رواية بيت البنات الفصل الخامس والعشرون 25 بقلم أمل صالح
رواية بيت البنات الفصل الخامس والعشرون 25 بقلم أمل صالح
رواية بيت البنات البارت الخامس والعشرون
رواية بيت البنات الجزء الخامس والعشرون
رواية بيت البنات الحلقة الخامسة والعشرون
السقوط من على حافةِ الهاوية والاصطدام بصخرة أرضية ضخمة تُهشم جسدك ليس بالضرورة أن يحدث لك هذا لتفهم شعورَه، الكثير منّا – إن لم يكن جمعينا – مروا بذلك الإحساس، فالصعود للقمة يشبه في عنائِه عناء البذل والسعي تجاه شيء معين، أن تضع كامل جهدك في شيء واحد دون أن تهتم لذاتِك، لا رغبة لديك سوى الوصول لغايتِك فتسعى وتسعى وتسعى.
والنظر من فوق هذا المنحدر وتسلل الرعب والخوف إليك من هول المنظر كما الترقب والانتظار لمعرفة نتيجة عنائِك وتعبِك ذاك، القلق الدائم والخوف من حصيلة هذا التعب والجهد المفرط.
وأخيرًا لحظة سقوطك، عندما تنتهي أنت وينهار عالمك بأكمله، عندما تتحقق مخاوفك السابقة وتدفعك رغمًا عنك لتلقي بك للحضيض حيث ينتهي أمرُك، هكذا هو الحال عند رؤياك لمُنتهى كَدِّك ومثابرتِك الذي جاءك مطأطأ الرأس يعلن فشلَك بخيبة أمل وحزن.
لذا … ألم تُجرب هذا يومًا؟!
•
“وايه السبب؟؟ ياريت سبب واضح بعيد عن الجملة الكلشيه اللي أنتِ حفظاها دي.”
جالسٌ أمامها يرمقها بصمت بعد أن طرح سؤاله بجدية، ينتظر بترقب جوابها الصادق والخالي من التجميلات، وما كان منها سوى أن تنهدت وأجابت دون أن تحل عقدة ذراعيها: أنا قولت ١٠٠ مرة وهكرر تاني، أنا مش بفكر في الجواز نهائي ومش عايزة أصلًا اتجوز ويكفيني أنجح في تعليمي وشغلي وأثبت نفسي..
ورمقته بعد أن كانت تنظر للفراغ خلفه واستطردت بصدق: فأنت مش مرفوض لسبب معين فيك أو عيب مثلًا، أنا اللي عايزة كدا فياريت تحترموا ده!
قالت “هايدي” الكلمات الأخيرة بضيق وهي ترمي لضغط الجميع عليها بالموافقة، لمحت بعينِها أصابع يديه التي حركها ليشبكها معًا فرفعت وجهها لتلتقي عيناها المتحيرة لصمته بعيناه الحانقة والمغتاظة.
طال صمته فتوترت أمام نظراته التي يرميها بها وعينيه المثبتة عليها وكأنها بعوضة يترقبها بحذر ليقضي عليها بأي لحظة، تحركت عيناها بعشوائية متحاشية النظر إليه وعادت للخلف في جلستها بعد أن أرخت ذراعيها: إيه في إيه!
ضيّق “عادل” عينيه وتسائل رافعًا حاجبيه: أنتِ اللي في إيه؟ تعليم وشغل ايه اللي بتتكلمي عنهم بالشكل ده وكأني هحبسك في أوضة وأقولك لو طلعتي برة منها هموتِك!
ورفع كتفيه مستأنفًا ببساطة: ايه يمنع إنك تعملي كل ده وأنتِ معايا، لسالِك سنة واحدة بس في الكلية وبعدها تتخرجي وتشتغلي، فرص عمل كلية تجارة كبيرة فالموضوع مش هيكون صعب وكمان انا هكون معاكِ هساعدِك إنك تلاقي شغل كويس ترتاحي فيه…
وابتسم بأمل وهو يتابع: وخلال السنة دي نكون اتخطبنا واتعرفنا على بعض أكتر.
وما إن انتهى وجدها تنظر إليه ببرود، تشدقت بإبتسامة ساخرة: والله خلي عطفَك وكرمَك ده على حد غيري..
واسترسلت بحدة غير مُبررَة: أنا هتخرج والاقي شغل بنفسي وبدون مساعدة أي حد، مش هتعرف تضحك عليا بالبُقين دول يا أستاذ عادل، زمان اتضحك عليا بيهم وضيعت حلمي لكن دلوقتي انسى، أنا مش هتجوز واحد أكونله الست أمينة اللي تقول حاضر ونعم يا سي السيد.
