روايات

رواية خيوط النار الفصل الخامس 5 بقلم نورهان موسى

رواية خيوط النار الفصل الخامس 5 بقلم نورهان موسى

رواية خيوط النار البارت الخامس

رواية خيوط النار الجزء الخامس

خيوط النار
خيوط النار

رواية خيوط النار الحلقة الخامسة

وصل “يونس” إلى القسم بعد أن أنزل مريم عند مدرستها، لكن ملامحه كانت تحمل بين طياتها غضبًا مكتومًا حاول جاهدًا أن يخفيه. كان قلبه يضجّ بأسئلة بلا إجابة، يتساءل في صمت: ما الذي فعلته لتعاملني “عائشة” بذلك الجفاء؟ هل أخطأت حين عرضت عليها المساعدة؟
دلف إلى المكتب بخطى سريعة، وصوت خطواته كان واضحًا في الصمت الصباحي الذي يخيّم على المكان. في المكتب، كان زميله “سامح” جالسًا على كرسيه، يرتشف قهوته ويتصفح بعض الأوراق. رفع عينه نحو يونس، ورأى الغضب الصريح المرسوم على وجهه، فابتسم وقال بنبرة مازحة:
_”إيه يا باشا مالك؟ ماشي تتخانق مع دبان وشك على الصبح.”
رد “يونس” وهو يأخذ نفسًا عميقًا، محاولًا السيطرة على انفعاله:
_مفيش حاجة يا سامح… مجرّد ضغوط عادية.”
ضحك “سامح” بخفة، وهو يهز رأسه:
_”كالعادة… دايما شايل هم الدنيا على دماغك.”
وقبل أن يجيبه “يونس”، دخل أحد العساكر بخطوات سريعة، أدّى التحية العسكرية ثم قال بلهجة رسمية:
_”النقيب يونس، الباشا المدير عايزك فورًا في مكتبه.”
أومأ “يونس” برأسه، وتوجه نحو مكتب المدير، قلبه يدقّ بإيقاع مختلف. هناك شعور غامض يضغط على صدره… إحساس بأن شيئًا كبيرًا على وشك الحدوث.
وقف أمام الباب، طرقه بخفة، ثم دخل بعدما سُمح له:
_”صباح الخير يا باشا.”
رفع المدير رأسه، رجل خمسيني صارم الملامح، عينيه لا تعرفان النوم، دائمًا حادّ النظرات وكأنّه يرى ما لا يُرى. قال بنبرة قاطعة:
_”صباح النور يا يونس… اقفل الباب واقعد.”
أغلق “يونس” الباب، ثم جلس قبالة مكتبه، جسده مستقيم لكن قلبه متأهّب، عيناه تترقبان ما سيُقال.
تكلم المدير بنبرة تحمل ثقلًا خاصًا:
_”عندنا شغل تقيل جدًا يا يونس، قضية مش سهلة وعايزة حد واثقين فيه.”

شدّ يونس ظهره، واستقام أكثر في جلسته:
_”تحت أمرك يا باشا.”
_”وصلتنا معلومات مؤكدة أن تاجر سلاح كبير بيجهز لشحنة هتدخل البلد قريب جدًا… الراجل ده اسمه زاهر الحديدي. اشتغلنا عليه سنين، وكل مرة كان بيطلع أنضف من الميّه، مفيش عليه دليل، ووراه ناس كبار.”
عُقدت حاجبا “يونس”، وظهر التركيز الشديد على ملامحه:
_”زاهر الحديدي؟ ده مش تاجر سلاح عادي يا باشا… اسمه لوحده كفيل يخوّف. كل اللي اشتغلوا عليه ما وصلوش لحاجة.”
أومأ المدير ببطء، وقال بلهجة حازمة:
_”عشان كده عايزين نقطع الشك باليقين. الشحنة دي لازم نوقفها قبل ما تدخل السوق. وإنت هتكون المسؤول الأول عن العملية. هتشتغل مع فريق من العمليات الخاصة، والتخطيط هيكون عليك بالكامل.”
شعر “يونس” بأن كتفيه قد ثُقِلا فجأة، لكن داخله كان هناك يقين واحد: لو دي مهمّة خطيرة، يبقى لازم أكون على قدّها.
قال بثبات:
_”حاضر يا باشا، هعمل المستحيل علشان نوصله.”
ابتسم المدير ابتسامة خفيفة نادرة:
_”أنا واثق فيك. وسامح وعمر معاهم كل الملفات والمعلومات. دي مش قضية عادية يا يونس… ولو فلت مننا دلوقتي، مش هنشوفه تاني.”
وقف “يونس” من مكانه، عينيه تشتعل بالعزيمة:
_”مش هيهرب مننا يا باشا… أوعدك.”
استأذن وخرج من المكتب، ووجهه يحمل مزيجًا من التحدي والإصرار. خطواته كانت واثقة، لكن داخله كان صاخبًا؛ بين ما يشعر به تجاه “عائشة”، وبين المهمة المصيرية التي أصبحت على عاتقه.
