روايات

رواية ضبط وإحضار الفصل الحادي عشر 11 بقلم منال سالم

رواية ضبط وإحضار الفصل الحادي عشر 11 بقلم منال سالم

رواية ضبط وإحضار البارت الحادي عشر

رواية ضبط وإحضار الجزء الحادي عشر

ضبط وإحضار
ضبط وإحضار

رواية ضبط وإحضار الحلقة الحادية عشر

مستخدمة أسلوب الثعالب الماكر، أجادت صياغة أكاذيبها الملتوية لتدفعه لتصديقها، فيظن أنها ضحية مكيدة غَيرة من رفيقتها اللعوب وغير السوية. بدا “أنس” غير مقتنع بما تفوه به، وظل يحدق بها مليًا بنظراته الغامضة، قبل أن يشكك في كلامها متسائلًا:
-وإيه اللي يخليها تعمل كده؟
وكأنها لم تعرف معنى الصداقة الحقيقية يومًا، فأخبرته “ميرا” بنبرة رزينة هادئة، ومزيفة للواقع:
-هي بتغير مني، لأني أحسن منها في كل حاجة، وحبت توقع بينا، باعتبار إنك صيدة حلوة.
ضيق عينيه مرددًا في استنكارٍ:
-صيدة!
أكدت له بخبثٍ أكبر:
-أيوه، عريس لقطة، هيعملها كل حاجة، وهتاخد من وراه النفوذ والمركز.
لوهلةٍ رفض الانسياق وراء كذبها، واستطرد بخشونةٍ:
-وده مقلب جديد؟ عبيط علشان أصدق ده!
للغرابة بدت ثابتة على موقفها، لتوحي إليه بأن ما حدث قد تم بالفعل، فعلقت بهدوءٍ شديد، جعل بذور الشك تبزغ أكثر بداخله:
-عايز تصدق أو لأ، فده يرجعلك، أنا حبيت أعرفك وبس، وإنت حر في تصرفك…
ثم ادعت جمعها لأشيائها لتنهض واقفة متابعة كلامها المقتضب إليه:
-عن إذنك.
استوقفها بالنهوض هو الآخر ليردف مهددًا:
-لو طلع كلامك ده بجد فأنا مش هعتقها.
منحته هذه النظرة اللئيمة قبل أن تخبئ عينيها خلف نظارتها الشمسية مرددة:
-وأنا أكيد مش هقلل من نفسي علشان حاجة كدب…
خفضت من نبرتها عن عمدٍ ليبدو صوتها متأثرًا عندما أتمت جملتها:
-أنا للأسف اكتشفت ده متأخر.
أشار لها بسبابته قائلًا من بين أسنانه المضغوطة:
-همشي وراكي المرادي وأشوف.
ابتسمت له قائلة:
-أوكي…
همَّت بالتحرك؛ لكنها تعمدت الالتفاف والنظر إليه مرة أخرى لتخبره بمزيدٍ من الخبث:
-خلينا على اتصال.
ثم لوحت له بيدها لتودعه، فتابعها بناظريه وهي ترحل بعيدًا، ليردد مع نفسه:
-شكلها هتحلو على الآخر!
……………………………….
أثناء مكالمتهما الهاتفية الممتدة لما يقرب من النصف الساعة، للحديث عن ملخص يومهما والتعليق على المستجدات من الأمور، وصل إلى كلتيهما إشعارًا بوجود رسالة بريد إلكترونية، فتحتها “بسنت” أولًا لتقرأها بصوتٍ مسموع:
-ده إيميل مبعوت باليوم الترفيهي، هيعملوه في نادي الرماية.
حكت “بهاء” طرف أنفها قائلة بعدم اكتراثٍ:
-مش مهم، حاجة مش ضروري أوي.
هتفت “بسنت” فجــأة بصوتٍ متحمس اخترق طبلة أذن رفيقتها:
-طب ما تيجي نجرب ونروح، ونعيش الأجواء هناك.
ردت عليها بشيءٍ من الانتقاد:
-مش إنتي يا بنتي لسه قايلة إنك خايفة يخلصوا عليكي؟!
افتعلت الضحك، وقالت مبررة:
-ده كان وقت ساعته، لحظة شيطان، خلينا نشوف هيروقوا علينا إزاي، مش هنخسر حاجة، وبعدين ده معمول في نادي الرماية، وده من أفضل النوادي يعني.
تنهدت “بهاء” ببطءٍ، لترد بعدها في استسلامٍ:
-ماشي، علشان خاطرك بس.
امتدحت دعمها لها بهاتفها الصاخب:
-حبيبتي يا “بيبو”.
انتقلت كلتاهما بعدئذ للحديث عن كيفية الاستعداد لتمضية هذا اليوم والاستمتاع بالبرنامج المعروض فيه.
…………………………………
استحب الحضور في مثل هذه المناسبات الاجتماعية بملابس مريحة وغير رسمية، فاتفقت “بهاء” مع رفيقتها على ارتداء ثياب (كاجوال) تجمع بين اللونين البيج الفاتح والأبيض، ليتمكنا من التحرك بأريحية، وأيضًا للاندماج بين الآخرين بسلاسةٍ ويسر. ولجت الاثنتان إلى داخل النادي بعدما صفت “بسنت” سيارتها في منطقة انتظار السيارات المُلحقة به، بدا المكان مُهيئًا لاستقبال الزوار منذ لحظة الدخول، حيث اصطف بعض الأفراد العسكريين في زي مدني للترحيب بالطلاب والدارسين في الأكاديمية.
ابتهجت “بسنت” لرؤية حفاوة الاستقبال الدافئ، ومالت على رفيقتها تخبرها:
-كان هيفوتنا كتير لو مكوناش جينا.
ردت عليها بحذرٍ، وهي تطوف ببصرها في الأجواء:
-احنا لسه في البداية، الله أعلم هيحصل إيه بعد كده.
تمسكت صديقتها برأيها الإيجابي هاتفة بنفس الروح المفعمة بالحيوية:
-الحاجة الحلوة بتبان من أولها، وأنا متأكدة إننا هنتبسط.
سارت كلتاهما بإرشادٍ من الغير إلى حيث يجتمع المنتمين إلى الأكاديمية، من أطقم الأساتذة، والمحاضرين، وأيضًا الطلبة والدارسين. شعت الأجواء بالتفاعل والحماس، فأضفت على الجميع نوعًا من الألفة والتقارب. وجهت “بسنت” إصبعها نحو منطقة طاولات الطعام، وهتفت في الحال:
-ده عاملين بوفيه مفتوح، يالا بينا نلحقه قبل ما يخلص.
اعترضت عليها قائلة:
-طيب نسلم على أصحابنا، وبعدين ناكل.
أصرت على رأيها بتصميمٍ:
-وماله هنعمل كده واحنا معانا أطباقنا.
جذبتها بعدها من ذراعها نحو منطقة الطعام، لتمسك كل واحدة منهما بصحنٍ كبير فارغ، وراحتا تنتقيان من الأطعمة الشهية ما يتناسب مع أذواقهما، تذوقت “بسنت” قطعة من الحلوى، واستطردت بإعجابٍ بعدما ابتلعتها:
-الأكل مخدوم الصراحة.
تناولت “بهاء” هي الأخرى ما في يدها، وعلقت بسرورٍ:
-احنا نودع الدايت.
اتسعت ابتسامة رفيقتها العريضة قبل أن ترد:
-ومن امتى بنلتزم بيه؟
ثم مدت يدها وسحبت بعض الفاكهة لتملأ بها صحنها، لتضيف بعد ذلك:
-وبعدين احنا بنبذل مجهود في التدريب ده، فلازم نعوض الطاقة اللي بتروح مننا.
ابتسمت لها معقبة بمزاحٍ:
-كده احنا هنبقى دببة.
ردت بغير مبالاة:
-معلش هنبقى ناخد فوار.
علق ما كانت تمضغ “بسنت” في حلقها عندما استطرد أحدهما من خلفها مرحبًا بهما:
-منورين…
التفتت ناظرة إليه بعينين جاحظتين، وهي تحاول ابتلاع ما في جوفها، لتجد “أمير” مستمرًا في التعبير عن مشاعره علنًا:
-حقيقي فرحت لما شوفتكم هنا.
تمكنت “بسنت” من التنفس، وهمهمت في خفوتٍ، وقد انعكس على تعبيرات وجهها علامات الامتعاض:
-اللقمة كانت هتقف في زوري.
حدق “أمير” في وجه “بسنت” متابعًا في نبرة مهتمة:
-لو في حاجة نقصاكم عرفوني.
لم تنطق الأخيرة بكلمةٍ، متعجبة من طريقة تحديقه المريبة بها، فتولت “بهاء” الكلام عنها:
-شكرًا لذوقك.
حاول “أمير” البحث عن أي شيء ليطيل من حواره معهما، لئلا تشعرا بالملل منه، فاستأنف حديثه:
-“عمر” باشا واقف هناك، وأكيد لما هيشوفكم هيسلم عليكم.
تلقائيًا اتجهت “بهاء” بعينيها إلى حيث يقف، أبصرته يتحدث مع مجموعة من الشابات، فانتابها الضيق لأن غيرها تلاطفه بأريحية زائدة، عبست قليلًا، وردت:
-مالوش لازمة يتعب نفسه.
أخبرها مبتسمًا بتهذيبٍ:
-هو بيقوم بواجبه مع كل الطلبة بتوعه…
ما لبث أن اتجه ببصره نحو “بسنت” ليخاطبها بتوريةٍ حذرة:
-بس إنتو ليكم مكانة مميزة عندنا.
سرعان ما اعتلت الدهشة وجه الأخيرة فسألته مستفهمة:
-اشمعنى؟
تلبك من افتضاحها لمحاولته المكشوفة لإظهار اهتمامه بها، فراوغ قائلًا وهو يمد يده بورقة صغيرة:
-آ.. كنت هنسى، مده جدول الأنشطة، لو معندكوش فكرة عن اللي هيحصل.
عاملته “بسنت” بنوعٍ من الرسمية:
-قريناه في الإيميل.
أحس بالحرج الشديد من معاملتها الجافة معه، ومع ذلك حافظ على ثبات بسمته الودية مرددًا:
-تمام، أنا حبيت أتأكد إنكم على علم بكل حاجة.
ردت باقتضابٍ:
-تسلم.
هز رأسه معقبًا:
-طيب هستأذن، ولو احتجتم حاجة نادوني.
أولته “بسنت” ظهرها لتنظر إلى مائدة الطعام، وكأن وجوده من عدمه لا يعني لها شيئًا، في حين كلمته “بهاء” باحترامٍ:
-حاضر، وشكرًا مرة تانية ليك.
انتظرت ذهابه لتلكز رفيقتها في جانب ذراعها كنوعٍ من التوبيخ لها، قبل أن تنهرها:
-إنتي يا بنتي رخمة ولا إيه؟
سألتها “بسنت” بفمٍ شبه ممتلئ بالطعام:
-ليه بس؟
أجابتها بنفس النبرة المعاتبة:
-الراجل بيكلمنا بذوق، وإنتي بتكسفيه كده!
أعطتها تفسيرها المنطقي:
-اللي اتلسع من الشوربة بينفخ في الزبادي، وأنا عايزة أمشي جمب الحيط، وأطلع من التدريب ده على خير.
حركت رأسها بإيماءة خفيفة لتُبدي موافقتها على ما قالت، وراحت تنتقي من أطباق الطعام ما تتذوقه، ليقطع عليها استمتاعها بهذا الطعم الشهي صوت “عمر” وهو يُحادثهما:
-صباح الخير عليكم.
لم تنظر تجاهه، وظلت متسمرة في مكانها، تحاول ابتلاع ما في فمها بتعجلٍ، لئلا يرى خداها وهما منتفخان بالطعام .. بالتبادل معها قامت “بسنت” بالرد عليه:
-صباح النور.
تصنعت الابتسام لتصغي إليه وهو يكمل:
-كويس إنكم جيتو، صحيح الدنيا هادية لسه، شوية وهتلاقي الوضع غير.
آنئذ استدارت “بهاء” لتواجهه، وردت بإيجازٍ:
-كويس.
سألهما وعيناه مرتكزتان عليها فقط:
-خدتوا جولة في المكان ولا لسه؟
ظلت “بهاء” صامتة، فأجابته “بسنت” في قدرٍ من الصراحة:
-لأ، احنا جينا على الأكل على طول.
ابتسم لتعليقها مرددًا:
-أيوه، مايصحش تمشوا على بطن فاضية.
سرت مشاعر الخجل في دماء “بهاء”، وأخذت تنظر بتعجبٍ إلى رفيقتها التي كانت منطلقة في الحديث معه باستفاضةٍ، فمن يتطلع إليها الآن لا يصدق أنها كانت جامدة قبل برهة! تنبهت لحديث “عمر” عندما أضاف:
-بالمناسبة في معرض معمول للمنتجات المحلية في النادي، ممكن تبقوا تاخدوا فكرة عن الحاجات اللي فيه.
تظاهرت “بهاء” بأنها منشغلة بما يوجد في صحنها، بينما ردت عليه “بسنت” باهتمامٍ:
-أوكي، هناكل ونروح نبص عليه:
تراجع خطوة للوراء متأهبًا للمغادرة وهو يردد:
-تمام، هسيبكم شوية وأرجعلكم تاني.
لوحت له “بسنت” بيدها قائلة:
-خد راحتك.
انتظرت ابتعاده لتسأل صديقتها في لؤمٍ، وهذه النظرة العابثة تطل من مقلتيها:
-هي القطة بلعت لسانك ولا إيه معاه؟
شعرت بشيءٍ يحز في صدرها، وراحت تخبرها في ندمٍ:
-معرفش بيحصلي إيه!
تنهدت “بسنت” بعمقٍ، وعلقت بتحيرٍ:
-الظاهر إن كل واحدة فينا بحالة!
…………………………………….
انتهت الخطبة القصيرة من القائد للترحيب بالجميع وشكرهم على تواجدهم، لينتشر بعدها الحضور في الأرجاء للاستمتاع بفاعليات اليوم الترفيهي، والتي تنوعت ما بين الاشتراك في التدريب المجاني على الرماية، أو مسابقات الألعاب الإلكترونية واختبارات الذكاء، أو القيام بجولة في داخل المعرض الخاص بتاريخ الأسلحة العسكرية، وركن البطولات فيه، بجانب التمتع بشراء المنتجات يدوية الصنع من المعرض المحلي المقام بداخله.
سارت “بهاء” مع رفيقتها بتلكؤٍ لتأمل المنطقة الخاصة بالتسوق التجاري، والتي استحدث وجودها بالمكان؛ لكن للأسف كانت معظم المحال مغلقة، لمحت من على بعدٍ “أنس”، فتخشبت في مكانها، وهتفت بضيقٍ وقد جذبت رفيقتها من ذراعها لتجبرها على الوقوف:
-الحقي الرخم جه!
رأته “بسنت” كذلك، فتجهمت قسماتها مرددة بقلقٍ:
-تعالي نبعد أوام قبل ما يترازل علينا.
استدارت كلتاهما على عجالةٍ، وهرولتا في الاتجاه المعاكس، لتقول “بهاء” وهي تشير بيدها للأمام:
-المعرض ده حلو نتدارى فيه.
أسرعت الاثنتان تجاهه، فكان مكانًا جيدًا للتواري عن الأنظار، ناهيك عن كونه فرصة طيبة لإلقاء نظرة كثبة على المنتجات المعروضة فيه. وقفت “بسنت” أمام إحدى الأركان المخصصة لبيع القبعات اليدوية المزدانة بأشرطة الستان، أعجبت بالتصاميم البسيطة، وأشارت إليها هاتفة:
-بصي الطواقي دول.
راقت إليها أشكالها المختلفة، فأثنت على جودة المنتج:
-شكلهم حلو أوي.
وقعت عيناها على ركنٍ آخر يبيع الحقائب اليدوية المصنوعة من خيوط التريكو وأيضًا الكروشيه، فهتفت وهي تشير تجاههم:
-ده في شنط كمان هناك!
تمكنت “بهاء” من رؤية إحدى الفتيات وهي تبيع الشموع المعطرة، فأخبرتها بها، ليأتي تعليق رفيقتها عابثًا:
-ينفعوا وقت الجواز.
أخفت “بهاء” ضحكتها الصغيرة، وانتقلت ببصرها نحو ركنٍ آخر يبيع الأشياء التذكارية، لتصيح “بسنت” في حماسٍ بعدما التقطت إحدى الميداليات ذات الشكل المميز:
-شوفي الميداليات دول، في واحد شبه العسكري، تفتكري يليق على مين، “عمر” ولا “أمير”؟
كان تلميحها صريحًا للغاية مما أربك “بهاء”، فانطلقت تحذرها:
-بلاش بدل ما نلبس في الحيطة، وأنا آخر حلم مش مريحني.
استرعى فضولها كلامها الأخير، فسألتها بإلحاحٍ:
-حلم إيه ده؟ ماقولتليش عليه.
لم تحبذ الحديث عنه، فقالت وهي تستعد للاتجاه إلى الممر التالي بداخل المعرض:
-بعدين، تعالي نبص على النضارات.
اعترض طريقهما “عمر”، فاستغربت الاثنتان لرؤيته، وزاد ذلك الشعور بالحيرة عندما خاطبهما:
-كويس إني لاقيتكم.
قبل أن تبادر إحداهما بسؤاله، أخبرهما بلهجةٍ من يُقرر لا من يُخير:
-دلوقت هيبدأ تدريب الرماية، أنا حاطط اسمكم فيه.
تدلى فك “بسنت” للأسفل لتهتف باستنكارٍ متعاظم:
-رماية إيه؟
بينما ردت “بهاء” في اضطرابٍ:
-احنا مابنعرفش نضرب نار أصلًا.
قال وهو يشير لهما بالتحرك فورًا:
-دي فرصة علشان تتعلموا حاجة.
اهتز شفتا “بسنت” في رجفةٍ واضحة، وراحت تهمهم لرفيقتها بإحباطٍ امتزج بالرعب:
-ملحقتش أفرح بالطقية!
…………………………………….
لأكثر من مرة حاولت “بسنت” إقناع صديقتها بمراوغة “عمر”، والهروب منه قبل أن يتورطا في هذا النوع من التدريبات الخطيرة؛ لكنه ضيق عليهما الخناق، وجعل فرصهما أقرب للعدم، من خلال ملازمته اللصيقة لهما، لتجدا نفسيهما مع البقية في قاعة كبيرة ممتدة لمسافة عشرات الأمتار بشكل مستطيل، ومجهزة بأحدث أدوات التصويب والرماية.
أظهر “عمر” إعجابه بالتواجد الكثيف من الدارسين في منطقة الرماية المغلفة:
-أنا مبسوط إني شايف العدد ده قصادي النهاردة.
حاولت “بسنت” البقاء في المؤخرة، وهمست لرفيقتها في تبرمٍ:
-إياكش ما يعملوناش أهداف حية وينشنوا عليها.
أحنت “بهاء” رأسها تجاهها لترد بصوتٍ خفيض:
-مش للدرجادي!
على نفس الوتيرة الهامسة تساءلت “بسنت”:
-هو إنتي تضمنيه؟
بعد صمتٍ مدروس أجابتها:
-الصراحة لأ!
أضافت “بسنت” أيضًا في تذمرٍ:
-وتلاقي اللزج كان جاي ياخدنا لهنا، بس ملحقناش!
لحظتها طافت “بهاء” بنظرها على الواقفين لتتساءل:
-أنا مش شيفاه وسطهم، هو راح فين؟
بشفاه مقلوبة ردت عليها:
-يا رب يضربوا عليه، ويتزاح من طريقنا.
اضطرت كلتاهما لالتزام السكوت عندما تساءل “عمر” في صوتٍ قوي ومسموع:
-مين فيكم عنده خبرة في الرماية، أو جرب يصطاد قبل كده ببندقية رش؟
رفع المعظم يده للأعلى، ليبدي استحسانه هاتفًا:
-كويس جدًا، التدريب ده هيساعدكم تسترجعوا مهاراتكم القديمة، بس بأحدث بنادق ضغط الهواء.
سأله أحدهم بجديةٍ:
-ممكن نستخدم الخرطوش؟
نظر تجاهه ليجاوبه:
-متاح تستخدمه طبعًا.
حرك “عمر” ناظريه على الجميع مستطردًا:
-بس قبل ما نبدأ هناخد فكرة عن أجزاء السلاح، وإزاي نقدر نعمره، ونتعرف على أساسيات الأمان.
انتشرت همهمات خافتة بين المتواجدين، غطى عليها “عمر” بنبرته المرتفعة نسبيًا وهو يكمل:
-وبعدها هنتعرف على وضعيات وقواعد التصويب، وخصوصًا للمبتدئين أو اللي معندهمش فكرة عن الرماية.
أمرهم بعد ذلك بارتداء سماعات الأذن، ليتساءل وهو يرفع إبهامه للأعلى:
-جاهزين يا شباب؟
بدت “بسنت” خائفة، ومترددة، ومع ذلك لم تجرؤ على الاعتراض، اكتفت بالتعليق الساخط:
-هو ده الترفيه بتاعهم؟!
عقبت عليها رفيقتها بصوتٍ ناقم مثلها:
-حطي السماعة خلينا نتفرج على اللي هيحصل فينا!
………………………………………….
خالف الأمر توقعاتهما السلبية عنه، وكان التدريب على الرماية ممتعًا للغاية، أحرزت “بهاء” تقدمًا معقولًا فيه، على عكس رفيقتها التي أصابت كل المناطق البيضاء ما عدا ظل الإنسان الأسود. شعرت “بسنت” بالإحباط لسوء نتائجها، وغمغمت في استياءٍ بعدما نزعت السماعات عن أذنيها:
-تقريبًا أنا عندي عمى ألوان، مش عارفة أنشن خالص.
حاولت “بهاء” مواساتها قائلةٍ بحنوٍ وهي تربت على كتفها:
-معلش دي أول مرة ليكي.
انتفضت كلتاهما في فزعٍ، عندما أتى صوت “أنس” من خلفهما متهكمًا بوقاحةٍ:
-ده لو واحد واقف قصادك وإنتي المفروض تقتــــليــه هيمــــــوت من الملل.
غامت تعبيرات “بسنت”، ورمقته بنظرة حانقة قبل أن ترد عليه:
-استغفر الله العظيم، وأنا مش ناوية أشتغل قناصة.
جاء تعقيبه فجًا ومهينًا في نفس الآن:
-ومين هيرضى ياخد واحدة زيك؟
في التو تدخلت “بهاء” لإيقافه عند حده، وسألته في تحفزٍ:
-هو حضرتك مالك بينا؟
نظر إليها باستحقارٍ قبل أن يأتي كلامه فظًا مثله:
-أهلًا بخطافة الـ … ولا بلاش لأحسن ندوس على الجرح.
استفزها للغاية أسلوبه الوقح في استثارة أعصابها، وسألته بضيقٍ متزايد:
-إنت بتتكلم كده ليه؟
رد عليها في غير مبالاة:
-أنا أقول اللي أنا عايزه من غير ما حد يحاسبني!
اشتعل وجهها غضبًا، وما ضاعف من تهييج دمائها الفائرة باقي حديثه المغيظ:
-وخصوصًا إنك اتكشفتي، ومن أقرب الناس ليكي!
سألته بصوتٍ حانق:
-قصدك إيه؟ وضح كلامك!
تصنع الضحك ليستفزها أكثر، وعلق بعدها بمزيدٍ من الغموض:
-إنتي فهماني كويس يا مُزة!
شعت عيناها بنظرات نارية تريد زهـــــق روحـــه؛ لكن سرعان ما خبت جذوتها عندما ظهر “عمر” ليقف في مواجهته متسائلًا بلهجته الصارمة:
-“أنس”! إنت جاي هنا ليه؟ مش المفروض إنت مسئول عن الألعاب الإلكترونية؟!
مال برأسه للجانب قليلًا، لينظر بوقاحةٍ مقصودة إلى “بهاء”، وهو يخبره:
-بأشوف الدنيا ماشية إزاي هنا!
تحرك “عمر” خطوة ليسد عليه مجال الرؤية، وسأله في تعابير وجه متجهمة:
-واطمنت؟
ابتسم في سخافةٍ، وعلق بخبثٍ:
-أيوه، شكلها سلطة على الأخير.
اضطر “أنس” على مضض أن يدير رأسه للجانب عندما وضع “أمير” يده بقوةٍ على كتفه ليوكزه فيه، قبل أن يمازحه باستخفافٍ:
-طب روح هاتلنا طحينة من عندك.
استدار كليًا ناحيته، واستطرد بفمٍ متقوسٍ قليلًا:
-الله، إنت كمان بتقول نكت يا “أمير”؟!
رد عليه بسخافةٍ:
-اتعلمت منك!
استغلت “بسنت” الفرصة لتسحب رفيقتها من رسغها للخلف، حتى تتمكنا من الابتعاد عن محيط الثلاثة، فلا تعلق أيًا منهما معهم بلا داعٍ، ما إن ابتعدتا عنهم حتى همهمت في قنوطٍ:
-بني آدم مستفز.
كانت “بهاء” شاردة إلى حدٍ ما، لم يرُقها حديث “أنس” المسيء إليها، فأفصحت عما يدور في ذهنها، كأنما تفكر بصوتٍ مسموع:
-طريقته مش مريحاني! حاسة في إن، مكانش هيتكلم معايا بالشكل ده لو مش في دماغه حاجة غلط عني.
أخبرتها “بسنت” مؤكدة، وبشيءٍ من الشعور بالارتياح:
-ولا يقدر يعملنا حاجة، معانا جوز غضنفر يحمونا منه ومن شره!
نفخت “بهاء” في تأففٍ، واستطردت:
-المفروض مكونتش أسكتله!
تبسمت “بسنت” مستهزأة به:
-زمانه بيتبهدل دلوقت، مش بعيد تلاقيه محطوط في مرمى النـــار، والكل بينشن عليه بالخرطـــــوش!
حاصر الضيق ملامحها، فتنهدت قائلة:
-يا ريت!
أحست “بهاء” بعد ذلك برطوبةٍ غريبة في أنفها، فوضعت إصبعها على فتحتيه لتتحسس مصدر تلك الرطوبة، تفاجأت باِصْطباغ عقلتها باللون الأحمر، فتساءلت في دهشةٍ:
-إيه ده؟
ما لبث أن أغرقت بقع الدماء يدها، وكأن نزفًا فجائيًا قد حدث بها، لتصرخ “بسنت” في جزعٍ:
-“بيبو”، مالك؟
حاولت منع النزيف بكتمه بكفها وهي ترد:
-مش عارفة حصلي إيه!
ازداد النزف الغزير فانساب من بين أصابع يدها لينزل على كنزتها البيضاء ويلطخها بالدماء، هنا ارتفع صراخ رفيقتها مستنجدة بمن حولها:
-الحقونا يا ناس!
في التو تجمع الحاضرين حولهما، والكل مندهش من إصابتها بهذا الشكل الخطير، في حين شق “عمر” طريقه بين الحشد المتجمهر حتى وصل إليها، ليرى بأم عينيه ما حل بها، وقف قبالتها وسألها مفزوعًا:
-حصلك إيه؟ حد ضربك بالخرطـــوش بالغلط؟!
أجابته وهي تهز رأسها نافية:
-لأ، فجأة مناخيري نزفت كده.
أمسك بها من رسغها الآخر ليستحثها على التحرك معه آمرًا إياها:
-طب تعالي معايا.
من خلفهما انطلقت “بسنت” وهي تدمدم في حنقٍ:
-كله منه الفقري ده!
اتجه بها “عمر” إلى خارج قاعة التدريب على الرماية، ليجعلها ترتكن بظهرها على الحائط، ثم وضع يده على أعلى أنفها، وقام بالضغط بقوة عليه، لتتألم من ضغطته الشديدة وهي تسأله بصوتها المكتوم:
-إنت بتعمل إيه؟
أخبرها بجديةٍ:
-بضغط عليها علشان أوقف النزيف.
لحق بهم “أمير”، وتساءل عما حدث وهو ينظر بقلقٍ إلى كنزة “بهاء” الملوثة بآثار الدمـــاء، ليأتي أمر “عمر” واضحًا:
-“أمير” هاتلنا تلج من المطعم.
لم يسأله عن السبب، وأطاعه في الحال:
-حاضر.
ركض ليلبي أمره، فأسرعت “بسنت” ورائه وهي تردد:
-استنى أنا جاية معاك.
فتشت “بهاء” بيدها الطليقة عن أي مناشف ورقية في جيب بنطالها البيج، لسوء حظها لم تجد شيئًا، وحقيبتها متروكة بداخل القاعة، فقالت في انزعاجٍ:
-مش معايا مناديل!
دون تفكيرٍ، تفاجأت بـ “عمر” ينزع عنه ثيابه العلوية ليعطيها إياها قائلًا بلهجته الآمرة:
-استخدمي التيشرت بتاعي.
نظرت إليه بترددٍ، وقالت:
-أنا هبوظهولك كده.
أعطاه لها هاتفًا بصدقٍ، وبخوفٍ حقيقيٍ لا يمكن الشك فيه أبدًا:
-فداكي أي حاجة، المهم عندي تبقي بخير.
لحظتها فقط، وجدت نفسها تنجذب إليه طواعيةً، وقلبها يرق تجاه نبل مشاعره المهتمة بها، فبدت وكأنها قد رفعت راية الاستسلام البيضاء مبكرًا ………………………………………. !!!

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية ضبط وإحضار)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *