روايات

رواية خيوط النار الفصل الثالث 3 بقلم نورهان موسى

رواية خيوط النار الفصل الثالث 3 بقلم نورهان موسى

رواية خيوط النار البارت الثالث

رواية خيوط النار الجزء الثالث

خيوط النار
خيوط النار

رواية خيوط النار الحلقة الثالثة

فى غرفة مظلمة يهمن عليها الحزن، كان صوت بكاء “عائشة” المرتجف يقطع السكون، مهيمنًا على المكان وكأنه الصدى الوحيد للحياة المتبقية، لم تجد سوى صراخها للتعبير عن الألم الذى يعتصر قلبها، رغم الحقنة المهدئة التى أعطاها الطبيب لكن جسدها كان في ارتجافاته المستمرة، بدا وكأنه يحاول التملص من الواقع القاسي خسرت كل ما تحب، وتركتها الفاجعة كمن يحمل جرحًا لايبرأ وذكرى تغرس خناجرها في روحها بلا هوادة.
فى مكان آخر من عقلها، كانت غارقة في حلم تبدو فيه الذكريات ملاذًا ووهماً فى آنٍ واحد ابتسامات الماضي، الضحكات، المواقف التي نسجت عالمها العائلي، كلها عادت لتغمرها بدفءٍ رائل، هناك حيث لا وجع ولا فقدان، استرجعت ملامح من رحلوا وأصواتهم التى مازالت تسكن أعماقها، لكنها وسط هذا الحلم الجميل وجدت نفسها تتساءل
لماذا غادروا؟ لماذا تركوها وحدها فى مواجهة هذا العالم القاسي؟
_ ليه كلهم مشيوا وسبوني أواجه العالم دا لوحدي ليه اتكتب عليا اكون وحيدة؟
كانت “عائشة” تهمس بهذه الكلمات وكأنها تبحث عن إجابة فى الفراغ المحيط بها، لم يكن فى الغرفة سوى صمت ثقيل يُثقل صدرها أكثر، وكأن الجدران نفسها تواطأت لتتركها وحدها فى مواجهة هذا الألم الجارف، كانت ذكرياتها تدور فى عقلها كأشباح تطاردها بلا رحمة، وجوههم ضحكاتهم أصواتهم، وحتى عتاباتهم البسيطة.
كانت تتابع الحديث مع نفسها وكأنها تخاطب من رحلوا
_ كنتوا سندى.. كنتوا كل حاجة في حياتي إزاي بعد ما كنتوا حواليا مليين الدنيا ضحك وصوت وحياة فجأة لقيت نفسي في فراغ كبير؟
أنا ضعيفة من غيركم كل حاجة بقت سودا الدنيا ملهاش طعم ولا لون
ثم توقفت للحظة، أخذت نفسًا عميقاً وكأنها تبحث عن القوة فى أعماقها، لكنها لم تجد سوى مزيد من الأنكسار
قالت بصوت متهدج:
_ أزاي أكمل؟ أزاي أعيش وأنا كل يوم هصحى ومش هيكونوا موجودين!؟
فى تلك اللحظة فى الخارج كان “يونس” واقفاً يراقبها بصمتٍ مثقل متسمرًا أمام مشهد انهيارها يستمع لكلماتها التي تقطع قلبه كالسكاكين، دموعه التي بدأت فى السقوط بهدوء، كانت تعبر عن عجزه أمام ألمها، رأى قلبها المكسور واضحاً أمامه يشعر بكل نبضة ألم تعيشها ويتمنى لو كان بإمكانه حمل ثقل الحزن عنها، لكنه كان مجرد شاهد يرى كل شيء ولا يستطيع فعل شيء، لم يستطيع دخول الغرفة الخوف من أن يزيد من آلمها قيده، لكنه رغم عجزه، تمنى لو كان بإمكانه الرد على سؤالها
_ مامشيوش يا “عائشة” هما لسه جوا قلبك.. جوا كل لحظة عشتوها مع بعض.. بس أنا عارف إن الكلام دا مش كفاية أنا عارف إنك محتاجة أكتر من مجرد كلام.
توقف “يونس” للحظة يتنفس بعمق وكأنه يحمع شجاعته ليكمل ما يريد قوله، صار صوته أكثر دفئاً وصدقاً وكأن الكلمات تخرج من أعماق قلبه

_ أنا مش هسيبك لوحدك أبداً يا “عائشة” من النهاردة أنا الى هكون عيلتك أنا الى هحافظ على حياتك وأمانك أنتي مش مجرد شخص محتاج مساعدة بالنسبة ليا انتي البنت الي فضلت طول عمري أحلم بيها الي كنت بدور عليها وسط الزحمه، ومكنتش أعرف إنها قدامي طول الوقت.
عيناه كانت مليئة بمشاعر لم يعد يستطيع إخفاءها
_ أنا بحبك يا ” عائشة ” وبوعدك إنك عمرك ما هتحسي إنك وحيدة تاني أنا هنا وهفضل هنا مهما حصل
كلما ازداد بكاؤها كلما غرق أكثر فى ضعفه، رغبته فى احتضانها، في مسح دموعها وإخبارها بأنه معها
اصطدمت بحقيقة أنها تعيش ألماً لايمكن لأي كلمات أن تواسيه، عذابها انعكس فى عينيه، ألمها كان حاضراً فى كل دمعة سقطت على وجنتيه وبينما وقفت “عائشة” في دوامة ذكرياتها، وقف “يونس” متأرجحًا بين حزنه وحبه محاصراً بالاخذلان من نفسه، شارداً يغرق في افكاره بينما الدموع تنساب على وجهه بصمت ظلت عينيه معلقتين على “عائشة” الغارقة فى نومها، وكأنها تحمل على كتفيها أحزان الدنيا بأكملها، فجأة اخترق شرودة صوت أنثوي ناعم، يحمل مزيجاً من التعجب والحيرة
_ هو حضرتك تعرف “عائشة” أنا اول مرة اشوف
جفف “يونس” دموعه بسرعة، وتوجه بنظرة نحوها، كانت فتاة صغيرة الحجم بعمر عائشة، بملامح تحمل مسحة من الحزن تنظر إليه بعينين تتساءلان، لم يستطع “يونس ” تجاهل السؤال فحاول ترتيب أفكاره قبل الرد
_ أستاذة “عائشة” شغاله في المدرسة الي فيها اختي، وليها معزة خاصة عندي صعبان عليا كل الي هي فيه، إزاي هتقدر تستحمل كل ده لوحدها؟
هزت “فاطمة” رأسها بحزن واضح، وعادت تنظر نحو “عائشة ” التي كانت مازالت في عالمها البعيد لتجيب بحزن شديد:
_ صعب أوى الي هى فيه خلاص ملهاش حد أخواتها كانوا سندها الوحيد بعد ما مات أبوها وأمها، ربنا يصبرها هي خلاص ملهاش حد غير ربنا.
نظر “يونس” إليها أراد أن يأكد أن “عائشة ” لن تكون وحيدة تماماً لكنه فضل الصمت حاليا ليكمل بتردد:
_ لو سمحتي، يا….؟
قاطعته” فاطمة ” وكأنها شعرت بما يريد قوله:
_ أسمى فاطمة، انا صحبتها من واحنا عيال صغيرين
حفظ “يونس ” الاسم فى ذاكرته سريعاً، وكأنه وجد رابطاً يمكن أن يساعده في مد يد العون، أخرج ورقة صغيرة من جيبه، خط عليها رقمه بعجلة ثم اعطاها لفاطمة التى كانت ترمقه بحيرة، نظرت ” فاطمة ” إلى الورقة، ثم إليه بعينين تمتلئان بالدهشة والحيره في آن واحد لم تضف كلمة لكنها احتفظت بالورقة بعناية
_ خلي بالك منها.. ولو احتجتي أي حاجة مهما كانت كلميني أنا تحت امرك.