تطلع إليها بعدم تصديق ولا علم له من أين أتت بهذا الحديث، هيئتها الغاضبة توحي بمدى ما تعبئه بجعبتها وكأنها تنتظر أحدًا لتنفجر به وتلقي الكثير والكثير.
استطاع من خلال كلماتها أن يفهم سبب رفضها، استطاع أن يعلم أن ما بها عقدة تسبب بها ذلك العجوز الأشمط الذي يدعى عبد الحميد، عقدة عميقة لا تنحل ببضع كلمات وجمل.
نظر له بحنو وتحدث بصوت رخيم هادئ: بس أنا مش عبد الحميد يا هايدي!
رفعت عينَها عن الأرض وتطلعت له لثواني بوجه مكفهر وبصمت وجسدها يهتز بفضل تنفسها الذي ازدادت وتيرته غضبًا لجملته، انتفضت من مكانها ورمته بعينيها بسهام الامتعاض للحظة قبل أن تنطق بصوت عالٍ: نورتنا يا حضرة المحامي.
وتركته وتحركت لغرفتها بخطوات سريعة، وقف وكاد يناديها لولا خروج إيمان من المطبخ متمتمة وهي تنظر لباب غرفة هايدي الذي قامت بصفعه: بنت الجزمة دي…
نقلت بصرها لعادل متحدثة بخزي لفعلة ابنتها وهي تربت على ذراعه معتذرة: حقَك عليا يا عادل يابني، اعمل ايه بس في دماغها الكلبة دي.
إبتسم بمجاملة ورد عليها وهو يوزع أنظاره بين وجه السيدة إيمان وباب الغرفة: لأ عادي يا طنط أنا متفهم موقفها..
– ربنا يكملك بعقلك يا ابني، ابن أصول بصحيح.
ثبت بصره فوق وجهها وقال بكلمات ذات مغزى ومعنى صريح: بس أنا هاجي تاني يا طنط، هفضل آجي ومش راجع غير بموافقتها.
اومأت له إيمان وربتت على ذراعه مرة أخرى: ربنا يسهل يا حبيبي، ربنا يهديها يارب وينولك اللي أنت عايزه يارب.
لحقت به حتى باب المنزل وانتظرت إلى أن توارى عن الأنظار وأغلقت الباب تعود مجددًا للداخل منادية بصوتها العالي: هايدي! اطلعيلي كدا يختي اطلعيلي.
جلست على السجادة أرضًا وأخذت تضرب قدمها مغمغمة: يارب، يارب اهديها يارب قبل ما تجنني وأتهد أنا..
أشارت على باب المنزل الذي غادر منه عادل منذ ثواني وتابعت بعدم تصديق: بقى يارب ده يترفض!
وعادت تولول بيأس: أنا كنت حاسة إن الوقعة اللي خدتها على نفوخها وهي صغيرة هتأثر، كنت عارفة إنها هتطلع لاسعة بس مش كدا يارب!!
قطعت وصلة النواح تلك عندما توقفت أمامها ناطقة بكل برود وكأنها لم تفعل أي شيءٍ منذ دقائق معدودة: نعم!
اغتاظت إيمان منها ومن أسلوبها الفظ فصرخت بها موبخة: أنعم الله عليكِ ياختي، أهو ده اللي أنتِ فالحة فيه؛ تطولي لسانك وتبعبعي بأي عبط وخلاص، ولا فارق معاكِ حد غير نفسِك.
حلت ذراعيها عن بعضهما وقطبت جبينها صارخة بنبرة عالية مشابهة لوالدتها: وأنا يفرق معايا حد غير نفسي ليه، هو حد هيبقى ينفعني بحاجة لو فرق معايا غير نفسي؟؟
ضربت إيمان بكف يدها فوق صدرها بعنف وأجابتها: يفرق معاكِ أمِك، أمك اللي عايزة تفرح بيكِ وتطمن عليكِ قبل ما يجرالها حاجة، أخواتِك الجوز محدش فيهم فاضيلِك، واحد مراته ممشياه بصباع رجليها والتاني قاعد لمراته يربيها، وأنتِ يا حسرة اللي يجي جنبِك تهبي فيه شبه الأنبوبة وإيشي تعليم وإيشي شغل.