كان يعلم أن كل قرار سيتخذه من الآن، لن يؤثر فقط على مسار القضية، بل ربما يغيّر مسار حياته كلها.
*********
خرج “يونس” من مكتب المدير، خطواته كانت سريعة وثابتة، وعيناه تلمعان بعزيمة لا تعرف التراجع. ملامحه المشدودة كانت كفيلة بأن تُخبر أيّ عابر أنه على وشك الدخول في معركة لا يُستهان بها. هذه لم تكن مجرّد قضية أمنية… بل مواجهة حقيقية مع شبح يعبث بأمن البلاد من خلف الكواليس، رجل اسمه “زاهر الحديدي”، تاجر سلاح بارد الدم، لا يترك خلفه أثرًا، ولا يترك أمامه عدوا قائمًا.
في الممر، كان “سامح” يقف منتظرًا، يسند ظهره إلى الحائط وذراعيه متشابكتين، يرصد ملامح يونس بنظرة فاحصة.
قال بلهجة نصف مازحة:
_إيه يا نجم؟ المدير كلفك بمهمة جديدة؟ شكلك خارج من المكتب زى اللي داخل حرب
ردّ “يونس” بابتسامة خفيفة، لكنها لم تُخفِ التوتر خلفها:
_هو فعلا نوع من أنواع الحرب قضية تقيلة والمطلوب منى انجح فيها بأي تمن
اقترب سامح خطوة، وقد بان عليه الجدّ أكثر:
_زاهر الحديدي، صح؟
اجابه “يونس” بجمود:
_بظبط هو زاهر الحديدي؟
هزّ سامح كتفيه:
_المدير كان مجتمع بالقيادات صباحًا، والاسم كان يتردد في كل جملة… البلد كلها على أطراف أناملها مستنية نشوف آخرته.
فتح سامح ملفًا ضخمًا كان يحمله، الأوراق تفيض منه كأنها تنبض بالمعلومات:
_كل المعلومات اللي وصلنا لها لحد دلوقتي هنا
شوف الملف دا فيه تحركاته وأماكن التخزين واسماء جزء من الناس اللى شغاله معاه
أخذ “يونس” الملف، وبدأ يقلب الصفحات بسرعة لكنها ليست عشوائية، عيناه كانتا تلتهمان كل سطر، وكل صورة، وكأن ذاكرته تسجّل كل تفصيلة.
سأل بتركيز:
_الشحنة الجاية… هتوصل إمتى؟
ردّ سامح وهو يشير إلى هامش إحدى الصفحات:
_جت معلومة مؤكدة أنها هتوصل خلال 48 ساعة… إما على الميناء الرئيسي أو على منطقة صحراوية
أغلق يونس الملف بحزم، ونظر إلى سامح بنظرة حادة، تنبئ أن خطته بدأت تتشكل في ذهنه:
_لازم أكون هناك قبل ما يحرك السلاح
هز سامي رأسه مؤيدًا:
_معك فريق من العمليات الخاصة، والدعم مفتوح من الوزارة. القيادة العليا تتابع كل تفصيلة بنفسها.
ظل “يونس” لحظة صامتًا، يُفكر بصوت مرتفع:
_هنحتاج مراقبة دقيقة لتحركاته، وعيون في كل مكان… لو اتحرك نتحرك قبله، ولو اتنفس لازم يكون عندي علم بكل حاجه
ابتسم سامح ابتسامة ساخرة، لكنه كان يقدّر الحماسة في صوت صديقه:
_واضح أنك هتخلي الراجل يكره اليوم اللي قرر يشتغل فيه في السلاح.
تغيّرت نبرة “يونس” فجأة، صار صوته أعمق، وأهدأ… لكنه كان مشحونًا بغضب صامت:
_وهأخليه يكره اليوم اللي اتولد فيه كمان.
أدار وجهه وأكمل طريقه إلى غرفة العمليات، بينما كانت ملامحه تحمل وعدًا لا يُكسر… وعدًا بأن زاهر الحديدي لن يظل طليقًا طويلًا.

بعد يوم طويل من العمل، أنهت “عائشة” أوراقها ورتبت حاجياتها في هدوء. كانت المدرسة قد خلت إلا من بضعة أصوات بعيدة لطلبة يتأخرون عن الانصراف. تنهدت بعمق وهي تلتقط حقيبتها، وكأنها تحاول أن تنفض عن روحها التعب الذي تخلّلها طوال النهار.
خرجت من باب المدرسة، فاستقبلها نسيم المساء برفق، يحمل معه رائحة الغبار والطمأنينة في آنٍ معًا. مشت بخطى هادئة، متجهة نحو الموقف القريب، وحين وصلت، وجدت “فاطمة” تنتظرها كما اتفقتا في اتصال سابق.
ابتسمت فاطمة وقالت بحنوّ:
– “نورتِ يا شيخة واخيرا… شكلك محتاجه فنجان قهوة وساعة فضفضة.”
ضحكت عائشة بخفة، لأول مرة منذ أيام:
– “أهو ده بالضبط اللي أنا محتاجاه، ما تيجي نتمشى شوية.”
سارتا معًا على الرصيف الجانبي، حديثهما في البداية كان خفيفًا، يتنقل بين المواضيع العادية وأخبار الأيام الماضية، حتى اقتربتا من مقهى صغير هادئ، جلسا في زاوية تطل على الشارع.
نظرت فاطمة إلى عائشة مليًا قبل أن تقول بنبرة تجمع بين الحنان والعتاب:
– “كنتِ تعرفي إن النقيب يونس ما سابناش في المستشفى؟ فضّل قاعد في الاستقبال لحد ما الدكتور طمّنه عليكي، ولما قال له إنك كويسة، بس محتاجة راحة، فضل واقف برضو، وكل شوية يبعتلى: (هي فاقت؟ محتاجة حاجة؟ لسه تعبانة؟)… كان قلبه مشغول عليكي بجد.”
نظرت إلى فنجان القهوة أمامها، وصمتها طال. لم تكن تعلم بذلك. قلبها بدأ يدق بسرعة، ومزيج من الخجل والامتنان غمرها فجأة.
– “أنا… أنا رفضت يوصّلني انهارده واتكلمت بأسلوب بارد معاه مش عارفه عملت كدا ليه، كنت خايفة من كلام الناس… الناس ساعات بتشوف اللي هي عايزاه، مش اللي بيحصل فعلاً.”
أطرقت برأسها، ثم تابعت بصوت خافت
– “بس دلوقتي… حاسة إني ظلمته.”
ابتسمت فاطمة في هدوء:
– “ولا يهمك كلام الناس يا حبيبتي مادام مش بتعملي حاجه غلط وبعدين الراجل وقف، ولا حتى اشتكى… بالعكس، كان باين عليه إنه مستعد يستنى اليوم كله بس عشان يطمن عليكي. إنتِ فاهمة ده؟”
أغمضت عائشة عينيها للحظة، تحاول أن تستوعب حجم الموقف. شعرت بشيء يتحرّك في قلبها، دفء لم تألفه من زمن. لم تكن معتادة على هذا النوع من الاهتمام الصادق، النقي، الذي لا ينتظر شيئًا في المقابل.
رفعت رأسها، ونظرت إلى فاطمة، في عينيها بريق امتنان:
– “أنا ممتنة… ليه، وليكي. وجودكم في حياتي فرق معايا أكتر مما كنت متخيلة.”
فاطمة مدت يدها، وضغطت على يد عائشة برفق:
– “وإحنا كمان، وخصوصًا هو… باين عليه إنك بقيتِ غالية عليه أوي، يا عائشة.”
ابتسمت عائشة في صمت، ابتسامة هادئة، لكنها مليئة بالمعاني. كانت تعلم أن هذه اللحظة الصغيرة، بكل ما فيها من صدق، ستكون واحدة من اللحظات التي تظل محفورة في ذاكرتها طويلًا… اللحظات التي تشعر فيها أخيرًا بأنها ليست وحيدة.
********”
دخل “يونس” غرفة العمليات بخطوات ثابتة، تحمل ثقل قرارات لا تقبل الخطأ. ملامحه كانت جامدة، لكن خلف قناع الثبات كانت أعصابه تنهشه من الداخل، وتوتر خفي يتسلل بين ثنايا صدره كلما اقترب من لحظة المواجهة.
الغرفة امتلأت بأصوات الأجهزة والشاشات التي تعرض صورًا حية وتقارير متسلسلة، والضباط منشغلون أمام مكاتبهم، أعينهم تتحرك سريعًا بين الأوراق والشاشات، لكن بمجرد دخول “يونس”، خفّ الضجيج، وارتفعت رؤوسهم نحوه في لحظة احترام تلقائي.
رمقهم بنظرة حاسمة، ثم قال بصوتٍ قوي لا يقبل النقاش:
– “اجمعوا الفريق فورًا… عايز كل العناصر الأساسية تكون هنا خلال نص ساعة.”
تحرك سامح، مرافقه الأقرب، بسرعة وهو يوزع التعليمات، بينما اقترب “يونس” من خريطة كبيرة معلّقة على الحائط، تتفرع منها خيوط ملونة وأرقام تشير إلى مواقع وتحركات. مدّ يده وسحب قلم ليزر، وعيناه تلمعان بالتركيز، كأن ذهنه يحاول أن يسبق خطوات العدو.
– “عندنا ثلاث احتمالات رئيسية… الميناء الشرقي، والطرق الصحراوية المؤدية لمخزن مهجور في منطقة الواحات، ونقطة حدودية غير رسمية… جالنا بلاغ إنها بتستخدم لتهريب البضائع التقيلة.”
لحظات وفتح الباب، ودخل ضابط صغير السن، ملامحه فيها شيء من التوتر والاحترام:
– “الفريق اتجمّع يا فندم.”
استدار يونس، وبعينين ثاقبتين مسح وجوه رجاله. وقفوا جميعًا في انتظار التوجيه، عيونهم فيها خليط من الترقب والحذر… لكن حين التقوا بنظرته، تحوّل الحذر إلى تصميم، كأنهم استمدوا من صلابته صلابةً أكبر.
بدأ حديثه بنبرة هادئة، لكنها محمّلة بثقل المهمة:
– “إحنا داخلين على عملية مش عادية… الهدف اسمه زاهر الحديدي، تاجر سلاح خطير، ورا ضهره دعم كبير ومجموعات مسلحة جاهزة تموت عشانه. الشحنة اللي جاية، لو دخلت السوق… البلد كلها هتدفع التمن. ومفيش مكان للغلط، لا دلوقتي… ولا بعدين.”
سكت للحظة، يترك للكلمات أن تتغلغل في أعماقهم، ثم تابع بنبرة أكثر حزمًا:
– “كل واحد فيكم لازم يكون عارف هو رايح فين، ومع مين، وهيعمل إيه بالتفصيل. هنتقسم لثلاث مجموعات: الأولى تراقب الميناء، التانية تتحرك ناحية مخزن الواحات، والتالتة تغطي الطريق الحدودي.”
أشار بالقلم على النقاط المحددة، وعيناه تتابعان ردود أفعالهم.
– “هنحدّث المعلومات كل ساعتين، وخط الاتصال لازم يفضل مفتوح طول الوقت. أي تحرك غريب، أي شحنة تظهر، أي وجه مش مألوف… يبلغ فورًا. ما نديش للحديدي فرصة يتنفس!”
أومأ الجميع برؤوسهم، صمت عسكري يعبّر عن توافق داخلي تام، رجال مستعدون للمواجهة مهما كانت النتيجة.
بعد انفضاض الاجتماع، ظل يونس واقفًا أمام الخريطة، عينيه مثبتتان على نقطة الصحراء، قلبه ينقبض، إحساس غامض يهمس له بأن هناك، وسط الرمال والظلمة، ستقع المواجهة الحقيقية.
اقترب سامح منه، نبرته خافتة، لكنها مشبعة بالقلق:
– “هتروح أنهي نقطة بنفسك؟”
رد يونس دون تردد، صوته فيه حسم يشبه قرع الطبول:
– “الصحراء… الضلمة هناك بتخبي حاجات كتير. وأنا متعود أواجه النار… مش أهرب منها.”
ابتسم سامح ابتسامة باهتة، لكنها كانت أقرب للرجاء منها للسعادة:
– “خد بالك من نفسك يا يونس… الناس دي ما بترحمش.”
نظر له يونس نظرة حادة، عينيه مليئتان بالإصرار:
– “وأنا كمان ما برحمش.”
تحرك نحو الباب، يضع المسدس في جرابه بحركة سريعة معتادة، خطواته حاسمة كأنها تقطع الطريق بين التردد والتنفيذ. صدره كان يعلو وينخفض ببطء، لكن قلبه ينبض بقوة… بين جحيم المهمة اللي أمامه، ودفء صوت “عائشة” اللي لا يزال يرنّ في أذنه، يذكّره إن هناك من يستحق ان يواجه العالم لاجله… حتى آخر نفس.
*********
كانت أشعة الشمس تتسلّل من بين الستائر، تنثر دفئها على أرضية الصالة الهادئة، بينما جلس الأستاذ كريم في غرفة المذاكرة، يشرح درس اللغة العربية لمريم وزميلتيها. الأجواء داخل الغرفة مشبعة بالتركيز، وأصوات الأقلام على الورق تخترق الصمت بتأدب، فيما كانت “خالة يونس” جالسة في الصالة القريبة، تتابع بصمت مشهد الدراسة، وقلبها ممتلئ بالرضا.
مريم، الفتاة الهادئة ذات الملامح الرقيقة، كانت تحاول أن تحافظ على تركيزها رغم أن عقلها كان مشغولًا بأمور أخرى. ومع نهاية الدرس، جمعت كتبها بسرعة وودّعت الأستاذ وزميلتيها، ثم خرجت إلى الصالة حيث تجلس خالتها تحتسي كوبًا من الشاي الساخن.
جلست بجوارها على الأريكة، ووضعت الكتب بجانبها، ثم التفتت إلى خالتها بنظرة حانية، ولكنها تحمل شيئًا من التردد:
– “خالتي…”
رفعت خالتها عينيها إليها بابتسامة دافئة:
– “نعم يا حبيبتي؟”
تردّدت مريم لحظة، ثم قالت بنبرة خافتة، وكأنها تخشى أن يُساء فهم مقصدها:
– “أنا كنت بفكّر في عائشة… حاسة إنها لوحدها، ومش بتعرف تتعامل مع الناس بسهولة دلوقتي. عارفة إن عندها وجع كبير، بس أنا حابة أساعدها تتخطّى ده.”
نظرت خالتها إليها باهتمام أكبر، ووضعت الكوب على الطاولة أمامها:
– “إنتي حبيتيها؟
– اجابتها مريم بحماس
– “جداً… حسّيت إنها طيبة وهادية، بس جوّاها خوف كبير من الدنيا. ومش قادرة أنكر… نفسي تقرّب من يونس.”
رفعت خالتها حاجبيها بدهشة بسيطة، ثم مالت بجسدها نحوها:
– “يونس؟”
مريم هزّت رأسها بخفة، بعينين تلمع فيهما لمحة أمل:
– “آه، شايفة إنهم شبه بعض… الاتنين مجروحين، بس قلبهم نضيف. وعائشة تستاهل حد يحميها، حد زي يونس. وهو كمان… يستاهل حد زيه، طيب ومحترم. عائشة مش زي البنات اللي بيجروا ورا الكلام الحلو… دي بنت بتحترم نفسها، وده أكتر حاجة تخليني واثقة إنها ممكن تحافظ عليه.”
خالتها نظرت إليها مطولًا، ثم تنهدت وهي تبتسم، تلك الابتسامة التي تجمع بين القبول والدعاء في الوقت ذاته:
– “أنا كمان حبيت عائشة من أول ما شفتها. فيها حاجة كده تريح القلب. لو ربنا كتب بينهم نصيب، أنا هكون أول واحدة فرحانة. بس ما تستعجليش يا مريم… كل حاجة بتيجي في وقتها.”
أضاءت وجه مريم ابتسامة بريئة:
– “أنا مش هضغط عليهم، بس هحاول أقربهم بهدوء… يمكن تبتسم لهم الدنيا شوية.”
خالتها مدت يدها وربّتت على يد مريم بلطف:
– “ربنا يجبر بخاطرهم… وخاطرك يا حبيبتي.”
في تلك اللحظة، شعرت مريم بدفء عميق يسري في قلبها. لم تكن مجرد فكرة عابرة، بل إحساس صادق بأنها على وشك أن تكون سببًا في شيء جميل، نابع من النية الطيبة والحنان.
**********
بعد ساعة من لقائه بالمدير، كان “يونس” يجلس في مكتبه، جسده حاضر، لكن روحه تائهة في عوالم بعيدة. أمامه الملف الضخم الخاص بـ”زاهر الحديدي”، تاجر السلاح الأخطر في البلاد. الأوراق مبعثرة، الصور موزعة، التفاصيل تنطق بالخطر… لكن عينيه لم تكن تُركّز، وكأنها تبحث عن شيء آخر، شيء لا يُكتب في الأوراق ولا يُلتقط في الصور.
القلم يدور بين أصابعه بتوتر، أصوات احتكاكه بالخشب تصدح في الصمت كأنها تنطق بما يعجز هو عن البوح به. محاولات التركيز تنهار واحدة تلو الأخرى، كلما حاول الغوص في تخطيط العملية، كانت “عائشة” تتسلل إلى ذهنه. ملامح وجهها، نظرتها الخافتة، صوتها المرتبك، الانكسار الذي رآه في عينيها ذلك الصباح… كان أقسى من أي خسارة خاضها في ميدان التحقيق.
لم يكن ما يشعر به مجرد خيبة بسبب رفضها، بل وجع مختلف… وجع يشبه الخوف الذي سكن عينيها، وكأنها ترفضه لا لأنها لا تثق به، بل لأنها لا تثق في الأمان ذاته.
رنّ الهاتف فجأة، فقطع حبل أفكاره. الرقم غريب، لكنه أحس بانقباضة خفيفة في صدره، إحساس سبق العقل، أشبه بنداء داخلي خافت.
رفع السماعة بسرعة، ونبرته خرجت متوترة:
– “ألو، مين معايا؟”
جاءه صوتها… ناعم، متردد، فيه رجفة خفيفة كأنها تقف على أطراف حروفها:
– “السلام عليكم… أنا عائشة.”
نهض من مقعده تلقائيًا، وكأن الأرض انزاحت من تحته للحظة. صوته خرج بسرعة، تغلفه طبقة من القلق والدفء:
– “إزيك يا عائشة؟ في حاجة؟ إنتِ بخير؟”
صمتت لثوانٍ، ثوانٍ كانت كافية ليسمع أنفاسها المرتبكة على الطرف الآخر، قبل أن يأتي صوتها خفيضًا، كأنها تنقّب داخل قلبها عن شجاعة مفقودة:
– “كنت… كنت بس عايزة أشكرك على اللي قلته الصبح. أنا ما كنتش أقصد أكون جارحة، بس أنا… مشوشة. كل حاجة حواليا متكسّرة، وأنا بحاول ألمّ الروح من بين الركام.”
ابتسم يونس، ابتسامة لم تشبه أي ابتسامة قبلها. كانت ابتسامة قلب فهم ما وراء الكلمات، وتلقّى الاعتذار غير المعلن بحب.
قال بصوت هادئ، لكنه يحمل طبقات من الحنان:
– “مش لازم تكوني قوية طول الوقت، يا عائشة. أوقات كتير بنحتاج حد يسندنا… وأنا هنا. موجود دلوقتي، وبكرة، وبعده… قد ما تحتاجيني، هكون جنبك.”
سكن الصمت بينهما مجددًا، لكنه لم يكن صمتًا بارداً، بل صمت دافئ، كأن مشاعرها ترتب نفسها قبل أن تُعلنها.
ثم جاء صوتها، ناعمًا، لكنه حمل خلفه زلزالًا من الاعترافات غير المنطوقة:
– “يونس… شكراً. مش بس علشان اللي قلته، علشان وجودك. علشان إنك شايفني، وأنا تايهة وبتحاول تساعدني… وده لوحده كتير.”
شعر بانقباضة مفاجئة في قلبه، مزيج من الشفقة والرغبة في الحماية، من الحنين والرغبة في الاقتراب. تمنّى لو كان أمامها، ليضع يده على كتفها، ليقول لها: “مش لوحدك… مش طول ما أنا موجود.”
قال بصوت أكثر دفئًا:
– “أنا شايفك… وسامعك… وهفضل كده، لحد ما ترجعي تبقي بخير، زي ما تستحقي.”
همست بخجل:
– “عن إذنك هقفل وشكرا مره تانيه…”
وقبل أن يرد، كانت قد أنهت المكالمة
ظلّ يونس ممسكًا بالسماعة للحظات، كأن صوته لا يزال معلقًا في أذنه، وكأن قلبه رافض أن يتركها تغيب من جديد. شعر بشيء يتفتح داخله… أمل صغير، لكنه حي، ينمو في صمت ويزاحم كل تفاصيل مهمته.
أعاد النظر إلى الملف أمامه، ثم أغلقه للحظة، وتنفس بعمق. وبعدها فتحه مجددًا، بنظرة مختلفة، نظرة مليئة بالإصرار والتحدي. الحرب مع “زاهر” لا تحتمل تشتيتًا، والعدالة لا تنتظر القلوب المرتبكة.
قال لنفسه بصوت حاسم:
– “زاهر الحديدي مش هيهرب… لا مني، ولا من العدالة، ولا من البلد دي.”
ثم بدأ يكتب أول خطوة في الخطة… وإصبعه يرتجف بخفة، لا من الخوف، بل من الإصرار. لأنه في قلبه، لم يعد القتال من أجل القانون فقط… بل من أجل أن ينقذ عالمًا، لعلّه يومًا يصير مكانًا آمنًا لـ”عائشة”.
*********
«اما على الناحية الاخرى»
جلست على حافة السرير في غرفتها الجديدة، تحتضن كوبًا من الشاي بكلتا يديها، كأنها تبحث في دفئه عن عزاءٍ يكسر صقيع الوحدة المتجمّعة في صدرها. رائحة الطلاء الجديد ما تزال تملأ الغرفة، والستائر الثقيلة تُسدل على نصف النافذة، تحجب الضوء كأنها تشاركها الحزن بصمتٍ حنون.
جالت بنظرها في أركان الغرفة، تحاول أن تخلق علاقة ما مع المكان، أن تُقنع قلبها أن هذا البيت أصبح بيتها. لكنها لم تنجح. كل شيء بدا بارداً، صامتاً، خالياً من الروح. الجدران لا تحفظ لها ذكرى، والزوايا لا تحتضن ضحكاتها، كل شيء جديد… غريب… وكأنها ضيف عابر في حياة ليست لها.
وضعت الكوب جانبًا وتنهدت بعمق. الوحدة كانت تُطبق على صدرها كقبضة فولاذية، والخوف من القادم ينهشها في صمت. لم تبكِ، لكنها شعرت بأن الدموع تقف خلف جفنها كجنود على وشك الانقضاض، تنتظر فقط لحظة انكسار واحدة.
وفجأة، دوّى صوت خافت خلف الباب.
خبطات خفيفة… دافئة.
رفعت رأسها بسرعة، لم تتوقع زائرًا. قلبها خفق قليلاً، كأنها انتزعت من عالمها الداخلي فجأة. نهضت بخطوات مترددة، وفتحت الباب ببطء.
كانت “مريم” واقفة هناك، تبتسم بخجل طفولي، وفي يدها طبق صغير عليه قطعة من كعكة الشوكولاتة، لا تزال ساخنة.
قالت بنبرة مرحة رقيقة، ممزوجة بودّ صادق: _ “خالتو عملت كيك، وقلت أشاركك. ينفع نقعد شوية سوا؟”
اتسعت عينا “عائشة” بدهشة خفيفة، لم تتوقع هذه المبادرة، لكن في داخلها تحرّك شيء… شيء دافئ، كأن الوحدة التي كانت تُخيّم على قلبها بدأت تنزاح قليلًا.
_ “أكيد… اتفضّلي، ادخلي.”
دخلت “مريم” بخفة وجلسَت على طرف الأريكة، وضعت الطبق بينهما، وقالت دون مقدمات، كأنها تحاول أن تفتح بابًا مغلقًا:
_ “معلش انا عارفة، ان الدنيا صعبه شوية معاكي حياة جديدة وبيت جديد… حاسة إنك تايهة. مش عارفة هاتعود ولا لأ. بس صدقيني مع الوقت، ومع ناس طيبين حواليكى، الدنيا هتبقا أبسط وأخف.”
ابتسمت “عائشة” بخجل، كانت تُخفي ارتباكها خلف نظرة خافتة. قلبها كان يهمس بشيء لا تستطيع تفسيره… ربما امتنان، ربما حنين، وربما مجرد احتياج لوجود إنساني.
قالت بصوت هادئ لكنه محمّل بالوجع: _ “أنا فعلاً كنت محتاجة أسمع الكلام ده… كنت حاسة إني لوحدي وسط كل حاجة.”
ردت “مريم” وهي تقطع قطعة صغيرة من الكعكة وتناولها لعائشة: _ “مش لوحدك… إحنا معاكي. أنا، ويونس كمان. عارفة؟ دايمًا بيتكلم عنك، ووشه بيبقى مليان قلق وخوف عليكي كأنك أغلى من الدنيا كلها.”

كلماتها تسللت إلى قلب “عائشة” كنسمة دافئة في عزّ الشتاء. شعرت بحرارة في صدرها، بحرارة تُحيي شيئًا خامدًا فيها منذ وقت طويل. عيناها لمعتا، لكن ليس من الحزن، بل من الامتنان… الامتنان النقي، العميق.
همست بصوت مرتعش:
_ “مريم… مش عارفة أقولك إيه. وجودك النهاردة… حسّسني إن في أمل، وإن فيه ناس ممكن تنقذ الواحد وهو بيغرق من غير ما يطلب النجدة.”
ابتسمت “مريم” وربتت على يدها بلطف حنون: _ “مفيش شكر بينّا. إحنا بقينا لينا في بعض، وأنا مش هسيبك تغرقي… ولا حتى توصلي للمية.”
ضحكتا معًا ضحكة قصيرة، لكنها كانت ضحكة حقيقية، صادقة، كسرت حواجز كثيرة، وبنت جسرًا صغيرًا من الأمان بين قلبين كانا غريبين منذ لحظات.
وفجأة، نهضت “مريم” بحماس، وأمسكت يد “عائشة” برقة وإصرار:
_ “يلا تعالى معايا نقعد شوية في البيت عندي، مع خالتو منى. هي قاعدة لوحدها، وأكيد هتفرح بوجودك.”

“عائشة” سحبت يدها بخجل وتردّدت قليلًا، وعيناها تفرّان من نظرات “مريم”:
_ “مش عايزة أسببلكم إزعاج… خليكي إنتِ معايا، كفاية وجودك هنا.”
لكن “مريم” ابتسمت ابتسامة عنيدة ومطمئنة، وضغطت على يدها بحنان:
_ “مافيش حاجة اسمها إزعاج… البيت منور بيكي، ومش هنسيبك لوحدك تاني. تعالى، وهنضحك، وناكل الكيك سوا.”
استسلمت “عائشة” أخيرًا، ونهضت معها بخطوات مترددة لكنها دافئة. ولأول مرة منذ فترة، شعرت أن قلبها ينبض بشيء يشبه الطمأنينة.
********
داخل مكتب فخم تغلفه الإضاءة الخافتة، والجو مُحمّل برائحة التبغ والقلق، كان “زاهر” يجلس على كرسيه الجلدي الكبير، مائلًا بجسده للأمام، كأن الضيق حاصر صدره. وجهه متجهم، عينيه تلمع ببريق حاد أقرب للغضب، كأن النار مشتعلة خلف جفونه، مستعدة للانفجار.

أمامه جلس رجل غامض، ملامحه غارقة في الظلال، لا يظهر منه سوى خطوط وجه حادة وصوت منخفض بثقل:
_ “بص يا زاهر… المرة دي مفيش مجال للغلط. مش عايزين أي خسارة تاني. السلاح لازم يدخل في أسرع وقت، وكل حاجة لازم تكون محسوبة بالملي.”
ضرب زاهر بكفه على سطح المكتب بخشونة مفاجئة، وصوته انفجر في الغرفة:
_ “أنا مش هستحمل أي غلطة تاني! الصفقة اللي فاتت خسرّتني كتير… ودي مش هتتكرر، فاهم؟ المرة دي كل حاجة تحت السيطرة.”
الرجل لم يتأثر بثورته، أخذ رشفة من القهوة، ثم نفخ دخان سيجارته ببطء، كأن أعصابه مغمّدة في جليد:
_ “تمام… بس لازم نكون متأكدين إن الطريق نضيف. مفيش مفاجآت. مفيش غلطة صغيرة تودي الكل في داهية.”
زاهر رفع حاجبه بثقة، وصوته اتشح بالتحدي:
_ “أنا مخطط لكل تفصيلة. المراكب هتوصل في معادها، والرجالة متوزعين صح، وكله ماشي بالسكات. محدش هيشم ريحتنا.”
وقبل أن يُكمل جملته، انفتح الباب فجأة بعنف، وصوت الدفعة دوّى في الغرفة كرصاصة. دخل رجل ضخم الجثة، أنفاسه لاهثة، ووجهه مصبوغ بقلق واضح. عيناه كانت تجول في المكان بتوتر، كأنها تبحث عن ملاذ من غضب متوقّع.
زاهر نظر له من تحت جفنيه، شعل سيجارته بهدوء ظاهري، لكن عضلات وجهه مشدودة:
_ “إيه؟ شكلك جايبلي خبر مش مريح.”
بلع ريقه بصعوبة، وحاول يتماسك:
_ “المكان اللي هننقل فيه الشحنة… انكشف.”
في لحظة، اتجمد كل شيء. السيجارة ارتعشت في يد “زاهر”، وعينيه اتسعتا بحدة كأن السقف وقع عليه. صوته خرج غليظًا، متوترًا، والشرر يتطاير من نبرته:
_ “انكشف؟! إزاي الكلام ده؟! إنت متأكد؟!”
رد بسرعة، كأن الكلام بيهرب من لسانه:
_ “في حد بلغ عن تحركاتنا… والبوليس اتحرك. لازم نغير كل الخطة فورًا، وإلا الشحنة هتطير.”
زاهر شرد لحظة، عيناه زائغتان، ثم نطق بنبرة أشبه بالزئير المكبوت:
_ “مين اللي ورا الموضوع ده؟!”
تردد، كأن لسانه ثقل فجأة، ثم قال بتردد وحذر:
_ “الضابط اللي ماسك الملف… اسمه يونس.”
خَيّم الصمت على الغرفة فجأة، كأن الزمن نفسه توقّف. حتى صوت عقارب الساعة، الذي كان يكسر الرتابة بهدوء مريب، خفت وكأنه اختنق تحت وطأة اللحظة. الرجل الغامض، الذي ظل طيلة الوقت متماسكًا بهدوء قاتل، تجمّد في مكانه كأن صاعقة ضربته في أعماقه. سيجارته انزلقت من بين أصابعه دون أن يشعر، وسقطت على الأرض لتتناثر ذرات الرماد من طرفها كأنها تشي بانهيار داخلي.
اتسعت عيناه ببطء، واهتزّ جفنه للحظة، كأن الاسم الذي سُمع للتو اخترق دروعه المحكمة، ونفذ إلى بقعة مظلمة في ذاكرته حاول جاهدًا دفنها. لم يتكلم، لم يتحرك، لكن وجهه رغم الظل الذي يكسوه انكشف للحظة، فيه صدمة مشوبة بذعر مكتوم، وارتجاف بالكاد يُرى عند طرف فمه، كأن الكلمات سحبت من داخله شيئًا لم يكن مستعدًا لمواجهته.
همس، بصوت منخفض أقرب للصدى:
_ “يونس…؟”
لاحظ “زاهر” التحول الفجائي في ملامحه؛ تلك الرجفة الخفيفة التي سرت في عينيه، وتلك النظرة المذعورة التي حاول إخفاءها عبثًا. وقف زاهر ببطء، كما لو أن ثقل الشكوك بدأ يسحب جسده نحو الحقيقة. نبرة صوته تغيّرت… أصبحت أبطأ، لكنها أكثر حدّة، مشبعة بريبة قاتمة تتسلل بين كلماته:
“إيه؟… تعرف الاسم ده منين؟”
حاول تمالك نفسه، مسح وجهه بكف مرتجف في حركة لا إرادية، وكأنّه يحاول استعادة قناعه المنهار. لكن ملامحه لم تطاوعه، بل تمادت في فضحه. اتسعت حدقتاه، وتصلّبت عضلات فكه، وعروقه النابضة عند عنقه كانت تنبض بإيقاع قلق لا يهدأ.
زحف الشك إلى وجه “زاهر” مثل ظل ثقيل، واحتد بريق عينيه كأنهما تفتّشان في عمق الآخر عن خيانة. الصمت الذي خيّم لم يكن هدوءًا… بل كان عاصفة تتجمّع في صمت، تنذر بانفجار وشيك.
سحب زاهر نفسًا عميقًا، ثم تقدّم خطوة، ووضع راحة يده على سطح المكتب بحزم. نظرته ثبتت في عيني الرجل، لا تزوغ، لا تترك له مفرًا، كأنها تشق طريقها داخل روحه:
_ “فيه إيه؟… ردّ عليا. شكلك اتغير أول ما الاسم اتقال. في سر؟”
الرجل لم يتكلم. لكنه لم يكن بحاجة إلى الكلام. تردده، الصمت الثقيل، ارتباك أنفاسه… كل ذلك كان أبلغ من ألف اعتراف. الصمت نفسه كان نذير خطر.
في تلك اللحظة، عرف “زاهر” الحقيقة التي لم تُقال:
الخطر الحقيقي لم يكن في الشرطة، ولا في المطاردات ولا في يونس نفسه…
الخطر الأكبر كان هنا، أمامه، في الغرفة ذاتها، يلبس قناع الثقة، ويخفي خلفه خيانة… ربما عمرها سنوات.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية خيوط النار)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock