رواية خيوط النار الفصل الأول 1 بقلم نورهان موسى
رواية خيوط النار الفصل الأول 1 بقلم نورهان موسى
رواية خيوط النار البارت الأول
رواية خيوط النار الجزء الأول

رواية خيوط النار الحلقة الأولى
بين أروقة المنزل…
كانت “عائشة” تتحرك بخفة ونشاط، وكأنها ترقص على أنغام صباح دافئ ينبض بالحياة. خطواتها السريعة كانت تعكس التفاني الذي تضعه في كل حركة، والحب الذي تصبه في تفاصيل يومها الصغيرة. كانت تُعد طعام الإفطار لأشقائها كعادتها كل صباح، وعيناها اللامعتان تتأملان المطبخ الذي عبق بروائح الطعام، كأنها تعدّ مائدة من الحب لا الطعام فقط.
تنهدت بعمق، وقد شعرت بإرهاق خفيف يتسلل إلى جسدها بعد ساعات من التحضير، لكنه لم يكن كافيًا ليُثنيها عن مهمتها اليومية التي تعتبرها واجبًا مقدسًا. كانت تعلم أن تلك اللحظات البسيطة هي ما يصنع دفء البيت، وسعادة أحبتها.
وضعت الأطباق بعناية على الطاولة، نظرت إليها برضا، كأنها لوحة أبدعتها بيديها. الألوان، الترتيب، وحتى رائحة الخبز الساخن… كلها كانت تعكس حبًا صادقًا ينبع من قلبها.
توجهت إلى غرفة أختها الصغرى “ندى”، وطرقت الباب بلطف، ثم فتحت جزئياً وهي تقول بصوت حنون، تغلفه ابتسامة الأمومة:
ــ “ندى، حبيبتي… يلا قومي، هتتأخري على المدرسة. يلا يا كسلانة.”
تقلّبت “ندى” في فراشها، ثم ابتسمت بخجل وعيناها لا تزالان مغمضتين، وقد شعرت بدفء صوت شقيقتها يتسلل إلى قلبها ليوقظها من عالم الأحلام.
ــ “صباح الخير يا عائشة…”، تمتمت بها بتثاؤب وهي تمد ذراعيها في الهواء، وكأنها تعانق الصباح.
ردّت عائشة بابتسامة واسعة، امتلأت بالحب والحنان، وراقبت بعينٍ دافئة حركة ندى وهي تنهض من سريرها، كأنها تراقب زهرة صغيرة تتفتح أمام عينيها.
تركت الغرفة بخطى خفيفة، ثم توجهت إلى غرفة “يوسف”، أخيها الأكبر، فوجدته يؤدي صلاته. وقفت عند الباب بصمت، وعيناها تمتلئان بالفخر. يوسف لم يكن مجرد أخ، بل كان السند، والقدوة، والابن الذي تحمله أمهم في دعواتها ليلًا. التزامه وصلاته رغم ضغط العمل والدراسة، كانت بالنسبة لها مصدر طمأنينة لا توصف.
انتهى يوسف من صلاته، التفت نحوها فوجدها تبتسم له بلطف، فقالت بصوت يملؤه الاحترام والمودة:
ــ “حرمًا يا حبيبي.”
ابتسم يوسف، وقد التمعت عيناه بدفء الألفة الأخوية:
ــ “جمعًا إن شاء الله، يا حبيبتي.”
اقتربت منه لتشجعه على الاستعجال، وقالت بنبرة تجمع بين الجدية والحنان:
ــ “يلا، إلبس بسرعة عشان تلحق تفطر معانا قبل ما تنزل.”
أجابها يوسف وهو يفتح خزانته ويحضّر ملابسه:
ــ “حاضر يا حبيبتي… دقايق وأحصلك.”
عادت “عائشة” إلى طاولة الطعام، وجلست تتأمل الأطباق من جديد، لكن هذه المرة كانت عيناها شاردة، تفكر في تلك اللحظات التي تجمعهم حول المائدة. لحظات تبدو عادية في ظاهرها، لكنها تحمل في أعماقها سكينة لا تُشترى.
بعد دقائق، خرج يوسف من غرفته، وتبعته ندى بخطوات متعثرة، وجلسوا جميعًا حول الطاولة. بدؤوا يتناولون طعامهم وسط أجواء دافئة، حتى قطع يوسف الصمت فجأة، وهو يضع الملعقة جانبًا، ينظر إلى عائشة نظرة لم تخفَ عنها، نظرة تحمل تساؤلاً حائرًا:
ــ “عائشة… هو إنتِ عندِك دروس بعد المدرسة النهارده؟”
رفعت عائشة حاجبيها بدهشة، ولم يخفَ على وجهها الاستغراب من سؤاله المفاجئ، قالت وهي تحاول تفسير استغرابها:
ــ “لأ… النهارده شغل المدرسة بس، مفيش دروس. ليه بتسأل؟”
ارتبك يوسف للحظة، حاول أن يخفي ارتباكه بابتسامة خفيفة، لكنه لم يكن مقنعًا، فقال بصوت متهدج:
ــ “لا… عادي يعني. بسأل وخلاص.”