لوحت هايدي بيدها في الهواء وصرخت بها بصوت مليء بالقهر تنشطر له القلوب: قولتيهملي زمان البُقين دول، قولتيهم وخلتيني رميت نفسي للنار بإيديا، عشت أيام سودة أنتِ متعرفيش حاجة عنها، فضلت مخبية بسبب خوفي منك ومن الكلام اللي كنتِ مالية عقلي بيه، يا شيخة ارحميني بقى، ارحميني بقى حرام عليكِ، حرام عليكِ … حريم عليكِ.
انهارت أرضًا وهي تردد الجملة الأخيرة بينما تلطم خديها وبدت غير واعية لما تفعل، رمقتها إيمان بأعين مصدومة لما تفعله ولم تتحرك قيد أنملة.
وفجأة اندفع باب البيت وظهر من خلفه ندى وناصر الذي شهد انهيار شقيقته وحالتها التي يراها بها لأول مرة، اقترب منها بسرعة جالسًا القرفصاء أمامها، أمسك بيديها يمنعها من استرسال ما تفعل بكلمات هادئة وعندما لم يجدي الهدوء نفعًا صرخ معنفًا اياها بصوته: هـايـــدي! بس خلاص!
ارتخت يديها وتوقفت عما كانت تفعل وارتخى جسدها كذلك بين يدي أخيها، ادمعت عينيه وافترش الأرض هو الآخر يجذبها لأحضانه ماسحًا على رأسها وظهرها هامسًا بحنو: خلاص … خلاص يا عيون أخوكِ، حقِك عليا من الدنيا واللي عملته فيكِ، أنا آسف والله آسف.
وكذلك انهمرت الدموع فوق خدي ندى التي وقفت على أعتاب الباب تتابع ما يحدث بصمت، نفت هايدي برأسها وتحدثت من بين بكائها: نفسي اموت واخلص من اللي أنا فيه، تعبت يا ناصر ومبقتش حِمل كل ده.
سقطت دمعة من عينيه لم يراها أحد وأجاب بصوت دافئ غمرها بالحب: حقك على قلبي يا حبيبة قلبي، حقِك عليا.
ومتحجرة القلب تلك ظلت قابعة في مكانها وكأن شيئًا لم يكن، تتابع المشهد بأعينٍ حادة مستنكرة لردة الفعل المبالغ بها – كما ترى هي – ولم تستطع منع لسانها السليط من الحركة والتحدث بسخرية: كل ده عشان عايزة مصلحتِك، كل التمثيلية دي عشان بقـ..
قاطعها ناصر بأعين بارقة محذرة وصوتٍ جَهوري: حجــة!
التفت برأسه وأشار لزوجته كي تقترب ففهمت اشارته انخفضت تساعد تلك التي خارت قواها على الوقوف مع زوجها الذي وقف متحدثًا بنبرة لا تقبل النقاش: خديها لفوق واطلعي يا ندى دلوقتي..
اومأت دون أن تنطق واستجابت لمطلبه متحركة للأعلى وتجاورها فقيدة الروح، جسدٌ يتحرك حيث يُوجه ولا أمر لها عليه، جسدها هنا و روحها وعقلها بنطاق زمني آخر.
أما ناصر،
التفت لوالدته التي تجلس أرضًا ولم تهتز بها شعرة واحدة أمام ضعف صغيرتها، تحدث بصوت مختنق فاردًا كفيه أمامها: ليه؟ ليه حرام عليكِ كل ده؟ مفيش جواكِ ذرة رحمة تمنعِك قبل ما ترمي الكلام ده؟!! مكفكيش اللي عملتيه قولتِ أما أوجعها أكتر، دي بنتِك يامّا.!! ضناكِ يامّا.!
رفعت كفيها عاليًا وصرخت به بسخط: خلاص؟؟ بقيت أنا الوحشة وأنتوا اللي حلوين؟؟ وكل ده عشان بتكلم في مصلحتها ومستقبلها، بقيت أنا اللي بنت ** وأنتوا اللي ملايكة..
صرخ بها بالإيجاب يؤيد تلك الكلمات التي قالتها: أيوة ملايكة، ملاك حولتيه بإيديكِ لوَحش، دمرتي حياتها ولسة مش مدركة اللي أنتِ عملتيه، لسة شايفة إن اللي عملتيه وبتعلميه صح وهو أكبر غلط، بوظتي نفسيتها وخلتيها واحدة غريبة محدش عارفها، ضيعتيها وخلتيها شخص غريب على الكل حتى على نفسها، ويوم ما لقت نفسها ورجعت وقفت تاني جاية أنتِ عايزة تنهي عليها المرة دي كمان…
وأشار للباب قاصدًا بحديثه شقيقته التي خرجت منه: دي حتى لو عايزة تاخد الخطوة بكلامِك وأسلوبَك ده هتخليها تتراجع..