تطلع “يونس” مرة أخري نحو “عائشة” الغارقة في أحلامها وكأنها في عالم أخر بعيد عن الألم، غادر بخطوات ثقيلة ومع كل خطوة كان يشعر أن جزءًا من قلبه يُنتزع منه ليبقى معها، كان عالقاً بين رغبته في أن يكون سنداً لها وبين إحساسه بالعجز بينما كانت صورتها بعينيها الممتلئتين بالالم ترافقه كالظل لا يمكن الهروب منه
أثناء مغادرته المستشفى، لمح يونس صديقه “زيدان”، الضابط المسؤول عن التحقيق في الحادث، الذي كان يعمل في قسم قريب من المكان توقف للحظة وهو يشعر برغبة ملحة في التحدث معه، وكأن كلمات كثيرة تختنق في صدره فاندفع نحوه بخطوات سريعة، محاولًا تجاهل كل المشاعر المتضاربة التي كانت تعصف به.
عندما اقترب منه، قال يونس
_السلام عليكم
ابتسم” زيدان”، ابتسامة مرحة يحاول كعادته التخفيف من حدة الأجواء:
_وعليكم السلام، إيه يعم، أنت فين، محدش بيشوفك شكلك هربت من الرهان القديم
لكن يونس لم يكن في مزاج للحديث المرِح، وأجابه بوجه يعكس علامات الحزن
:_الحمد لله بخير، معلش، أنت عارف الشغل واخد كل وقتي
لاحظ “زيدان” ملامح الحزن الثقيلة التي طغت على وجه “يونس”، ابتعدت ابتسامته تدريجيًا وسأله بجدية:
_مالك يا يونس ، فيك حاجة؟ وبعدين بتعمل إيه في المستشفى؟”
تنهد “يونس” بعمق ، وكأن هموم العالم قد اجتمعت على صدره، ثم أجاب:
_كنت هنا مع البنت اللي جت في الحريق؛ متعرفش وصلوا لإيه في التحقيق؟”
هز “زيدان ” رأسه بأسف، وأخذ نفسًا عميقًا قبل أن يجيب:
_الحريق كان بسبب تسريب في الغاز، مفيش أي شبهة جنائية ومع الأسف، الوفيات كتير. البنت دي اتكتب ليها عمر جديد، إنها مكنتش موجودة وقتها.
عندما سمع يونس هذه الكلمات، كسا الحزن ملامح وجهه، وتذكر عائشة، تلك الفتاة التي تحتل مكانة خاصة في قلبه، حمد الله في داخله لأنها لم تكن موجودة في ذلك الحريق، لأنه لم يكن ليحتمل فقدانها، ومع ذلك لم ينجُ من الشعور بالقلق على حالتها النفسية وما ينتظرها
هتف “زيدان” بتساؤل، وكأنه يحاول تفكيك الحزن الذي بداخله:
_بس، انت تعرفها يعني؟”
أجاب يونس، وقد بدأ يشعر بضغط الوقت عليه وهو على وشك المغادرة:
“أيوة، أعرفها.” ثم أكمل قائلاً: “معلش يا زيدان، لازم أمشي، عندي شغل دلوقتي.”
ابتسم “زيدان ” محاولاً إخفاء قلقه وهو يربت على كتف يونس
_ ماشي يا صاحبي، بس خلينا نشوفك قريب، أي حاجة محتاجها أنا موجود
هز “يونس” رأسه شكرًا، لكنه لم يستطع الرد، غادر المستشفى بخطوات ثقيلة وكأن كل خطوة كانت تزيد من ثقل قلبه، كان ذهنه ممتلئًا بالأسئلة حول ما ينتظر” عائشة ” وكيف ستتعامل مع الألم الذي يخنقها
فى أعماقه، كان يشعر بأنه يريد أن يكون بجانبها، ليطمئنها بأنها ليست وحدها، ليخبرها أن الحياة لم تنتِه بعد، وأن هناك من يريد أن يشاركها الطريق، لكن الآن لم يكن أمامه سوى الانتظار، بينما يحارب خوفه وقبقه عليها فى صمت موجع
*********
تدفق الحزن والقلق في قلب يونس كما تدفقت الأمطار في ليلة مظلمة، عندما دخل المنزل وهو يشعر بثقل العالم على كاهله، كان التعب مرسومًا على ملامحه، وعندما سقط على الأريكة، بدت كأنها ملاذه الوحيد من هموم الحياة، أغمض عينيه، ووضعت راحتيه على وجهه كما لو كان يحاول حجب كل تلك الأفكار المظلمة التي تهاجمه.
عندما سمعت مريم صوت الباب، انتابتها مشاعر القلق. كانت تعرف أن شقيقها يواجه ضغوطات في عمله، لكنها لم تكن تتوقع أن يكون في هذه الحالة الصعبة، وقلقها يتزايد مع كل خطوة. وعندما رأت يونس، كان وجهه شاحبًا، وعيناه متورمتين، مما جعل قلبها ينفطر.
“مالك يا يونس، انت كويس؟”
قالتها بصوت خافت، كأنها تخاف من إجابة قد تكون أكثر قسوة مما تتوقع. شعرت بأنها بحاجة إلى أن تكون بجانبه، وأن تُشعره بأنه ليس وحده في هذه المعركة.
رفع يونس رأسه ببطء، وابتسامة متكلفة على شفتيه، لكنه كان يعلم أن تلك الابتسامة لم تكن كافية لإخفاء ألمه.
“أنا كويس يا حبيبتي، متخفيش”
كانت كلماته تهدف إلى تهدئة قلقها، لكن عينيه كانتا تخبرانها بحقيقة مختلفة
بتلك العينين اللامعتين بالدموع، لم تستطع تجاهل مشاعره. ضيقت عينيها، وقررت أن تعرف ما يجري حقًا. جلست بجواره، واضعة يدها على كتفه بلمسة حانية.
“لا، في حاجة. أنت مش شايف شكلك عامل إزاي؟ عينيك الحمرا دي… قولي يا حبيبي، في إيه؟ متقلقنيش عليك”.
عندما تنهد يونس، كان كأنه يخرج كل الألم الذي يعتصر قلبه، ثم بدأ في سرد ما حدث، بينما كانت مريم تستمع، كانت مشاعرها تتقلب بين القلق والخوف، ودموعها بدأت تتساقط على وجنتيها، تعبر عن الألم الذي شعرته تجاه عائشة.
“مش قادرة أتصور اللي حصل لها… أكيد حالتها صعبة جدًا. دي مكنش ليها غيرهم”
قالتها بصوت متقطع، وكأن الكلمات تتعثر في حنجرتها، كانت تشعر بأن كل شيء ينهار حولها، وأن عائشة، التي كانت تمثل لها الأمل والدعم، في وضع لا يُحتمل.
“ارجوك يا يونس، عايزة أشوف مس عائشة. لازم أكون جنبها”
أضافت بنبرة ملحة، وكأنها تبحث عن شيء يمكن أن يعيد الأمل إلى قلبها.
ابتسم يونس برفق، وهو يحتضنها.
“حاضر يا حبيبتي. بكرا هاخدك ونروح نشوفها في المستشفى”
لكنه كان يعلم في قرارة نفسه أن الأمور لن تكون سهلة، وأن مشاعر القلق والضغط ستظل تطاردهما في الأيام القادمة.
فكر في عائشة، كيف كانت حالتها الآن، وماذا سيفعل عندما يراها. كانت تراوده أفكار مظلمة، لكن كان عليه أن يكون قويًا، ليس فقط من أجل نفسه، ولكن من أجل مريم وعائشة
*************
مر شهر كامل على عائشة، وقد تحولت تلك الأيام إلى كابوس طويل من الانعزال والحزن، كانت تعيش في غرفة فاطمة، التي لم تتوانَ عن تقديم الدعم لها، لكنها كانت تشعر بأن الحياة قد توقفت بالنسبة لها عائشة، التي كانت تعيش حياة مليئة بالألوان، أصبحت الآن شاحبة الوجه، وكأن الحياة قد سلبت منها.
عندما طرقت فاطمة الباب ودخلت تحمل الطعام، كان الصمت يملأ الغرفة، وضعت الطعام على الطاولة ثم جلست بجوار عائشة، تنظر إليها بقلق. كان التوتر يملأ الأجواء، وكأن الهواء نفسه ثقيل. عائشة كانت تجلس بلا حراك، عينيها غارقتين في الدموع، وتلك الدموع التي كانت تسقط ليلاً ونهارًا جعلت عينيها متورمتين.