رمقته بنظرة شك، شيء ما في نبرة صوته، في ملامح وجهه، في طريقته وهو يتهرب من الإجابة… كل ذلك جعل قلبها ينقبض. شعرت أن هناك شيئًا يُخفى عنها، لكنها لم تُلح. اكتفت بالصمت، واكتسى وجهها بحذر غير مُعلن.
بعد الانتهاء من الإفطار، نهضت بهدوء، حملت حقيبتها، وقبّلت رأس يوسف وهمست له بدعاء خافت، ثم احتضنت ندى بقوة، كأنها تودّعها دون أن تدري لماذا أحست بشيء غريب في صدرها.
“عائشة محمد”… لم تكن مجرّد معلمة تاريخ، بل كانت روحًا نابضة بالحياة، مثالاً للأخلاق والطيبة. في الخامسة والعشرين من عمرها، لكنها تحمل نضج امرأة عاشت ألف حياة. عيناها السوداوان كانتا تختزلان أحلامًا مؤجلة، وحنينًا دفينًا لا تبوح به. خصلات شعرها الكثيفة كانت دائمًا خلف حجابها، لكن بريق روحها كان ظاهرًا في كل ما تفعل.
ومع كل خطوة تخطوها خارج الباب، كانت تحمل في قلبها دعاءً خافتًا، بأن تبقى عائلتها بخير… وأن يظل هذا البيت عامرًا بالحب كما هو، قبل أن يأتي اليوم الذي سيتغيّر فيه كل شيء…
********
استفاق “يونس” من نومه على شعورٍ منعشٍ يملأ صدره، وكأنه يتنفس الحياة من جديد. كان صباحًا مختلفًا، فيه شيء من الهدوء العميق، ونسيمٌ من الطمأنينة تسلل إلى قلبه دون استئذان. نهض من سريره وهو يشعر بخفةٍ لم يعهدها منذ أيام، كأن روحه تطلعت إلى بداية جديدة تحمل في طياتها وعدًا خفيًا بالسعادة.
دلف إلى الحمّام، والماء المنهمر على جسده بدا وكأنه يغسل عن كاهله ثقل الأيام الماضية. كان يستمتع بالهدوء، ويدع لقطرات الماء أن تأخذ معها تعب العمل، وإرهاق المسؤولية، وهموم القلب التي لطالما خبأها خلف ملامحه الهادئة.
بعد أن ارتدى ملابسه، خرج إلى غرفة الطعام، فوجد “مريم” منشغلةً بترتيب المائدة. كانت تتحرك بخفة وأناقة، شعرها الأشقر ينسدل بنعومة على كتفيها، ووجهها المستدير يضيء بابتسامة صباحية دافئة. نظر إليها “يونس” وابتسم ابتسامة عريضة، امتلأت بالحب والامتنان:
ــ “صباح الخير يا مريوم.”
التفتت إليه، وعيناها التقتا بعينيه، فغمرتها سعادة غير موصوفة، وردّت بابتسامة مشرقة:
ــ “صباح النور يا حبيبي، يلا عشان تفطر قبل ما تتأخر.”
جلس “يونس” إلى الطاولة، وبدأ يتناول طعامه، لكن عينيه لم تفارقا “مريم”. كان يتأمل ملامحها التي بدأت تنضج، تفاصيل وجهها التي صارت تشبه والدتهما الراحلة، وكأن الزمن أعادها إليه في هيئة أخته الصغرى. عيناها البنيتان كانتا تشبهان حبّات البندق، وشعرها الأصفر اللامع بدا له كخيوط من الذهب تحت أشعة الصباح.
شعر بوخزة حنين في قلبه، وكأن الماضي عاد ليصافحه، ثم يغادر بهدوء. لقد كبرت “مريم”، لم تعد تلك الطفلة التي كان يحملها على كتفيه، لقد أصبحت شابة تقف بثقة، لكن في نظره، كانت دائمًا “بنوتته الصغيرة”.
لاحظت “مريم” نظراته المتأملة، فسألته بفضول وخجل:
ــ “بتبصلي كده ليه يا أبيه؟”
أجابها بابتسامة دافئة، وصوت حنون يحمل بين طياته مزيجًا من الفخر والدهشة:
ــ “بشوف بنوتي الصغيرة اللي بقت آنسة زي القمر… وكلها سنة وتدخلي الجامعة. الزمن بيجري يا مريوم.”
احمرّت وجنتاها خجلًا، وأخفضت عينيها وهي تبتسم، وقد غمرها شعور عذب، مختلط بالحياء. ضحك “يونس” بخفة وهو يراقب ردّ فعلها، فقد كان خجلها يذكره ببراءتها، بجوهرها النقي الذي لم تُغيّره السنوات.
قال مازحًا:
ــ “يلا يا خجولة، عشان أوصلك المدرسة قبل ما اتأخر أنا كمان.”
أومأت برأسها بحماس، وركضت لتحضر حقيبتها. وفي تلك اللحظة، شعر “يونس” بسعادة صافية، خالية من أي شوائب، كما لو أن هذا الصباح يحمل في طياته طمأنينة نادرة.
ركبا السيارة، وانطلقت بهما نحو المدرسة. كانت الطريق هادئة، لكن الأجواء بينهما كانت عامرة بالحب والتفاهم. “مريم” لم تكن فقط أخته، بل كانت كل عالمه، كل ما تبقى له بعد أن فقد والدَيه. كانت أمله، وسببًا لصموده في وجه الحياة.
عندما وصلا إلى المدرسة، ترجلت “مريم”، ثم التفتت إليه وابتسمت ابتسامة واسعة تفيض بالحب والامتنان، ولوّحت له بيدها الصغيرة. تابعها بعينيه، يراقب خطواتها حتى اختفت داخل أسوار المدرسة، ثم أدار المحرك، لكنه توقف للحظة. نظر إلى البوابة، وابتسم ابتسامة حالمة:
ــ “ملاك حياتي… هي السبب إني واقف على رجلي لحد النهارده.”
أخذ نفسًا عميقًا، وأدار السيارة من جديد، متجهًا إلى عمله. وفي قلبه كانت تسكن صورة فتاة أخرى، تحمل مكانًا خاصًا لا يمسه أحد… “عائشة”، تلك المرأة التي أسرت قلبه بصمتها وقوتها، والتي رآها تتحمل فوق طاقتها لتصنع لأخوتها عالمًا آمنًا، بعد أن رحل والداهم وتركوا فراغًا موحشًا.
يونس لم يكن مجرد ضابط شرطة، بل كان رجلًا يحمل قلبًا نقيًا، وروحًا مرهقة لا تستسلم. في التاسعة والعشرين من عمره، بجسده الرياضي وملامحه المستديرة التي تعكس طيبته، كان يواجه الحياة برباطة جأش، ويخوض المعارك اليومية بثبات. لم يكن فقط الأخ، بل الأب، والسند، والملجأ، وكانت “مريم” بالنسبة له الأمان الذي يسعى جاهدًا لحمايته.
بينما كان يقود سيارته، غزته الذكريات… رأى نفسه شابًا يحمل “مريم” الصغيرة على كتفيه، يركض بها في الحدائق، ويضحكان سويًا كأن العالم كله لا يسعهما. ضحكتها ما زالت تتردد في أذنه، كأنها موسيقى تداوي الجراح القديمة.
أما في المدرسة، كانت “مريم” تجلس وسط صديقاتها في ساحة الفناء، تحاول أن تبدو واثقة، لكنها في أعماقها كانت تشعر بشيء من التوتر. كلمات “يونس” عن اقترابها من الجامعة، كانت تتردد في ذهنها، توقظ القلق في قلبها الصغير.
لكنها كانت تعرف… أنها لا تواجه العالم وحدها.
تحدثت لصديقاتها بحماس عن أحلامها، عن رغبتها في دراسة الإعلام، كانت تتحدث بعينين تلمعان بالأمل. أرادت أن تكون صوتًا للحق، ونافذة للنور، أن تُحدث فرقًا كما يفعل أخوها في حياته اليومية. كانت تحلم بأن تصبح إعلامية قادرة على إيصال صوت من لا صوت لهم، أن تُكمل الطريق الذي بدأه “يونس”… على طريقتها
وصلت “عائشة” إلى عملها بعد معاناة طويلة في زحام المواصلات، جسدها منهك وروحها مثقلة بالهموم، وكأن كل خطوة كانت تسحب من طاقتها قدرًا. شمس الصباح لم تكن كافية لتدفئة قلبها المتعب، دلفت إلى غرفة المعلمين، حيث تعالت بعض الضحكات وأحاديث الزملاء، لكن أذنيها لم تلتقط منها شيئًا. كانت غارقة في صمتها، في دوامة من الأفكار التي تنهش عقلها بلا رحمة.
جلست على أحد المقاعد، وضعت حقيبتها بجوارها، وأسندت رأسها للحائط للحظات. لم تكن تنتظر فقط موعد الحصة القادمة، بل كانت تتوق إلى لحظة من السكون؛ لحظة تهرب فيها من صخب الحياة، لتفكر قليلًا بعائلتها، وبما ينتظرها من تحديات قادمة.
قطع شرودها صوت مألوف يحمل نبرة مرحة اعتادت أن تراها طوقًا من البهجة، لكن اليوم كان ثقيلًا على قلبها.
قالت “شهد” وهي تقترب منها، مبتسمة بطريقتها المعتادة:
“صباح الخير يا شوشو.”
رفعت “عائشة” عينيها نحوها، وابتسمت ابتسامة باهتة، تخفي وراءها تعبًا لا يُرى:
“صباح النور يا حبيبتي، كيف حالك؟”
جلست “شهد” بجوارها، نظرتها تتفحص ملامح صديقتها بفضول خفي، وكأنها كانت تنتظر لحظة مناسبة لتفتح باب الحديث الذي يدور في رأسها منذ الأمس
قالت بلهجة مرحة مصطنعة:
“الحمد لله… بخير، ها بقى، احكيلي عملتي إيه مع العريس إمبارح؟”
ارتجف قلب “عائشة” قليلًا، وانسحبت ملامحها إلى برود واضح، كأنها أُجبرت على مواجهة شيء لم تكن مستعدة له. أجابت بنبرة قصيرة خالية من الحماس:
“زي اللي قبله… محصلش نصيب.”
رفعت “شهد” حاجبًا باستهزاء خفيف، وارتسمت على فمها ابتسامة ساخرة:
“طبعًا… موضوع إخواتك تاني! يا بنتي شوفي حياتك، وعيشي لنفسك شوية.”
شعرت “عائشة” وكأن شيئًا ينفجر داخلها، لكن كبرياءها منعها من الانفعال، فحاولت السيطرة على انفعالاتها، إلا أن صوتها خرج حادًا، يحمل جرحًا لم يلتئم:
“إيه اللي انتي بتقوليه ده؟ إخواتي أهم من الدنيا كلها بعد موت بابا وماما… أنا ماعنديش غيرهم.”
بدت على “شهد” ملامح التراجع السريع، لكنها حاولت إخفاء نبرتها المتعالية خلف ستار من الأسف المصطنع:
“أنا آسفة… مش قصدي أجرحك. بس يعني كده هتفضلي لوحدك؟ مش هتتجوزي خالص؟”
شعرت “عائشة” بخنجر يغرس في صدرها، ليس فقط من كلمات “شهد”، بل من الواقع المؤلم الذي تعيشه كل يوم. نهضت من مكانها، تخفي ما بداخلها من انكسار، وقالت بحزم:
“بعد إذنك… عندي حصة دلوقتي، وبعدين ممكن نكمل.”
تركتها ورحلت، تخفي داخل خطواتها غضبًا مكتومًا، ونارًا تشتعل في قلبها، بينما كانت “شهد” تتابعها بنظرة حاقدة هامسة لنفسها:
“طبعًا، عندك حق تتشرطي… كل يوم عريس داخل وعريس خارج.”
كانت خطوات “عائشة” نحو الفصل بطيئة، كأنها تمشي وسط صراع داخلي بين واجبها تجاه إخوتها، وضغط المجتمع الذي لا يرحم. كانت كلمات “شهد” ترن في أذنها كصفعة: “هتفضلي كده طول عمرك؟” شعرت بأنفاسها تضيق، وبقلبها يتمزق بين ما تريده لنفسها وما يجب عليها فعله من أجل إخوتها.
حين دخلت الفصل، حاولت أن تجمع شتات روحها، أن ترتدي قناع المعلمة القوية، لكنها لم تستطع طرد تلك الغصة من قلبها. كانت تنظر إلى الطلاب وتحاول التفاعل، بينما عقلها يحارب طوفانًا من الأسئلة: كيف أعيش لنفسي وأنا مسؤولة عن غيري؟ كيف أتجاهل نبرات الشفقة واللوم؟ كيف أتظاهر بالقوة وأنا أضعف ما أكون؟
أخذت نفسًا عميقًا، وشدت من أزر نفسها، ثم ابتسمت رغماً عنها. وقفت أمام طلابها، مستعدة لأن تكون المعلمة التي يحتاجونها، حتى لو كان قلبها ينزف بصمت.
على الجانب الآخر، وصل “يونس” إلى مقر عمله بوزارة الداخلية، خطواته الحاسمة تُحدث صدى واضحًا في الرواق الطويل، وملامحه الجادة تعكس صرامة رجل يحمل على عاتقه مسؤوليات لا تُحصى. كان يرتدي زيه الرسمي بدقة متناهية، يُضفي عليه وقارًا وهيبة لا تخطئهما العين. عينيه كانتا حادتين، لا تتوقفان عن رصد التفاصيل، وكأن عقله يعمل دون انقطاع حتى قبل أن يبدأ يومه فعليًا.
دخل مكتبه وأغلق الباب خلفه، وضع ملفاته على الطاولة بانضباط، ثم جلس وبدأ بمراجعة التقارير المتراكمة أمامه. كانت الملفات تتحدث عن حوادث متنوعة، لكن واحدًا منها استوقفه. حادثة قديمة ظن أنه أتم مراجعتها، إلا أن سطرًا صغيرًا بين السطور أيقظ داخله الشك من جديد.
أصابعه كانت تتحرك بسرعة بين الأوراق، عيناه تنقبان كعدسة مكبرة تبحث عن خيطٍ يربط بين الفوضى، بينما ملامحه ازدادت صرامة. كان يشعر بضغط العمل يثقل كاهله، لكنه اعتاد هذا الضغط، بل صار جزءًا من تكوينه.
وفجأة، انفتح الباب بسرعة ودخل “عمر”، زميله في العمل، وعلى وجهه علامات توتر واضحة، وصوته لا يخفي قلقه:
“يونس… عندنا بلاغ عن حادثة جديدة في المنطقة الصناعية. شكل الموضوع خطير جدًا.”
رفع يونس عينيه عن الأوراق بسرعة، وتحول تركيزه من الورق إلى الواقع، أجاب بصوت حازم:
“تمام… نتحرك فورًا، وفي الطريق تحكيلي كل التفاصيل.”
همّ “عمر” بالخروج معه، ثم تذكّر:
“بس لازم نعدي على اللواء عز الدين الأول، طالب يشوفك ضروري.”
أومأ يونس بإيجاز، واتجه صوب مكتب اللواء دون تردد. طرق الباب، ثم دخل مؤديًا التحية العسكرية، وجلس أمامه بتركيز كامل.
كان “اللواء عز الدين” يجلس خلف مكتبه، ووجهه يحمل ملامح الإنهاك والقلق. تحدث بصوت حاد لكنه لا يخلو من ثقة:
“يونس… إحنا محتاجين نلاقي حلول سريعة للقضية دي. الأمور خرجت عن السيطرة، والضغط جاي علينا من كل الجهات.”
ثبت يونس نظره في عيني رئيسه، صوته هادئ لكنه يفيض باليقين:
“كل التفاصيل هتكون عند حضرتك النهاردة، وأنا واثق إننا هنلاقي الإجابة لكل الأسئلة… بس محتاج أراجع الأدلة تاني، بدقة أكتر.”
ظهر على وجه “عز الدين” ابتسامة خفيفة، ممتزجة بالفخر:
“وأنا واثق فيك يا يونس… ومتأكد إنك الوحيد اللي تقدر تفك اللغز ده.”
رد يونس بنبرة جادة وقد أدرك أن هذه الثقة سيف ذو حدين، قد يرفعه أو يُثقله:
“إن شاء الله أكون قد المسؤولية، واسمحلي أتحرك دلوقتي، البلاغ الجديد ممكن يكون مرتبط بالقضية.”
خرج يونس بصحبة “عمر”، واتجهوا مباشرة نحو موقع الحادث. ومع اقترابهم من المنطقة الصناعية، بدأ شعور ثقيل يزحف إلى صدره، ذلك الإحساس الذي يعرفه جيدًا… أن شيئًا فظيعًا قد حدث.
عندما وصلا، كانت الأجواء مشحونة، الضجيج المعتاد للمنطقة خفت، وكأن العالم بأسره خفّض صوته احترامًا للموت. تجمّع الناس حول موقع الجريمة، تتطاير من عيونهم نظرات الخوف والذهول، كأنهم شهدوا كابوسًا مجسدًا على الأرض.
اقترب يونس، وتوقف فجأة، عينيه استقرتا على جسد ملقى على الأرض. كانت الضحية امرأة، جميلة الوجه، راقصة مشهورة يعرفها الجميع، لكنها الآن… جسد بارد، وعينان مغمضتان تخفيان ما مرّت به من رعب في لحظاتها الأخيرة.
ملامحها كانت متجمدة في تعبير صامت، يصرخ بالألم، وكأنها ما تزال تصرخ داخليًا، رغم أن صوتها خمد. الدماء كانت تحيط بجسدها، ملطخة الأرض من حولها، تتحدث بصمت عن العنف الذي لاقته.
شعر يونس بقبضة تقبض على قلبه، مزيج من الحزن والغضب صعد إلى صدره، لكنه سرعان ما كبح انفعاله، ورسم على وجهه قناع المحقق البارد. لم يكن هناك وقت للبكاء، بل للتحقيق.
أشار برأسه لـ”عمر”، وقال بنبرة هادئة لكنها تحمل ثقلًا:
“خد نفس عميق… وخلينا نبدأ نجمع الأدلة.”
بدأ يونس يتفحص الموقع بعين لا تغفل، رأى آثار أقدام تبتعد عن مكان الجثة، زجاجة مشروب مكسورة على بُعد خطوات، وقطعة من القماش ممزقة ملقاة بالقرب من الرأس. كل شيء بدا عشوائيًا… لكنه كان يعلم أن العشوائية دائمًا ما تخفي وراءها عقلًا يُتقن التخفي.
بينما هو يستعرض الأدلة، ترددت في ذهنه كلمات “اللواء عز الدين”، وثقته التي ألقاها على عاتقه كصخرة ثقيلة. لكنه لم يكن من أولئك الذين يهربون من العبء، بل من الذين يجعلون من الضغط دافعًا للنجاح.
أدار وجهه ناحية زملائه، وبدأ في توزيع المهام بدقة، يراقب الجميع، يسجل في ذهنه كل تفصيلة، وكأنه يحاول إعادة بناء اللحظة التي سُلبت فيها حياة الضحية. كان يعلم أن وراء كل جريمة… قصة. وكان يعرف أن مهمته الآن… أن يكشف تلك القصة مهما كلفه الأمر.
أنهت عائشة حصتها بعد شرحٍ مطوّل استغرق ساعةً كاملة. كانت قد وقفت طوال الوقت، ومع ذلك، لم يكن الإرهاق الذي بدأ يتسلل إلى قدميها كافيًا لإطفاء الحماسة التي كانت تتدفق من عينيها، فكل لحظة ترى فيها نظرات التركيز والانبهار على وجوه تلاميذها، كانت كفيلة بمحو أي تعب.