وابتسم بعدم تصديق وهو يكرر الكلمة التي قالتها منذ قليل: تمثيلية!!! انهيارها بالشكل ده تمثيلية؟!! قلبِك مات ومهانش عليكِ بدل ما تقولي كدا تقومي تاخديها في حضنِك؟؟ اتقي الله في بنتِك يا أمي، اتقي الله فيها وارحميها بدل ما يجرالها حاجة من وراكِ وورا عمايلِك..
وأولاها ظهره مغادرًا هو الآخر بعد أن ألقى تلك الكلمات القاسية بوجهها، تطلعت إيمان لأثره وصرخت بقهر شاعرة بمدى ظلمهم لها: ماشي يا عيالي، ربنا ياخدني و يريحكم مني مادام تعباكم أوي كدا..
وصمتت تتنفس متمتمة بينها وبين بتجهم: بقيت ترفع صوتَك عليا يا ناصر، من يوم ما الحيزبونة مراتك دخلت البيت وكل حاجة خربت فوق نفوخي….
صعد ناصر السلالم بخطوات منفعلة وصدر متوغر، توقف عن الحركة عندما قابل في وجهه أخاه “سيد” الذي تسائل بحاجبين معقودين: ايه الصوت العالي ده، بتموتوا في بعض تحت ولا إيه؟
حدق به ناصر صامتًا لبرهة من الزمن وبوجه مكفهر ثم عاود الصعود دون أن ينطق حرفًا واحدًا يجيب به عن سؤال أخيه الأكبر.
ولج بيته الذي تركت ندى بابه مفتوحًا فأغلقه خلفه وسار للداخل، وجدها جالسة فوق إحدى المقاعد لازالت تبكي ومن المطبخ خرجت ندى تحمل كوبًا من خليط الماء والسكر كي يساعد في تهدئتها.
اندفع ناصر نحوها قبل أن تعطيها ندى الكوب وهتف بصوتٍ عالٍ محذر: اسمعي بقى الكلام ده عشان مش هيتكرر، كتبِك وهدومِك وحاجتِك كلها هتتطلع الشقة هنا، هتقعدي في أوضة الأطفال هنا لحد ما نشوف آخر أمك إيه، سامعة يا هايدي؟؟
ولم تحرك ساكنًا وظلت على حالها وتحرك هو لغرفته صافعًا الباب من خلفه بقوة، تنهدت ندى وقرّبت الكوب من هايدي متحدثة بلطف ومراعاة لوضعها: خُدي يا هايدي اشربي ده..
نطقت أخيرًا بصوت مبحوح مُبعدة الكوب عنها: مش عايزة حاجة.
ربتت ندى على ظهرها: معلش تعالي على نفسك وخدي بُق واحد..
رمقتها هايدي بحدة وصاحت بصوتها العالي: قولتلك مش عايزة حاجة، سيبيني في حالي.
زفرت ندى بضيق لهذا الرد الذي لم يعجبها وتحركت مبتعدة عنها، وهي مَن قلقت عليها وارادت الاطمئنان عليها.!
يبدو أنه ليس من السهل أن يتغير الإنسانة في ليلة وضحاها، ويبدو كذلك أنها ستعيش اسوء أيامها مع هايدي بالأيام القادمة!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
توقفت سيارة الأجرة أمام البوابة الكبيرة التي يفصلها عن بناية عائلة الهلالي حديقة صغيرة مليئة بالزهور، منها الذابلة ومنها الناضجة.
ترجل من السيارة وتحرك نحو البوابة مناديًا بصوته العالي: عم صبحي!
اعتدل حارس البوابة في وقفته بعد أن كان يسقي تلك الوردات ورفع طرف جلبابه باصبعه مقتربًا من البوابة، توسعت عيناه دهشةً وصاح بسعادة حقيقة وتهلل: يا ألف نهار أبيض! يا ألف نهار أبيض!
وفتح البوابة سريعًا مرحبًا بسلطان الذي إبتسم له بمجاملة: يا مرحب بالغالي ابن الغالي، أتاري الحتة نورت فجأة، حمدا الله على السلامة!
ربت سلطان على كتفه: الله يسلمك ياعم صبحي، الحتة منورة بوجودَك، معلش الشنط من السواق عشان المدام مش هتعرف تجيبها.
وتحرك للداخل بسرعة قبل أن يبادر العم صبحي بسؤاله عن أي (مدام) يتحدث، فالسيدة (منة) بالأعلى منذ أن مرضت!
نفض تلك الأفكار عن عقله مرددًا أن لا شأن له بهذا؛ ربما سمع ما قاله سلطان خاطئًا.!
وقبل أن يخرج استوقفه اقتراب تلك السيدة التي تحمل فوق ذراعها طفل صغير من البوابة، وقف أمامها سائلًا إياها بجبين مقطوب: على فين يا أستاذة؟؟
تطلعت “حلمية” زوجة سلطان الثانية خلف الحارس علها ترى ذلك الذي يدعى زوجها ولكنها لم تجد له أي أثر، زفرت وأجابت على سؤاله بإقتضاب: على بيت سلطان الهلالي، مش شايفني نازلة من التاكسي اللي كان هو فيه ولا ايه يا حج؟؟
توسعت عيني العم صبحي وهو يربط الأحاديث ببعضها حتى توصل للنتيجة النهائية و….. ماذا؟؟؟ تبًا هل تزوج هذا الرجل على زوجته؟!!! وأنجب أيضًا منها؟؟
– هبات هنا ولا ايه؟!
جعلته جملتها يستفيق ويبتعد عن طريقها فورًا، ضرب كفيه معًا واخذ يردد بدهشة وهو يتحرك ناحية الحقائب التي تولى السائق أمر إخراجها من السيارة: لا حول ولا قوة الا بالله!
لحقت حلمية بزوجها بسرعة خشية التقاء غريبًا في هذا البيت حتى وجدته يصعد السلالم وهو مشغول بفعل شيء بهاتفه فسارت خلفه كالظل تتبعه في كل خطوة.
كانت تنظر لكل باب مغلق بحيرة تتسائل أين هو يترى بابه وسط كل هذه الأبواب، توقف بالطابق الثالث أمام منزل أخيه توفيق عندما فتحته وجيهة التي كانت تتحدث بالهاتف تعطيهم ظهرها وهي تقوم بإغلاق الباب: تيجوا بالسلامة ان شاء الله، أيوة ماشي .. سلام سلام.
اغلقت الهاتف والتفت فاصطدم وجهها بوجه شقيق زوجها الذي تحدث ما إن رأته: إزيك يا ام ندى عاملة ايه؟؟
ردت وهي ترمقه بزهول لوجوده وحضوره المفاجئ: الحمد لله في نعمة، حمدا لله على السلامة ياخويا جيت امتى؟؟
إبتسم سلطان وأجابها وهو يضع هاتفه في جيب سترته: الله يسلمك، لسة نازل مصر من مفيش ساعة كدا، توفيق فين ما بيردش على تلفونه لا هو ولا حامد!
لم يكن الوقت المناسب بالمرة لتخبره بسبب غيابهم عن البيت وعدم استجابتهم لإتصالته، تحمحمت وردت وعينها مثبتة على تلك التي تقف خلفه والتي تعرفت عليها فورًا دون تعريف مسبق: كانوا في مشوار سوا وجايين في الطريق أهو.
بينما حلمية توترت كثيرًا بسبب نظراتها الثاقبة فأشاحت بوجهها عنها وأخذت تحرك في الصغير فوق ذراعها متصنعة الانشغال به وابتسمت وجيهة بمجاملة رغم حنقها منه بسبب ما فعله وقالت: حمدا لله على السلامة، نورت بيتَك يابو نرمين.
ضغطت على الكلمة الأخيرة ثم التفتت وعادت للداخل مرة أخرى بعد أن قررت المكوث في بيتها وانتظار زوجها بترقب لتلك الكارثة التي ستهدم كل شيء فوق رؤوس الجميع.
وأكمل سلطان بقية الادراج المؤدية لمنزله بخطوات بطيئة متمهلة، يقدم قدمًا ويؤخر الآخر، لا يريد الوصول والخوض بتلك الحرب التي نشبها بيديه.
تذكر ابنته وغاليته الآن فقط عندما ذكرت وجيهة اسمها، كيف سيواجهها بتلك الحقيقة؟ كيف سينظر لعينيها؟! تُرى هل ستتقبل الأمر الواقع أم ستتجاهله وكأنه لم يعد؟! هل سترتمي بأحضانه عندما تشاهده أم ستكتفي بالنظر بعتاب ولوم؟
الكثير من الأسئلة كان عقله يمتلئ بها حتى كاد ينفجر وكل ما يشغل باله وخلده هو ابنته الغالية؛ ‹نرمين›.
لم يكن يكترث كثيرًا لأمر “منة” أو حالها وردة فعلها عند رؤيته؛ فهو يعلم على أي حال ما ستفعل وتقول، يعلم كيف ستثور وتحطم كل شيء، يعلم أنها لن تتقبل الأمر برمته ولكنه كذلك يعلم كيف سيكون جوابه وكيف سيُخرسها ويجعلها ترضخ.
وقد كان يظن أن خيوط اللعبة بأكملها بين يديه، ظن أنه يستطيع التحكم بكل خطوة وفعل جاهلًا تمامًا بأمر الحقيقة المؤلمة التي تنتظره، حان وقت الحصاد يا سلطان، وقت جمع ما زرعته بيديك تلك، وقت كشف الستار عن الفاجعة..
توقف أمام باب منزله وتنفس الصعداء، نظر جانبه لحلمية التي ازدادت دقات قلبها بخوف من مقابلة تلك السيدة التي لم تستمع سوى لصوتها وصراخها بآخر مرة عندما علمت بأمر زواج سلطان منها.
ومنذ تلك اللحظة وهي تهابها لسبب تجهله هي حتى!!
تحدث سلطان بصوتٍ خافت مُحذر وهو يشير بسبابته على الباب: حسك عينك بُقك يتفتح جوة بكلمة، مهما حصل ومهما اتقال كلام تفضلي ساكتة وماتنطقيش.
عدلت الصغير على يدها وردت بتذمر: طب ما كنت ودتني عند أمي! لازمتها ايه تجبني البيت اللي مراتَك فيه؟؟ بعدين دي شكلها ولية قادرة ويا عالم هتعمل فيا إيه!
رفع رأسه بثقة وأجاب: ولا تقدر تيجي جنبِك، هي آخرها تقول كلمتين إبلعيهم وخلاص، أكتر من كدا مش هتعمل.
ورفع يده طارقًا الباب وفي لحظة تزحزحت تلك الثقة قليلًا ولكنه سرعان ما تماسك عندما استمع لصوت انثوي يصدح بالقرب من الباب: خليكِ يا حبيبتي مع أمك وأنا هشوف مين..
وعقب ذلك انفرج الباب وطلت من خلفه شهيرة زوجة حامد التي اتسعت عيناها بمجرد أن رأته وهمست بصوت خافت لم يصل لمسامعه: سلطان!!
– إزيك يا حجة شهيرة!
ابتعدت عن الباب بسرعة تفسح له المجال لدخول بيته وهي ترد التحية: الحمد لله يابو نرمين الحمد لله، ألف حمد الله على السلامة نورت بيتك وحتتك.
دلف وحلمية خلفه تحدق بهذا الوجه الجديد في محاولة لإستشفاف إن كان طيبًا كريمًا أم ماكرًا لئيمًا ورد هو: الله يسلمك، الرجالة عاملين ايه؟؟ والواد سامر ربنا هداه ولا لسة شقي؟؟
قال بمزاح وهو يقف قبالتها فضحكت بمجاملة على كلماته وردت: الحمد لله كويسين، إدعيله كمان شوية لأحـ….
بترت حديثها بولوج تلك الغريبة التي تسبب بإنكماش وجهها بغرابة وثواني وارتاح وجهها مرة أخرى عندما خمنت مَن هي، نظرت جانبها عندما شعرت بحركة من الغرفة التي توجد فيها منة فوجدت نرمين تقف على أعتاب باب الغرفة بعينين دامعتين وعينها مثبتة على والدها الحبيب.
تحمحمت بحرج وقالت وهي تنظر لها: أنا هنزل أنا يا نرمين يا حبيبتي ولو احتاجتي حاجة انزليلي على طول….
ونظرت مرة اخيرة لسلطان مردفة ببسمة متملقة: حمدا لله على السلامة يابو نرمين، عند إذنكم..
وخرجت من الباب بعد أن رمت حليمة بنظرة متفحصة جعلت الأخيرة تلوي شفتيها بضيق.
هبطت شهيرة السلالم بسرعة وهي تحادث نفسها بقلق: يارب سلم، جيب العواقب سليمة يارب.
وقفت أمام باب توفيق وما كادت ترفع يدها لتطرق الباب حتى تفاجئت به يفتح لتظهر من خلفه وجيهة التي بدت وكأنها وقفت تنتظرها خلف الباب!
– خشي خشي بسرعة!
دخلت شهيرة وأغلقت الأخرى الباب بسرعة قبل أن تلتفت لها بلهفة: ايه اللي حصل؟؟ منة عملت ايه ولا هو قال ايه؟؟
جلست شهيرة على الاريكة وأخذت تحرك قدمها بتوتر وخوف نابع من قلبها: ولا اي حاجة، أنا فتحتله الباب وحمد الله على السلامة ومش عارف ايه وجبت نفسي اوام ونزلت، استر يارب!
جلست وجيهة أمامها وهي تضع الهاتف فوق اذنها: أنا مش عارفة توفيق مش بيرد ليه؟؟ ده وقت يعطل فيه التلفون بس يارب!!
وجلستا معًا تدعوان الله ألا يحدث ما لا يحمد عقباه وان يمر اليوم مرور الكرام دون أي خسائر، ولكن هيهات هيهات، طالما وُضع البنزين بالقرب من النار فلا تنتظر ألا ينشب حريق!
وعاليًا،
بادرت هي الاقتراب،
بخطوات بطيئة صغيرة وجسد يرتجف.
ضمت قبضتيها معًا بقوة كي لا يسقط قناع الجمود والثبات الزائف ووقفت أمامه، طالعته لثواني معدودة بصمت ودون أي حركة وتسمر هو مكانه أمام عينيها.
حاوطت عنقه وقالت بنبرة باردة: حمدا لله على السلامة يا بابا.
وابتعدت فورًا دون أن يرفع هو يديه ليدخلها بأعماقه وينعم بدفئ أحضانها، والتفت عائدة للغرفة ولكن تلك المرة غرفتها لا غرفة والدتها، دون أن تنظر حتى لتلك الغريبة الواقفة أمام الباب، وبدى أنها لم تراها حتى.
وخجل سلطان أن يناديها، ماذا سيخبرها؟؟
تقبلي الأمر يا صغيرتي؟؟ تقبلي زواجي على والدتكِ دون علم من كلاكما؟؟ تقبلي عدم وجود مبررات أو أسباب؟؟
يالا قبحك وقبح أخلاقك يا سلطان!
فرت دمعة من عينيه سرعان ما أخفاها وتحدث لحلمية دون أن ينظر لها مشيرًا على إحدى الأبواب: خُدي كمال وادخلي الأوضة دي متطلعيش منها، متطلعيش منها نهائــي.
ظهر التهديد في نهاية حديثه فتنهدت حلمية وجرت نفسها ناحية تلك الغرفة التي أشار عليها، دخلت ثم أوصدت الباب عليها وهي تغمغم بغيظ من كل ما يحدث بداية وجودها في بيت غريمتها حتى تحذيراته وأوامره المتكررة.
وبداخل غرفتها،
كانت لتوها أغلقت عينيها بعد أن تناولت حبة تساعدها على أن تهدأ بعد أن علمت أن جميع من في البيت يعلم بشأنها وشأن ما فعلته بتوفيق وعائلته.
وفجأة اقتحم صوته أذنيها،
فتحت عينيها بقوة،
نظرت حولها وحركت رأسها بعنف،
نعم إنه صوته،
لا يمكنها أن تخطئ في معرفته،
إنه هنا … بالقرب!
انتفضت من مكانها ونظرت لباب الغرفة وصدرها يعلو ويهبط في حركة سريعة، ارتفعت سرعة دقات قلبها حتى شعرت به يكاد يخرج من خلف تاموره.
وظهر أمامها، اخمد ظنونها بأنها تتخيل بحقيقة وجوده، دار بعينيه المرتبكة في المكان يتحاشى النظر إلى خاصتها.
اعتقد سلطان أن الحـ.ـرب بدأت عندما أخبرها على الهاتف أنه تزوج وأنها ستنتهي عندما يتحدث معها ولكن الحـ.ـرب الحقيقة ستندلع الآن..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كانوا قد خرجوا من قسم الشرطة بعد أن قُرر حبس الساحرة احتياطيًا على ذمة التحقيق خشية هروبها إن تركوها أو إلحاق الأذى بأي من أفراد العائلة.
انقسموا في سيارتين، الأولى لحامد ركب بها كلٌ من توفيق وجنى والثانية الخاصة بطارق وأخوته، كانت جنى تجلس بالخلف مستندة برأسها على زجاج السيارة تتابع الطريق والصمت سائد عليها وعلى البقية أيضًا.
ظن والدها أنها تفكر فيما حدث بالقسم ولكن كان يشغل بالها ذلك الذي يدعى عثمان، تفكر في ردها وغضبها الذي صبته عليه وقالت ما لم يكن يجب أن تقوله.
كانت تود توبيخه عندما تراه ولكن دون أن تتعدى حدودها وتسيء له كما فعلت، كما أن حدته ودفاعه عن نفسه وإسكاتها جعلتها ترغب في الاستماع إليه ومعرفة سبب خروج مثل تلك الكلمات البذيئة من مهذب مثله!
نفت برأسها وعادت مستندة على المقعد خلفها وهي تؤنب نفسها على تفكيرها، فإن كان مهذبًا يا عزيزتي لما قال ما قال، إنه يستحق ما قيل وأكثر ومن المؤكد أنه يحاول خداعها بهذا الثوب من الجدية والأدب.
انتبهت للطريق أمامها فاعتدلت متحدثة لعمها: معلش يا عمو وقفني هنا عشان رايحة المكتب بتاعي..
التفت له توفيق بغرابة ففسرت له: جميلة كلمتني وقالتلي في مستنياني هناك فلازم أروح.
توقف حامد على جانب الطريق ومن بعده توقفت سيارة طارق بالخلف، هبطت جنى من السيارة وانخفضت تشكره قبل أن تلتفت لتغادر.
استوقفها بوق سيارة طارق الذي أخرج رأسه من السيارة متسائلًا: راحة فين يابنتي؟؟
أشارت ناحية الطريق المؤدي لمكتبها ففهم وأشار لها بإبهامه قبل أن يعيد رأسه للداخل ويلحق بسيارة والده.
– يارب كل مرة اقول خلاص يحصل حاجة، يارب عايز أتجوزها يارب!
كان هذا صياح سامر الذي أخذ يضرب رأسه بالمقعد خلفه وهو يشكي لله حزنه ويرجوه بسرعة تحقيق أمنيته بالزواج من محبوبته.
رد عليه مَجد الذي يجلس امامًا بجانب طارق وهو يريح رأسه للخلف مغمض العينين ومربعًا يديه: وده ملفتش نظرَك لحاجة؟؟
إبتسم سامر بحالمية ونظراته مثبتة على الطريق بجانبه ثم أجاب بهيام: لفت طبعًا، ربنا عايزني أتعب وأشقى لحد ما أوصلها وتبقى ليا..
ووضع قدمًا فوق الآخر بثقة: بيختبر حبي ليها يعني.
ابتسم مَجد بإستهزاء وخرج من حنجرته صوتًا ينم عن سخريته فضحك طارق عاليًا وتحدث وهو ينظر لهما من المرأة ومن خلف نظاراته السوداء: هنمشيها كدا هنمشيها.
وصلت جنى المكتب بعد خمسة عشر دقيقة من السير، رغم قصر الطريق الذي لا يستحق كل هذا الوقت ولكن تفكيرها الطويل جعلها شاردة غير واعية للطريق أو لسيرها البطيء جِدًّا.
تنهدت ومدت يدها تدفع الباب الزجاجية: السلام عليكم.
تخشبت في مكانها عندما أبصرت وجه عصام وتجاوره تلك اللئيمة روفيدة إبنة خالته، وقفت ما إن ولجت جنى واقتربت منها بغنج هاتفة بضيق ونبرة لعوب: إيه يا باشمهندسة كل ده! إحنا قاعدين من بدري خالص.
رفعت جنى حاجبها ونقلت بصرها لذلك الصامت فوجدته ينظر بعيدًا عنها، ابتسمت بسخرية وأنزلت الحقيبة عن كتفها متحركة حيث مكتبها لتجلس خلفه: معلش يا آنسة هويدة ورايا مصالح بقى مش قاعدالك هنا في المكتب.
صححت لها روفيدة بغيظ: روفيدة!
– آه سوري..
ابتسمت باصفرار مستأنفة: روفيدة.
اقتربت من المكتب وجلست على المقاعد المخصص للزبائن واضعة قدم فوق الآخر: عايزين حضرتك تنظملنا المكان عشان عندنا خطوبة..
وربعت ذراعيها مستطردة بتحدي وهي تنظر لتعبيرات الماثلة أمامها: خطوبتنا … أنا وعصام
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية بيت البنات)