ده هيجنني لإني نفسي أعرف الحقيقة يارب يكون عندك سبب بجد.
وبحركةٍ عنيفة، دفع بكل ما على المكتب فألقاه أرضًا.
زفر بقهر، وعيناه تتحركان بسرعة، لكن رأسه مشغولة بشيء واحد:
هل خسرها فعلًا؟ ماذا لو كان لديها سبب حقيقي؟
فيلا سليم وماسة، العاشرة صباحًا
في غرفة ماسة.
استيقظت بهدوء غريب، وكأن نومها كان مختلفًا عن كل ليلة، أخذت حمامًا دافئًا، ثم أدّت صلاتها، قبل أن تبدأ في البحث بين فساتينها عن شيء بعينه، وما إن عثرت عليه، حتى تبسمت.
فستان أسود بسيط، بحمالات رفيعة، يصف تفاصيل جسدها دون تحفظ. ارتدته، وتركت شعرها منسدلًا، ثم وضعت القليل من مستحضرات التجميل، حتى أصبحت كما يعرفها سليم، وكما يحب أن يراها، رفعت رأسها نحو السقف، كأنها تنتظر أن تقع عينه عليها الآن لكنه للأسف لم يكن هناك، كان مشغولًا في عمله في المجموعة.
نزلت ماسة إلى المطبخ.
ماسة: صباح الخير يا ماما سحر.
سحر التفتت لها بابتسامة: صباحك قشطة ما شاء الله عليكي يا بنتي، ربنا يحفظلك الجمال ده
جلست ماسة: يارب، حضريلي الفطار لو سمحتي.
سحر: جاهز، ثواني وهاحطه، استني على السفرة.
ماسة: لا، هاكل هنا. وندردش شوية.
سحر: ماشي.
بدأت سحر تحضير الفطور، وضعت الأطباق، وبدأت ماسة تأكل.
ماسة: ما بتاكليش معايا ليه؟
سحر: سبقتك أنا بصحى الفجر، مش زيك.
ماسة تبسمت: أنا كمان زمان كنت بصحى الفجر، أيام ماكنت بشتغل عند منصور، إنتي عارفة المعلومة دي؟ كنت زيك كده، أنا وأهلي، بس إنتي محظوظة، رزق بيّا أنا سليم أنا كنت عند ناس أعوذ بالله.
سحر: عارفة، بس الحمد لله ربنا رحمك، لكن زمان كنتي بتشتغلي وكان وراكي حاجات، لازم تصحي، دلوقتي بقى تصحي براحتك، بس مش زي ايام مكان ليلك نهارك، ونهارك ليلك! كدة حلو، تصحي ١٠ ولا ١٢ بالكتير.
ماسة: إن شاء الله.
أكملت تناول طعامها، بينما سحر كانت ترتب بعض الأغراض.
توقفت ماسة فجأة، وسألتها: ماما سحر في هنا ستاير زيادة غير إللي متعلقة؟
سحر التفتت باستغراب: آه يا هانم، إللي على الشبابيك دول متعلقين.
ماسة بهدوء: لا، مش قصدي دول قصدي غيرهم.
سحر رفعت كتفها بعدم معرفة: مش عارفة والله لسه ماعرفتش الفيلا كلها كويس.
ماسة: دوري، ولو مالقيتيش نادي اتنين من الحراس يشيلوا كل الستائر التقيلة إللي في الفيل ويجيبوهم عندي فوق.
سحر بإبتسامة متوترة: حاضر عنيا.
ماسة، وهي تنهض: طب أنا خلصت فطاري على ما أشرب الشاي، تكوني طلعتي الستائر بعد إذنك.
سحر: تمام.
(بعد وقت).
لم تجد سحر ستائر إضافية، لكنها عادت محمّلة بعدة ستائر ثقيلة كانت متعلقة في غرف أخرى تبعها الحراس، وصعدوا جميعًا نحو جناح ماسة.
في الداخل، كانت ماسة بانتظارهم، فس الشرفة، تنظر من خلف القضبان الحديدية.
سحر: ماسة هانم
ماسة ألتفتت بصمت.
سحر تابعت: ملقتش زيادة، جبتلك دول، والحراس أهم.
ماسة أومأت برأسها، ثم أشارت بيديها: غطّوا الحيطان دي كلها حتى إللي قصاد الدولاب، ساعدوا سحر عايزة الحيطان من الأرض للسقف متغطيه وثبتوا الستاير بمسامير مش عايزة ألمح حتى حتة صغيره من الحائط مفهوم.
بدأ الحراس في تنفيذ أوامرها
وفي جهة أخرى من المجموعة، كان سليم في اجتماع عمل، وبعد انتهائه، أمسك بالتابلت ليتفقّدها، لكنّه لاحظ أمرًا غريبًا، بعض الكاميرات تعرض شاشات سوداء هزّ الجهاز، وانتقل بين الكاميرات، لكن الوضع كما هو مربّعات سوداء تظهر بدل الصورة.
أعاد الإمساك بالتابلت، الشخصي، لكن لا شيء تغيّر نفس الشاشات السوداء؟!
عقد حاجبيه، وهو بيتمتم: ايه اللى حصل؟!
رفع سماعة الهاتف، وأتصل بعثمان.
سليم: عثمان إيه إللي بيحصل عندك؟
عثمان: ماسة هانم طلبت الحراس يساعدوا سحر علشان يعلّقوا ستاير قفلت كل الحيطان بالستائر يا باشا،
حكّ سليم خدّه بعدم فهم، أغلق المكالمة، وظل يحدّق في الشاشة، كان هناك بعض زوايا الكاميرات لا تزال تعمل، فبدأ يتفقدها، واحدة تلو الأخرى، ومن ضمنهم في السقف.
بدت ملامحه متعجبة، مشحونة بالاستفهام.
عند ماسة/ بعد قليل، انسحب الحراس بعدما أنهوا مهمّتهم، وباتت ماسة وحدها.
سحبت بعض المفارش من الخزانة، وبدأت تغطّي بها الأثاث والزوايا واحدة تلو الأخرى.
تحرّكت بخطًى دقيقة، تنظر إلى الزوايا وكأنها تُعدّها لحصارٍ من نوعٍ خاص، غطّت التسريحة بعناية، ثم الكراسي، فالمكتب، كأنها تطمس معالم المكان عمدًا، تُغلق الأعين التي تراقبها، وتستعيد سيطرتها على مساحتها.
توقفت أمام جهاز التكييف، حدّقت فيه طويلًا، وكأنها ترى خلفه ما لا يُرى.
كان سليم يراقب كل ذلك عن بُعد، بابتسامة خفيفة تشق وجهه قال لنفسه: بتعملي كده ليه؟ ناوية على إيه يا ماسة؟ هو ده بقى التحدي؟ شكلها فعلاً اتجننت.
رآها تقترب من التكييف، وتُلقي فوقه ملاية بعيدة عن الفتحات، لكنها تخفيه كليًا وكانهاو أغلقت معها عينه.
ضحك سليم، وقال: حتى التكييف؟ ده أنا مش هعرف أراقبك غير من القمر الصناعي!
ثم صمت فجأة. حدّق في الشاشة، وملامحه تغيّرت، الضحك تلاشى، وحلّ محله شكّ متزايد، قلق ثقيل.
همس لنفسه: دي مش بتهزر دي ناوية تعمل حاجة، لو ناوية تكسبني يبقى لازم أرجّع السيطرة تاني، وبسرعة
أزاح التابلت من أمامه، وسند ظهره إلى الكرسي، ملامحه باتت جامدة، وعينيه غارقتين في التفكير.
عند ماسة/
دخلت سحر الغرفة توقفت في المنتصف،.: ماسة هانم أعملك حاجة؟
حدّقت من حولها بدهشة: ده إيه إللي أنا شايفاه ده كله؟
ماسة قالت بهدوء: ساعات الواحد بيحب الخصوصية
صمتت سحر، لم تستوعب ما تقصدينه تمامًا، لكنها لم تُجادل فقط انسحبت بصمت.
عاد سليم إلى الفيلا متأخرًا ترجّل من سيارته بخطواتٍ حادّة، وصعد الدرج وعيناه لا تُفارقان الباب الذي يعلم جيدًا ما ينتظره خلفه.
فتح باب الغرفة بعنف كانت ماسة واقفة في المنتصف، بثباتٍ لافت، وكل شيء من حولها مغطّى، الستائر، الأثاث، الجدران على وجهها، ارتسمت ابتسامة نصر هادئة، لا صوت لها، لكنها كانت كافية كأنها كانت بانتظارة.
سليم وهو يمرر عينه من حوله قال بسخرية: ايه إللى عملتىه ده، هو ده التحدي.
اقتربت منه قالت بتحدي: آها دى تاني حاجة هتحصل حصري، مش أنا كنت قولتك أول حاجة مش هقول اسمك تاني وتاني حاجة خليها تحصل حصري هي دي وفي حاجة ثالثة كمان افتكرتها بس برده خليها تحصل حصري، كل ما الحاجة تحصل حصري كل ما يبقى ليها طعم صح يا سجنجن، قفلت عليك كل الكاميرات عشان أمنع عينك تشوفنى.
ارتسمت إبتسامة جانبية بسخرية: تفتكري أنا مهتم أشوفك وأملي عينك منك يا قطعة المر.
ماسة: أمال بتراقبنى ليه؟!
سليم: علشان ماحطش متنفس ليكي.
تحركت ماسة كام خطوة وهى تبتسم: ماقولتلك تمثيلك زيرو.
سليم: خليكي إنتي عايشة في وهمك إني لسة بحبك
عموماً لسة في كاميرتين.
ماسة ألتفتت له: يبقى في السقف هحاول أشوف له طريقة مش هخليك تشوفني تاني بعينك ولا تسمع اسمك بصوتي والحاجة الجاية هتبهرك.
لم يهتم سليم بالرد عليها فقط سألها: إنتي بجد هروبك بسبب؟!
ماسة اقتربت منه: ممكن
سليم بشدة: هو إيه إللي ممكن يا فيه يا مافيش.
ماسة ببرود قاتل تريد أن تجننه: يجوز آها يجوز لا.
زمجر سليم وصاح بها: ماتنطقي يا فيه يا مافيش.
تبسمت ماسة ببرود خانق مستفز: إنت من حقك كسجان تزعق وتعاقب، بس مش من حقك إنك تجبرني أقول لك أسبابي وبعدين ما اتحايلت عليك كتير وإنت قلت لي مش مهتم أعرف، ومش مصدق وإنك كذابة ماديتش لنفسك فرصة واحدة تسمعني
فخلاص فرصتك انتهت، قولتك والله ماهريحك مش هقولك إذا كان هروبي بسبب تهديك وإني غير مسؤولة وزهقت منك ومن أفعالك، ولا لسبب تاني يا سجاني.
سليم: مرر سليم عينه عليها بضجر: عنك ماقولتى
عموما إنت خدتي آخر فرصة ليكي كان ممكن تنهي فيها كل ده.
ماسة بنظره حادة: إنت إللي خلصت كل فرصك وجه وقت فرصتي.
نظر لها سليم بصمت من أعلى لأسفل ثم تحرك وخرج للخارج دون أن يتفوه بكلمة
💞________بقلمي_ليلةعادل_______💞
لم تخرج ماسة من غرفتها بقية اليوم، بل ظلّت مستلقية على فراشها تشاهد الأفلام عبر اللابتوب وكان شيئا لم يكن
في المقابل، كان سليم يغلي من الداخل، الغضب ينهش صدره كلما تذكّر أنه لا يستطيع رؤيتها إلا من زاويتين ضيّقتين: الأولى من السقف، حيث تركت الستائر متدلّية كحجابٍ ثقيل، والثانية من فتحة التكييف، التي لم تغطِّها بالكامل مرّ اليوم كالمعتاد؛ كلٌّ منهما في غرفته، يحتضن الصمت والغضب.
في اليوم التالي، نهض سليم باكرًا، وتوجّه إلى المجموعة، أنجز عمله، ومرّ على المصانع كعادته، لكن هذه المرة، كان أكثر اجتهادًا من المعتاد، وكأنه يُفرغ غضبه في المهام، ويُحاول أن يشغل تفكيره بأي شيء، سوى ماسة.
يوماً بعد يوم، كان من حوله، ومنهم فايزة، يظنون أنه تعافى، وأن نظريتها عنه قد ثبتت صحتها، لكن الحقيقة الوحيدة التي نعلمها نحن هي أنه يهرب يهرب من شيءٍ واحدٍ فقط: ماسة، وعشقه العميق لها.
أما ماسة، فقد استيقظت في اليوم ذاته، لكنها لم تغادر غرفتها تناولت الإفطار والغداء فيها، ورفضت حتى الجلوس مع سحر، بدت وكأنها تتعمّد العزلة، كأنها تُخطّط لأمرٍ ما، تدبّر شيئًا لا نعلم بعد ملامحه في المساء، توجّه سليم إلى القصر ليُحضر بعض الملابس لها، لكن عزّت أصرّ عليه أن يتناول العشاء معهم وكان لا بد أن يوافق.
قصر الراوي السابعة مساءً.
السفرة.
كانت الطاولة عامرة، تجمع أفراد عائلة الراوي جميعًا، وحدها ماسة، لم تكن بينهم.
عزت بصوت هادئ لكنه مباشر: ماجبتش ماسة معاك ليه؟
هبة بنبرة شوق: صحيح، هي فين؟ والله وحشتني، غيرت رقمها ولا إيه؟
سليم يتناول طعامه دون أن يرفع عينيه: إنتي إللي مختفية من شهور.
هبة متأففة: نالا مطلّعة عيني مابتنامش.
سليم بلطافة ساخرة: بس كبرت، ما شاء الله مش ٣سنين دلوقتي؟
هبة بتعب: بس مجنناني على الآخر، وبعدين أنا كمان حامل.
سليم يتوقف عن المضغ، عيونه تتسع بابتسامة: حامل؟
هبة تزوم شفايفها بضيق: للأسف.
سليم بتعجب: ليه للأسف؟
هبة بضجر: لأنه صعب، إنت مش هتفهم غير لما تجيب بيبي، ساعتها بس هتحس بالمعاناة علشان كده مش بظهر، ومش بعتمد على الدادة.
سليم يرفع حاجبه، ويبتسم ابتسامة جانبية: يعني عدم الظهور علشان مشغولة مع البنت؟
هبة تهز رأسها: أيوة، المهم فين ماسة؟ عايزة أكلمها، أشوفها، ونخرج سوا.
سليم بنبرة حادة، هادئة: دي حجج ملهاش علاقة، أنا فعلاً ماخلفتش، بس مش غبي إنتي بتروحي لأهلك، وبتخرجي، بس لما وصلنا لمكالمة التليفون مع ماسة! فجأة الوقت أصبح مكفي؟ عمومًا ماسة بخير، ماتشغليش بالك بيها، خليكِ مع نالا وبالنسبة لرقمها الجديد، إزاي يعني هتضيعي دقايق من وقت نالا عشان تكلميها؟
هبة بصوت خافض: هو إنت زعلان؟
سليم يبتسم نصف ابتسامة ببرود:إطلاقًا، بس، مابحبش الوشوش، اهتمامك مش مطلوب من الأساس.
ياسين يحاول يتدخل بنبرة هادية: سليم، هبة كانت.
سليم يقاطعه وهو بيكمل أكله: محتاج أكمل أكلي بهدوء، الرسالة وصلت.
هبة تعترض بصوت متضايق: بس.
عزت يقطع الكلام بحسم: خلاص، الكلام إنتهى لحد هنا.
نهضت هبه من على الطاولة بضجر، بينما ياسين القى نظرة عتاب واضحة تجاه سليم: ليه كدة يا سليم؟

سليم ببرود وقوة: أنا بلغتك، بس واضح إن في ناس لسة عايزة تكمل مسرحية “الصداقة الوهمية”
مراتي مش للوقت الفاضي، مش لما الهانم مراتك تفتكرها وتحس إنها فاضية، تبدأ تمنّ عليها وبشوية وقت، وتتحجج بحجج فارغة، ماتطلبوش مني أقبل ده، كرامة مراتي فوق كل شيء، وإللي مش عاجبه، عنه ماعجبُه، أنا مش مطبلاتي، إنت فاهم؟ فهم مراتك تنسى ماسة، علشان مراتك ماتستحقش تنول شرف صداقتها.
ياسين بنبرة غاضبة: سليم، خد بالك من كلامك.
سليم بنبرة قاطعة: بلغها، بدل مأبلغها بطريقتي.
فريدة تتدخل بنبرة هادية: سليم عنده حق، يا ياسين زعلان ليه؟هبة حتى معانا إحنا مافكرتش تكلمنا مرة أنا بتواصل معاها، لكن هي لأ حتى صافيناز أحيانا بتكلمها، لكن برضه هبة عازلة نفسها عننا، ماشي، هي واخدة موقف غريب مننا، طب ماسة؟ دي كانت تعبانة أوي الفترة إللي فاتت، كان لازم تساندها بكلمة حتى.
فايزة تهز رأسها بتأمل: هي طول عمرها براويّة، والله شهادة حق ماسة، برغم إني ماكنتش راضية بيها، وبالرغم إللي شافته مننا، بس كانت بتسأل وبتسلم،
وبتعملنا حلوى لرمضان والأعياد، وتجيبها لحد أوضنا
بتحاول تبني معانا علاقة وتكسر الحواجز، مع إن من حقها تدينا ضهرها، بس مراتك دي، معرفش مالها للأسف، كل زوجات أولادي اختياراتهم سيئة، إلا ماسة، لو ماكنتش بالأصل ده.
سليم يضحك بخفة:والله أنا هحس إن فيه مؤامرة بعد الكلام ده.
فايزة بصراحة: لا، عيب. ماسة هتفضل بالنسبة لي بنت سعدية الخدامة، ومجاهد الفلاح،بس ده مايمنعش إني أقول شهادة حق، البنت أخلاقها فوق الوصف حتى وهي بتقف قصادي، كانت لطيفة مع
إخواتك.
صافيناز بتأييد: مظبوط، معرفش هبة واخدة مننا موقف ليه!
ياسين يحاول يهدّي الموقف: خلاص يا جماعة، هبة مش وحشة كده وهي فعلًا عندها هوس بنالا، والله أوقات بتهمّلني علشانها.
فايزة بحزم: طب خليها تعقل، علشان ماحطهاش في دماغي بجد بدأت أتضايق منها مش كفاية خلتك بعيد شهور عن القصر؟ وخلت العيلة تتفكك؟
ياسين: ماما، لو سمحتي.
عزت يتدخل بصوت جهوري قاطع: ياسين، فايزة صح، القرار ده قرارها مش قرارك، وأنا مش مرحب بيه، لأنك خلفت بوعدك، قلت هتكون بين هنا وهناك، وماحصلش إذًا، أسمعوا بقى كلكم..
مرر عينه عليهم أضاف بحسم:
مافيش خروج برا الكيان ده إلا لأسباب مهما كانت الأسباب وده قرار، ومش عايز نقاش فيه، وإنت كمان يا سليم معاهم، إنتم أحرار في حياتكم، بس غياب شهور عن القصر، ممنوع، كل أسبوع تيجوا يومين تلاتة مش بقول نقاش، وإللي مراته مش راضية، ييجي من غيرها مسموع الكلام؟
رشدي بصوت ساخر: أووو عزت الراوي ظهر.
عزت ينظر له بحزم: وإنت؟ سهرك كل ليلة؟
كفاية بطل ده، علشان مش عاجبني أنا حذّرتك.
رشدي بمهاودة وهو يمضغ الطعام: إن شاء الله.
سليم ينظر له بابتسامة: بقالك كتير مختفي يا عزت يا راوي، بس والله هنفذلك طلبك، علشان وحشتني الحتة دي فيك.
عزت بإبتسامة متضايقة: بتتريق يا ولد؟
سليم يمسك يده ويقبّلها: والله أبدًا، أنا بحب أشوفك كدة قوي مهيب زي زمان إمبراطور بجد، علشان تشيل من على دماغي عبء المجموعة، وأولادك.
عزت وهو يمرر عينه عليهم بحب أوي: أنا بحب أشوفكم كدة حواليّا، ونفسي تكونوا روح واحدة، قلب واحد هنملك الدنيا، العيلة هي السند، هي القوة، هي الدفاع حصنك الحقيقي، لو بعدت عن عيلتك، هتكون سهل الاصطياد من أعدائك، أتمنى تفهموا وتنفّذوا ده.
سليم بنبرة صادقة: إن شاء الله.
عاد الجميع لإكمال طعامهم في صمت.
غرفة هبة وياسين
نرى هبة تدور في الغرفة وهي تشعر بغضبٍ مكتوم وهي تقوم بتحضير حقيبتها بعد ما حدث من سليم، وما قيل عنها.
دخل ياسين في تلك اللحظة.
ألتفتت إليه بعينين تشتعلان غضبًا: لسة فاكر تيجي ورايا؟
ياسين بهدوء ظاهر يخفي ما في داخله: أنا قلتلك بلاش، إنتي إللي أصريتي، وبصراحة حقه، إنتي تفتكريها وقت فراغك؟
نظرت إليه بإستنكار: ياسين، إنت معاه ولا معايا؟
ياسين بحسم: أنا مع الحق.
هبة بضجر: وأسلوب أخوك المنحط معايا ايه؟! فاكرنى شغالة عنده أخد أوامر، فاكرني ماسة.
ياسين بحسم: أسلوب أخويا معاكي ماكانش فيه تجاوز، سليم ماتعداش حدوده معاكي، وبعدين إنتي فعلاً بعيدة حاطة حاجز كبير بينك وبينهم، قلتلك كذا مرة، فريدة مش وحشة، ولا حتى طه، وسليم وماسة كوسين جدًا إنتي إللي بعدتي هو من حقه يرفض.
رفعت حاجبيها وقالت بسخرية:وإللي سمعت عنهم إن شاء الله كان ايه.
هز ياسين رأسه بحزن: وماسة مالها؟ مشكلتك إنك أصدرِتِ أحكام وبدأتِ تنفذيها، ولما هما بدأوا ياخدوا منك موقف، و واجهوكي، زي ما إنتي مش عاملة لهم إعتبار، هما كمان مش هايعملوا ليكي اعتبار، زعلانة ليه؟
صرخت هبة: أنا مش هاجي القصر ده تاني!
ياسين فورًا: ماتجيش يا هبة، بس أنا هاجي، وهبات هنا، مش هبعد عن أهلي، حتى لو فيهم مشاكل، حتى لو زي ما إنتي بتقولي: التنكه، وإللي مع نفسها، السافل المتحرش، والمافيا، وإللي شايفة الناس من برجها العالي، وإللي رئيس عشيرة، وإللي بتشوفيه بالصدفة.
اقترب منها خطوة وأكمل بحزم وهو يركز النظر في وجهها: دول أخواتي، أبويا، وأمي، وأنا مش أحسن منهم، أنا زيهم، نفس الجينات نفس الدم، وصدقيني، وقت ماحب أطلع الراوي إللي جوايا هيطلع إهدي يا هبة، وأعقلي علشان إنتي الفترة الأخيرة بقيتي مستفزة قوي.
نظرت له بإندهاش: هو إنت بتهددني؟
ياسمن متعجباً: بهددك لا طبعاً.. وليه أصلًا خدتيني في الحتة دي؟ أنا بقولك: بطلي إللي بتعمليه، علشان إنتي بقيتي شخص مستفز، حتى أهملتيني، بالله عليك، آخر مرة خرجنا مع بعض وقضينا وقت حلو كانت إمتى؟ قولي لي، كانت إمتى؟
صرخت: والله بنتك واخدة كل وقتي!
ياسين بحدة: كل الستات بتتجوز، مابيعملوش إللي إنتي بتعمليه، قلتلك عندي استعداد أجيبلك بدل الخدامة عشرة، وبدل البيبي سيتر مية!
قاطعته بتهكم: أنا مش هخلّي عيالي تربية دادات زيكم، طبعًا إنت مش فارق معاك، علشان كلكم تربية دادا، ماتعرفوش يعني إيه أم في حياة ولادها!
نظر لها ياسين من أعلى لأسفل، وفجأة، دون تردد، صفعها على وجهها.
شهقت هبة، وقد صُدمت مما فعله: إنت بتمد إيدك عليّا؟!
اندفعت نحوه محاولة ضربه، لكن ياسين أمسك بها بشدة، ومنعها من الحركة، وقال بصوتٍ مزلزل:
هبة عقّلي! علشان إنتي لسه ماشفتيش وش ياسين التاني مفهوم؟ وإللي عملتى ده هاتتحاسبي عليه والمرة دى تهديد وعارفة بقى مافيش مشيان من القصر ورينى هتعملي إيه؟!
هبة: أنا مش ماسة فاهم.
ياسين نظر داخل عينيها: بس أنا ياسين الراوي ورينى هتعملي إيه؟!
خرج للخارج وأغلق الباب خلفها بالمفتاح
وتركها تضرب على الباب بغضب وتصرخ بشدة: أفتح يا ياسين كدة طب والله لتشوف.
فيلا سليم وماسة، العاشرة مساءً
دخل سليم إلى الفيلا وهو يسحب خلفه حقيبة سفر كبيرة، وما إن ولج من الباب حتى استقبلته سحر بإبتسامة مرهقة.
سحر: حمد الله على السلامة يا بيه.
سليم: الله يسلمك.
سحر بإستحياء: سليم بيه كنت بفكر أجيب بنت أختي تساعدني شوية.
سليم: اكتبيلي أسمها بالكامل في ورقة، تعرفي تقري وتكتبي أصلًا؟
سحر: آها، أنا مخلّصة سادسة إبتدائي.
سليم: تمام، إدّي الأسم لمكي، وهو هيقول أوكي أو لأ. وبعدين، أنا كنت قلت إني محتاج مساعدين؟
سحر: أنا مش محتاجة، بس البنت خلّصت تعليم، وعايزين نشغّلها.
سليم: طب ماتشغّليها في مصنع؟ ليه تشغّليها في الخدمة؟
سحر: أبوها وأمها عايزين كده، والبنت كمان. شايفة إن الشغل في الفيلا أريح.
سليم: خلاص، زي ماقلتلك، بلّغي مكي بالأسم بالكامل، ولو وافق، هاتيها.
سحر: طيب تحب أعملك عشا؟
سليم: لا، متشكر، ماسة هانم فين؟
سحر: الهانم لسة في الأوضة. ماخرجتش منها خالص النهاردة، ولا حتى نزلت الجنينة، ولما حاولت أقعد معاها زي ماحضرتك طلبت، قالتلي: أنزلي، أنا عايزة أقعد لوحدي، بس والله أنا كنت كل شوية أطمن عليها، ألاقيها قاعدة مبسوطة، بتتفرج على أفلام، وعملتلها فشار وآيس كريم، وأكلت… يعني هي كويسة، ما تقلقش. بس حبيت أقول لحضرتك، يعني، علشان ما تاخذنيش، أنا فهمت إن الستائر إللي علّقتها كانت علشان الكاميرات إللي حضرتك بتشوفها منها.
سليم بهدوء: تمام يا سحر، متشكر. لو عايزة تنامي، روحي نامي.
سحر: تصبح على خير يا بيه.
تنهد سليم بعمق، ثم توجّه إلى المصعد. ضغط على الزر وصعد حتى الطابق الثاني. خرج ببطء، خطواته مثقلة، ثم تحرك نحو غرفة ماسة.
غرفة نوم ماسة
دخل سليم دون أن يطرق الباب قائلاً بهدوء وهو يخطو إلى الداخل: مساء الخير.
لم تلتفت له، كانت تجلس أمام مرآتها، يلف جسدها كاش مايوه حريري بألوان سماوية تتماوج مع كل حركة، ينسدل شعرها على ظهرها في نعومة، تضع بعض مساحيق التجميل، رغم أنها لم تكن بحاجة لأي منها، لونت شفتيها بأحمر شفاه كريزي، تعرف جيدًا كم يعشقه، وكم كان يفتنه بها دومًا.
تحركت وتمدّدت على الفوتيه المقابل للتلفاز، تتناول حبات الفراولة في استمتاع بارد، دون أن تهتم أو ترد
إنه لم يدخل من الاساس.
وقعت عين سليم عليها، كأنها المرة الأولى التي يراها فيها منذ زمن، ضلّ بعدد الأيام التي مرت دون أن تكون هي، دون أن تكون هكذا، هزّ رأسه كمن يطرد فكرة، كمن يطرد ضعفًا ما زال يحاول التسلل إليه.
سليم مرة أخرى، بنبرة أعلى: مساء الخير.
انتظر… لكنها لم ترد، اقترب منها، وقال بصوت غليظ: هو أنا مش بكلمك؟
ما زالت لا ترد صاح بصوت عالي وهو يقوم بزغدها بكتفها بهدوء: ماسة أنا بكلمك.
رفعت ماسة عينيها إليه أخيرًا، حاجباها معقودان بدهشة باردة: هو حضرتك بتكلمني أنا؟
أمال رأسه قليلًا، ورد بدهشة وهو يتكئ على الكلمة: حضرتِك.
وضعت حبة فراولة بين شفتيها، وقالت ببطء وهي تمضغ: اممم حضرتِك؟ بتكلمني أنا؟
جزّ على أسنانه، تحدث محاولًا ضبط غضبه: أيوة حضرتي بيكلمك إنتِ، مابترديش ليه؟
ضحكت ضحكة خفيفة، خالية من الحياة، وقالت دون أن تنظر له: هو مش حضرتك من يومين كدة، قولتلي إني زيي زي الكرسي ده؟ أو الفازة دي؟ أو أي أنتيكة هنا؟ وإن حتى الأنتيكات دي قيمتها أعلى؟
أشارت بيدها ناحية إحدى الزوايا ونظرت له وقالت ببرود شديد : فأنا دلوقتي متقمّصة شخصية الفازة إللي هناك؛ شبهي، فيها أزرق زي عينيّ، وبني زي شعري، وأبيض زي بشرتي،ومدام أنا دلوقتي فازة، فالفازة مابتتكلمش، عمرك شفت فازة بترد؟
سليم باستهجان، محاولًا التماسك: إنتِ فاكراني هموت يعني على ردك؟
نظرت إليه بصمت، بهدوء خادع، كأنها تُعلن التحدي دون حاجة لأي كلام.
أكمل سليم وهو يشيح بوجهه: أنا بس طلعت أشوفك، سحر قالتلي إنك مانزلتيش طول اليوم،
بس طالما كويسة، خلاص، عادي، عنك مارديتي.
دفع الحقيبة بيديه وهو يقول: أمسكي جبتلك لبس من القصر.. عيلة مستفزة.
استدار وغادر الغرفة والغضب يلتفّ به كغلالة دخان خانقة.
أما هي، فلم ترد. لم تحاول حتى، بل ارتسمت على وجهها ابتسامة انتصار، وداخل عينيها لمعة رضا خافتة تعلم كم استثارته، وكم أثارت غضبه، وكم يرفض أن يعترف.
قصر الراوي العاشرة مساءً
الصالون
زيدان متوقف في المنتصف ويبدو عليه الغضب
وما ان دخل ياسين بهدوء.
زيدان بغضب: إيه إللي إنت عملته ده؟ اتفضل هات بنتي بكل هدوء واحترام، وبُكرة ورق الطلاق تكون عندك.
جلس ياسين بصمت قاتل، فتلك العائلة لها طبعٌ خاص يظهر في الأزمات، نظرة واحدة فقط كافية لتقول الكثير، وكان ياسين يشترك في تلك السمة.
ياسين بهدوء: أقعد يا عمّي واسمعني، مش لازم تسمع بس من بنتك، إحنا بقالنا أربع سنين ونص متجوزين، عمرك سمعتها اشتكت مني؟ ولا زعلتها، ولا حتى رفعت صوتي..بما إن حضرتك جيت، وهي اتصلت بيك، يبقى لازم تسمعني أنا كمان.
قاطعه زيدان بإنفعال: مافيش أي حاجة ممكن بنتي تعملها تخليك تقفل عليها الأوضة وتضربها بالقلم!
قاطعة ياسين بهدوء: حتى لو قالتلي إنت تربية دادا إنت وإخواتك ومش هخلّي بنتي تبقى زيكم!
كأن طعنة اخترقت قلب زيدان، جملة ابنته كانت كافية لتحطّم شيء بداخله.
ياسين بصوت هادئ لكنه حاد: مش بقول لحضرتك، إنت مش عارف الحكاية كامل. اتفضل أقعد وأسمعني.
جلس زيدان، وبدأ ياسين يحكي له كل شيء… التفاصيل المؤلمة، الإساءة، نظرة الاحتقار، محاولة هبة لتهجم عليه.
تساءل ياسين بهدوء: ها إيه رايك؟!
نظر زيدان للأسفل وقال بندم واضح: أنا آسف، حقك عليّا. أنا ماكنتش أعرف، هبة كانت بتعيط، وقالتلي: ياسين ضربني وهانّي هو وأهله وقفل عليا الباب، بالمفتاح،
ياسين وهو يخرج مفتاحًا من جيبه: ولا يهمك، الدور الثالث، الجناح الشمالي، آخر أوضة. خد بنتك. مافيش مشكلة.
زيدان وهو ينهض ببطء: أنا بعتذرلك بالنيابة عنها، وهجيبها لحد عندك تعتذر.
ياسين بنبرة جافة: أنا مش محتاج اعتذار، محتاج حضرتك تفهمها غلطها، وترجع تبقى هبة إللي أنا عرفتها لأنها لو فضلت ماشية بالطريقة دي هتخسرني وهتخسر بنتها.
غرفة هبة
فتح زيدان الباب بقوة، فرفعت هبة رأسها بإرتباك: شُفت يا بابا إللي حصل؟!
زيدان بغضب: إنتِ تخرصي خالص! إيه إللي إنت عملتيه ده؟ عايزة تمدي إيدك على جوزك؟ وبتعايريه بتربيته؟ على أساس إن عندك تربية أصلاً؟
صمتت هبة مصدومة.
تابع زيدان وهو يقترب منها: مافيش بنت متربية تقول لجوزها: “إنت تربية دادا”! جوزك حكالي كل حاجة، وأنا مش شايف أي حاجة غلط، أخوه مش عايزك تكلمي مراته، إيه المشكلة؟ الراجل فهمك بإحترام. وسليم طول عمره أسلوبه جاف، أنا عارفه كويس.
كمل بمرارة: ده بقى يديكي الحق تغلطي في ياسين؟!
هبة بدموع: يا بابا.
قاطعها بحزم: أخرصي! مش عايز أسمع حسّك، هتنزلي معايا، تبوسي راس جوزك، وتعتذريله، وأتمنى يقبل اعتذارك، لو مانزلتيش، إنتِ مش بنتي، أنا مش هسمح لبنتي تبقى بالأخلاق دي قدامي، من غير مناقشة!
الطابق الأرضي
هبطت هبة مع والدها. كان ياسين واقفًا في الردهة، يبدو عليه البرود، لكن عينيه لا تخفيان الجرح.
اقتربت منه بتردد: أنا آسفة كنت متعصبة، والقلم وجعني، ماكنتش أقصد أهينك. أنا بس كنت بحاول أوصل لك إن تربية الدادة ممكن تشوّه الشخصية.
أنا آسفة حقك عليا.
اقتربت منه، وقبّلت رأسه.
نظر لها ياسين طويلًا، ثم قال بهدوء: تمام يا هبة، أتمنى تاخدي بالك بعد كده، عشان المرة الجاية، صدقيني، أنا مش ها أسامح
زيدان: حقك عليا.
خرج زيدان، بينما ظلّ ياسين واقفًا للحظة، ينظر لهبة دون كلمة لم يكن مسامحًا من قلبه.
ثم استدار وقال: أنا عندي مشوار مهم، احتمال أتأخر. عن إذنك.
ترَكها واقفة، مكسورة، تعلم تمامًا أنها أخطأت، وأنها على حافة خسارة كل شيء.
في حديقة القصر من إتجاه الخروج.
كان زيدان يهمّ بالرحيل، فاقتربت منه فايزة.
زيدان: إزيك يا فايزة هانم؟
نظرت له بصمت تحدثت باستقراطية بخنافة من طرف أنفها : بخير.
تابعت بنبرة حادة مغطاة بالتهذيب: يا ريت تكلم بنتك وتفهمها يعني إيه حياة زوجية، للأسف أنا ماعرفش تفاصيل المشكلة، علشان ياسين مابيتكلمش، لكن أنا هقولك حاجه بسيطه، ياسين أهدى وأحنّ وأطيب أولادي. بالنسبالنا كلنا، ياسين هو البونبوناية، ولو البونبوناية اتخدشت، حتى بالغلط، صدّقني، إحنا هاننسف إللي خدشه، عقّل بنتك يا زيدان، علشان أنا وعزت مانزعلش منك.
ثم استدارت وترَكته في صمت.
في أيامٍ قليلة،
غادر ياسين القصر متحجّجًا بالعمل، رغم أن مهامه لم تكن تستدعي سفرًا ابتعد عن عمد، دون وداع، ودون عودة،تمامًا كما أوصى هبة: أن تبقى بالداخل
أما هبة، فصمتت، لم تعترض، بل تمسكت بالهدوء،
ربما كانت تأمل أن الطاعة تصلح ما أفسده البُعد.
مكي وسلوى/ لم يتقابلا منذ ذلك اليوم بينهما جدارٌ من صمت، لا كلمة، لا لقاء، لا حتى نظرة، لم يُحاول مكي التحدث معاها، ظنّ أن كسر الحاجز سيُقلل منه،
ستصده من جديد، لكنه ظل يبحث، في الأرقام، الكاميرات، يسأل الخدم دون فائدة، أبلغ سليم بذلك، وقال له أيضًا: أكيد ماسة لما حلفت كانت على حاجة تانية. تهديداتك مثلاً عايزة تجننك.
مكي لم يُصدّق، لكنه أراد أن يُصدّق، فأقنع نفسه:
يمكن ماسة قالت لها إني زي سليم، وإني هضربها وأهددها، ولازم تبعد عني. وهي سمعت كلامها.
بس لو ده حصل فعلًا، يبقى أنا فعلًا اختياري كان غلط.
عائلة ماسة/ لم تتقبّل الأمر بسهولة لكنهم اختاروا الابتعاد… مؤقتًا، سعدية، قد أقسمت ألا يذهب أحد منهم إلى الفيلا، خائفة، مذعورة على أبنائها وكلما حاول أحدهم الحديث عن ماسة، صرخت كأنها تطرد الخوف من قلبها بصوتها
أما ماسة، فقد التزمت الصمت التام،كانت تتابع سليم بنظرات لا تنطق، وكأنها تمارس عليه عقابًا صامتًا بلا نهاية، وحين يُكلمها لا ترد، وحين يُصرّ عليها بالكلام، تُجيبه ببرود أنها الآن مزهرية، مقعد أو أي قطعة أثاث لا تنطق.
دائمًا كلماتها مقتضبة، مقتولة الإحساس:
حاضر أمرك يا سجّاني.
وكانت تلك الكلمة، وحدها، تطعنه.
“سجّاني” كأنها تلقي في وجهه مرآة لا يستطيع كسرها لم يعُد زوجها فقط، بل صار قيدها، وسورها، وجدارها العالي، هو لا يُجيد الحديث ظنّ أن المبادرة ضعف، وأن الاعتذار هزيمة. فآثر الصمت، لكن في داخله، كان ينهار قطعةً قطعة، تمر الأيام، وقد لا يراها سوى مصادفة، تمر أمامه كما تمر الظلال،
كأنها لم تكن يومًا، روحه، والآن، هي فقط جسدٌ يمشي بلا سلام، يعلم يقينًا، أنها تُعاقبه، وأن صمتها، وحده، كان أكثر قسوةً من أي عتاب.
منزل مكي العاشرة مساءً.
غرفة مكي
مكي جالسًا على مقعد، يدخن سيجارته بصمت، دخلت عليه ليلى وهي تحمل كوب عصير بيدها.
ليلى وهي تقترب: أنا عملتلك كوباية ليمون، أهي، عشان تروق دمك.
مكي التفت لها بنصف إبتسامة: تسلم إيدك.
جلست بجانبه على المقعد، ثم قالت: يلا، قولي بقى إيه إللي حصل؟
مكي متعجباً: إيه إللي حصل في إيه بالظبط؟
ليلى: معاك إنت وسلوى، أهو فات شوية، قولي بقى.
مكي تنهد بتعب: ماتشغليش بالك يا ست الكل.
ليلى، وقد علت نبرتها قليلًا: لا، هشغل، وأشغّل. يلا قول، بدل والله أروح أسأل البت.
تنهد مكي: ماشي يا ستي، هحكيلك، ماسة كان بقالها فترة متغيّرة مع سليم يعني بصي، الحكاية حصلت من بعد حادثة سليم دي، خاصة بعد ما فاق…
أخذ يروي لها مكي كل شيء، وبعد الانتهاء، نظرت ليلى إليه بإستغراب.
ليلى باستهجان واستنكار: أنا مش فاهمة، يعني مالك إنت ومال سليم؟ أختها وجوزها متخانقين، إنت مالك؟ وهي كمان مالها؟
مكي رفع كتفه بتعب: هي شايفة إنّي المفروض أقف معاها أكتر من كدة ضد سليم كمان يا امي انا قلتلك هي متغيره معايا من فتره شايفه اني نسخه من سليم.
ليلى متعجبة: تقف ضد سليم؟ وإنت مافهمتهاش بقى إنك ليك حدود؟ وبالرغم إن سليم معتبرك زي أخوه وصاحبه، بس بييجي في حاجات بيتعامل معاك زيك زي أي حد شغّال عنده وبعدين انت نسخه من سليم هي بس ما شافتش سليم في عزه وكان عامل ازاي ده ربنا هد هو وابوه.
زم مكي وجهه بضيق: عارفة، وأنا قايل لها أفصلي بين شغلي وبيني، بس هي مافيش، هي خلاص شايفاني نسخة من صاحبي، وإن كان لازم أقف ضده، وإنّي أروح أجيب ماسة بالعافية من هناك وأسلمها لأهلها وتحليلي يعني للحكايه دول ناس شغالين بالتهديدات خلينا نبعد عنهم احسن.
ليلى متعجبة بشدة: المفروض إنها أصلاً فلاحة، وعارفين يعني إيه أصول، وإن حتى لو جوزها بيديها بالجزمة، ماينفعش حد يتدخل! ولا هم نسوا أصلهم؟ أنا ماقصدش والله، بس أقصد إن تركيبة شخصيتها ماتعملش إللي هي بتعمله ده. طب وإنت دلوقتي هتعمل إيه يا ابني؟ أنا حاسة إنك مش مبسوط.
مكي، بحزن: أنا فعلاً مش مبسوط، ومجروح كمان يا أمي، مش عارف أعمل إيه؟!أوقات بقول أمشي وأكمل حياتي، صفحة اتطوت وخلاص، وساعات بقول لا، ماينفعش، أنا كده بعمل زيها بالضبط، ببيع بسرعة
تنهد بمرارة قائلا بحيرة:
وساعات بحس إني كدة ماعنديش دم، وبقل من كرامتي، إني لازم أحاول تاني، بس أنا دلوقتي مستفَز منها، وهي كمان لسة عنيدة وعصبية، يعني حتى لو كلمتها، هنرجع لنفس الدايرة، مافيش جديد، وحاسس برضه إن لو أنا ماروحتلهاش دلوقتي، هاسيب النار تولّع وتاكل كل حاجة لحد ماتتحول رماد، وبعدين أندم، لإني مالحقتش أطفيها وهي لسة ولّاعة أعمل إيه؟
ليلى تنهدت بتعب ربتت على قدمه: بص، إنت بتحبها، والبنت كويسة، وأهلها ناس كويسين، جرب تروح لها مرة، وقول قصادهم: اتعاملوا معايا على إني شغال عند سليم، وأنا مش هينفع أسيب شغلي معاه، وأنا عملت إللي عليا واحكموا عليا بافعال انا مالي بافعال صاحبي حتى لو اخويا وتوامي انا مالي يحط عقلهم في راسهم كده.
صمتت للحظة وهي تقول بقلق:
بس إنت عارف، سليم غلط، غلط غلطة كبيرة، إزاي يرفع مسدسه على أخوها؟! وإنت كنت واقف! يعني باظت أكتر، طب بقول لك إيه، وإنت شايف إني ماينفعش تسيب شغلك مع سليم؟
مكي بحسم: أمي الموضوع ده مقفول؟بعدين سليم ما غلطش، عمار مستفز دي شخصية سليم، هو بس كان بيحاول يبعدها عنهم، هو الفترة دي مضغوط، حاجات كتير حصلت ورا بعضها، بقول لك إيه لو الموقف ده حصل معاكي، مرات ابنك هربت هتعملي إيه؟
ليلى بتهكم: والله، أبرك عليها أخليك تخنفها غلطة كبيرة، حتى لو سليم مزعلها، كله إلا كده، بقولك إيه، مش يمكن فيه حد في حياتها؟
مكي بسرعة: لا لا، هم حاجتين: يا إما فيه سبب إحنا مش عارفينه، وده احتمال مستبعد لأننا دورنا.. يا إما الضغط إللي سليم حطّه عليها خلاها تنفجر، فبقت عايزة تمشي، بقت مضطربة نفسيًا وده الغالب.
ليلى تنهدت بحنان أم: خلاص، إنت كلم سليم، يحتويها، وأما سلوى روح أتكلّم معاها تاني، لو رفضت، خلاص، سيبها فترة بقى، نشوف الدنيا هتمشي بيك إزاي.
هز مكي راسه بإيجاب بصمت
فيلا سليم وماسة.
غرفة السفرة
جلسا سليم وماسة في صمتٍ ثقيل، وجهاهما يكسوهما الجمود والبرودة، دون كلمة أو نظرة، ماسة تتناول الطعام بهدوء وكل شيء ساكن هوعلى النقيض، يراقبها من حين لآخر بنظرات متلهفة، يحاول أن يفتعل أي باب للحديث فقد أشتاق لسماع صوتها، لكنها لم تترك نافذة واحدة مفتوحة…. وبعد دقائق.
رفعت عينيها ببطء نحوه،قالت بصوت منخفض لا يخلو من البرود: سجاني، ممكن الملح؟
لم يرد وكأنه تعمّد الصمت هذه المرة.
نظرت له مرة أخرى، ونبرتها أكثر حدة: بقولك هات الملح.
رفع رأسه أخيرًا، وحدّق بها وقال بحزم: اسمي سليم.
لم ترد فقط، قالت كأنها لم تسمعه: هات الملح.
عيناه ضاقتا أكثر، قال بحدة مكتومة: قولي هات الملح يا سليم.
لم تجبه سحبت الكرسي ببطء، نهضت، ذهبت نحو طرف الطاولة، التقطت الملّاحة، ثم عادت إلى مكانها،
سكبت بعض الملح على طعامها دون أن تنظر إليه، وبدأت تأكل.
لحظة واحدة فقط، كافية ليكسر سليم الصحن الذي أمامه دفعة واحدة بقبضة يده، تطايرت شظاياه على المائدة، وسقط بعضها على الأرض.
لكنها لم ترفّ لها عين لم تلتفت حتى، ظلت تأكل في هدوء، ودندنت لحنًا قديمًا، بصوت خافت، رتيب، كأنها وحدها في المكان.
لم يتمالك نفسه، دفع الكرسي بقوة، نهض، ونظر إليها للحظة، ثم قال بمرارة: إنتِ بجد خلاص اتجننتي.
لم ترد كأنها لم تسمع أصلًا، تركها ومضى وهي؟ ظلت تأكل، وتغني.
💞_______بقلمي_ليلةعادل________💞
بعد يومين
بعدما غطّت ماسة الحوائط والأثاث بستائر، زادت على ذلك بوضع “ناموسية” في السقف، فتحوّلت غرفتها لعالم مغلق لا يرى منه سليم سوى ظل باهت، لم يعلّق سليم، فقط كان يراقب عنادها بصمت ساخر، ثم قرر سليم أن يأخذ يومين إجازة من العمل يعرف جيدًا أن ماسة لا تتحمّل العزلة لفترة طويلة.
اليوم الأول قضته في غرفتها، بين الكتب والأفلام، وجلست معها سحر لبعض الوقت.
أما في اليوم الثاني، أدركت أن سليم مازال في الفيلا، ترددت، ثم هبطت. أقنعت نفسها أنها لن تكلمه، ولن تنطق بحرف، تناولا الإفطار معًا بصمتٍ ثقيل لم يحاول سليم أن يكسر الصمت، فقط جلس يراقبها، مستمتعًا فقط بوجودها أمامه. عيناه تلتهمانها كمن يكتفي بوجودها أمامه.
وخلال اليوم..
كانت ماسة تبتعد عنه، إذا جلس في الداخل، خرجت إلى الحديقة، وإذا خرج، دخلت هي، وبعد وقت دخلت لتشاهد التلفاز في الـ “ليفنج روم”، فغرفتها بلا تلفاز، جلست تتابع فيلمًا كوميديًّا، وضحكت على أحد المشاهد، كانت مندمجة تمامًا… وفجأة، ظهر سليم،
أخذ الريموت ونقل القناة دون أن يقول شيئًا.
نظرت له ماسة بضجر.
سليم، وهو يضغط على كلماته ببرود مستفزّ: عايز أتفرج على الماتش، ما إنتي عارفة بحب الماتشات.
رغم إدراكها التام أنه لم يحبّها يومًا، إلا أنها شعرت بأنه ينتظر منها ردًّا شجارًا، كلمة، أي شيء يفتح به باب الحديث. لكنها لم تفعل، تنهدت بصمت، صعدت إلى غرفتها، أغلقت الباب، وجلست تكمل الفيلم من حيث توقفت على اللابتوب.
لكن سليم أنفعل، شعر بالاستفزاز. مسح وجهه بيده، وقرّر ألا ينهزم بسهولة.
بعد دقائق، صعد خلفها. دخل فجأة، وانتزع اللابتوب من بين يديها.
سليم بنبرة صارمة: مافيش لابتوب غير ساعتين في اليوم، وأنا إللي هحددهم، مفهوم؟
نظرت له ماسة دون اهتمام، ثم وجهت نظرها إلى الفراغ.
سليم بغضب: أنا بكلمك، قولي حاضر.
ماسة ببرود: حاضر.
سليم: لما أحدد الساعتين، هقولك عليهم.
ماسة، بنفس النبرة: أي أوامر تانية يا سجّاني؟
سليم بعين غامت بسواد قال بغضب: اسمي سليم.
حكّت ماسة بأنفها بلا اكتراث.
أشار سليم بيده إلى الستائر، وقال بحدة: وكل إللي إنتي عملتيه ده من اللحظة دي هايتشال، فاهمة؟
سحب إحدى الستائر الثقيلة، وألقاها أرضًا.
سليم بنبرة حاسمة: إنتي هنا في سجني، تقعدي بقوانيني، بأوامري.
ماسة بهدوء: طبعًا، يا سجّاني، فاهمة أمرك.
سليم بإنفعال: اسمي سليم بأقولك!
كأنها لم تستمع: أي أوامر تانية؟
تالع، وهو يشير بيده بضجر ممزوج بتهديد: أنا هبعت الحراس يشيلوا القرف إللي إنتي عاملاه ده. ولو اتحط تاني، هتبقي المسؤولة عن إللي هعمله. بلاش تبقي سجينة مشاغبة.
هزّت ماسة رأسها دون كلام.
كان سليم مستغربًا، أين ردودها؟ أين حدة لسانها؟ يحاول استفزازها، جرّها لأي كلمة، لأي انفعال، لكنه فشل.
استدارت ماسة، ودخلت إلى الشرفة.
لحق بها سليم ربما تلك المرة ترد: أنا مأذِنتلكيش تمشي من قدامي.
ماسة بهدوء: آسفة.
عادت إلى نفس الزاوية التي كانت تتوقف عندها.
بنبرة خالية من الحياة: أي أوامر تانية يا سجّاني؟
جز سليم على أسنانه، واقترب منها: أسمي سليم.. سليم؟
لم ترد.
قال بنفاد صبر: قولي سليم.
لم ترد
سليم بأمر وشدة: قولي سليم يا ماسة.
ظلت تنظر له بصمت، وكأنها تحولت لقطعة حجر، أو كأنها أصيبت بصمم وبكم.
أمسكها من كتفيها وهزّها بعنف: إيه؟ خلاص؟ اتشليتي؟ اتخرستي؟ ولا بتقلدي العمود إللي هناك المرة دي؟
ضحكت ماسة بإستفزاز، وأشارت له بإشارة طفولية ساخرة بأصابعها:👍👍
متمتمًا سليم من بين أسنانه: ده إنتِ عيلة مستفزة.
دفعها فارتطمت بالسرير، ثم خرج من الغرفة وأغلق الباب خلفه بعنف.
أما ماسة، فرغم الوجع من السقطة، ظلت تضحك.
بعد دقائق، جاء الحراس ومعهم سحر ونفذوا أوامره. شالوا الستائر، وأعادوا كل شيء كما كان.
ماسة، وهي تضحك بهدوء، نظرت إلى سحر التي تتوقف مرتبكة.
ماسة بهدوء: ماما سحر، ممكن تعمليلي فنجان قهوة؟ وتعالي أقعدي معايا شوية؟
سحر ترددت: سليم بيه قال لي ماقعدش معاكي تاني.
ابتسمت ماسة بمرارة: تمام… مافيش مشكلة.
قالت بداخلها: إنت أعلنت الحرب، خلاص، هنشوف بقى مين إللي هيكسب، اتفضلي يا ماما سحر.
خرجت سحر، بينما ظلت ماسة تدور في الغرفة، تتأمل أركانها، وتضحك تحاول استفزازه
في إتجاه آخر مكتب سليم..
كان سليم يراقبها من التابلت، يشاهدها وهي تتحرك بخفة، وتضحك، كأنها تسخر منه.
صرّ على أسنانه، أمسك بالتابلت، وألقاه على الأرض بغضب، تهشّم الجهاز، لكنه لم يهدأ.
قصر الراوي، الرابعة صباحًا
القصر هادئًا تمامًا، يغط في نومٍ ثقيل، رشدي، كعادته في الفترة الأخيرة، عاد متأخرًا، يترنح خارج سيارته، مستندًا على ذراع شوقي الحارس الشخصي، الذي بالكاد استطاع حمله للطابق العلوي.
من شرفة الطابق الثاني، كان عزت يراقب المشهد بحدة عين الصقر، ثم صرخ وهو يوقظ فايزة:
قومي شوفي ابنك إللي راجعلي سكران، مش قادر يقف على رجليه، لإني لو نزلتله، والله لأنسفه نسف.
فايزة، بفزع ونعاس، قالت وهي تحاول النهوض:
إنت مصحيني عشان كده؟ ماتسيبه وسيبني أنام بكرة عندي اجتماعات مهمة.
عزت نفد صبره: قومي يا فايزة بدل ماعمل كارثة في القصر، إنتِ قولتيلي هتشوفيه، وابنك كل يوم بيسوء، وأنا حاسس إن الموضوع دخل في المخدرات ولو اتأكدت، هقتله بإيدي أنا مش هبهدل سمعتي بسبب ابنك المنحط.
فايزة تنهدت، مدت يدها: خلاص، قايمة ناولني الروب.
ناولها الروب بصمت، ثم جلست فايزة على طرف الفراش لحظة تلتقط أنفاسها، قبل أن تصعد للطابق العلوي.
غرفة رشدي
كان مستلقيًا على الفراش، قميصه مفتوح نصفه، الموسيقى تعلو من مكبر صوت مهترئ، أخرج سيجارة، أشعلها، وبدأ في تدخين الحشيش ببطء واستمتاع.
دون طرق، فتحت فايزة الباب.، انتشرت رائحة الحشيش في الهواء أغلقت الموسيقى، وفتحت النور بقوة.
صرخت فايزة بشدة: إنت اتجننت؟ إللي أنا شماه ده إيه؟
رشدي، وهو يبتسم: والله وحشتيني، عاملة إيه يا كوين؟
فايزة بحدة وهي تقترب: إيه إللي أنا شمّاه ده؟
رشدي بلا مبالاة: حشيش، هيكون إيه يعني؟ تاخدي واحدة معايا؟ افغاني.
صرخت فيه: إنت اتجننت؟ بتشرب حشيش هي وصلت لكده وفي القصر؟
اقترب منها، عينيه نصف مغمضة قال بسوقية: ماتضيعيش الدماغ بقى، بطلي ندب، وبعدين إنتي جاية ليه؟
فايزة بضجر: اتكلم بأدب، جاية أشوف الكارثة إللي إنت بتعملها، يمكن أعرف أفوّقك.
ضحك رشدي وهو يقول: آه جاية تعملي فيها الأم الحنون.
فايزه رفعت حاجباها بالاستغراب: أعمل فيها؟!
ضحك بسخرية: آه، هتعملي فيها أمّ؟ هو إنتي أصلاً بتعتبرينا ولادك؟ أقسم بالله ساعات بحس إن عزت جابنا من ست تانية، وإنتي بتطلعي خيانة أبويا علينا، أو بتكفّري عن ذنوبنا، لا بلاش بقى شغل الأمهات الكداب ده مش لايقة عليكي، إنتي مابتحبيش غير نفسك وسليم.
فايزة نظرت له من أعلى لأسفل وقالت بمرارة:
انا مابحبكمش بعد كل إللي أنا عملته علشانك وقفني جنبك ودعمي ليك أخس عليك ده إنت طلعت نكار.
نظر لها قال بحدة: آه مابتحبنيش، وإحنا كمان مابنحبكيش، وأوعى تفتكري إن صافي بتحبك، دي مستنىة تبرشط على الكرسي، وأقسم بالله ممكن تقتلك، أوعى تاكلي حاجة من إيديها دي نصيحة، أنا عن نفسي مش هقتلك، مش حابب أكون قاتل أمه، بس هي هتعملها عادي.
صاحت فايزة: أتكلم معايا بإحترام يا ولد.
رشدي بسوقية: أطلعي برا، وفكّك مني.
فايزة بحدة وهي تشير بيدها: أتكلم معايا باحترام يا ولد، إنت نسيت نفسك إنت بتكلم أمك.
زفر رشدي: يوو بقولك أبعدي عني، ماتعمليش نفسك خايفة علينا، إنتي عمرك ما كنتي أم ولا هتكوني، حتى سليم مابتحبيهوش، حبك لسليم علشان الفلوس والكرسي.
شعرت بالغضب جزت على أسنانها رفعت يدها لتصفعه، لكنه أمسكها بقوة نظر داخل عينيها بتحدي: لا.. بأقولك إهدي كدة وأبلعي ريقك.
صرخت وهي تسحب يدها: إنت بتمسك إيدي؟! اتجننت؟! أنا هقول لعزت هخليه يتصرف معاك.
حاولت التحرك لكنها توقفت حين استمعت لتهديد
رشدي بهدوء قاتل: قوليلوا وأنا هقول لسليم وعزت كل حاجة أنا عندي كل حاجة، صور، فيديوهات، طول ما إنتم بعيد عني طول ماسركم في بير، لو فتحتي بقك هقول له كل حاجة.
نظرت داخل عينه بحدة: إنت بتتحداني؟
رشدي ببرود وهو بيخرج باكت أبيض من الدرج ويستنشقه: بهددك، ومش عايز غير فلوس وروقان، وأي حد هييجي عليّا، هاحط صباعي في عينه.
نظرت له بإشميزاز واحتقار: بقيت مدمن كمان، هو ده مصيرك، ده آخرك وهتموت بيها أنا فعلًا مش هاتدخل تاني، وفعلاً عمري ماحبيتك، من وإنت طفل أسوأ أخواتك أنا بحب سليم، وهفضل أحميه منك، ومن أي حد، لو حاولت تحرقني، والله لأحرقك، وهقتلك وساعتها، هكون الأم إللي قتلت ابنها، بإيديها.
خرجت من الغرفة، تعالت الموسيقى من جديد، لكن ما دوّى هذه المرة لم يكن لحنًا، بل انكسارًا صامتًا يصم الآذان.
فيلا ماسة وسليم
نرى ماسة متوقفة أمام حمام السباحة، تتنقل ببطء على طرفه، خطواتها هادئة، ثم توقفت فجأة، وكأنها تفكر في شيء.
في الأعلى، كان سليم يراقبها من الشرفة، سيجارته بين أصابعه، وفنجان القهوة يلامس شفتيه، مرّت أيام قليلة لم يتبادلا خلالها أي كلمة، ولم يطرق صوتها أذنه منذ يومين على الأقل، شعر أن الصمت قد طال أكثر مما يحتمل؛ كما ذكرنا سابقًا، كانت تمارس عليه الصمت العقابي، وذلك ما كان يدفعه إلى الجنون، رغم أنه نزع الستائر وأصبح يراها من خلال الكاميرات، إلا أنه لم يراها حقًّا.
كان عندما يعود من العمل، تصعد إلى غرفتها مباشرة، وتشغل نفسها بقراءة الكتب بعد أن أخذ منها اللابتوب، ومنع سحر من الجلوس معها. كان يظن أن ذلك سيدفع ماسة إلى افتعال شجار معه، لكنها لم تفعل.
كل ما شعر به هو اشتياق عارم لصوتها، لرؤيتها وجهًا لوجه، لا من خلف الشاشات.
قال لنفسه: أجرب أستفزها بأي شكل، يمكن ترد وأسمع صوتها وحشتني أوي.
تنهد وأطفأ السيجارة، وصفّر بإتجاهها التفتت برأسها له
سليم بنبرة ساخرة: بتفكري تنطي؟
ماسة وهي تحرك رأسها بضيق: مالكش دعوة.
تحركت قليلاً، ثم جلست على حافة المسبح، وضعت قدميها في المياه، وراحت تراقب حركة الانعكاسات بصمت.
سليم بشدة: أسمعي الكلام وروحي الناحية الثانية المكان ده غريق.
لم تهتم ماسة ولم ترد عليه فقط ظلت تلعب بقدميها في الماء.
تنهد سليم، وتحرك من مكانه، هبط بخطوات ثابتة حتى وقف أمامها.
قال بهدوء ظاهر: أسمعي الكلام وأبعدي.
تفجّرت ماسة بضيق: أنا مش فاهمة! جاي من فوق لحد هنا علشان تقولي أبعدي؟ طيب مش هابعد.
سليم وهو يشير إلى الماء: المكان ده غويط، روحي الناحية التانية بطلي عند.
توقفت ماسة ونظرت له بحدة ممزوج بسخرية: وشأنك إيه؟ إنت مش بتقول إنك مش بتحبني؟ وإنك ندمان على كل لحظة حبتني فيها؟ وإنك هاتوريني أسوأ أيام حياتي؟ وكل أغاني مصطفى كامل إللي اتقالت، دلوقتي جاي تقولي خدي بالك؟ إنت عندك شخصيتين ولا إيه؟ عندك شيزوفرينيا؟ مريض.
سليم وهو يضغط على كلماته: تصدقي؟ أنا غلطان، ولو شفتك بتغرفي قدامي، مش هتحرك من مكاني.
ماسة تحدّته بعينيها: متأكد من الكلام ده؟
سليم بجمود: أيوه، متأكد، إنتي أضعف من إنك تؤذي نفسك.
نظرت له ماسة نظرة صامتة، ثم فجأة وضعت يديها على أنفها، وغاصت في المياه أختفت في العمق، دون صوت.
اتسعت عينا سليم، واتسع صدره بصدمة، ثم قفز خلفها بكل ما يرتديه، دون تردد، كانت ماسة تطفو للحظات ثم تهبط، تحاول الصعود ولا تستطيع، أنفاسها تختنق، أمسكها سليم من خصرها، رفعها إلى السطح، وهو يلهث بشدة، وعيناه ترتجفان من الخوف والغضب.
سليم بغضب شديد: إنتي اتجننتي؟ هو العند للدرجة دي تأذي نفسك.
ردّت بصوت مرتعش بنبرة سخرية: لا بس كنت بورّيك إني أقدر أعملها، وإنك مش هتقدر تشوفني بتأذي وتسكت، أنا لو ماشية على النار، هتسبقني، ولو رايحة للجنة، هتقف ورايا. أنا عارفاك كويس إنت ماتقدرش تتحمل تشوفني بتأذي كلامك مابيدخلش حتى من الودن علشان يخرج منه زي ما قلت لك قبل كده، أنا بس بوريك نفسك قصاد نفسك،
تبسمت وهي تشير بيدها بإنتصار:
واحد صفر يا سجنجن، يا راوي.
سليم وهو يبعد وجهه عنها: أنا كان لازم أطلعك، كنت هعمل كده لأي حد بيغرق، مش بس إنتي بس عموما
لو شفتك بتقعي أو بتحرقي أو بموتي حتى بتغرقي تاني مش هيتهزلي جفن.
ماسة نظرت له بهدوء: بلاش بس الكلام ده، ممكن تطلعني بقى ولا أقولك وديني في المكان الأمان، وأبعد سجانك ده، علشان بيتكسف يا سجاني.
زفر سليم بضيق وهو يضم ذراعيه حولها، وتحرك بها حتى أوصلها إلى الحافة، ثم خرج بصمت، والماء يقطر من ثيابه كما يقطر الغضب من قلبه وأخذت ماسة تضحك وهى تعوم على ظهرها وهي تقول بوعيد:
لسة شفت حاجة هتشوف هعمل فيك إيه؟!
اليوم التالي
فيلا سليم وماسة الرابعة مساء
غرفة نوم ماسة
توقفت ماسة في الشرفة، تتأمل السماء من خلف القضبان عيناها لا تتحركان عن الأفق ساكنة، كأنها تنتظر إشارة وفجأة، لمحت سليم يدخل بسيارته، ترجل منها بخطواته المعتادة، الصارمة، يقترب من الفيلا نظراته، تلاقت معها..لحظة واحدة. كافية لتُوقد فكرة في ذهنها.
استدارت فجأة، وركضت نحو الباب، خرجت من الغرفة وهبطت على الدرج بخفة، اقتربت من منتصفه، ثم تعثّرت عن عمد سقطت بقوة، لكنها تماسكت لتُكمل المسرحية كما رسمتها في عقلها.
سليم انتبه لها، هرول نحوها، والخوف يعصف بتفاصيل وجهه: إنتي كويسة؟ مش تاخدي بالك وإنتي نازلة؟
أمسكت ماسة قدمها، تتأوه بنبرة خافتة مصطنعة:
رجلي وجعتني أوي، مش قادرة أدوس عليها.
حملها بين ذراعيه مسرعاً وتحرك بها حتى الغرفة، وضعها على الأريكة بلطف، وجلس أمامها على ركبته:
خلينا نشوف رجلك كده.
تفحّص سليم قدمها بعناية:مافيش حاجة ماتخافيش.
همست ماسة بصوت ضعيف بتمثيل متقن: بس بتوجعني.
مدّ يده، فرد قدمها بحذر، ضغط عليها برفق ليتأكد من خلوها من أي كسر وهو ينظر لها بنظرة تختلط فيها نظرات الحب، والاهتمام، والخوف بينما هي، كانت تنظر له بإبتسامة، تلك الابتسامة التي تحمل فيها انتصار لخطتها.
سليم بأطمئنان: الحمد لله، مافيش كسر، يمكن بس من الوقعة، هجبلك مسكن خدي بالك من نفسك بعد كده.
نظرت له ماسة بعينين تلمعان: خوفت عليّا؟
سكت سليم ابتلع ريقه، ثم نظر بعيدًا وهو يتمتم: دي إنسانية، إنتي وقعتي، طبيعي أعمل كده إنتي فهمتي إيه؟
تمتمت هي لنفسها، بنغمة نصر: اتنين صفر.
ضيق عينيه وقال وهو يتوقف: تقصدي إيه؟
رفعت حاجبها، وقالت بسخرية خفيفة توقفت: إنت قولت، حتى لو شفتني بقع أو بتحرق أو بموت مش هتتحرك، النهاردة أول ما شفتنى وقعت جريت عليا وإنت مرعوب خسرت المرة دي كمان
اقتربت منه، نظرت له بثقة وهمست
حضّر نفسك للتالتة… يا “إنسانية” غمزت له
ضحكت بخفة، وتحركت نحو الباب بإنتصار ظاهر.
سليم جزّ على أسنانه وقال بضيق: أنا مش فاهم عايزة توصلي لإيه! بالعبط إللي إنتي بتعمليه ده؟!
توقفت ماسة، استدارت له بثقة وقالت: أوصل لهدفي، أكسب الرهان وأثبتلك إني ماتراهنتش غير على الحصان الكسبان، وإن إنسانيتك دي مجرد كلمة بتوهم بيها نفسك، بس الحقيقة؟ إنك بتحب، وبتعشق ومش بتعرف تعشق إلا ماسة نظراتك مش “إنسانية” حركاتك مش “إنسانية”دي حب وعشق بس إنت إللي بتكابر وهفضل اعمل حاجة كل يوم وكل مرة هتجري عليا بنفس اللهفة بنفس النظرة وكل مرة هكسبك لحد ماتقف وتقول لي أنا بعمل كدة حب مش إنسانية.
اقترب منها، وقف أمامها بتحدٍ: طب وحياتك الإنسانية، هبعدها عنك ولو شفتك بيحصلك حاجة؟ مش هتهز هسيبك وأمشي عادي.
ابتسمت ماسة، همست وهي تتحرك بعيدًا: أما نشوف يا سجّاني
تحركت للخارج واثناء ذلك قال بنبرة ضيعف: اسمي سليم ط.
في الليل
الهدوء والظلام يعمّان المكان، الكل غارق في نوم عميق. الساعة الآن الثالثة صباحًا، إلا غرفة واحدة.
فجأة، دوّى صراخ حاد اخترق سكينة الليل كطعنة خنجر، من غرفة ماسة.
كان سليم نائمًا على ظهره في ثبات عميق، إلى أن ارتطمت الصرخة بسمعه كصاعقة فتح عينيه فجأة، اتسعتا بخوف، ثم جلس يلتقط أنفاسه، يستوعب يتأكد انتبه للصراخ، فقفز من فراشه وركض.
دفع باب غرفتها، ضغط على مفتاح النور.
ماسة جالسة على الفراش، بشكل عادي ومان شيئا لم يكن.
اقترب منها بلهفة: في إيه؟ مالك؟
رفعت كتفها: مافيش.
جلس أمامها وهو يمسح على وجهها بلُطف قلق: مافيش إزاي؟ إنتي كويسة؟
ماسة ارتسمت على شفتيها نصف إبتسامة: ها
سليم بنبرة حادة: أمال كنتي بتصرخي ليه؟
ماسة بنبرة باردة، متعمدة: مَلَل.
ضاق عينيه، متعجباً: ملل؟
هزّت رأسها ببرود قاتل: أممم ملل، زهق بس إنت جيت ليه؟
رفع حاجبه بصدمة: يعني المفروض أعمل إيه لما أسمع صريخ زي ده؟ أسيبه وأعدّي يعني؟
ضحكت: أيوه، تطنش، إنت راجل، رميتني من قلبك، ومش فارق معاك أعيش ولا أموت. المفروض لما تسمع صوت واحدة مش بتحبها، تكمل نومك الجميل، كأنك سمعت صوت الباب بيخبط، مش أكتر لكن تيجي جري كده؟ ومخضوض؟ وعينك بتدوّر ليه؟
وقف أمامها قال بمقاطعة: عشان بحبك، مش كده؟ إزاي ما إنتي بتحاولي توهمي نفسك؟
توقفت، وابتسمت بابتسامة متعبة: برافو، إنت ماجيتش جري عشان إنسانية، إنت جيت جري بنظرتك ولمستك علشان تطمن، ومخضوض، وخايف عليا.
اتسعت عيناها، ثم لمعت بإبتسامة خفيفة… كده تبقى ٣–٠ رغم ان دي مفروض تتحسب لي هاتريك عشان في نفس اليوم بس يلا هتنازل واحسبها بجول واحد.
ضحك وهو بيهز راسه بيأس: إنتي ما طلعتيش سهلة خالص.
ردّت بنبرة ساخرة: تربيتك يا روحي.
تنهد وقال وهو يقترب منها: إحنا هنفضل بقى في لعب العيال ده كتير؟
هزّت كتفها بخفة: لحد ماتعترف إنك خسرت الرهان.
سليم، بملل،: أنا زهقت.
ماسة بهدوء خلاص… أعترف بالهزيمة يا عشماوي.
صرخ فجأة بغضب: نا اسمي سليم! مش هاقولك تاني!
ومش هعترف بحاجة… إللي بتعمليه ده شغل عيال!
هو ده إللي هيخليني أقول بحبك؟! أنا يمكن أكون متجبر زي مابتقولي وعشماوي، وعندي أخطاء، ومافيا… بس مش واحد قذر، أنا بني آدم طبيعي، لما أسمع واحدة بتصرخ، لازم أجري أساعدها! مش لازم أكون بحبها عشان أنقذها! صدقيني، كل إللي بتعمليه ده، هو الصفر.
ماسة بهدوء تام: بس إنت قلتلي إن حتى المساعدة الإنسانية هاتحرمني منها ده معنى إنك مش قد كلمتك أما بالنسبة لكلمة حب إللي أنا عايزاك تقولها وتعترف إنك خسرت الرهان
سكتت ماسة للحظة، ثم ابتسمت ابتسامة خفيفة جدًا: هفكّر لك في حاجة تانية تثبتلي الحب.
سليم بنبرة قاسية: إنتي لازم تعرفي إنك هنا مسجونة وبس مش من حقك تعملي أي حاجة حتى التحدي!
ماسة بهدوء: أنا مسجونة؟ ماشي، أعتبرنى معاقة ذهنية، بحب أصرخ، بحب أوقع نفسي في حمام السباحة، بحب أولّع في نفسي حتى. إنت كعشماوي؟ غمّض عينك وأدّي لضميرك الإنساني قرص منوم أو، هقولك على حاجة تانية.خلي أصحابك، السجّانين، هما إللي يطلعوا ينقذوا حياتي، مدام إنت حياتي بالنسبة لك مش مهمة.
سليم بملل: أنا مش هدخل معاكي في مناقشات، أنا عايز أنام وبطلي لعب العيال ده.
تركها، وغادر.
دخل غرفته وهو يستشط غضبا شديد ضرب بقبضة يده على الحائط بعنف.
بينما ماسة اخذت تنظر بإبتسامة وهي تقول: هتشوف وحياة الوجع إللي عشته بسببك حتى النوم مش هاتطوله
وهكذا ظلّت تلك هي طريقة ماسة مع سليم، أن تمثل السقوط أو تتظاهر بأنها تأذت من شيء، تحرج نفسها عمدًا، تُسقط بعض الكؤوس، تمتنع عن الطعام طوال اليوم، تتصنع الإغماء، تدّعي التعب، الصداع، أو المغص أي شيء فقط لتثير خوفه، لتدفعه إلى السقوط في الحفرة.
وبالطبع، كان سليم يركض نحوها دون تفكير، فقلبه دائمًا يسبق عقله، رغم أنها في كل مرة تخبره بأنها بخير، وأن لا شيء بها، وحتى إن تأذت فعلًا، ولو بخدش بسيط، كانت تهمس له بتلك الكلمات:
أنا هزمتك المرة دي ستة؟ سبعة؟ تمانية؟ وهكذا…
لكنه، في كل مرة، يقع في المصيدة ذاتها.
ربما كان يعلم أنها تتصيده، لكنه يبتلع الطُعم بمحض إرادته، فقط كي يراها.
فهو لا يراها طيلة اليوم، إذ تظل دائمًا في غرفتها كما نعلم، وإن هبطت للأسفل، تنتظر لحظة قدومه، وبمجرد أن يدخل، تصعد للأعلى، كي لا يراها، وكأنها تدفعه إلى الجنون بشوقه، بعدم رؤيتها، بعدم سماع صوتها، بعدم سماع اسمه على لسانها.
سليم ما زال صامتًا. نعم، يبتلع الطعم، يخاف عليها بدافع ما يسميه إنسانية. ورغم ذلك، لا يلين، لا يعتذر، لا يعترف بالحقيقة.
وما زالت ماسة تحاول.
في المطبخ…
كانت تعدّ الطعام بيديها وفجأة سكبت ماءً ساخنًا على الأرض، متعمّدة، وصرخت بصوتٍ حاد.
سليم، الذي كان جالسًا في الخارج، انتفض من مكانه، وركض إليها، نظر نحوها بعينٍ مذعورة.
لكنها قابلته بنظرة نصر، وابتسامة ثابتة، ثم أشارت له قائلة:
اتناشر – صفر؟ ولا خامستاشر – صفر؟ بقيت بنسى!
رمقها سليم من أعلى إلى أسفل، بعين ممتلئة بالبرود والغضب، ضغط على أسنانه، أمسك بكرة مناديل بجواره، وقذفها صوبها بعصبية، ثم خرج دون كلمة.
أخذت ماسة تضحك بإنتصار، وكأنها تتلذذ بما تفعله، ثم أكملت إعداد طعامها بهدوء خرجت إلى الصالون، تمسك طبق المكرونة بيديها، وجلست تتناولها في سكون.
سليم بضجر : هتفضلي في العبط ده لحد إمتى؟ انتي مش خايفة في مرة تأذي نفسك بجد؟
ردّت ماسة وهي تمضغ بهدوء: إيه ده؟ إنت خايف عليّا؟ لحسن أأذي نفسي؟ يا يا ندمي ووجعي!
سليم بصوت حاد: أنا زهقت منك! مش هقولك تاني اسمي سليم!
نظرت له ماسة من أعلى إلى أسفل، دون أن ترد، ثم تحركت صامتة نحو الدرج، صعدت إلى الأعلى، وأغلقت الباب وراءها بهدوء، كأن شيئًا لم يكن وهكذا مرّت الأيام عشرين يوما كاملة في حرب التحدي لكن ما حدث في ذلك اليوم كان غير متوقع.
غرفة ماسة
الغرفة فارغة، لا يُسمع سوى صوت المياه المنهمرة خلف باب المرحاض، دخل سليم بعد لحظات، يحمل حقيبة سفر متوسطة، مرّ بعينيه على أركان الغرفة كأنه يبحث عنها، ثم توقّف، يستمع إلى صوت المياه، تنهد ووضع الحقيبة على طرف الفراش، لم تمر دقيقة حتى فُتح الباب وخرجت ماسة.
ترتدي برنس حمام أبيض، شعرها المبلل يتدلّى على وجهها، وقطرات الماء تنزلق على رقبتها وأعلى صدرها، تمنحها لمحة من فتنة غير مقصودة، لكن ما إن رأت سليم واقفًا، حتى رفعت يدها على عجل لتُغلق فتحة البرنس، وضبطته بعصبية كأنها تحاول تغطية نفسها كلهاعنه.
انتبه يا سليم لفعلتها تلك ضيق عينه متعجباً قائلا بهدوء وضيق: إنتي بتداري نفسك عني، يا ماسة؟
ماسة بحدة: إيه إللي دخلك هنا؟
سليم يرفع صوته: ردي عليا!
ردت ماسة بصوت أعلى: قلتلك إيه إللي دخلك هنا؟
آه، صح… نسيت!
ارتسمت على شفتيها نصف ابتسامه تحركت وهي تعطيه ظهرها قالت:
إنت تدخل أي مكان على مزاجك نسيت إني جوة سجنك الكبير، ودي مجرد زنزانة تابعة له.
سليم بصوت ثابت: جبتلك لبس من القصر، وهبقى أجيبلك الباقي، مش عايز حد يشوف لبسك، علشان كده بجيبه لك على دفعات بإيدي فهمتي دلوقتي دخلت ليه؟
اقترب منها خطوة، وهدأت نبرته، خرج صوته مشبعًا بألمٍ مزمن، كأرض لم تعرف المطر منذ دهر.
سليم بوجع خلق صوته: يلا ردي عليا، إنتي بتداري نفسك عني أنا؟ أنا يا ماسة؟ أنا سليم حبيبك، ده أنتي المفروض تستخبي جوا حضني مش منه، تستخبي جوايا، ويوم ماتقرري تتداري عن العالم، تداري جوايا في قلبي، إنتي فتحتي عيونك معايا، كبرتي على إيدي، أنا كنت ليكي أب قبل ما أكون زوج، ربيتك، وعلمتك إنتي تربية سليم، تحدياتك ليا، ونظرة عينيكي إللي كانت كلها براءة بقت كلها وجع وتحدي، قلبك إللي كان مسامح لأبعد حد وبقى قوي، ووقوفك قدامي دلوقتي بالشكل ده، وبقيتي نسختي، بقيتي سليم الصغير أنا السبب فيها.
تابع بحزن عميق:
كنت بعلمك علشان تعرفي تتعاملي مع المجتمع القذر إللي حواليكي، مش علشان تتحديني ومع ذلك أنا موافق، بس تتداري مني أنا، كأني واحد غريب؟! هي وصلت بينا لحد هنا كمان؟! إنتي لسة مراتي، لحد اللحظة دي أوعي تنسي إنتي لسة مراتي وملكي ملك سليم، بتاعتي وهتفضلي ملكي لحد آخر نفس وهتفضلي مراتي يا ماسة.
صمت للحظة ثم قال بإهتزاز وحيرة: تعرف لوقات باستغرب إنك بتعملي كده؟! بقعد أبصلك وأسأل نفسي سؤال واحد: ليه؟ ليه فجأة كل حاجة اتدمرت كده؟ لما بروح القصر كل ركن بيفكرني بيكي حتى اوضتنا إللي كانت مملكتنا قصرنا الصغير فجأة بقى كابوس بقعد افتكر ضحكنا، الذكريات والأمنيات والوعود وأقعد اسأل نفسي راحت فين ؟! ليه كده؟! ليه قولي لي ليه؟! قصرت في إيه عملت إيه؟! عشان تدمري حياتنا في لحظه من غير حتى ربع سبب؟!
نظرت له ماسة بعينين دامعه، بنبرة خذلان: إنت السبب انت اللي دمرتنا ودلوقتي انت بتشرب من نفس الكاس، انت السبب مش انا يا سجاني.
سليم بإنفعال: لأ! إنتي السبب! إنتي إللي هربتي
أنا سألتك كتير يا ماسة مالك؟ وما كنتيش بتردي ولحد دلوقتي نفس العند! مش عايزة تريحيني عايزه تجننيني وبس، عايزة تنتقمي عايزة تثبتي إنك نجحتي في الرهان أنا دورت تاني ماوصلتش لحاجة..
صمت للحظة واحدة وهو ينظر لها بتعب قال:
أنا تعبت زهقت، من عندك زهقت من التحدي إللي مالوش معنى إللي مابيخلصش باستسلم، يا ماسة، باستسلملك…
تنفس بوجع وهو يهز راسه بإيجاب بإبتسامة ألم:
طريقتك التافهة في التحدي، إللي دايمًا بتوصلك إنك تعرضي نفسك للخطر، جابت نتيجة! رغم إني دايمًا كنت عارف إنك بتمثلي، وإنك بتحاولي توصليلي رسالة، كنت بخاف، بقول يمكن المرة دي لأ، يمكن في حاجة بجد، وأوقات تانية من غير ما عقلي حتى يفكر للحظة، بلاقي نفسي كأني انجذبت زي المغناطيس! فجأة الدنيا كلها بتتوقف في اللحظة إللي إنتِ فيها بتصرخي. عقلي، وقلبي، وروحي، عيني، جسمي كله بيتجمد، في فكرة واحدة اللي بتسيطر عليا: “ماسة بخطر!” كل جهاز في جسمي بيصرخ في لحظة واحدة: “خطر! أجري!” وكلهم بيجروا عليكي من غير مقاومة، من غير تفكير، وكل مرة أقول: المرة الجاية مش هتحرك من مكاني، بس كل مرة بجري بنفس اللهفة، بنفس الخوف، بنفس القلق، كأني مستمتع بكل مرة بتصطاديني فيها كأني سمكة غبية بترجع لنفس المكان علشان صيادها يصطادها بسهولة.
تابع بعين دامعة بقلب منفطر بإعتراف:
أنا باعترف، أيوه، إنتِ كنتي صح. أنا يا ستي بحبك، ومابعرفش غير إني أحبك، وإن إللي بيحصل ده مش إنسانية، أنا مابعرفش غير أعشق ماسة وبس، أنا إللي راهنت على الحصان الخسران، أنتي كسبتي والله كسبتي، إللي عملتيه ده خلاكي تكسبي رغم بساطته وأنه مكشوف خلاني أعلن استسلامي بعد ٢٠ يوم انا تعبت، مش قادر، مش قادر بجد كفاية عايزة إيه تاني.
نظرت له ماسة بإبتسامة تعلو ثغرها بانتصار وهي تقول بنبرة مليئة بالتفاخر والهدوء:
أنا مش عايزة حاجة أكتر من كدة، إنك اعترفت إني كسبت الرهان، ومن اللحظة دي، هندخل مرحلة جديدة خالص، مرحلة إني آخد حقي، حقي في وجع قلبي، حقي في إللي عملته فيا، وفي أهلي إنت خذلتني ووجعتني، بس أنا هوجعك من هنا زي ما قولتك.
تلامست بيدها قلبه نظرت له بتحدي:
مش إنت زمان وأنا صغيرة كنت بتقول لي كل سنة هانعيش مع بعض مرحلة جديدة في علاقتنا لحد ماتكبري وتدخل معايا ليفل الوحش ها
رمش سليم بعينه بصمت بقلبه منفجر من الألم، أكملت ماسة على ذات الوتيرة:
أنا هتعامل معاك بنفس الطريقة بس مش بالسنين، تؤ بالأيام أسابيع، مش هتوصل لشهور كل مرحلة هنخلصها هندخل في مرحلة تانية أصعب، هفضل أوجعك لحد ماتصرخ وتقول لي كفاية وساعتها ترميني برة الفيلا بإرادتك.
سليم بثقة قال بألم بنبرة مكتومة: مش هيحصل مش هيحصل يا ماسة وإنتي عارفة.
ماسة تبسمت: خلينا نجرب، هنخسر إيه أدينا بنتسلي لازم تدفع الثمن كل الوجع إللي أنا عشته وبعيشه يا قاتل.
حدّق فيها سليم بعينين يملأهما الغضب المجروح، لكن نبرته جاءت هادئة، أقرب للعتاب منها للغضب الحقيقي:
وإنتِ ماوجعتينيش؟ لما هربتي؟ لما سبتيني؟ لما اتخليتي عني؟ لما اتخليتي عن حبنا ووعدنا؟ وخليتيني أحس إني كنت في حرب، وإنتِ كنتي سلاحي إللي بحارب بيه أعدائي، دراع الحماية والسلاح إللي بواجه بيه الدنيا، كنتي قوتي ودعمي وصبري، وفي الآخر، لقيت نفسي بموت وأنا عايش، وبتطعن من كل إتجاه ولما بصيت، لقيت إللي بيطعني هو إنتِ، إنتِ مش تاني، خليتيني أشعر بشعور قاسي، علشان كده كنت غضبان أوي، ولسة غضبان ولسة مجروح ولسة قلبي زعلان منك، فعلاً كسبتي الرهان، ولسة بحبك بعشقك ولسة إنتِ عشقي الابدي، بس أنا كمان لسة زعلان منك، وهتفضلي جوه عقاب، زي ما إنتِ بتحبيني وبتعاقبيني، أنا كمان بحبك، وبعاقبك على إللي عملتيه.
ماسة بهدوء، وعيناها تلمعان بدموع حبيسة، تكاد تسقط لكنها تصر على التماسك:
حب مع عقاب؟ ماينفعوش الكلمة نفسها غريبة، بس عارف؟ إنت فعلاً بتعرف تحب وتعاقب، تحب وتقسى إنت غريب، ومريض نفسي، إنت لازم تتعالج، لإنك بشكل ده، ماحدش هيعرف يعيش معاك دقيقة، بتقول إنك اتطعنت مني، وإن خذلاني ليك زي العسكري إللي انهزم بسلاحه، مش بأعدائه بس إنت كمان عملت كده بالضبط، حتى لو أنا هربت من غير أسباب، علشان ماتحملتش المسؤولية، مدلّعة وماحبتش كفاية، بس رد فعلك كان قاسي كان وحش أوي، إنت دمرتني. كسرت قلبي وضهري وخليتني أخاف منك إنت خلّيتني إنسانة وحشة شبهك، إنت موتني ماسة، البنت الصغيرة البريئة إللي بفستان بورد وفراشات ماتت، وجت مكانها واحدة تانية ، لما أبص في المراية، مابعرفهاش، بس بحبها مش بكرهها، عشان هي إللي بتحميني من حبك المؤذي ومن ضعفي ليك ومن إني أستسلم ولا حتى ثانية بيني وبين نفسي حتى، حتى الإنسانية قتلتها عشان لو شفتك بيحصل لك حاجة ماتهزش وبعدين انت بتقارن ايه بايه؟! انت واحد مجرم وقاتل لكن انا كنت بعمل شويه حاجات تافهه انت كنت هتقتل اخويا هددتني باهلي.
ثم مسحت دموعها، تنفّست بعمق، واقتربت منه.
تأملت وجهه للحظة، رفعت يدها إليه، وصوتها امتلأ بالقهر:
والله لأحرقلك قلبك زي ما إنت حرقتلي قلبي وطعنتني وإنت باصص جوا عيني، وإنت بتهددني بأهلي وإنت بترفع مسدسك على أخويا وبتدوس على الزناد من غير مايتهز لك جفن وحياة الثلاث أيام إللي سبتني محبوسة فيهم وتوسلاتي ليك تفتحلي او حتى تخلي سحر معايا، ومنعي للأكل وإنت عارف وسبتيني مافرقش معاك، وكلامك إللي زي السم وبنتى إللى وجعتني بيها لا هتشوف يا سليم وهدوق من نفس الكاس ولعلمك انت ماكنتش هتخرجني انا لولا أني تعبت، اقسم بالله كنت هكمل الاسبوع إنسان قاسي.
سليم بنبرة منهزمة، صوته خرج خافتًا، يحمل داخله عاصفة من الندم والخذلان:
أنا ما كنتش هموّت عمار أنا كنت بوقفه، هو استفزني استفزني جدًا أنا كم مرة قدام عينك قلت له يمشي؟ وهو فضل واقف ومع ذلك أنا آسف، ما كنتش أقصد والله ما كنت أقصد أنا عارف إني غلطت، وكان ممكن أحلّ الموضوع بطريقة تانية، بس كانت لحظة غضب، غضب مجنون، بس صدقيني ورحمة بنتنا أنا ماكنتش هقتله، كل إللي شُفته ساعتها إنه بيخطفك بياخدك من بين إيديا بيتحداني وإنتِ عارفة كويس إنتِ عندي إيه سامحيني ياماسة أنا اسف.
رمقته ماسة بنظرة قاسية، ونطقت كلماتها بمرارةٍ مقصودة، كأنها تُمعن في جرحه بكل لفظ:
اعتذارك مش مقبول ولا هيتقبل، الرصاصة كانت ممكن تقتله، كنت هتعمل إيه وقتها؟ قولي!
كان فيه ألف طريقة توقفه بيها، كان ممكن تشاور بصباعك وتخلي كلابك إللي تحت دول لا، لاااا
أنا كدة بظلم الكلاب، خنازيرك إللي تحت دول يخرجوه هو وأمي برا؟ كنت هبلعها ما إنت عملتها قبل كده مرتين، وأنا سكت! بس المرة دي؟
إنت اخترت الطريقة إللي تشبهك، الطريقة إللي تقول لعمار: إنت مش قدّي، أنا فوقك، أنا إللي بقرر مين يعيش ومين يموت، الرصاصة دي كانت تهديد منك إنت نفسك قلتها: “المرّة الجاية الرصاصة هاتصيب الهدف إنت كنت عارف بتعمل إيه، إنت ماكنتش بتتصرف كزوج، ولا كأب، ولا حتى كراجل خايف على مراته إللى هاتروح منه، إنت اتعاملت بطريقتك طريقة عشماوي الراوي، رجل المافيا مجرم قاتل، دي حقيقتك دي صورتك الحقيقية، إللي أنا كنت معمية عنها سنين رغم إنها كانت باينة، وضوح الشمس، من يوم ماتخطفت بس أنا؟ أنا إللي كنت غبية… غبية أوي.
تراجعت خطوات وهي تضيق عينيها تابعت: كنت بتسألني ليه بداري نفسي عنك؟ أنا لازم أداري نفسي طبعاً..
تابعت بإستنكار وأشمئزاز بدموع أغرقت وجهها:
مراتك إيه؟ يا ندمي ويا وجعي، أنا أصلاً ماعتبرتش نفسي مراتك من اللحظة إللي رفعت فيها مسدسك على أخويا، وهددتني بأهلي، وهونت عليك تسيبني ثلاث ايام محبوسه، كنت المفروض أحتمي في حضنك، بس حضنك دلوقتي بحاول أحمي نفسي منه، تفتكر هاستأمن نفسي تاني معاك استحالة؟
سليم بضجر بقلب منفطر يحاول الدفاع عن نفسه: ده كان رد فعل، يا ماسة، على إللي إنتِ عملتيه. كنتِ عايزاني أعمل إيه؟ بقولك اتوجعت اتوجعت كنت مقهور منك.
هزت ماسة راسها بخذلان بعينين أغرورقت بدموع، نظرت إليه باستنكار، وكأنها لا تصدق ما تسمعه: بلاش الكلام ده “رد فعل”؟ فيه رد فعل كده؟ واحد بيحب وبيعشق يأذي؟! حبك مؤذي، إللي بيحب مابيساومش حبيبه على نقاط ضعفه، مابيفكرش حتى يعملها، لكن إنت عملت ونفذت، إنت مريض، الإيد إللي كنت باستند عليها وبتحاما فيها، وكانت أماني، للأسف هي إللي سحبتني لجهنم، لمجرد غلطة، عارف إنت بالنسبة ليا دلوقت ايه؟!، زي العكاز إللي خانك وإنت صغير؟ أنا خلاص بقيت بكرهك، وهكرهك أكتر، وهرميك من قلبي زي ما برمي حاجة اي حاجة، صفحة في حياتي هقطعها، وهرميها، ولا هبص ورايا للحظة؟ إنت انتهيت بالنسبالي.
حاولت تتحرك أمسك يدها بمنع بعينين تترقرق بدموع بألم عصف به، نظرت له بضجر وهي تسحب يدها من بين يده: عايز إيه؟!
أمسك سليم يدها، ونظرات عينيه مشبعة بدموعٍ محبوسة، قال بصوتٍ متهدج: فرصة.
نظرت له ماسة، عيناها ضاقت وهي تنظر بجمود. أجابها سليم بنبرة مجروحة: أنا مش هنكر إني لسة موجوع، متعصب أوي، بس بحبك، وماعرفتش أخرجك من قلبي حتى ثانية، تعالي نبدأ من جديد ننسى إللي فات، بصي، مش عايز أعرف هربتي ليه، بسبب أو من غير سبب، مش مهم، خلينا نرجع نطوي الصفحه دي نبتدي على صفحه بيضاء، أنا بحبك يا ماسة متمسك بيكي، عارف إني زودتها معاكي بس حقيقي كان غصب عني، خليتيني احس نفسي الاحساس البشع اللي بحسه مع فايز، أنا مش حابب علاقتنا توصل لكدة، مش هخسرك، أنا لما بتفرج علينا من بعيد وبشوف إللي وصلنا ليه بتقهر خلينا ننسى ونرمم جرحنا مع بعض ننسى كل إللي فات.
ردت بنبرة قاطعة لا تقبل الجدال: إنت بتحلم حنا مستحيل نرجع تاني ومبقيناش احنا، بقينا انت وأنا.
سليم بوجع عصف قلبه: لا يا ماسة هنفضل احنا مستحيل نبقى انا وانتى بعدين ليه لا مادام لسة بنحب بعض ليه مانسامحش بعض أنا مسامحك حتى لو لسة زعلان بس مسامحك؟
ماسة صاحت بمرارة مش أنا إللي قلت عليها ماستاهلش تكون أم؟ ماستاهلش حبك؟ واحدة جبانة، وأنانية، كل مرة بتشوفني فيها بتندم إنك حبيتني! إيه إللي حصل؟ مش خايف أعيد نفس إللي عملته تاني؟
سليم هز راسه نافياً: لا مش خايف.
ماسة بشدة ممزوج بإشميزاز: أفهم بقى، أنا بقيت بكرهك وبحتقرك، مش عايزة أتكلم معاك، حتى الكلام معاك بيستفزني، بيخنقني، بيقفلني، إنت شخص مريض ومجرم، ومش هقولك تاني، بقيت بخاف منك، ومش هستأمن نفسي عليك تاني، أنا لو منك تطلقني، لو عندك ذرة رجولة واحدة.
اقترب منها، قال بصوت مشوب بالإصرار: مش هطلقك مش طلقك.
ماسة بإستفزاز: ماتطلقش، وخلينا كده بقى، مع بعض، لحد مانشوف مين نفسه إللي هيتقطع الأول، نسيت اديك حاجة مهمه مبقاش له مكانه في حياتي.
فجأة، خلعت الخاتم من إصبعها وألقته في وجهه، كأنها لم تخلع خاتمًا، بل اقتلعت قلبه من موضعه ثم تركته، ودخلت الحمام، وأغلقت الباب خلفها بقوة بالمفتاح، أمسكه سليم بسرعة، كأن يده سبقت وعيه، كأن روحه رفضت تصديق
ما رآه، كأن قطعةً منه سقطت فجأة من السماء وتحطّمت أمامه.
اقترب، وبدأ يطرق الباب بشدة، صوته يرتفع: تعالي هنا إحنا ماخلصناش كلامنا! أفتحي الباب! ماسة أفتحي الباب بقولك أفتحي..ماسة ماسة
ثم ضرب الكرسي المجاور بغضبٍ بقدمه، وتكاثف صوته أكثر وهو يضرب على الباب: ماسة أفتحي الباب! كلامنا ماخلصش، لسة! أفتحي با أقولك أفتحي!
لكنها لم تفتح، ظلت واقفة خلف الباب، صامتة، مستسلمة لهدوء مؤقت، بدموع تغرق عينيها بألم، وضعت يديها على قلبها وهي تقول: اوعى تستسلمي اوعي تستسلمي.
أما هو، فظل يطرق الباب بعنف، ويهتف دون توقف، دون جدوى.
ثم تراجع خطوة، وقال بصوت أكثر جنونًا، يائسًا لكنه واثق والخاتم بين يده: ماشي أقفلي، بس لازم تفهمي دي مش النهاية! واستحالة أطلقك. ومش هسيبك يا ماسة، ومش هوقف أي حاجة بعملها، غير لما ترجعي لي تاني وهتشوفي، وأنا كمان يا ماسة باتحداكي إنت كمان بتحبيني وهتضعفي قصادي وهتشوفي، ولو أنا غلطت فإنت السبب في غلطي! إحنا الأتنين غلطنا إحنا الاتنين وجعنا بعض، وإنتِ كمان بقيتي بتعملي زيي بالضبط ياماسة بتحبي وبتنتقمي عشان تعرفي احيانا الوجع بيخليكي تعملي افعال انت مش عارفه تعمليها ازاي.
لكنه لم يتلقَ أي رد، ظلت خلف الباب، صامتة تمامًا، توجه نحو أحد الأنتيكات، وقام بتحطيمها بغضب وهو يصرخ، ثم خرج إلى الخارج.
الحديقة
هبط سليم إلى الحديقة، وكأنها قذفته بقنبلة نووية أطاحت به بلا رحمة، توقّف في المنتصف، الدموع تنهمر من عينيه، وقلبه يبكي، وروحه تحترق الوجع ينهش صدره، وأنفاسه تتلاحق، كأن روحه تتصاعد مع كل زفرة.
وفجأة صرخ…صرخة رجولية مبحوحة، جهورة، زلزلت أركان المكان خرجت من أعماق رجلٍ محطّم، يائس، مكسور، معذّب وكأنه يرى حياته تنهار أمامه، قطعةً بعد أخرى:
ليه يا رب؟! ليييه؟! ليه كل حاجة انهارت؟! كل حياتي انهارت! ليه خدتِها مني؟! أنا اتغيرت، عملت المستحيل عشان أبقى بني آدم كويس! علشان استهلها اتستغفرت وتوبت وبعدت عن الطريق الشر ليه أخسرها؟! ليه اتعقاب بيها، أنا مش قد الوجع ده، ولا حتى الاختبار ده اختبرني في أي حاجة غيرها هي النور إللي في حياتي ما تاخدوش مني، أنا موافق إنك تنتقم مني بس بلاش هي، بلاش هي..
شهقته اختنقت داخله، وركع على ركبتيه، واضعًا يده على قلبه الذي ينبض بجنون، كأنّه يصرخ هو الآخر:
لو تعرف لو تحس أنا بحبها قد إيه؟! لو تعرف مكانتها في قلبي عاملة إزاي؟! ما كانتش فكرت تبعد عني ولا حتى ثانية كانت سامحتني
مسح وجههه بألم:
بس هي عندها حق أنا وجعتها أنا غلطت غلطة كبيرة هي حقها تعمل كدة وأكتر؟!
نظر الى الخاتم وهو بين يده، وصوته مبحوح، ميت من داخله قال بقسم: بس والله ما هسيبها، والله ما هسيبها تضيع مني،
أنا هرجعها، حتى لو كان آخر نفس فيا، أنا عارف إنك بتحبيني يا ماسة، وعارف إنك كمان موجوعة، بتعملي كده من وجعك، بس أنا هرجعك، هرجع لحياتي وهرمم بيتنا من جديد مستحيل اسمع تكون دي النهايه..
نهض وأمسك هاتفه وقام بالاتصال بمكي:مكي أسمعني كويس

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية الماسة المكسورة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock