رواية خيوط النار الفصل الثاني 2 بقلم نورهان موسى
رواية خيوط النار الفصل الثاني 2 بقلم نورهان موسى
رواية خيوط النار البارت الثاني
رواية خيوط النار الجزء الثاني

رواية خيوط النار الحلقة الثانية
عاد يونس إلى منزله، يحمل بين ضلوعه همسات قلبه المتعلق بعائشة. كانت صورتها لا تفارق خياله، وصوتها العذب لا يزال يتردد في أذنه، كأن صدى كلماتها نقش على جدران قلبه. خجلها الطفولي وابتسامتها الخجولة أثارا بداخله عاصفة من المشاعر المتضاربة، بين سعادة غامرة وقلق خفي، لم يكن يعرف له سببًا.
دلف إلى شقته بخطوات بطيئة، شاردة، كأنّه يمشي فوق غيمٍ هش. خلفه جاءت مريم، تجرّ خلفها كيسًا مليئًا بالمستلزمات التي اشتروها، قبل أن تضعه على الطاولة وتقترب منه لتجلس بجواره على الأريكة، وهي تبتسم كطفلة حظيت بهدية ثمينة.
قالت بحماس طفولي:
“بجد شكرًا يا يونس علشان وافقت على الدرس.”
ابتسم يونس، ونظر إليها بعينين تملؤهما الحنان، ثم مرر يده برفق على شعرها، كما لو كان يطمئن قلبه قبل أن يطمئنها:
“حبيبتي… أنا مستعد أعمل أي حاجة لمصلحتك. أنا مش برفض الدروس برا علشان أضايقك، لكن بخاف عليكِ. بس واضح إن مس عائشة محترمة جدًا، وفكرتها كويسة إني أكون معاكي لحد ما تخلصي.”
أومأت مريم برأسها بحماس، وقالت بعفوية صادقة، وعيناها تبرقان بفرح صافي:
“مس عائشة دي سكر خالص، كيوت كده، والكل بيحبها!”
ارتسمت على شفتي يونس ابتسامة غامضة، هامسة بشيء أعمق من مجرد إعجاب:
“ومين بس اللي ما يحبهاش…؟”
قالها كأنه يحدث نفسه، غافلًا عن وجود مريم التي التقطت كلماته بعينين ضيقتين، ووجه يحمل علامات الفضول المشاكس.
أمالت رأسها قليلًا، وسألته بمكر:
“إنت قلت إيه؟ مش سامعة!”
تدارك يونس نفسه، وحاول إخفاء ارتباكه بابتسامة مصطنعة:
“لا، مفيش يا حبيبتي… كنت بس بسرح.”
نهضت مريم بخفة، كأنها طائر صغير، وقالت بمزاح طفولي:
“ماشي يا معلم، هقوم أعملك أحلى غدا!”
ضحك يونس، وقال مداعبًا:
“وأنا مستني، بس يا رب الرز ما يعجنش منك! أنا بطني خلاص في ذمة الله من أكلك.”
نظرت إليه مريم بغيظ مفتعل، وضربته على ذراعه برفق:
“بقى كده؟ على فكرة، أكلي الناس كلها بتحلف بيه!”
رد بسخرية لذيذة:
“على يدي طبعًا. يلا يا ماما، روحي اعملي الأكل، أنا هموت من الجوع!”
ركضت نحو المطبخ وهي تضحك، بينما ظل يونس يراقبها بعينين تغشاهما راحة ناعمة، لا تشبه سوى راحة العائلة.
ثم غاص في ذاكرته، وعادت إلى ذهنه تفاصيل لقائه الأول بعائشة. تذكر كيف لمحها أول مرة، تسير إلى جانب مريم أمام المدرسة، بخطوات رقيقة كأنها لا تلامس الأرض، وشعرها ينسدل بنعومة فوق كتفيها. كانت تضحك، وابتسامتها تشع دفئًا، تخترق جليد قلبه. شعر وقتها أن الدنيا توقفت، وأن كل الأصوات اختفت، ولم يبقَ في الوجود سواها.
شعر حينها وكأنه وقع في حبها دون إرادة منه، كأن قلبه خُلق خصيصًا ليخفق لها. لم يكن يعرف كيف بدأ الإعجاب، لكنه أيقن أنه عميق، مختلف، يشبه وجعًا جميلًا لا يريد له أن ينتهي.
همس لنفسه، كأنه يبوح بسرٍّ دفين: “عشقك كسكرات الموت… يدبّ في أوصالي، فتختنق أنفاسي، وتتمزق روحي، ويتركني ما بين الموت والحياة فاقدًا لإحساسي…”
تلك المشاعر لم تكن مجرد خفقة قلب، بل كانت كحريق هادئ، يشتعل في صدره دون أن يحرقه، فقط يضيئه من الداخل.
قاطع شروده صوت مريم وهي تنادي من المطبخ:
“يونس، أعملك سمك ولا فراخ؟”
رد بنبرة فيها بعض الشرود، وبعض الحنان:
“أي حاجة، بس أهم حاجة تكون من إيديكي.”
ضحكت مريم، وضحكتها كانت كالعطر، تعانق الأجواء:
“طيب، هعملك فراخ مشوية، بس لو عجبتك، لازم تعترف إن أكلي هو الأحسن!”
رد يونس، وهو يبتسم بسعادة صافية:
“أوعدك… لو الأكل طلع مظبوط، هكون أول واحد يشهد بكده.”
مر وقت قصير، قبل أن تعود مريم وهي تحمل صينية الطعام، وضعتها أمامه، وقد ارتسم على وجهها مزيج من الترقب والفخر.
قالت، وعيناها تتوسلان رضاه:
“اتفضل… يا رب يعجبك!”
بدأ يونس يتناول الطعام، وبكل قضمة كان يشعر بالحب الممزوج بالبهجة. لم يكن الطعام مجرد نكهة شهية، بل كان دليلاً على حب أخته واهتمامها، كان يحمل طابع البيت، طابع الأمان.
قال مبتسمًا، وهو يمسح فمه بمنديل:
“بصراحة؟ الأكل طعمه تحفة! تسلم إيدك يا مريومة.”
أضاء وجهها، وارتسمت على ملامحها فرحة صادقة، كأنها نالت جائزة غالية:
“شكرًا يا حبيبي…”
في تلك اللحظة، شعر يونس أن العالم كله اختُزل في هذا البيت، في هذه الطفلة التي كبرت بين يديه، وفي ذلك القلب الذي بدأ يخفق لوجه خجول اسمه عائشة.
كانت لحظات بسيطة، لكنها حقيقية، تنبض بالحب، والدفء، والانتماء.
*******
صعدت عائشة إلى شقتها بخطًى متثاقلة، تحمل في قلبها تعب اليوم، وفي ذهنها أفكار متشابكة لا تهدأ. فتحت الباب بهدوء، لكن خطواتها توقفت فجأة عند العتبة، إذ باغتها الظلام الدامس الذي غلّف المكان كستار كثيف من الغموض. تسللت رعشة خفيفة إلى قلبها، وشعرت بشيء من القلق، إلا أن فضولها تغلّب على ترددها، فتقدّمت بحذر وسط السكون الغريب.
وفجأة، دوّت أصوات مألوفة ومحببة إلى قلبها، تهتف في آنٍ واحد، بفرح طفولي لا يُقاوَم:
– “كل سنة وإنتِ طيبة!”
تسمرت عائشة في مكانها، وانهمرت الدموع في عينيها من شدة المفاجأة. كانت أنوار الزينة تتلألأ في أرجاء الشقة، تُلقي بألوانها الدافئة على الجدران، وأشرطة لامعة تتدلى من السقف، وعلى الحائط كُتبت عبارة “Happy Birthday” بحروف كبيرة تفيض بالبهجة.
وفي منتصف الغرفة، انتصب قالب حلوى كبير، مُزيّن بكريمة ملونة وقلوب صغيرة، كأنه لوحة صنعتها يد تُجيد التعبير عن الحب.
اندفعت ندى نحوها، تحتضنها بقوة وهي تقبّل وجنتيها بحماس يغمره الحنان:
– “مفاجأة! كل سنة وإنتِ طيبة يا أحلى أخت في الدنيا!”
ولم يتأخر يوسف، الذي تقدّم منها بابتسامة عريضة، تغمرها المودة:
– “كل سنة وإنتِ طيبة يا قلب أخوكي.”
نظرت عائشة إليهما، وقلبها يخفق بسعادة عارمة، وقد غرقت في تلك اللحظة التي شعرت فيها بأنها محاطة بالحب الحقيقي:
– “وأنتوا طيبين يا روحي… بجد أنا مش مصدقة! عملتوا كل ده عشاني؟”
أجاب يوسف وهو يقتادها إلى قالب الحلوى، يحاول إخفاء ضحكته:
– “دي حاجة بسيطة يا حبيبتي… يلا عشان تقطّعي التورتة، قبل ما ندى تاكلها، أنا ماسكها بالعافية!”
نظرت إليه ندى بعينين مفتوحتين، وصرخت بغضب مصطنع:
– “بيكذب عليكي! هو اللي مش قادر يستحمل ريحتها!”
ضحكت عائشة بحرارة، والضحكة خرجت من أعماقها، كأنها تحررت من عبء ثقيل:
– “كُلي يا قلبي، التورتة كلها تحت امرك”
أمسكت بالسكين، وبدأت في تقطيع قالب الحلوى، ووزعت القطع بحب، تقرأ في أعينهم الامتنان والفرحة. التقطوا صورًا معًا، ضحكوا، تمايلوا على أنغام الموسيقى الخفيفة، وكأن اللحظة خُلقت لتُخلد في قلوبهم.
أهدتها ندى صندوقًا خشبيًا صغيرًا، مزخرفًا بزخارف يدوية، وحين فتحته، وجدت فيه مجموعة من الروايات والكتب التي كانت تتمنى اقتنائها. تأملتها عائشة بعينين دامعتين، تدرك أن أختها الصغيرة تفهمها أكثر مما تتصور.
ثم جاء دور يوسف، الذي مدّ إليها علبة أنيقة، وما إن فتحتها حتى شهقت بدهشة. كان هاتفًا جديدًا، تمامًا من النوع الذي كانت تتحدث عنه منذ أشهر، لكنها فضّلت حينها أولويات الأسرة.
– “يوسف! دا كتير قوي…” قالتها والدمعة في صوتها.
– “ولا يهمك… كل حاجة تهون علشانك.” أجابها بابتسامة حانية، تخفي خلفها سنوات من التقدير والامتنان لأختٍ كانت لهم الأب والأم والسند.
انتهى اليوم، وكل منهم انسحب إلى غرفته، بينما عائشة ظلت وحدها في غرفة المعيشة، تحتضن الهدايا، وتجلس أمام الطاولة تتأمل الصور التي التقطوها، وابتسامة حنونة تكسو وجهها.
مدّت يدها إلى الصورة المؤطرة لوالديها، قلبها يخفق بشوق لا يوصف. تنهدت، وعيناها تلمعان بدموع الاحتياج:
– “يا ريتكم كنتوا معايا النهارده… كنتوا هتفرحوا بيا.”
مرّت بخاطرها لحظات الطفولة، وذكريات الاحتفالات التي كان والدها يصنعها خصيصًا لها، كل عام بطريقة مختلفة، فقط ليجعلها تبتسم.
ثم تذكرت الفاجعة… ذلك الحادث الذي غيّر مجرى حياتهم جميعًا. عندما رحل والديها فجأة، حملت عائشة على كتفيها عبء المسؤولية، وكانت حينها في بداية شبابها. يوسف كان لا يزال طالبًا في الثانوية، وندى لم تكن قد تجاوزت السابعة من عمرها.
ومنذ ذلك الحين، نذرت عائشة نفسها لهم، وأصبحت الأم التي تحنو، والأب الذي يحمي، والأخت التي تُربّت على الأكتاف حين يثقلها الحزن. لم تفكر في ذاتها، بل وضعت سعادتها على الرف، حتى تطمئن على مستقبل إخوتها.
أغلقت عينيها، تمتمت بدعاء صامت، تمنّت فيه الرحمة لوالديها، ثم أطفأت الأنوار، وتوجهت إلى غرفتها. هناك، احتضنت وسادتها، وغرقت في سباتٍ عميق، وابتسامة راضية ترسم على وجهها ملامح السلام، وفي قلبها امتنان لا ينضب… فقد أدركت أن الحب لا يُقاس بالكلمات، بل بالأفعال التي تُحيي الروح في عزّ انكسارها.
في صباح يوم جديد، تسللت خيوط الشمس الذهبية من بين ستائر الغرفة، لترسم لوحاتٍ دافئة على جدرانها المشرقة. كانت المدينة تفتح عينيها ببطء، تنهض من نومها الكسول على أنغام ضجيج خافت يتصاعد من الطرقات. أما عائشة، ففتحت عينيها على غير رغبة، كأنّ شيئًا ما أثقل جفنها قبل أن يثقل قلبها.
استنشقت نفسًا عميقًا من الهواء الصباحي المنعش، علّه يوقظ في قلبها الطمأنينة، لكنّ انقباضًا غريبًا تسلّل إلى صدرها كزائر ثقيل الظل. لم تعرف له سببًا، لكنه كان حاضرًا، يخبرها في صمت أن ثمة أمرًا ما يلوح في الأفق… أمرًا غير مُريح.
نهضت بتثاقل، تمارس روتينها الصباحي المعتاد. رتّبت شعرها، ووضعت حجابها بعناية، وكأنها تُخفي خلفه ارتجاف قلبٍ يأنّ. وقفت للحظات أمام المرآة، تتأمل ملامحها… هل تغير شيء؟ أم أن الاضطراب الذي يسكن ملامحها ليس سوى انعكاس لما يدور في داخلها؟
تمتمت باستغفار خافت، تُناجي به ربها أن يُزيح ما في صدرها من قلق، وأن يكون هذا اليوم لطيفًا، كنسمة صباحٍ لا تُؤذي.
استقلت الحافلة، تتنقل بعينيها بين الوجوه العابرة، بينما جسدها متوجه إلى عملها، وروحها تائهة في مكان آخر. تنقّلت من فصل إلى آخر، تشرح لطلابها بجدٍ واجتهاد، كانت الكلمات تخرج من فمها بسلاسة، لكن قلبها لم يكن حاضرًا بالكامل. في أعماقها، فراغات تتّسع… فراغات لا تُملأ بالدروس، ولا بالضحكات… بل بحاجة إلى شخص، إلى وجود، إلى نبض مختلف.
ومع انقضاء بعض الوقت، أطلت مريم عليها، مفعمة كعادتها بالحيوية، ترتدي ابتسامتها كأنها درع ضد أي حزن، وقادتها إلى الغرفة التي اتفقوا أن يعقدوا فيها الدرس.
وبينما كانت عائشة تجهز نفسها، ترتّب أوراقها وتعيد تثبيت حجابها، كانت عيناها تتحركان دون وعي، تبحث عن وجه مألوف، وجه اعتاد قلبها أن ينتظره دون اعتراف.
أجفلت قليلاً، ثم سألت مريم بنبرة حاولت أن تُخفي ما بها من ارتباك:
– “قوليلي يا مريوم… هو أخوكي مش جاي النهارده؟”
رفعت مريم عينيها، وأجابت بعفوية، وهي تسير بجانبها:
“للأسف، مش هيقدر ييجي. بس ابن خالتي حسين هييجي مكانه. متقلقيش، هو شبه يونس تمامًا، أنا شخصيًا بعتبره أخويا التاني.”
هزّت عائشة رأسها بابتسامة مصطنعة، تخفي خلفها خيبة خافتة لم تُرد أن تظهر:
“تمام يا حبيبتي… مفيش مشكلة خالص.”
ثم تابعت، بصوت يحمل نغمة حازمة، تُخفي خلفها ارتجاف قلبٍ مشتاق:
“تعالي يلا نبدأ الدرس.”
لكن في داخلها، كانت العاصفة تهدر.
كانت تتمنى رؤيته، ولو من بعيد. تتمنى أن تسمع صوته، ولو كلمة عابرة. كم راودها الأمل أن يأتي فجأة، أن تلتقيه بالصدفة، أن يسرق منها لحظة دون أن يشعر أحد. كان وجوده يُطمئنها، يربت على قلبها بطريقة لا تفهمها، لكنّ غيابه اليوم تركها فارغة، كأنها كانت تنتظر شيئًا ولم يأتِ.
كلما ذكرت اسمه في داخلها، ارتجف قلبها، وتراقصت مشاعرها على حافة الاعتراف. كانت تتخيله يقترب، ينظر إليها بتلك النظرة الدافئة التي تخترق دفاعاتها، ويحدثها بصوته الرزين الذي يمنحها أمانًا غريبًا. تتخيل كيف ستحاول التماسك أمامه، وكيف سيخذلها قلبها فتتلعثم، وتُفضَح مشاعرها في عينيها قبل كلماتها.
رمقت الشارع بنظرة متلهفة، تبحث عن ملامحه بين المارة. لكنّه لم يكن هناك. مرّت اللحظة كأنها فرصة ضائعة، وعلّق قلبها آماله على لقاءٍ آخر، لا تعلم متى يأتي.
لكن أكثر ما أتعبها هو ذلك الشعور المعلّق بين الأمل والخيبة. كل ما يدور في ذهنها… هو اسمه. كانت تشتاق إليه دون أن تجرؤ على قولها. تفتقد حضوره، وابتسامته، وصوته، وكل ما يربطها به.
أغمضت عينيها، وهمست في قلبها:
– “ليته يعلم… كم أشتاق.”
بعد مرور أكثر من ساعة، أنهت عائشة عملها وودعت طلابها بابتسامة دافئة وهي تلوح لهم مودعة، ثم اتجهت إلى السوق لشراء بعض المستلزمات المنزلية. أثناء تجولها في السوق، لفت نظرها متجر ألعاب الأطفال المزين بألوان زاهية. خطرت لها فكرة شراء هدية لشقيقتها الصغرى ندى، فدخلت المتجر وبدأت تتنقل بين الأرفف المتراصة بدقة، تتأمل الألعاب المختلفة. وبعد بحث طويل، وقعت عيناها على كرة زجاجية رائعة بداخلها منزل صغير تحيط به الثلوج المتساقطة. أخذتها بحماس، وهي تتخيل فرحة ندى عندما تراها.
بعد شراء الهدية، استقلت إحدى الحافلات عائدة إلى منزلها. بعد نصف ساعة وصلت إلى حافة الحي، ترجلت من الحافلة وبدأت تسير بخطوات سريعة نحو منزلها. فجأة، استوقفها صوت ينادي باسمها. التفتت لتجد فتاة ذات عيون عسلية ووجه مستدير وجسد ممتلئ قليلاً وحجاب يلف رأسها، تخفي خصلات شعرها الأسود. كانت فاطمة، صديقة عائشة منذ الطفولة، التي سافرت منذ سنة مع زوجها عبدالله للعمل في إحدى الدول العربية.
لم تصدق عائشة عينيها، أسرعت نحو فاطمة واحتضنتها بشوق كبير وقالت: “فاطمة! بجد مش مصدقة، إمتي رجعتي؟!”
ردت فاطمة بابتسامة واسعة وسعادة: “رجعت من يومين بس يا حبيبتي.”
بادرت عائشة بعتاب مازح: “يومين وما بلغتيش! ماشي يا ست فاطمة. ”
انقلبت ملامح فاطمة للحزن وقالت بصوت متهدج:
“معلش يا عائشة، والله كان غصب عني. بابا تعب جامد واضطريت أرجع بسرعة عشان أطمن عليه، واليومين اللي فاتوا كنت معاه طول الوقت.”
تأثرت عائشة وملأ الحزن عينيها: “يا حبيبتي، ما كنتش أعرف، طمنيني عليه، عامل إيه دلوقتي؟”
تنهدت فاطمة بعمق: “الحمد لله بيتحسن مع الوقت.”
وضعت عائشة يدها على كتف صديقتها مواسية: “إن شاء الله هيبقى كويس وتفرحي بيه وهو بخير.”
ابتسمت فاطمة بتعب: “إن شاء الله يا رب. ها، قوليلي أخبارك إيه، مفيش جديد في موضوع المز أبو عضلات؟”
ابتسمت عائشة بخجل، وقبل أن تبدأ في الحديث، قطعهما صوت انفجار مدوٍ هز الأرض من تحتهما، تجمدت عائشة في مكانها، عيناها تراقبان الناس الذين هرعوا باتجاه منزلها، شعرت بدقات قلبها تتسارع بجنون وهي ترى ألسنة النيران تلتهم منزلها.
ركضت عائشة دون تفكير، وفاطمة تتبعها تحاول اللحاق بها. اقتربت عائشة من المنزل ورأت السحب الكثيفة من الدخان تتصاعد، وألسنة اللهب تمتد كوحش مفترس يلتهم كل شيء في طريقه. حاولت اقتحام المنزل، لكن مجموعة من الرجال منعوها، وأصواتهم تتعالى:
_ مينفعش تدخلي النار فى كل حته كدا انتى هتموتي
صرخت عائشة بصوت مبحوح، والدموع تغمر وجهها: “أخواتي! فوق لازم أنقذهم!”
كانت تشعر وكأن قلبها يُمزق من صدرها، كل ذرة من كيانها تصرخ بألم. جسدها يرتجف وهي ترى المنزل الذي كان يضم اخواتها و أحلامهم وذكرياتهم يتحول إلى ركام أسود. كانت النار تتراقص بوحشية، تبتلع كل شيء.
وصلت فرق الإطفاء، ترجلوا بسرعة من سياراتهم، محاولين السيطرة على اللهب، لكن النيران كانت شرسة، وقفت عائشة، جسدها منهك ودموعها لا تتوقف، تشاهد رجال الإطفاء يكافحون النيران بلا جدوى.
بعد دقائق طويلة، استطاع رجال الإطفاء إخماد الحريق، لكن الدمار كان شاملاً. تقدمت سيارات الإسعاف وبدأ رجال الإسعاف في إخراج الجثث المحترقة. سقطت عائشة على ركبتيها، قلبها ينتفض بين أضلاعها وهي ترى أشلاء أشقائها.
ازداد صراخها حتى شعرت أن حبالها الصوتية ستنقطع، وألم حاد في صدرها يكاد يقتلها. شعرت بالأرض تدور من تحتها، وبدأ كل شيء يتلاشى من حولها. وقبل أن تفقد الوعي تمامًا، لمحت وجه يونس المذعور، يناديها بصوت مختنق:
“عائشة”
وفي زاوية بعيدة عن الحشد، وقف رجل يراقب المشهد بعينيه الباردتين، أمسك بهاتفه واتصل بهدوء:
“المهمة تمت البيت اتحرق كله .”
*********
بعد مرور يومين من الحريق، استيقظت عائشة في سرير المستشفى، حيث كانت تحت تأثير الصدمة التي أفقدتها وعيها. فتحت عينيها ببطء، وحاولت التركيز على ما حولها، لكن الشعور بالدوار اجتاح جسدها، وكأن آلامها النفسية قد سبقت الآلام الجسدية. كانت نظرتها فارغة، تحمل في طياتها انكسارًا عميقًا، وكأن عالمها قد انهار.
رأت فاطمة تجلس بجانبها، عيونها مليئة بالقلق والحزن. لم تستطع عائشة النطق، لكن نظرتها كانت كافية لتظهر كم كانت في حاجة إلى دعمها. نطقت فاطمة بصوت متهدج، وهي تمسك بيد عائشة برفق، كأنها تريد أن تعطيها جزءًا من قوتها:
“الحمد لله على سلامتك يا عائشة. كنا كلنا قلقانين عليكى.”
لكن تلك الكلمات لم تكن قادرة على اختراق جدار الحزن الذي أحاط بقلب عائشة. فجأة، دخل زوج فاطمة، عبدالله، إلى الغرفة، وملامح وجهه تجسد الحزن الجليل. قال بنبرة جادة:
“فاطمة، إجراءات الدفن انتهت، الجنازة هتكون بعد ساعه.”
تجمدت عائشة في مكانها، دموعها تجمعت في عينيها، ثم تدفقت كالشلال. كان قلبها يمزق من الداخل، وكأن كل ذكرى جميلة تجمعها بأحبائها قد تحطمت في لحظة. صوتها كان ضعيفًا ومبحوحًا، وكأن كل كلمة تحتاج إلى جهد هائل لنطقها: “ندى… يوسف… مفيش حد تاني… كلهم راحوا… مبقاش ليا حد في الدنيا.”
حاولت فاطمة أن تهدئها، ولكن الألم كان أكبر من أي كلمات مواساة. كان الصمت يثقل الأجواء، وكأن حتى الهواء نفسه كان يرفض أن يحمل أي بارقة أمل.
عندما حانت لحظة الجنازة، بدأ الجميع يتحرك في موكب بطيء، وكأنهم يسيرون في عالم آخر بعيد. كانت عائشة تمشي وكأنها في كابوس، قدماها بالكاد تحملانها، والظلال الطويلة التي تلاحقها كانت أكثر من مجرد ظلال.
من بعيد، رأى يونس عائشة، قلبه يمتلئ بالألم وهو يشاهد حبيبته منهارة، عيناها تفيض بالدموع ووجهها شاحب كمن نُزع منه الحياة. أراد أن يقترب، لكن الوجع الذي رآه في عينيها جعله يقف عاجزًا، وكأن الكلمات ستخونه في تلك اللحظة.
عندما وصلوا إلى المقابر، بدأت مراسم الدفن. وعندما وُضعت الجثتين في القبر، كان ذلك كالسهم الذي اخترق قلب عائشة. صرخت بصوت متحشرج، وكأن كل الآلام قد اجتمعت في تلك الصرخة:
ليه سبتونى لوحدى اعيش ازاي من غيركم، يارب خدنى ليهم مش هقدر على فراقهم مش هقدر.
انهارت على الأرض، جسدها يرتعش من الألم، ودموعها لم تتوقف. حاولت فاطمة أن ترفعها، لكن عائشة فقدت وعيها مجددًا، تاركةً الحاضرين في حالة من الذهول والأسى.
رأى يونس هذا المشهد، وتقدم بسرعة ليحمل عائشة بين ذراعيه. كانت يده ترتعش، ووجهه يحمل ملامح الحزن العميق والقلق الشديد. نظر إليها بحنان، وكأن قلبه يتحدث قبل لسانه، همس بصوت منخفض:
“عائشة، أنا هنا… مش هسيبك أبدًا.”
كانت تلك اللحظة تمثل نقطة تحول في حياتها، حيث كان الفقدان قد ترك فراغًا لا يُملأ، لكن في عيون يونس، كانت هناك لمحة من الأمل. كان يبحث عن طريقة ليكون لها السند في هذا الظلام، محاولًا أن يملأ جزءًا من الفراغ الذي تركه الأحبة.
عائشة كانت غارقة في حزنها، لكنها في أعماق قلبها شعرت بتلك اللمسة الحنونة، وكأنها تذكرها بأنها ليست وحدها في هذه المعركة. في ذلك الحين، أدركت أن الحزن قد يكون ثقيلًا، لكن الحب يمكن أن يكون نورًا في الظلام، وأنها بحاجة إلى هذا الحب لتجاوز كل ما حدث.
************
في زقاق ضيق، حيث تتداخل الظلال مع أضواء الشارع الخافتة، كان هناك شخصان يتواجهان في مشهد توتر واضح. الأول، ذو ملامح متجهمة وعينين مشحنتين بالغضب، كان يصرخ بصوت عالٍ، محاطًا بهالة من التحدي. قال بوضوح: “يا غبى! اهى البت لسه عايشة، أخواتها بس هما اللي ماتوا. فالح بس تعملي فيها ناصح، وأنا هخلصك من كل حاجة! وفي الآخر، البت عايشة!”
بينما كان يتحدث، كانت ذراعه ترتفع في حركة حماسية، وكأن كل كلمة تخرج منه تنبض برغبة الانتقام. انطلقت كلماته كسهام، موجهة نحو خصمه الذي يقف أمامه، والذي كان يحمل ملامح الإجرام، الوجه الضيق والعينان الباردتان اللتان تعكسان عدم الاكتراث بكل ما يدور حوله.
رد الشخص الآخر، الذي كان يفتقر إلى أي تعبير عن العواطف، بنبرة هادئة ولكنها تحمل تهديدًا: “أنا نفذت إلي قولتلي عليه بالحرف. قدرها بقى إنها تعيش، بس متقلقش، هظبط ليها موته تليق بيها عشان تحصل أخواتها.”
الغضب في عيني الأول اشتعل أكثر، وكأن النار التي في قلبه قد انتقلت إلى عينيه. “مش هينفع دلوقتي العين كلها هتكون علينا. استنى شويه لما كل حاجة تهدا وبعدين نفذ. بس خد بالك، أنا مش دافع حاجة تاني. كفايه الملايين إلي أخدتها!”
رد الشخص الذي يحمل ملامح الإجرام بسخرية، وكأن الأمر لا يعنيه: “متقلقش، دى هدية منى.” ثم تركه واقفًا هناك، متأملًا في كلمات السخرية التي لا تحمل أي وزن، ولكنه كانت ثقيلة كالصخرة في قلبه.
غادر الشخص الآخر بعيدًا، بينما كان الأول يقف في مكانه، تتسارع أفكاره في دوامة من القلق والتوتر. كان عقله يسبح في بحر من التساؤلات: ماذا سيحدث بعد ذلك؟ كيف سيتعامل مع العواقب؟ كانت تلك اللحظة تحمل في طياتها عبء الاختيارات المظلمة التي اتخذها، وأدرك في أعماقه أنه قد يكون في طريقه نحو الهاوية.
تسرب القلق إلى أعماقه، وكأن الظلال التي تحيط به بدأت تقترب، ولم يعد بإمكانه الهروب من الواقع الذي أوقع نفسه فيه.
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية خيوط النار)