“حبيبتي، يلا عشان تأكلي لقمة. بوصي، وشك عامل إزاي بقيتي ضعيفة جدًا”
قالت فاطمة برقة، محاولةً أن تخرج عائشة من حالتها. مدّت يديها بصحن الطعام، لكن عائشة نظرت إليها بخواء، وكأنها لم تسمعها.
“ماليش نفس يا فاطمة”
جاءت الكلمات وكأنها تتساقط من بين شفتيها كالرمال، بلا وزن، بلا شعور.
كانت فاطمة تشعر بالغضب يشتعل في داخلها، ليس فقط بسبب ضعف عائشة، بل بسبب استسلامها.
_هتفضلي كدا لحد إمتى يا عائشة؟ هما خلاص، يا حبيبتي، ماتوا. عيشي حياتك. هتفضلي حزينه العمر كله؟ دا قدر ربنا، منقدرش نعترض عليه!”.
ردت عائشة ببكاء، وكأن كل جرح في قلبها قد انفتح مرة أخرى.
_مش قادرة يا فاطمة، دول كانوا كل حياتي، إزاي أنسى؟”
ومع تلك الكلمات، غرقت في موجة بكاء شديدة، كان النحيب مسموعًا وكأنها كانت تبكي كل ما فقدته.
شعرت فاطمة بألم صديقتها، اقتربت منها واحتضنتها بقوة، وكأنها تحاول أن تعيد لها بعض القوة التي فقدتها.
_هما أكيد مش مبسوطين بالحالة اللي انتي فيها دي. فوقي يا حبيبتي، وعيشي حياتك.”
كانت كلماتها كفراشة تحاول أن تُشعل شعلة الأمل في قلب عائشة.
“حاضر يا فاطمة”
كانت تلك الكلمات تأتي بصعوبة، لكن كان هناك شعور بسيط من التقبل.
مرت يومان، وعائشة تجلس في غرفتها تقرأ بعض آيات القرآن الكريم، وكان ذلك يساعدها على الشعور بالسلام الداخلي، لكنها فجأة سمعت صوت شجار عالي قادم من الخارج، مما جعل قلبها ينبض بشكل أسرع، تركت المصحف ونهضت لترى ماذا يحدث.
سمعت صوت عبدالله، زوج فاطمة، وهو يتحدث بغضب.
_بقالها شهر معانا، أكل وشرب ونوم. شوفى يا بنت الحلال، أنا متجوزك لوحدك، مش صحبتك معاكى كمان!”
كان صوته مرتفعًا ومليئًا بالاستياء، وكأن كلماتها كانت كالسهم الذي يخترق قلب عائشة.
“عشان خاطري يا عبدالله، يومين كمان بس لحد ما تلاقي مكان مناسب ليها”
هتفت فاطمة برجاء، لكن عبدالله كان يبدو مصممًا على موقفه.
_ماشي، هما يومين بس. أما نشوف آخرتها”.
انهمرت الدموع على وجه عائشة، شعرت بالإهانة. كانت تلك اللحظة تذكرها بمدى احتياجها لعائلتها، ومدى الوحدة التي تشعر بها. القرارات بدأت تتشكل في ذهنها، وعزمت على الذهاب غدًا، حتى لا تسبب المشاكل لصديقتها. كانت تود أن تعود إلى حيث يمكنها أن تشعر بالأمان، حتى لو كان ذلك يعني مواجهة الواقع الأليم بمفردها.
************
كانت عائشة تسير بغير هدى، والدموع تنهمر على وجنتيها كالمطر الغزير، تتذكر عائلتها وأيام السعادة التي قضتها بجوارهم. كان قلبها مثقلاً بالذكريات المؤلمة، وكأن كل خطوة تخطوها كانت تجر معها أعباء الفراق. لم تستطع تصديق ما وصلت إليه من مصائب، فكل شيء كان يبدو وكأنه انهيار لعالمها الخاص.