التاريخ كان شغفها الحقيقي، عالمٌ تنتمي إليه بروحها قبل عقلها، وقد بدأ هذا الولع منذ طفولتها، حين كانت تقضي الساعات غارقة في صفحات الكتب، تتنقل بين العصور وتعيش بين أبطالها، مدفوعة دومًا بدعم والدها الراحل، الذي كان يؤمن بأحلامها أكثر مما آمنت هي بها.
وبينما كانت تسير في الممر المؤدي إلى غرفة المعلمين، تتوق إلى لحظة راحة قبل الحصة التالية، جاءها صوت خافت من خلفها، يحمل نبرة خجل وتردد:
“مس عائشة…”
التفتت عائشة بسرعة، وابتسامة دافئة تسبق كلماتها. وقعت عيناها على “مريم”، إحدى طالباتها المميزات، والتي كانت تقف بتردد واضح، ووجهها يحمل ملامح خجل متشابكة مع القلق. ملامحها كانت كمن يتردد بين الرغبة والخوف، كأن قلبها يدفعها خطوة للأمام، بينما عقلها يثنيها عنها.
قالت عائشة بلطف، بصوت خافت كأنها تحاول احتواء خجل الفتاة:
“نعم يا حبيبتي، محتاجة حاجة؟”
أومأت مريم برأسها ببطء، ثم تمتمت بصوت خافت بالكاد يُسمع:
“كنت… محتاجة أدخل مع حضرتك درس، لأني بصراحة… ضعيفة شوية في التاريخ.”
نظرت إليها عائشة بحنان، وأجابت بصوت هادئ مطمئن:
“مفيش مشكلة، أنا عاملة مجموعة للبنات ممكن تدخلي معاهم والمكان مش بعيد جنب المدرسة.”
لكن ما إن أنهت جملتها، حتى رأت الحزن يتسلل شيئًا فشيئًا إلى ملامح مريم، وكأن كلماتها هدمت أملًا كانت تبنيه في داخلها. خفضت مريم نظرها، وقالت بصوتٍ خافت ملئ بالأسى:
“مش هينفع للأسف… أخويا بيرفض أي درس برا البيت، هو صارم جدًا… ممكن حضرتك تيجي عندنا البيت؟”
توقفت عائشة لحظة، شعرت بوخزة تعاطف تتسلل إلى قلبها، لكنها كانت حاسمة في مبادئها، لا تدخل بيوت الطلبة. لم ترغب في كسر قلب الطالبة، لكنها كانت تدرك حدود مسؤوليتها. أجابت برفق:
“آسفة يا مريم، أنا مش بروح بيوت طلبة، المكان اللي قولتلك عليه مخصص لكدا وأمان وكل اصحابك موجودين أخوكي يقدر يتأكد .”
ارتعشت شفتا مريم، كأنها تكتم دمعة أبت أن تنزل أمام معلمتها. نظرت إلى الأرض، وهمست وكأنها تُخرج كلماتها من بين ركام خيبة الأمل:
“بس أنا ضعيفة جدًا في التاريخ، ومحتاجة الدرس ضروري… حضرتك عارفة إن دي آخر سنة، ولازم أركز عشان المجموع.”
تأثرت عائشة بشدة. رأت في عيني الطالبة قتالًا داخليًا مؤلمًا، بين رغبتها في النجاح واستسلامها لقيود تُفرض عليها. شعرت بغصة، لكنها كانت تعرف أن هناك دائمًا مخرجًا.
صمتت لحظة، ثم أضاءت في عقلها فكرة. رفعت حاجبيها وهتفت بابتسامة مشرقة:
“وجدتها! أنا ممكن أكلم أخوكي بنفسي، وأحاول أقنعه إنك تحضري مع البنات. ولو رفض، ممكن هو يفضل معاكي وقت الدرس ويتأكد بنفسه.”
في لحظة، تبدّل حال مريم. تبددت غيوم الحزن، وارتسمت على وجهها ابتسامة عريضة لمعت كالشمس بعد عاصفة، وكأن الأمل الذي خنقها قد عاد للحياة. قالت بصوت مرتجف لكنه مفعم بالامتنان:
“بجد؟… شكرًا جدًا يا مس عائشة، مش عارفة أقولك إيه… هو كل يوم بيجي ياخدني، ممكن حضرتك تكلميه النهاردة؟”
أومأت عائشة، ووضعت يدها على كتف مريم برفق:
“تمام يا حبيبتي، هكلمه النهاردة إن شاء الله. ما تقلقيش.”
امتلأت عينا مريم بالامتنان، وكأنها حملٌ انزاح من على كتفيها. شكرتها مرة أخرى، ثم عادت إلى صفها بخطوات خفيفة وكأنها تطير، أما عائشة، فواصلت طريقها إلى غرفة المعلمين وهي تفكر في كلماتها التي ستستخدمها لإقناع الأخ الصارم.
كانت تشعر براحة داخلية لمجرد أنها منحت مريم فرصة جديدة، فبعض الخطوات الصغيرة… قد تغيّر مستقبلًا بأكمله.
“يلا يا ندى، مفيش وقت انفخي البلالين كويس ”
هتف يوسف بحماس وهو يتحرك بسرعة بين الطاولات، يتفقد الزينة ويُعيد ترتيب الأغراض التي أعدها بعناية فائقة لعيد ميلاد شقيقته عائشة. كان قلبه يخفق بالحماسة، وفي عينيه بريق طفل ينتظر مفاجأة طالما حلم بتقديمها.
لم تكن الفكرة مجرد احتفال، بل كانت رسالة حب وتقدير يودّ أن يُعبّر عنها بطريقته الخاصة، أراد أن يرى الدهشة ترتسم على وجهها، أن تلمع عيناها بالفرح، أن تشعر بمدى مكانتها في قلبه.
أجابته ندى، وهي تُعلّق إحدى الأشرطة الملونة على الحائط، وابتسامة مرحة تزيّن وجهها:
“خلاص قربت إن شاء الله نلحق قبل ما عائشة ترجع.”
كانت ملامحها تشع حيوية، وصوتها يحمل شغفًا حقيقيًا. كانت تشارك يوسف حماسه بصدق، وفي داخلها صورة تتكرر لعائشة وهي تدخل الغرفة، تتفاجأ بكل شيء، وتضحك تلك الضحكة الدافئة التي تأسر القلوب.
ابتسم يوسف وهو يراقبها، ممتنًا لتلك الطاقة التي تبثّها ندى في المكان، تلك الروح المرحة التي جعلت التحضيرات أكثر بهجة. وبينما يعلّق قطعة زينة أخيرة، راح يتخيل وجه شقيقته، كيف ستشرق عيناها، كيف ستضع يدها على فمها بدهشة، وكيف ستنظر إليه بعينين مليئتين بالمحبة.
وحين شعر أن كل شيء بات في مكانه، التقط هاتفه من على الطاولة واتصل بها. لم تمضِ ثوانٍ حتى جاءه صوتها المرح، كما اعتاد دومًا:
“أهلًا أهلًا بالبشمهندس يوسف! بتتصل في نص اليوم، خير يا رب!”
اتسعت ابتسامته تلقائيًا، وشعر بسعادة غامرة لمجرد سماع صوتها، كأن كل ما يفعله الآن صار أكثر قيمة فقال مازحاً:
” ابلعي ريقك شوية بس. أنا كنت بطمن عليكِ، يا شوشو”
ضحكت عائشة بخفة، لكن يوسف لم يفت عليه ذلك التردد الخفيف الذي تسلل إلى نبرتها، وهي تقول بفضولٍ قلق:
“أنا مش مطمنة ليك من الصبح، إنت والبت ندى. في إيه؟ على العموم، أنا قربت أخلص وهاجي على طول.”
أجابها بهدوء، محاولًا أن يُبقي على عنصر المفاجأة دون أن يُثير شكوكها أكثر:
“تمام يا حبيبتي، خلي بالك من نفسك كويس.”
ثم أردف بعفوية، كأنه يُختم الدعاء:
“لا إله إلا الله.”
فجاءه صوتها مباشرة، بحماس ودفء اعتاده منها:
“محمد رسول الله.”
أغلق يوسف الهاتف وهو يشعر بدفءٍ عارم يسري في قلبه، كأن المحادثة الصغيرة هذه كانت بمثابة جرعة حب وتطمين، تذكّره كم هو محظوظ بوجودها في حياته، وكم هي اللحظات البسيطة تلك التي تمنح الحياة معناها.
نظر حوله إلى الزينة والبالونات والألوان التي ملأت المكان، ثم ابتسم بارتياح داخلي عميق، كأن روحه احتفلت قبل أن يبدأ الحفل. عاد ليكمل التحضيرات، وقلبه يمتلئ بالحب والامتنان، مستعدًا للحظة التي ستُضيء المكان بضحكة عائشة، وتجمع كل من يحبونها في لحظة فرح لا تُنسى.
بعد مرور بعض الوقت، أنهى يونس عمله وغادر مكتبه وهو يشعر بإرهاق خفيف، لكنه كان متشوقًا للقاء شقيقته مريم، فقد اعتاد أن يكون هو من يوصلها ويطمئن عليها بنفسه. استقل سيارته، وانطلق في طريقه إلى المدرسة، بينما كانت أفكاره مشغولة بشؤون العمل… وبـ”عائشة”.
ما إن وصل، حتى لمح من بعيد مريم تخرج من بوابة المدرسة، تسير بجوار معلمتها عائشة، وكلتاهما تضحكان وتتبادلان الحديث كأن بينهما صداقة قديمة لا مجرد علاقة معلمة وطالبة. كان ذلك المشهد كافيًا ليرسم ابتسامة دافئة على وجهه.
رأته مريم أولاً، فهتفت بحماس وهي تشير إليه:
“مس عائشة، أهو أخويا يونس واقف هناك! تعالي معايا عشان نكلمه!”
رفعت عائشة بصرها، وما إن وقعت عيناها عليه حتى شعرت بحرارة تتسلل إلى وجنتيها. كان يقف بجسده الطويل، وعضلاته المشدودة التي اعتنت بها الرياضة المنتظمة، مائلًا بجسده على سيارته، وأشعة الشمس تلامس بشرته القمحية فتمنحه مظهرًا آسرًا، يزيده وقارًا ورجولة. عيناها التقتا بعينيه، فوجدت فيهما تلك النظرة التي كانت تعتادها كلما جاء ليصطحب مريم: نظرة عميقة، فيها من العشق ما يكفي لإرباك قلبها في كل مرة.
سارت بجوار مريم بخطى مترددة، وقلبها ينبض بعنف تحت ضلوعها، كأن كل خطوة تقربها منه تُشعل فيها زوبعة من المشاعر.
وقفت أمامه، خافضة بصرها، تشعر بخجل طفولي لا يليق بمعلمةٍ معتادة على الوقوف أمام الصفوف. سارعت مريم بتقديمها، بصوت مليء بالفخر:
“يونس، دي مس عائشة اللي بتديني التاريخ في المدرسة… وكانت عايزة تكلمك في موضوع كده.”
ابتسم يونس، ونقل نظراته من مريم إلى عائشة، وهو يقول بنبرة دافئة:
“أهلًا بحضرتك، مس عائشة.”
تسارعت خفقات قلبها، واشتعلت وجنتاها بحرارة لم تستطع كبحها، لكنها أجابت بتوتر وهي تحاول الحفاظ على رباطة جأشها:
“اهلا بحضرتك… أستاذ يونس.”
ثم أكملت بسرعة، كأنها تُخفي ارتباكها تحت غطاء العمل:
“مريم كانت حابة تاخد معايا درس خصوصي، لأنها ضعيفة في التاريخ. وقالتلي إن حضرتك مش موافق إنها تاخد دروس برا البيت.”
ظهرت علامات القلق على وجهه، ونبرته جاءت هادئة لكنها مشحونة بالحذر:
“فعلاً، أنا مش بحبها تاخد دروس بره، مش تقليل من حد، بس… خوف. الدنيا بقت صعبة، وحضرتك أكيد فاهمة.”
أومأت برأسها بتفهم، ثم قالت بنبرة جادة:
“معاك حق، وده اللي مخلي المكان اللي اخترته آمن جدًا، ومخصص للبنات فقط، وأنا شخصيًا موجودة هناك. بصراحة، مقدرش أروح بيوت، ده مبدأي، وكمان… أخويا مانعني تمامًا من كده.
قاطعها يونس، وقد بدا عليه الاهتمام:
“بس أنا مش اللي هكون في البيت. خالتي هي اللي ساكنة قدامنا بالضبط، وهي اللي كانت هتستقبل حضرتك.”
هزت رأسها برفض، ونظراتها صارت أكثر صرامة:
“أنا آسفة، أستاذ يونس. دا نظامي، ومقدرش أغيره. باحترم رأيك، لكن لازم برضه تحترموا مبدأي.”
في تلك اللحظة، استدارت مريم نحو أخيها، وعيناها تغرورقان بالدموع، تتوسل بنظرات حزينة وكلمات مرتعشة:
“عشان خاطري يا يونس… وافق. أنا بجد محتاجة الدرس ده، ومش عايزة آخد درجات وحشة تاني.”
تنهد يونس بعمق، ومرر أصابعه بين خصلات شعره، كأنه يُفرغ حيرته في الهواء. ثم نظر إلى وجه مريم البريء، وإلى عائشة التي وقفت ثابتة، واثقة، فوجد نفسه يقول بصوت حازم لكنه يحمل استسلامًا محبًا:
“تمام، مفيش مشكلة. بس… مريم أمانة عندك، مس عائشة.”
ارتسمت على وجه عائشة ابتسامة عذبة، نابعة من امتنانها واحترامها لهذا الرجل الصلب الذي يذوب حبًا لأخته، وقالت بنبرة رقيقة:
“ماتقلقش خالص… مريم عندي زي أختي الصغيرة. استأذن دلوقتي، اتأخرت. سلام يا حبيبتي، أشوفك بكرة… وفرصة سعيدة، أستاذ يونس.”
ردّ يونس وهو يحدق في ملامحها بابتسامة خافتة ونظرة ناعمة تحمل الكثير من الود:
“أنا الأسعد، مس عائشة.”
استدارت عائشة وغادرت، تمشي بخطى ثابتة، بينما كان قلبها يخفق بلحنٍ خاص، لا يسمعه سواها. أما يونس، فظل واقفًا يراقبها وهي تبتعد، وقد تلاطمت بداخله مشاعر متشابكة بين إعجابٍ عميق، وقلقٍ دفين، وأملٍ في أن يكون لقلبه موطئ في حياتها ذات يوم.
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية خيوط النار)