بعد فترة من السير، شعرت بالتعب ينهش قدميها، فجلست على أقرب مقعد. تنهدت تنهيدة مليئة بالحزن، وكأنها كانت تحاول أن تتخلص من بعض الأثقال التي تحملها. وهى تتذكر حديثها مع صديقتها قبل ان ترحل
“جوزك عنده حق يا فاطمة
ما يصحش أقعد معاكم أكتر من كده، المفروض أنا اللي كنت رفضت أجي من الأول
امسكت فاطمة يديها وهى تردف بحرج بعد ما فعله زوجها:
_ طيب قوليلي هتروحي فين دلوقتي؟
اجابتها بصوت مختنق وهى تتذكر ان منزلها اصبح كومه من الرماد لتجيب بهدوء عكس قلبها الذى يئن بألم شديد:
_ متقلقيش عليا انا هعرف ادبر امورى و اول ما استقر هكلمك، انا همشى دلوقتي قبل ما جوزك يجي واشكريه على وقفته معايا من غيرك مكنتش عارفه هروح فين وانا فى الحالة دي، مش عايزاكى تزعلى من عبدالله الراجل عنده حق هيفضل مستحمل لحد امتا؟ وأنا مش زعلانه والله بالعكس انا مش عارفه هرد الى عملتيه معايا دا ازاي؟
اندفعت فاطمة لتحضنها والعبرات تنساب من عينيها قائله:
_ لو احتاجتى اى حاجه اوعي تتردى انك تتصلى عليا، فى اى وقت ماشي
هزت عائشة رأسها وودعتها ثم غادرت، وهى تفكر الى اين ستذهب؟
_ يا رب، كون عون وسند ليا، ما عادش ليا غيرك.”
بدأت تتحدث مع نفسها، تارة تشكو من قسوة الحياة وتارة أخرى تناجي ربها، كانت دموعها تتساقط كأنها تحاول أن تغسل جراح قلبها، وتتذكر أشقائها الذين فقدتهم، وكيف كانت أيامهم مليئة بالضحك والبهجة، بعد مرور عدة ساعات، نهضت لتبحث عن مكان لتخلد فيه، مدفوعةً برغبة قوية في العثور على ملاذ آمن.
اقتربت من إحدى الفنادق الصغيرة، لكن سرعان ما شعرت بانقباض قلبها عندما سمعت السعر المرتفع، ونظرات صاحب المكان والشباب الذين كانوا يتجمعون هناك جعلتها تشعر بعدم الارتياح، فخرجت مسرعة تبحث عن مكان آخر.
بينما كانت تتجول، رأت مريم، التي قفزت نحوها واحتضنتها بقوة.
_مس عائشة حبيبتي، وحشتيني أوي!.
قالتها مريم، وكأنها كانت تعبر عن كل الشوق الذي كان يملأ قلبها.
نظرت عائشة إليها، وابتسامة حزينة ارتسمت على شفتيها:
_أنتِ أكتر، يا حبيبتي.”

التفتت مريم ناحية منى التى كانت تتابع الحوار الدائر من بعيد لتردف:
_ دى مس عائشة الى كلمتك عنها
ثم وجهت حديثها ل عائشة تكمل بحماس:
_دي تبقى خالتو يا مس.”
اقتربت« منى»، واحتضنتها بحزن.
_البقاء لله، حبيبتي، ربنا يصبرك
تجمعت العبرات في عيني عائشة، ورددت بصوت مفعم بالألم: “ونعمة بالله.”
أردفت مريم بتساؤل وهى تنظر لعائشة:
_هو حضرتك بتعملي إيه؟”
أجابت عائشة بحزن:
“كنت بدور على مكان أقعد فيه، لأن ماليش حد بعد إخواتي الله يرحمهم، وطبعا بيتنا اتحرق ومبقاش ينفع.”
سألت مريم بقلق:
“أومال حضرتك كنتي فين الفترة
اللي فاتت؟”
أجابت عائشة، مكسورة: “كنت قاعدة عند صاحبتي… بس ما ينفعش أفضل عندها عشان جوزها.”
تحدثت « منى» وهى تحاول المساعدة و صوتها مليء بالحنان:
_حبيبتي، أنا عندي شقة بأجرها. إيه رأيك تيجي تقعدي فيها؟
هتفت مريم بحماس شديد، وكأن الأمل قد عاد مرة أخرى:
_أيوه يا مس، بالله عليكي توافقي، واهو تبقي معايا وجنبي، ولا أنتي مش حابة تبقي معايا؟”
تنهدت عائشة، وشعور من الراحة بدأ يراودها، لكنها قالت بجدية:
_بس بشرط، أدفع إيجار زيي زي أي حد.
أومأت « منى» بابتسامة
“ماشي يا ستي، وأنا موافقة. يلا بقى، الوقت بدأ يتأخر.”
ذهبت عائشة معهما، وشعور من الامتنان يعم قلبها، فهي تحمد ربها على ما حدث. كانت تعلم أن هذه الفرصة أفضل بكثير من أي فندق أو مكان آخر، شعرت كما لو أن الحياة قد أعطتها فرصة جديدة، كأن الأمل بدأ يتسلل إلى قلبها من جديد.
************
كان يونس يجلس على الأريكة، ممسكًا بتلك الصورة التي التقطها لها في إحدى المرات التي رآها فيها. كانت تبتسم، وعيناها تتلألأان بسعادة، مما جعل قلبه يخفق بلا توقف كلما تذكرها أو رأى صورتها. كانت نظراته تائهة في تلك اللحظات، والشعور بالحنين يسيطر عليه.
فجأة، فاق من شروده على دخول صديقه عمر، الذي دخل الغرفة وهو يحمل روح الدعابة، قائلاً بمرح:
“أي يعم الحبيب، هتفضل متنح لصورتها كتير كده؟”
نظر يونس إليه بغيظ، وكأن الكلمات تجرح شعوره:
“بس ياض يا عديم المشاعر، أنت مش فاهم حاجة.”
ابتسم عمر بسخرية، وكأنما يسخر من جديته:
– “مشاعر أي يعم، دي مبتكلش عيش، المهم انت ناوي تكلمها إمتى في موضوعك؟”
تنهد يونس، وعلامات الضيق بادية على وجهه:
– “مش عارف، موضوع أخواتها دا مأثر عليها جداً، خايف يكون الوقت مش مناسب خالص.”
هز عمر رأسه بنفي، محاولاً تشجيعه:
– “فات شهر، وكمان هي محتاجة ليك في الوقت دا، أكيد، يعني مش هتفضل عايشة عند صحبتها العمر كله.”
رد يونس بتأكيد، وكأنما يستجمع شجاعته:
– “معاك حق، النهارده بإذن الله هكلم خالتي في الموضوع. أنت عارف أنا بعتبرها زي أمي بالضبط وهاخدها وهروح عند عائشة اطلب ايدها
رتب عمر على كتف يونس، مبتسمًا:
– “مبروك يا صاحبي، وربنا يتمملك على خير.”
ابتسم يونس،و مشاعر الفرح تتسلل إلى قلبه:
– “الله يبارك فيك يا صاحبي.”
نهض عمر متذكراً شيئًا ما، وصاح قائلاً:
– “يلاهوي، أنا نسيت البت أمل قدام السينما، دي هتنفخني!”
تعالت ضحكات يونس على صديقه، الذي بدأ يدور حول نفسه لجمع أغراضه. كان مشهدًا مضحكًا، يونس يضحك من قلبه، وكأن الضحك يخفف عنه همومه.
هتف عمر، وهو على وشك المغادرة:
– “اضحك اضحك، بكرا تدخل القفص برجلك، سلام يا معلم.”
وغادر عمر بخطوات سريعة، بينما دخل يونس في نوبة من الضحك، وهو يشاهد صديقه يهرول مسرعًا. كانت لحظات ممتعة، تملأ الجو بالمرح، وتخفف من حدة مشاعر القلق التي كانت تساور يونس.
*********
كانت عائشة تقوم بترتيب ثيابها التي اشترتها حديثًا، بينما كانت أفكارها تتلاطم كأمواج البحر، كيف ستواجه المستقبل بعد رحيل عائلتها؟ كانت تفكر في كل ما فقدته، وفي كل ما يتعين عليها تحمله بمفردها تنهدت بعمق، متمنية من الله أن يوفقها في التغلب على كل ما تواجهه، انتهت من ترتيب ثيابها وقررت استكشاف المنزل الذي ستعيش فيه، علّها تجد فيه بعض الطمأنينة.

كان المنزل عبارة عن غرفتين صغيرتين، كل غرفة تحتوي بالكاد على فراش وخزانة خاصة بها، أما المطبخ، فكان مجهزًا بكل ما تحتاجه من أدوات، لكن غرفة المعيشة كانت بسيطة، بأثاث قديم ومتهالك، وتحتوي على تلفاز صغير وشرفة كبيرة تطل على الشارع الرئيسي، انتهت عائشة من استكشاف المنزل، ثم تهاوت على الفراش بعد يوم طويل من التعب، وغرقت في نوم عميق، كأنها كانت تحاول الهروب من واقعها المرير.
في الجهة الأخرى، كانت مريم تجلس مع خالتها، والسعادة تتلألأ في عينيها، تبتسم كالأطفال لوجود عائشة، رأت نظرات الإعجاب على وجه شقيقها، وتمنّت من الله أن تكون زوجة له، فهي تتمتع بأخلاق عالية وجمال ساحر.
فجأة، افاقت على صوت خالتها، التي تردف بدهشة:
_بتضحكي على إيه يا بنتي؟ اتجننتي ولا إيه؟”
صدع صوت ضحكات مريم وهي تقول:
_لا يا خالتو، متجننتش، بس زي ما تقولي كده، كان في حاجة في دماغي ووصلت ليها خلاص.

التوى فم خالتها بسخرية: “ربنا يستر وميكنش مقلب جديد ليكي يا أستاذة.”
وفي هذه الأثناء، دلف يونس إلى المنزل وألقى عليهم السلام، ثم جلس على الأريكة، لتتحدث مريم مسرعة، مفعمة بالحماس:
_عندي ليك خبر بمليون جنيه!
تحدث يونس مقلدًا إياها:
_أنا اللي عندي خبر بمليون جنيه.
كانت منى تتابع ما يحدث أمامها بابتسامة، تراقب حماسهم:
_استني يا مريم، نسمع يونس هيقول إيه، اتكلم يا حبيبي.
التفت يونس إليها، وهو يتنحنح لتحضير صوته، ثم قال بجدية:
_بصراحة كده يا خالتي، أنا كنت عايز اتجوز.
تهللت أسارير منى بسعادة غامرة، فقد كانت تعتبره كابنها، رغم أنه ليس من أحشائها، لكنه يحمل في قلبه حبًا كبيرًا لها لتردف بسعادة بالغه:
_ حد نعرفه ساكنة هنا ولا فين، وعرفتها إمتى؟ قولي.”
نهض يونس وجلس بجوارها مبتسمًا
“اهدئي يا خالتي، هي مُدرسه مريم في المدرسة.”
صدع صوت مريم وهي تقفز بسعادة:
“مس عائشة، صح يا يونس؟”
أجابها يونس بدهشة:
“عرفتي منين؟ أنا مقولتش لحد!”
تعالت ضحكات مريم وهي تقول:
_يا ابني، كان باين عليك خالص.”
ثم استطردت قائلة: “اسمع بقى الخبر اللي عندي، مس عائشة موجودة هنا يا سيدي!”
أنهت حديثها وهي تغمز بعينها لشقيقها الذي هب واقفًا، قائلًا بصدمه:
_موجودة هنا إزاي يعني؟ حد يجاوبني.”
سردت منى ليونس ما حدث عندما التقت بـ عائشة وقرارها بإحضارها للعيش معهم، مما جعل قلب يونس يرقص فرحًا. كان لديه شعور بأن هذه الفرصة ستتيح له التقرب منها.
ومع مرور الأيام، تأكد من مشاعره نحو عائشة، وشعر بتقبلها له، حتى بدأ يستشعر بوادر إعجاب من جانبها، كان يتمنى أن ينجح في اجتياح قلبها وتملكه.
بينما كانت عائشة، أكثر من سعيدة بهذا القرب والتواجد في وسط عائلة تشعرها بالحب والحنان، كما لو أن الله بعثهم لها كتعويض عن كل ما عاشته من قبل. كان اهتمام يونس بها ونظرات الإعجاب التي تلاحقها دائمًا تجعل قلبها يميل له، لكنها كانت تخشى أن تكون تتوهم

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية خيوط النار)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock