رواية يناديها عائش الفصل السابع والثمانون 87 بقلم نرمينا راضي
رواية يناديها عائش الفصل السابع والثمانون 87 بقلم نرمينا راضي
رواية يناديها عائش البارت السابع والثمانون
رواية يناديها عائش الجزء السابع والثمانون

رواية يناديها عائش الحلقة السابعة والثمانون
“يا رب دعوناك كما أمرتنا، فاستجب لنا، للهم إنا نشكو إليك إسـ-رائيـ-ل فإنها لا تعجزنك يا جبار السموات والأرض اللهم إحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تغادر منهم أحدا، وأنزل عليهم نقمتك اليوم و غدا، اللهم أحزنهم كما أحزنونا وآسفهم كما آسفونا، اللهم يتم أطفالهم ورمل نساءهم وعقم أرحامهم وأرق نومهم يامن قلت في كتابك (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا) اللهم آتي اليهود وكل من والاهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا بقوتك يا جبار.”
_________________________
” و ما مِن دواءٍ لقلبي، إلا أنتِ ”
~~~~~~~~~~~
خجل ” كريم ” من اظهار مشاعره الكامنة بجوفه أمامهم، خصيصًا أمام ” فراشته ” التي من المفترض أن تستمد القوة منه بدلًا من رؤيته ضعيفًا هكذا، هذا ما جال في خاطره في تلك اللحظة التي أبدت دموعه الكثيرة ضعفه أمامها، و بكائه المحرق لأوردته بين ذراعيها الضعيفان، بينما هيَ لَمْ تَنْبِسْ بِبِنْتِ شَفَةٍ، أي لَمْ تَصْدُرُ عَنْهُا أَدْنَى كَلِمَةٍ، و امتد بصرها لوالدها الواقف يطالع
” كريم ” بدهشةٍ لم يُحسب لها حُسبان، فلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُرْتَقَبًا وَ مُنْتظَرًا رؤيته بهذا الضِعف الغير متوقع؛ لأنه في الحقيقة معروف عنه الثبات الدائم و الصلابة و اخفاء المشاعر بداخله، فَـهُم على دراية تامة بأن عائلته تتكل عليه بارتياحٍ، تاركين كل شيء برمته على عاتقه حتى بدأت قدميه بالتفطر؛ من كثرة ما يحمله على كاهله من همومٍ و مآسي يتحملها هو وحده.
أخيرًا فهم والد ” رُميساء ” الأمر، و أدرك في نفسه توًا أن والد كريم المتسبب في بكاء ابنه و البوح بضعفه هكذا، فليس معنى أنه خارت قواه أمامهم و فضحته دموعه أنه ضعيف !
و لكن من المكمن في النفس البشرية أن رجال الدولة لا يبكون ولا يسمحون لأنفسهم باظهار مشاعرهم مهما حدث لهم، و لكن ” كريم ” قد فاض به الكيل بسبب أفعال والده الخرقاء و الأنانية.
أشار ” مُصطفى ” لبناته الثلاثة و زوجته بالدخول لغرفهن؛ لئلا يشعر زوج ابنته بالاحراج من بكائه أمامهن، هذا إذا لم يكن قد شعر به بالفعل.. في حين أن ” رُميساء ” نزلت من عينيها دموع التأثر على حالته، فلأول مرة تراه هكذا، و راحت تنظر لوالدها نظرات اغاثة بمعنى
« ماذا أفعل يا أبتِ ؟! ”
بالطبع لم تعرف ماذا تفعل، فتاة مثلها لم تتعامل مع رجل غريب و تندمج معه هكذا مثلما يحدث مع كريم، الذي أصبح زوجها ولكنها لم تعرف رجل غيره ولا تعرف كيفية التعامل في تلك المواقف، أو كيفية التعامل مع الرجال من الأساس، ليست لديها خبرة كافية لمعرفتهم و طرق التعامل معهم، لطالما كانت تذهب من البيت للمدرسة و العكس، و لم تختلط كثيرًا بالعالم الخارجي، حتى أن التلفاز لا تشاهد فيه إلا أفلام الكرتون أو
« توم جيري» و الروايات التي تقرأها تندرج تحت فئة « الفانتازيا» فموقف مثل هذا، استدعاها بالطبع للنظر لوالدها بأعين الاستغاثة..
قابل والدها نظراتها بنظرات تفهم و تعقل، و هز رأسه مع ابتسامة صغيرة بمعنى
« قدمي الدعم المعنوي اللازم لزوجك يا ابنتي»
” كريم ” في تلك اللحظة، بدا و كأنه ضائع في بحرٍ من التيه و الشرود، يود من يأخذ بيده و يضع طوق النجاة فيه، فقررت الفراشة في نفسها أن تضع هي هذا الطوق، و تمد يد العون له.
حانت من ” كريم ” نظرة جانبية بخجلٍ منه لحماه، فقابله الأخير بابتسامة صافية دون التفوه بشيء..
حَمْحَمَ ” كريم ” استعدادًا للمغادرة:
” سببت لكم ازعاج، آسف.. عن إذنك يا عمي ”
امتدت يد ” رُميساء ” سريعًا تتمسك بذراعه في رقةٍ، و همست باسمةً بتوسلٍ لعينيه التي أطفئ الحزن بريق أشعتها الشمسية المذهلة:
” ها تمشي من غير ما تحكي لي اللي جواك !
من غير ما تقول لفراشتك مين اللي بكاك ؟ ”
تأملها للحظاتٍ متبوعة بدموعٍ رفضت أن تجلس في تأدبٍ بـِشَحْمة عينيه، ثُم اقترب منها ثانيةً يضمها لصدره بقلة حيلة منه، و طَفِقَ مَوْضِعًا بين ذراعيها اللذان طوقا رقبته بحنانٍ بالغٍ، جعله يشهق باكيًا بقوله المرير:
” أبويا هدني يا رُميساء، اللي المفروض يبقى ضهري قطم ضهري.. هدني ”
حينما سمع والدها ذلك، زفر بنفسٍ متألمٍ عليه و أشار لابنته بأن تأخذه لغرفتها؛ ليخبرها بما حدث أو بما يشعر به حتى يفرغ جوفه من كل ما يؤلمه دون الشعور بالاحراج لوجود أحد معهما، و فعلت
” رُميساء ” الصواب كما أشار لها والدها.
اتجه ” كريم ” معها دون أدنى مقاومة منه، و كأنها ملاذه الوحيد الآن، كما كان ملاذها الآمن في الجامعة أمام المُعيد العُنصري..
جلس ” مُصطفى ” في الخارج أمام غرفة ابنته التي تركت بابها مفتوحًا و أجلست زوجها أمامها كالصغار على فراشها، لتستمتع لموجة من الوجع المُدْنَف منه على نطاقٍ واسع و شرحٍ وافر، في حين أن الأب العاقل أخذ بدراسة تعابير زوج ابنته الجسدية، فهو رجل مثله و يعلم بما يفكر به الرجال عندما تضيق عليهم الآفاق، و تدنو منهم المشاق، وفهم أن لغة كريم الجسدية بحاجة لتفريغ شُحنة الغضب و الألم تلك عن طريق العنف الجسدي، و لكن ” كريم ” لديه قدرة جيدة نوعًا ما في التحكم في انفعالات جسده أمام
” رُميساء ” لكيلا يخيفها منه، فهي رقيقة للغاية و أثر النظر الصارمة قد تصيب خدش بقلبها الهشّ.
مسحت له دموعه في لُطفٍ منها مصحوب بابتسامة دافئة، أيقظت مشاعر التملك عنده و حاجته باثبات أن تلك الابتسامة خُلقت له وحده فقط وهو وحده من يحق له رؤيتها متى يشاء..
زفر بضيقٍ من ذلك الشعور الذي لن يستطيع التخلص منه أبدًا؛ بسبب رقتها المفرطة التي تثير زوبعة رجولته و تجعله يضعف أمامها، وهو قطعًا لا يُريد اثبات صحة قول والده بأنه صاحب ملذات و شهوات حيوانية، لا فرق بينه و بين الحيوانات.. هو ليس هكذا، ليس مثلهم و لكن ما يسيطر عليه الآن، حُب الاستحواذ الذي نمى عنده مع أول نظرة وقعت من عينيه على ملامح “رُميساء ” الرقيقة عندما أنقذها من الحادث و لجأ بها للمشفى..
و الطريقة التي يعشق بها فراشته، قد تخطت حُب التملك و وصلت للاستحواذ، و الحُب الاستحواذي حالة يشعر فيها الشخص برغبة ساحقة هائلة في امتلاك وحماية شخص آخر يشعر بجاذبية قوية تجاهه، مع عدم القدرة على تقبل حدوث فشل أو رفض من قبل الشخص المحبوب.
رفع كفيه يحتوي برّقةٍ وجهها المستدير، لتخضع أطرافه الأَصْلاَبٌ لنعومة وجنتيها، فَتُصبح لينةٍ في ملامستها، ثُم قال بنبرةٍ أشبه بالهمس:
” أنا السُم و أنتِ الترياق، أنا الداء و أنتِ الدواء، داوي جروحي يا فراشتي ”
رفعت أناملها الرقيقة تحتوي أصابعه القوية، ثُم أنزلتها في حنوٍ عن وجهها، و ردت بنبرةٍ ناعمة:
” أنا هنا عشانك، احكي لي مالك ؟ ”
تردد في اخبارها بالأمر في البداية، حتى لا يبدي ألمه و بكائه ثانيةً أمامها، و يظهر بصورة هشة وهو في حياته لم يضعف أمام أحد ولم يبكي في حُضن أحد مثلما بكي في حُضن ” رُميساء ” غير جدته، و لكن مع رُميساء الأمر هنا مُختلف، فهو في الحقيقة يُريد أن يبقى الضابط الثابت أمامها الذي لا يضعفه أحد ولا يهزمه أحد.
فكر مليًا فيما قاله عنه والده، حتى أنه كاد أن يصدق هذا الافتراء اللعين بكونه سادي و شهواني
مثل الحيوانات بينه و بين نفسه، فكر فيما إذا وصل لفراشته الأمر، هل سَتُصدق ذلك عليه ؟
” أنتِ شايفة إني سادي، أو فيا طبع السادية ؟ ”
تساءل بها بينما كان يُفكر بصوتٍ عالٍ، حتى أنه فوجئ من سؤاله الغير معدود له العُدة، بينما هي نظرت له لثوانٍ بعدم فهمٍ، و تساءلت في براءةٍ منها:
” يعني إيه سادي ؟ ”
ابتسم نصف ابتسامة لبراءتها التي يُدركها جيدًا، و علم أن سمعها لا زال بريئًا مِن تلك المصطلحات الغليظة في معناها، فتجاهل سؤالها و سأل سؤال آخر:
” إيه اللي فيا شَـيفاه وِحش و عاوزه تغيريه ؟ ”
تنفست بهدوءٍ تُتابع تعابير وجهه الفضوليه لمعرفة إجابتها، فقالت في هَمسٍ بالكاد يسمعه هو:
” مش عارفة ”
ادعت الجهل؛ خوفًا من عينيه التي توحي بمدى قوة و نفوذ هذا الرجل، فأردف ضاحكًا بخفةٍ و امتدت أصابعه الحنونة عليها ترفع ذقنها الصغير له، لـِيُرسل نظرةٍ مُطمئنةٍ لعينيها البريئة الخائفة:
” متخافيش، قولي.. ”
بللت شفتيها مع نَفَسٍ بسيطٍ استعدادًا لقولها:
” بحبك، بس بخاف منك.. مِن.. مِن نظراتك أحيانًا، و مِن تَحكُماتك الزايدة، و.. و مِن مرض التملك اللي عندك ”
زفر بضيقٍ من نفسه عندما صرحت بأنه مريض تملك وهذا ما يُخيفها، فسكت لدقائق ينظر أمامه بشرودٍ و بدون كلام، مما ثارت غريزة الخوف عندها و هاجت، و ظنت أنها باعترافها أغضبته، فقالت سريعًا وهي تُدير وجهه لها:
” ما.. مكنتش أقصد.. متزعلش مني ”
احتوى أناملها التي ترتجف على ذقنه النابت، وقربها لفمه يُقبلها بعمقٍ في نفس اللحظة التي أغمض فيها عينيه ليفكر بهدوء في طريقةٍ لاحتواء خوفها، فهتف بعد أن فتح عينيه ينظر لها نظراتٍ ثاقبة و أحاط وجهها ثانيةً وفي قلبهِ
حُنُوٌّ و رأَفٍ لها و بِها:
” اوعي تسيبيني يا رُميساء، أنا من غيرك أضيع.. أنا.. أنا ما صدقت لقيتك.. ”
تابع قوله بدموعٍ تجمعت مرةٍ أخرى؛ خِيفة مِن تلاعب والده برأسها أو برأس والدها بكلامه المُر عنه، فاسترسل حديثه وهو يضغط على وجهها في رفقٍ و بضعفٍ منه:
” أنتِ لكريم وبس، و أنا لكِ و بس.. اتفقنا ”
لم يقصد بقوله اثبات تملكه لها، بل قصد أنها أصبحت عائلته الوحيدة، فلتبادله نفس الشعور و تجعله يشعر أنها أيضًا تعتبره عائلتها الوحيدة، و لكن كيف سَتستطيع توصيل ذلك الشعور له وهي لها عائلة بالفعل تُحبها و تحبهم ولا تستطيع الانسلاخ منهم مهما حدث !
ردت بهمسٍ تمسح له دموعه بنعومة أصابعها، التي ما إن لامست خديه تنهّد بالارتياح..
” أنا جنبك يا كريم و إن شاء الله أفضل جنبك و معاك لآخر نفس فيا، أنت مبقتش فرد من عائلتي و بس، أنت كمان زوجي و حبيبي و صاحبي و أجمل نعمة ربنا رزقني بيها ”
قصدت ذِكر عائلتها؛ حتى ترسخ في ذهنه فكرة أهمية أسرتها لديها أيضًا، و رغم حبها لعائلتها لكنها تحبه حُبًا خاص بهما وحدهما لم و لن يستطيع مخلوق التفرقة بينهما.
استطاع فهم ما رمت به، استطاع استيعاب الأمر و تفهمه..
قال بنظرة منكسرة:
” أنا عارف إني خنقتك بأفعالي، بس خايف تروحي مني زي ما أي حاجة حلوة قلبي بيشبط و يتعلق فيها زي الطفل.. تروح مني، خايف الظروف و طبع الدنيا الغدار يبعدك عني، خايف عليكِ بحُكم شغلي و خايف منك تزهقي و تملي.. كلمة خايف لوحدها مش قادرة تكفي ولا توصف مدى رعبي من الفكرة نفسها، فكرة إنك تبعدي عني يا فراشتي ”
عقب قوله بدمعةٍ مقهورة خانته و هربت تجري على خده، تنتحب مهددة بانهيار بقية أخواتها من الدموع التي تعبر عن غصّة متقرحة في حلقِه، لا يضاهيها ألف شعورٍ من مشاعر الحُزن و الأسى.
لم تستطيع “رُميساء” كبح دموعها أكثر، و كتم شعورها بالألم تجاهه، جفت الأحرف عن شرح الأمور و سيطرت الدموع على الموقف، فبادلته بُكاءً فوق بكائه الرجولي المُوحش، وهي تشده من رقبته بخفةٍ و تدفن رأسها في مَنْكِبه، و تمتم لسانها أخيرًا بكسرةٍ مريرة:
” و الله ها عوضك مش ها سيبك، مش هبعد عنك يا كريم، فراشتك هتفضل فراشتك الأبدية، مش ها تطير بعيد عن قلبك، أنت وطنها و بيتها.. و الفراشة لو بعدت عن كريم هتموت ”
” الحرب مع الدنيا صعب، صعب يا فراشتي ”
قالها في محاولة منه للكف عن البكاء؛ حتى لا يؤذي رقتها أكثر.. فقد بكت كثيرًا لأجله و بدأت جفونها بالاحمرار و التورم، وهو يحال عليه رؤيتها تئن هكذا.
صمت دقيقة، و تابع بهدوء نسبيًا:
” أنا مش مريض بالتملُك يا رُميساء، أنا مريض بالخوف.. اللي حصل لي خلاني أخاف أخسر الحاجات اللي بحبها، و أنتِ مش حاجة.. أنتِ روحي يا فراشتي، و أنا خايف أخسرها تاني بعد ما جيتي لحياتي و رديتي لي روحي اللي الدنيا بترتها مني، أنا بحب أهلك و كنت أتمنى يبقى عندي أهل زيهم و مش بغير عليكِ منهم، بس خايف معرفش أوصل لمكانة في قلبك زيهم.. خايف يا رُميساء ”
ردت بابتسامة داعمة للموقف:
“حُبي لأهلي يختلف عن حُبي ليك، إحنا بنتولد بنحب أهلنا بالفطرة، لكن أنت كُنت اختيار قلبي و عقلي.. اللي ربنا رزقهم حُبك، يعني اطمن.. أهلي بحبهم بقلبي، لكن أنت بحبك بالاتنين يا كريم.. مفيش وجه مقارنة أصلًا، حُب الأهل شيء و حُبي لكيمو حبيبي شيء تاني خالص..”
رفع بصره يغرق بعينيه الكهرمانية في تفاصيل وجهها المثير للفتنة.. بدأت أصابعها تُملس خصلاته المخلوطة ببعضٍ من الشعر الأبيض الصغير، الذي اندمج مع شعره الأسود الممزوج بالبُني؛ ليُشكل وقارًا مخلوطًا بعنفوان العشرينات و نُضج الثلاثينات.. بعد انتباه عينيها لتلك الخُصلات البيضاء الجميلة، أرادت استخدامها كورقة لتشتيت انتباهه، و إزاحة معالم الأسى عن وجهه.
قالت برقتها التي تذيب صلابته:
” طلع لك شعر أبيض و أنت لسه عندك تلاتة و تلاتين ! بس حلوين أوي، لايقين عليك ”
تأمل عينيها المُتعلقة على شعره المُرتب للحظاتٍ، ثم قال في تجاوب معها:
” ده وراثة في العيلة عندنا ”
” عاجبني ”
” بجد حبتيه ؟ ”
تذكر عندما كانت ” نداء ” حبُه الأول تخبره مرارًا أنه غير لائق عليه و يجب صبغه..
” حلوين عشان طالعين لك أنت، حلوين عشان عليك أنت، حلوين عشان أنت بتحلي أي حاجة يا كريم، و أنت كلك على بعضك حلو في عيوني ”
قالت جملتها الأخيرة وهي تداعب بسبابتها مقدمة أنفه برقة، مما أثارت تلك الحركة العفوية منها غرائزه الرجولية، فنهض مُتبسمًا و استأذن للمغادرة..
” أنا آسف على الازعاج اللي سببته، بس أنا بشر و كل بني آدم ليه طاقة، ملقتش غيرك ابكي في حضنه، و الحمد لله على نعمة الزواج اللي تخليني أبين ضعفي في حضن مراتي من غير خوف ”
تمسكت بيده و أردفت:
” عُمر البُكى ما كان ضعف، الضعف إنك تعلن هزيمتك و استسلامك للدنيا من أول خبطة، و أنت رغم كل اللي مريت بيه لكن لا زلت ثابت و مُتماسك، و زي ما قُلت إحنا بشر يعني كُتلة مشاعر.. منها الانهيار لما تضيق علينا الدنيا، و مَتزعلش مني لو أنا معرفتش أحتويك كويس، كل حاجة بتحصل لي معاك بتكون بالنسبة لي أول موقف أَمُرّ بيه، و ببقى مش عارفة أتعامل ازاي، فبتعامل بطبيعتي، لأنك عارف أنت أول راجل غريب أحبه.. بس بقيت مِن قلبي قريب..”
صمتت تنظر له مُبتسمة بِرّقة، ثُم تقدمت نحوه بخفة الفراشة ضاحكة..
” الحب و سنينه بقى نعمل إيه ”
امتدت يده تمسد على شعرها في حنوٍ و خوف عليها هي تلك المرة، ثُم جذبها بلُطفٍ تجاه صدره يريح رأسها مما سببه لها من تشتيت..
” أنتِ لسه صغيرة يا رُميساء، تسعة عشر سنة في الدنيا دي مش حاجة، لسه معندكيش خبرة و الدنيا ما بترحمش، أنا خايف عليكِ من غدرها يا فراشتي، خايف مني عليكِ أتعبك أكتر و خايف من الدنيا عليكِ تلوث براءتك و تكسرك، حُبي ليكِ مش تملك، حبي ليكِ خوف من أذى الناس و شر الدنيا..”
رفعت رأسها مبتعدة عن صدره العريض قليلًا، و رفعت عينيها له تقول بابتسامة جميلة:
” كريم، واجه مخاوفك، أنت بتدارى ورا خوفك من فقدان الحاجة بحُب تملكك ليها، لازم تواجه مخاوفك يا كريم ”
كاد أن يخبرها أنها أكبر مخاوفه، و أكثر شيء يخاف فقدانه بسبب طبيعة عمله و بسبب والده، الذي لن يستطيع الخلاص منه و من أذاه..
حانت منه ابتسامة صغيرة تلتها قُبلة رقيقة على جبينها، ثُم همس بنبرةٍ حنونة:
” أنا ماشي يا فراشتي، احتمال معرفش أشوفك الأيام الجاية عشان الشغل هيبقى كتير، لكن إن شاء الله هكون معاكِ أغلب الوقت بالتليفون أو حتى على الواتس، خلي بالك على نفسك يا حبيبتي ”
” و أنت كمان خلي بالك على نفسك أوي ماشي ؟ ”
ابتسم يومئ برأسه، ابتسامة أخفت وراءها الكثير من الحُزن، و أردف:
” إن شاء الله يا فراشتي لأبد الآبدين ”
” تركتك في حفظ الله و رعايته يا كيمو ”
ضحك بخفةٍ على تدليله بهذا الاسم، ثُم عاد يحتوي يديها الناعمة بأَكُفٌّهِ، و رفعها لفمه يلثم القُبلات المودعة عليها قائلًا:
” يا حبيبة كيمو أنتِ ”
و قبل أن يخرج من الغرفة، نادته ثانيةً بدفء حبالها الصوتية، فاستدار في الحال و كأنه وجد حُجَّة تجعله يَمكث أكثر معها، و لكنه خائف مِن إبداء أي سلوك عنفواني قد يؤذيها أو يسبب الهلع بقلبها.. ما إن وصل نُطق اسمه منها بتلك الرقة التي تُثير جنونه؛ التف و استدار بكامل جسده ليخطو خطواتٍ ثابتة تجاهها، خطوات تعرف وجهتها الصحيحة، ثُم انتشلها بخفة الفراشة يضمها إليه تاركًا دموع الخوف عليها من أي أذى، تهبط كما يهبط المطر بعد أشهر ظل السحاب يجمع في بخاره.
احتضن جسدها بين ذراعيه، و كأنه يثبت لنفسه و لها؛ أنها حُجَّة مِلْكيَّة تَخُصه، بتشديد ذراعيه على جسدها الضعيف بالنسبةً له، و اللذان تميزا بِعُرُوقٍ اتسمت بالصِنْدِيد، فساعده ذلك في جعل عناقه لها مُحْكَم مُسْتَحْكِم يشرح كل مُعاناة قلبه دون الحاجة للكلام.
أحست في تلك الدقائق الثمينة، أنها بين أحضان و ذراعيّ رَّجُل لو أراد تفتيت عظامها الآن لفَعَلَ؛ لقوته الهائلة التي يُدركها هو..
استطاع التحكم في غرائزه و حرر جسدها أخيرًا لينزلها بِرفقٍ على الأرض بعدما رفعها اليه وضمها هكذا..
قال في بَحة خجلٍ:
” آسف.. سامحيني ”
تأملته للحظاتٍ بدهشة لا تعرف ماذا تقول..
تحرك لسانها المُكبل أخيرًا و نَطَقَ:
” أنت.. كريم أنت.. أنت للدرجة دي كُنت محتاج لحُضني ؟ ”
سألته في براءة، فتنفس بعمقٍ و خفض بصره عنها، ثُم رفعه و همس باحراجٍ منها:
” براءتك، رقتك، ضحكتك، عفويتك، كل دي معاني و أساليب بتخرج منك بتلقائية، بس كأنها سهام بتخترق شرنقة رجولتي.. و.. و صرامة طبعي المعهود بيه، أنا قُدام رقتك تجردت من الطبع المقطَّب و الصارم، لكن.. لكن أنتِ مش مدركة أنتِ بتعملي إيه في الأنا عندي، بتحسسيني إني بملك غرائز حيوانية و مش بعرف أسيطر و اتحكم فيها..”
تنهّد بتعب و استرسل حديثه المعبر عن غضبه مِن نفسه..
” أنتِ خلتيني أنزل من مستوى الأنا العليا لمستوى الهو، و بقيت متعلق في الهو بدون عقل و خايف، خايف عليكِ مني و خايف من نفسي الوضع يزداد سوء و أفضل محلي سر.. في الهو ”
قبع عدم الفهم في وجهها، و أخذت الدهشة مَحلها، ليُتابع وهو يتحاشى النظر لشعرها قدر الإمكان، فهو واحد من الأسباب التي جعلته مهووس بها:
” حتى الأنا عندي فشلت تسيطر على الأنا العليا و الهو، أنا بسبب هوسي بيكِ ضيعت، و لا أنا قادر أتخطى الهوس ده ولا قادر اسيطر على نفسي ”
” يعني إيه ؟ ”
تنهّد بثقلٍ و رمقها لدقائق عجز فيها عن الشرح أكثر، ثُم قال باختصار لعلها تفهم ما يرمي إليه، و تأوَّل الكلامَ أوّله:
“رِقتك تُربك رجولتي و تُثيرُني ”
” و أنا مالي ! ”
قالتها في تلقائية شديدة، ثُم وضعت يدها على فمها تنظر له بدهشةٍ تلاها تمتمة مُضطربة:
” أنت زعلت ؟ ”
تأملها للحظاتٍ بوجه خالٍ من أي تعبير، ثُم قهقه عاليًا قهقهاتٍ متتالية، جعلتها تُنزل يدها التي حجبت فمها المُندهش، و راحت تضحك بعفوية تشاركه رنات ضحكاته الرجولية، بضحكاتها النابعة من لحنٍ عاطفي يحرك مشاعر الرومانسية في النفس.
توقف عن الضحك، و باشَرَ بِـتأملها وهي تضحك في براءةٍ أثارت كيانه المُتحجر، فاقترب منها و وضعت شفتيه قُبلة صغيرة أعلى مقدمة أنفها؛ دلالةً على التأثير الكبير الذي خَلفهُ حبالها الموسيقية الصوتية على جوارحه الآلية.
أردف بابتسامةٍ عاشقة لخجلها الذي اتضح أثاره على ملامحها فور قُبلته التي تمنى لو أنها قُبلة غير ممنونة مسموح ببثها في كل الآونة:
” أظن دلوقت أنتِ فهمتي رقتك و ضحكتك قادرين يعملوا فيا إيه ”
لم تنطق بشيء، فقط اكتفت بخفض بصرها باستحياءٍ داهم بشرتها فجعلتها أشبه باللون القرمزي..
و كأن ذلك المشهد ينقصه تلك الكلمات المعبرة عن حالة ” كريم ” الآن..
« بات الأمل في عينيّ يروي الجفن صبرًا
و العشق في جسدي يجعلني أذوب
و آلام الشوق تروي فؤادي عطشًا
وما أداركِ وما عطش القلوب»
” يا فراشتي، يا جميلتي.. أنا لازم أمشي دلوقت، هكلمك.. بس مش هقدر أشوفك الفترة اللي جاية.. آسف ”
” ها تمشي ؟ ”
تساءلت بدموعٍ لمعت بغير إرادتها، فـَرد بكلماتٍ يبث من خلالها عشقه الجنوني و هوسه الغير معقول بها، قبل ذهابٍ ممتد لحين ميسرة:
” أنتِ حقي، و حقي مِن حقي يبقى حقي، و مش من حقك التصرف في مستحقي، لكن من حقي مستحقك، و كل الحقوق حقوقي، و من حاقّ بي يحيق به، فلا يحق الحاق الحاقَّ بكِ، لأنكِ حقي”
فتحت فمها باستغراب شديد وعدم استيعاب لقوله، و أخذت تعيد كلامه في رأسها فتعثرت و أحست بأنها تائهة؛ لقدرته الفائقة في التلاعب بالالفاظ كيفما يشاء.
كاد أن يخطو تجاهها مرةً أخرى، و لكنه استطاع بجدارة أخيرًا امساك زمام أموره و التحكُم بها، فقرر اغاثة نفسه بالابتعاد عنها، قائلًا:
” لازم.. لازم أمشي.. بحبك ”
خرج دون انتظار ردٍ منها، بعدما صافح والدها سريعًا، و قاد سيارته يلوذ بالفرار من أمام رقتها المفرطة، قبل الندم على ارتكاب شيء أحمق يجعله يندم عليه أكثر فيما بعد، هي غير كل النساء.. فراشته تحتاج لمعاملة رقيقة و صدرٍ متسع ليُطلعها على هذا العالم الخارجي المليء بالتلوث.
تركها في أوج و كامل دهشتها، تنظر أمامها بعدم استيعاب لردود فعله و لتصرفاته الغير مفهومة..
أما هو قاد سيارته مسرعًا لقسم الشرطة يفجر غضبه من نفسه و ضعفه أمامها، في بعض المجرمين القابعين بالزِنْزَانات.
امتدت أصابعه تقوم بتشغيل مذياع سيارته، على القصائد التي أحبت أذنيه الاستماع لها منذ دخول ” رُميساء ” حياته..
« يا حور عين قد إكتفيت من العذاب
(من العذاب)
الله رحيم فكيف أنتِ لا ترحمي..
(أنتِ لا ترحمي)
سؤالي أنتِ، وأنتِ الرد والجواب
حِني على قلب قد بات مغرم»
أما بغرفتها، دلف والدها يبتسم بصفوٍ، ليقول:
” متخانق مع أبوه صح ؟ ”
رفعت وجهها الصادم من أفعاله لوالدها، لتجيب:
” أنا حاسة إني تايهة يا أبتاه، أحيانًا.. أحيانًا بحس إني خلاص فهمت كريم و بقيت قريبة منه، و أحيانًا بحس إني لسه في نقطة الصفر محلي ثابت مش بيتحرك ! بابا ساعدني ”
ضمها والدها له، ليربت على ظهرها بحنانٍ، و في تردد من اخبارها بحالة ” كريم ” التي أدركها هو كرجل، سألها أولًا:
” بتحبيه ؟ ”
سكتت هُنَيْهَةً، ثُم قالت بدموعٍ لم تُفارق عينيها النجلاء:
” مبقتش قادرة أتخيل حياتي من غيره، و في نفس الوقت خايفة من حياتي معاه.. كريم مش مفهوم يا بابا، عقلي مش فاهمُه يا أبتاه بس قلبي بيشاور عليه و يقول هو ده أنا مش عاوز غيره ”
كاد أن يتحدث معها و يخبرها عن حقيقة رَجُلها، و لكنه تراجع في آخر لحظة؛ بعد إدراكه أن ابنته لا زالت صغيرة و ربما لن تستوعب الأمر بسهولة، أو تصاب بالخجل الشديد من أبيها عند التحدث في ذلك الأمر؛ لذا لم يجد حل سوى اطلاع والدتها بأصل الموضوع، و تقوم هي بشرحه لابنتها.
تركها ليخرج من الغرفة بابتسامة مطمئنة:
” تسمحي لي اتكلم مع ماما شوية و بعدين ابعتها لك تتكلم معاكِ و تفهمك الدنيا هتمشي ازاي ؟ ”
هزت رأسها باسمة بوهنٍ و بصمتٍ، فتركها و اتجه لزوجته يتحدث معها على انفراد..
” إحنا هنعمل الفرح إن شاء الله في ميعاده الاساسي، بعد امتحانات نص السنة بتاعت رُميساء ”
رمقته زوجته بدهشة و هتفت:
” ما إحنا غيرنا الميعاد و اتفقنا على آخر السنة، إيه اللي تغير ! ”
” اللي تغير إن زوج بنتك محتاج لها أكتر، كريم بيمر بظروف نفسية صعبة و رُميساء هتعرف تخفف عنه، الاتنين محتاجين لبعض، مفيش داعي لتأجيل الفرح و الراجل محتاج اللي يطبطب عليه، دي مراته ولازم يبقى لهم بيت يجمعهم عشان ياخد راحته معاها أكتر، أنا متأكد إن كريم بيلوم نفسه إنه عيط قدامنا.. مش ها نبقى إحنا و أهله و الدنيا عليه.. الفرح بعد الامتحانات إن شاء الله، يمكن لما يخلف و يبقى له أسرة ينشغل معاهم بعيد عن عُقد أبوه؛ حالته تتحسن و ما يحسش إنه لوحده. ”
صمتت تفكر في كلامه، فتابعت بموافقة:
” أنا مقدرش أقول حاجة بعد كلامك ده يا أبو رُميساء، أنت راجل زيه و أكيد فاهم هو حاسس بإيه.. ربنا يهونها عليه ”
تحدث “مصطفى” بعقلانية يسبقها الحكمة و الخبرة:
” الراجل لما يضعف في حضن الست بتاعته بيبقى وصل لمرحلة الانهيار خلاص، مش بيبقى قادر يتحمل وجع الدنيا، و الست بدورها في الموقف اللي زي ده لازم تبقى جنبه تدعمه نفسيًا و جسديًا، رغبات الراجل مش بتتوقف على العامل النفسي بس في ظروفه الصعبة، فيه رجالة مش بتعرف تعبر عن حزنها بالمشاعر النفسية فبالتالي بيكون العامل الجسدي مهم، و أكيد أنتِ فهماني.. اللي زي كريم وفي حالته دي بيروح لأكتر شخص بيحبه و بيبقى عاوز يلزق له لحد ما يستقر نفسيًا، و إحنا كا عائلته التانية لازم نقف جنبه و نوفر له الدعم ده..
الزواج و كل اللي يخص الزواج من أمور حللها الله للبني آدم لو اتفهم صح و تأسس صح، بيعالج حاجات كتير، زي مشاعر القهره اللي كريم حاسس بيها دلوقت من ورا أبوه. ”
“طيب اتكلم معاه و اشرح له وجهة نظرك عن تقديم ميعاد الفرح”
” أكيد ليا قعدة معاه، بس لما يصفي ذهنه و يهدى.. و عاوزك أنتِ كمان تكلمي رُميساء و تفهميها ”
ردت في طاعة و تَفَهُم:
” أنا قايمة أقعد معاها ”
على فراش ابنتها جلست المرأة قبالتها، تطالعها بحُبٍ و حنانٍ، ثم قالت بهدوء:
” بصي يا بنتي، في رجالة مش بتعرف تعبر عن مشاعرها غير بالجانب الحسي فقط، بيبقوا مفتقرين للجانب العاطفي فمش بيقدروا يعبروا عن حبهم غير بالغرائز الجسدية، و في العكس بيقدر يعبر عن حبه بالكلمات و بالعواطف و بيعرف يعبر عن مشاعره بالرومانسية، مش معني كده إنه فاشل في الجانب التاني، هي بس بتبقى ظروف مر بيها الرجل وهو طفل و بتبقى الظروف دي المسؤولة عن تكوين شخصيته قدام، لو لقى الحنية و الحب و الاهتمام متوفرين من أهله وهو صغير، هيقدر يوفرها لشريك حياته، و كريم يا حبيبتي كان بيلاقي جفا من أبوه دايمًا، عشان كده اتربت فيه الصرامة و الطبع الجامد اللي أحيانًا بيكون قاسي و في جانب تاني مخفى جواه وهي الحنية، و أنتِ دورك لو بتحبيه و عاوزه تكملي معاه، يبقى تطلعي الجانب ده و تخليه هو اللي مسيطر على باقى الجوانب في شخصيته.. ”
تساءلت الفراشة بلهفة:
” ازاي يا ماما، اعمل ايه ؟ ”
” استعملي رقتك و أنوثتك، بالدلال و الرقة ها يلين قلب الراجل اللي معاكِ لو هو بيحبك، و كريم بيحبك يا رُميساء، ادي له فرصة يخرج مشاعره المدفونة جواه بشكلها المضبوط ”
” مش فاهمة ! بس.. بس يا ماما هو قالي إن رقتي و عفويتي بيتعبوه و بيأثروا عليه بالسلب، يعني هو مش حابب طبيعتي اللي اتولدت بيها يا ماما، و أنا مش عاوزة أبقى رقيقة معاه بس مش عارفة أتغير ازاي ”
نهرتها في لُطفٍ منها، و عدلت من جلستها لتضم ابنتها لقلبها في جلسةٍ يحكمها نُصحٍ و هَذْرٌ:
” اوعي.. اوعي يا حبيبتي تتغيري، هو بيحبك كده بس أنتِ لسه مش فهماه.. كريم قصده يقولك إنه بيضعف قدام رقتك بس أنتِ دورك تستخدمي رقتك و دلعك ده بطريقة صح عشان تعرفي توجهي زوجك بكيفك، و تخليه يعبر عن مشاعره بطريقة طبيعية شرعها ربنا و حللها برابط الزواج، ربنا أنعم علينا بالزواج؛ لأنه في حد ذاته بيكون إحياء فضيلة العفة و بيخفف متاعب الحياة على الطرفين، الزواج يا حبيبتي هو الإرادة الإلهية، و الفطرة اللي فطر الله عز و جل الناس عليها، و الحفاظ على الأعراض، والسكن النفسي..
ربنا سبحانه و تعالى قال يا رُميساء في كتابه
: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)
يعني السكون النفسي الجنسي، فهمتيني يا حبيبة ماما ؟ ”
أخيرًا فهمت ما ترمي إليه والدتها، فراحت تخفض وجهها في استحياءٍ كاد أن يفقدها الوعي، بينما الأم تابعت بهدوءٍ:
” عشان تفهمي جوزك أكتر، لازم تقربي منه أكتر؛ لأن كريم شخصيته مش سهلة تتفهم عن بُعد ”
” تقصدي نتزوج؟ ”
” بالضبط، عشان كده أبوكِ قرر يقدم ميعاد الفرح و يخليه في ميعاده الأساسي، ده بعد قرارك أنتِ طبعًا، و اللي أنا متأكدة إنك مش ها تعترضي ”
نظرت لوالدتها للحظات بتوتر، ثُم أردفت بنفي:
” مش هتفرق نص السنة من آخر السنة، هما كام شهر، و أنا.. و أنا عاوزه أركز السنة دي عشان أجيب تقدير عالي إن شاء الله ”
” يعني إيه ؟ ”
” يعني أنا مش موافقة يا ماما بتقديم الفرح ”
__________________
” لا أحد يستطيع أن يسلب من يدي شيء، إلا إذا رميته أنا ”
~~~~~~~~~~
انتصب شعر رأس ” مُجاهد ” من الصدمة، و كاد أن يفقد صوابه كُليًا، وهو يُتابع باستيعابٍ بطيءٍ للغاية ما فعله ” قُصي ” هذا المشاكس الذي لن يهدأ له بال، إلا بإصابة والده بجلطة مميتة.
وضعت ” لين ” زوجته يدها على فمها، و أخذت بالتمتمة المُبهمة:
” يارب عديها على خير ”
أما ” ملك ” ظلت تضحك و تقول بلكنتها الملوثة:
” اجري يا قُصي، ماما..
Qusay will go to hell now. ”
بينما ” شهد ” اتجهت بخوف تُهدئ والدها، فقالت:
” بابا اتكلم معاه بهدوء، قُصي مش بيجي بالزعيق”
” ده أنا هطلع عين أمه ابن المصننة ده ”
هتف بها في عصبية شديدة، فصاحت ” لين ” بصدمة:
” بتقول إيه يا مجاهد !! ”
بينما ” ملك ” همست بِرّقة وهي تنظر لوالدها بدهشة:
” بابا.. That’s a shame ”
التفت لهم مجاهد مُدركًا ما لفظ به بأسلوبٍ بذيء، فقال لزوجته وهو يضع يده على رأسه مما تسبب فيه ” قُصي ” من صدمة قوية له..
” أنا آسف يا لين يا حبيبتي، بس ابنك هيجلطني.. بصي بدأت اتجلط أهو.. آه بوقي.. الحقوني بوقي بيتعوج.. هتشل.. هتشل.. مش هسيبك يا ابن * ”
رغم أن هيئته بدت مضحكة وهو يفتعل اصابته بالجلطة، لكنه في كامل عصبيته و انفعاله الآن.
هتف ” قُصي ” مبتسمًا بوقاحة من أمام المنزل:
” مش تيجي يا ميجو عشان أفرجك على الكار البلاك الجديدة ”
” ده أنا هخليها ليلة بلاك على دماغك ”
صاح بها، ثُم هبط الدَرَج سريعًا باحثًا بعينيه عن أي عصا يضربه بها، و لكن ” قُصي ” بجسده هذا لن تؤثر به عصا يا مُجاهد.
غادر الرجل الذي أوصل السيارة الجديدة للمنزل، و اتجه ” مُجاهد ” بمد يده على ابنه، فهرب الأخير و أخذ بالركض حول السيارة، ووالده وراءه يهتف بغيظ منه:
“ها جيبك، ها تروح مني فين، و الله لو روحت الهند.. ها جيبك”
” اسمع مني بس يا ميجو، أصل أنا لقيت عليها عرض، أخد العربية و عليها زبادو بالفراولة هدية ”
” دلقوا عليك طبق ملوخية ”
” طب صلي على النبي بس و نتفاهم ”
” عليه أفضل الصلاة و السلام، ها جيبك ”
هكذا دار الحوار الهزلي المشحون بالغضب من
” مُجاهد ” و السخط على ابنه المتمرد، وهو يستمر بالركض وراءه حول السيارتان، على مجيء ” إبراهيم ” هو الآخر بسيارته، بعد مكوثه ليومٍ عند جده في ذهاب قُصي لتأدية امتحانه، و اتجاه ” سيف ” لخوض المباراة مع فريقه.
تَرَجَّلَ ” إبراهيم ” عن سيارته، و فمه يتسع بابتسامةٍ بلهاء يتبعها قوله:
” الله الله.. عركة ! ”
” تعال يا إبراهيم شوف البيه عمل إيه ”
قالها ” مجاهد ” يستنجد بإبراهيم، الذي مسح بيده على السيارة في إعجاب صريح أبداه وجهه..
” Çok güzel.. Çok.. Çok.. Çok ”
” ده أنا اللي هخليكم ترقصوا على شيك شاك شوك دلوقت، مش هسيبك يا قُصي ”
ضحك ” قُصي ” رغمًا عنه، و هتف وهو مستمر بالهروب و الركض:
” أصل بص، أنت كده كده في الآخر هتوافق و الدنيا ها تمشي، فكشكشها متعرضهاش عشان ماليش في النقاش ”
صرخ مجاهد في تعصبٍ أفقده صوابه:
” بتتصرف من دمـاغك ليـــه ؟! ”
” عشان دي دماغي، اومال هتصرف من دماغ إبراهيم مثلًا ! ”
” كل ده عشان مش عاوز تشتغل مع أخوك، أحلق دقني لو فلحت ”
” إحلقها من دلوقت ”
” أنت بتـقول إيــه ! ”
“موته و صلي عليه”
ضرب مُجاهد بيده على السيارة، و ظل مكانه هاتفًا بغضب:
” لا.. كده مبقاش نافع، أنا جبت أخري ”
“جبته بكام ؟”
ضحك إبراهيم بقوة من رد قُصي، ليبدأ الأخير بالركض ثانيةً، حينما لمح والده ينحني على الأرض ليجلب حصى و يرميه عليه في استياءٍ، مع وابل هائل من السباب و التوبيخ:
” ياض ده أنا اللي لفيت بلدان العالم معملتش العمايل السودة دي، ده أنا كُنت أصيع منك ياض و معملتش البلاوي اللي بتعملها دي، ياض أنا معرفتش أربيك، اعمل معايا معروف و ربي نفسك ”
اتسعت ابتسامة ” قُصي ” الماكرة، و شدَّ سِحاب سترته الجلدية، ليظهر قميصه الأبيض من بين جانبي السُترة، ثُم أردف غامزًا لوالده:
” السنة ها تتغير و أنا كمان ها تغير، و اللي فاكر إن أنا طيب كُل سنة وهو طيب ”
ثُم قام بتشغيل كاسيت السيارة، و اتسعت ابتسامته، وهو يراقص والده مُستعملًا جانبي السُّتْرَة في الرقص، و طفق يدندن مع الأنشودة الطفولية:
” عربية صغيرة حلوة عيونها مدورة، لعبتي كل يوم.. غالية عليا السُكرة، لعبتي كل يوم.. غالية عليا السُكرة، تيكي تيكي توتو تيكي تيكي توتو ”
” صدق يابني والله إنك إنسان تافه ! ”
و كذلك قام ” إبراهيم ” بتقليد قُصي، و أخذ يدندن هو أيضًا:
” هيلا هوب هيلا هوب هيلا هوب هيــه ”
” هيـه ! ياريتها كانت بركت عليكم فطستكم ولا شفت خلفتكم دي ”
ازداد غيظه من برود ابنه المتمرد الَّذي لا يَنْقاد بسهولة، أو في الحقيقة لا يَنْقاد أبدًا..
تحدث مُجاهد بهدوء تلك المرة:
” مش كنت تجرب تشتغل مع أخوك الأول، ولو الشغل مجاش على هواك، ابقى قرر هتعمل إيه! ”
توقف ” قُصي ” عما يفعله، و كذلك انساق وراءه إبراهيم، فهذا التركي الوسيم يقلد رفيقه في كل شيء.. أردف قُصي بجدية:
” مش قادر تفهم ليه يا بابا، إني عندي طموح و بسعى أحققها ”
“طموح ! طموح إيه يا ابو طموح، ده أنت ولا حصلت حتى طموح جارية”
” الله يكرمك ”
” أنا هطفش من برودك ده ”
” طموح و تيجي بالسلامة ”
اقترب منه مجاهد، و امتدت يده تعدل سترة ابنه و تغلق سحابه، ليتابع:
” تعرف أنا شايفك إيه دلوقت ”
قاطعه المتمرد، ليحرر سحابه ثانيةً ببرود..
“مش مهم حضرتك تشوفني ازاي، المهم عيني شيفاني ”
” عينك شيفاك ! بطل جنون العظمة اللي عندك ده بقى ”
” العظمة لله وحده، و الجنون للعبد و أنا عبد مجنون بنفسي، بحبها أوي اعمل ايه ! ”
في تلك اللحظة، أقبل ” أُبَيِّ ” بسيارته عائدًا من شركته، و عندما رآه والده؛ اتجه نحوه يشكو قُصي له، ليقول “أُبَيِّ” وهو يتفحص السيارة بانبهار:
” حلوة أوي العربية دي ”
” حتى أنت يا أُبَيِّ ! آه صحيح ما أنت اللي ساعدته و طاوعته يبيع الأسهم ”
التفت له أُبَيِّ يطوق كتفي والده بحنان، ليقول بنبرةٍ تطفئ غليان الغضب بشرايين مجاهد:
” بابا.. اهدى.. أنا عاوز حضرتك تهدى و تسمعنى، أنا اللي اشتريت الأسهم بتاعت قُصي، يعني مفيش حد غريب هيشاركني في الشركة، أنا قعدت و اتكلمت معاه، و صدقني حاولت اقنعه كتير، بس حضرتك عارف شخصيته كويس، والله لو عملنا إيه بالذي، هيعمل اللي في دماغه برضو، فخليه براحته، كل واحد لازم يخوض معارك الحياة بدماغه و يتعلم من أخطائه لوحده، و إحنا علينا بالنُصح و التوجيه ”
هدأ ” مُجاهد ” قليلًا، و لكن قلب الأب لا زال خائفًا من عصيان و تمرد ابنه؛ أن يؤدي به للهلاك مثلما فعل خاله.. أخذ ينظر له بغيظ مصحوب بالخوف و الحنان، ثُم هتف:
” بعد كده ميعادك في البيت قبل ما الشمس تغيب.. أنت فاهم ؟ ”
” ليه.. حد قالك إني مستذئب ! ”
أشار مجاهد لقُصي بغضبٍ، وهو يحادث أُبَيِّ بنفاذ صبر:
” شوف بيرد عليا ازاي ! ”
” معلش يا بابا، كبر دماغك منه ”
” طب أنا بقى العربية دي مش عجباني، إيه رأيك بقى يا سهر الليالي ؟ ”
زفر الآخر بضيقٍ، و تلاشت ابتسامته مُتمتمًا:
” قولت لحضرتك ما تقوليش كده ”
” بتوجعك أوي الكلمة دي يا بتاع نجلاء !
و إيه شعرك اللي بقى زيهم ده ! أنت فاكر نفسك هربان من كوريا ؟ أنا بقى مش متحرك من مكاني غير لما تيجي معايا للحلاق تحلق شعرك المسبسب ده ”
تجاهل ما صَرَّ به والده، و حول كاسيت السيارة لموسيقى صاخبة مصحوبة ببعض الكلمات التي تناقلتها الأجيال، و عاد ليفعل فعلته الأولى بجانبي السترة، و شعره يشاركه الرقص بفعل رياح الشتاء، و كذلك فعل ” إبراهيم ”
“ليلا ليلا لوووو ليلا ليلا لا ليلا ليلا لوووو ليلا ليلا لا.. أنا مشهور كده وسط صحـابي”
و ” إبراهيم ” من خلفه يحثه على الانسجام أكثر، فتقدم أمامه يحرك سترته مثلما يفعل أزرق العينين..
” هيـه هيـه هيـه، مع تيتي شيري و كمان حابي ”
و إذ فجأةً يقفز ” قُصي ” مثل القرود بخفة دون مساعدة أعلى السيارة مع هطول المطر في تلك الدقيقة، و صخب صوت الكاسيت وهو لا زال مستمر بالرقص و الغناء:
” رغم شقاوتي و صُغر سني ”
يتابع إبراهيم الأحمق
“هيه هيه هيه”
” و لاحد في يوم زعل مني ”
“هيه هيه هيه”
” بفرح والعب بس بذاكر، و بحب صحابي و وسامتي.. و الدنيا الحلوة تغنيلنا ”
لم يستطع ” أُبَيِّ ” منع جسده من الانسجام مع أخيه المشاغب، ففعل مثلهما ليقفز قُصي من أعلى السيارة، و يرقص الأخوان أمام بعضهما باستعمال سُترتهما، و إبراهيم يقفز كالأرانب بالقرب منهما بعدما قام بتحويل الأغنية لأخرى معروفة في كلماتها..
رفع ” قُصي ” وجهه يسمح للمطر بمداعبة ملامحه فائقة الجمال، و كذلك فعل ” إبراهيم” فدخلت قطرات المطر في عينيه، مما احنى رأسه سريعًا يمسح الماء عنه..
عمَّ الضجيج أرجاء المنطقة، و خرج المعظم يطل برأسه من شرفة منزله يشاهد بدهشة مصحوبة بالضحك ما يفعله أولاد مجاهد الشباب تحت المطر، و انضم لهم بعض شباب أهل المنطقة؛ ظنًا أنهم يحتفلون باقتراب زفاف ” أُبَيِّ ” أما ” زياد”
لم يستطع النوم و كذلك ” هاجر ” فخرجا يشاهدان ما يصدر من أبناء عمهما، ليضرب كفًا بكف ضاحكًا:
” الله يكون في عونك يا عمي، هينجلط يا عيني”
ردت ” هاجر ” وقد طار النوم من عينيها:
” قال و عاوزنا نخلف عيال شبهه، يا جدع اتقِ الله ”
في الجهة المقابلة لمنزل ” مُصطفى” شقيق مُجاهد، خرج ” بدر ” يبحث بعينيه عن مصدر الازعاج من الشُرفة الخارجية في الدور العلوي من المنزل، التي تطل على الشارع أمامه، و جاءت بعده ” عائشة ” تفرك عينيها في نعاس، بينما
” بدر ” فتَح فمه و أَطبقه بحركة لا إراديَّة؛ دلالة على عدم الاكتفاء من النوم، فابن عمهم قد عاد بالسيارة الجديدة آخر الليل.
انتبهت ” هاجر ” لظهور شقيقها و زوجته، فلوحت لهما بصياحٍ:
” منورين يا رجالة ”
انتفض زوجها بجانبها ليختلس نظرة عليهما، ثُم التفت لزوجته التي ذهبت رقتها هباءً مع التقدم في الحمل:
” رجالة ! و بالنسبة لعائشة دي إيه ؟ مربية شنبها ! ”
” الحق أبوك طلع لهم ”
نظر ” زياد ” أسفل المنزل ليجد والده يتجه بثباتٍ تجاه الشباب، تركهم و اقترب من
” مُجاهد” يأخذ بيده و يرقص معه، مما اتسعت عين ” زياد ” بدهشةٍ و مَدّ بصَوْته:
” يمين بالله إحنا عيلة مفضوحة ”
انخرطت ” هاجر ” في ضحكٍ شديد، فانحنى يحملها و يدخل بها لشقتهما قائلًا:
” يلا عشان تنامي، وراكِ امتحان ”
” نزلني أتفرج عليهم، أنا مش نافعة أصلًا ”
” بس يا بت ”
أما في شرفة منزل ” بدر ” استوعب أخيرًا ما يحدث، و أخذ يردد ضاحكًا:
” الله المستعان، الله يهديكم ”
” هما بيرقصوا ليه ؟ ”
قالتها ” عائشة ” و هي تختفي تحت ذراع زوجها من شدة البرد، فانحنى يحملها و يدلف بها للداخل قائلًا:
” يلا عشان تنامي، وراكِ امتحان ”
أما في الأسفل، اعتقد ” مصطفى” أن أبناء شقيقه يحتفلون بمناسبة اقتراب زفاف زوج ابنته، و ابن أخيه البكري، فاتجه يشاركهم فرحته يرقص مثل الصعايدة على الصوت الذي اختلط بأصواب الشباب الصاخبة، لاسيما ” قُصي ” التي فُصلت الكلمات عليه وهو يشير لنفسه و الشباب يلتفون حوله
” وسع وسع.. وسع وسع
مين اللي جاي إستنى دوره جاي
أهلًا باللي عايز سيبه أنا عايزه حي ”
أثناء اندماج ” أُبَيِّ ” معهم، انتبهت عيناه لوقوف
” نورا ” بنافذة غرفتها بجانب والدتها تطالعه بضحكٍ، فاتجه نحوها و أرسل لها قُبلة في الهواء يتبعها بقوله المرِح:
” هانت يا نورا.. بحبـــــك ”
تعالت ضحكتها، بينما والدتها قالت:
” والله و طلع لك حس يا أُبَيِّ، مية من تحت تبن بصحيح، بس عسل ربنا يحميه و يتمم فرحتنا على خير يارب ”
” آمين ”
همست بها ” نورا “و عيناها تُتابعانِ زوجها المجنون بِحُبٍ و سعادة.
صاح ” مُجاهد ” الذي كان يرقص بصدمة مع شقيقه..
” إحنا ملناش قعدة في الأرياف، إحنا لازم نهج على برا بعد اللي حصل ده، عيالي فضحوني ”
رد مُصطفى ضاحكًا:
” افرح يا مجاهد، العيال كبرت ”
” يا راجل اسكت، دول مدرسة المشاغبين مش العيال كبرت ”
أخيرًا عاد كُلٍ لبيته، و انتصر ” قُصي ” بالتشويش على والده بفعلته، ليربح الخطة و تقبل
” مُجاهد ” شرائه للسيارة و تخليه عن العمل بشركة أخيه.
عاد ” سيف ” للمنطقة بعد يومين، و رحب به الأهل أجمع، فقد أصبح لاعبهم المحترف خليفة الكابتن ماجد أو خليفة نيوتن في الملاعب، حبيب روان، و إن يَكُن.. لا يعنيني.
مرّت أيام أُخر، و بعد الأسبوع الْمُنْصَرِمُ استعد
” بدر ” لتسليم مشروعه، الذي حلم بتحقيقه على أرض الواقع.
_________________
يقول الشيخ محمَّد الشَّنقيطِي:
” إذا دخل اليقينُ قلبَ العبد، وتضرَّع إلى اللّٰه بالدّعوة الصَّادقة، عزّ على اللّٰه أن يتركَه في كُربةٍ آلمتُه، أو حَاجةٍ ضايقته.”
~~~~~~~~~
ها هو ” بدر الشباب ” يقف الآن في وسط تلك الساحة الشاسعة بالشركة الكبيرة قبل تجريب سيارة المشروع بساعتين.
أخذ يدعو الله في تضرع و يردد بيقين:
” إني عبدالله ولن يُضيّعني، يارب بارك لي في عملي، يارب وفقني.. يارب يارب ”
تجمع بالشركة الكثير من المهندسين اللذين يشرفون على المشروع و يرأسهم ” بدر” و جاء أيضًا الوفد الفرنسي الذي دعم العمل منذ بدايته، و بعض المستثمرين الآخرين الداعمين للمشروع، و يقف ” المهندس مرتضى العبد ” معهم؛ يخوض حديث حول مشروعهم.
أثناء ذلك، أقبل على ” بدر ” عامل بالشركة يبتسم بخجلٍ و يقول في أدبٍ:
” باشمهندس بدر، ممكن أخد شوية من وقتك؟ ”
أومأ ” بدر ” باسمًا يحثه على الكلام، فتنهد العامل بحُزن و قال:
” أنا جيت لحضرتك أنت بالذات، عشان حاسس إنك اللي هتساعدني، الشركة كلها تشهد بأخلاقك و من كُتر الكلام عنك، لقيت نفسي جاي لك ”
أخذه ” بدر ” جانبًا و جلس ليسمح له بالجلوس، و أردف باهتمام:
” الحمدلله هذا من فضل ربي، اتفضل يا حبيبي.. خير ؟.. أنا سامعك ”
خفض العامل رأسه باحراج للدقائق، ثُم سحب نفسًا عميق و قال:
” أنا.. أنا بسمع مقاطع إباحية، و.. و نفسي أتوب و مش عارف أعمل إيه ؟ أنا عندي اكتئاب بسبب الموضوع ده يا باشمهندس، بالله عليك ساعدني ”
تأمل ” بدر ” وجهه الشاحب للحظات، ثُم تبسم و ربت على كتفه بتفهم، و بهدوءٍ تحدث البدر:
” شوف يا حبيبي، معنى إنك عاوز تتوب.. إذًا أنت معترف من قلبك إن مشاهدة المواقع دي مفسدة للقلب و محرمة على كل مسلم، بس قبل كل شيء لازم تكون على علم بإن المواقع الإلكترونية أول مَن أنشأها هم الكفار، ومهما أرادوا بها، فقد استخدمها بعضُهم لتشويهِ الإسلام وضربه، و إفساد المسلمين وإخراجهم من دينهم، زي المواقع الإباحية.. أنا بقول لك الكلام ده ليه ؟ عشان تكون على دراية تامة إن نفسك و شيطانك لو انساقوا ورا الكلام ده، فأنت كده بتتبع نهجهم من غير ما تاخد بالك، و المواقع دي مش بس بتسحبك ليها، دي بتخليك عبد عندها، تفضل طول اليوم قاعد تسمعها، و يوم بيجر يوم لحد ما تخلص أيامك اللي ربنا كاتبها لك و ينقضي أجلك، و أنت لسه في قلبك النور الحمدلله و ربنا بيحبك، عشان كده ألهمك للتوبة ”
بالفعل المواقع الاباحية هي من مخططات الغرب الفجرة الكفرة، فقد ابْتُلي كثيرٌ مِن شبابنا بالدخول إلى تلك المواقع الجنسيَّة، ولا غرابة في هذا إذا علمنا أن انتشار ذلك بين المسلمين مِن تدبير اليهود؛ حيث نصُّوا في بروتوكولاتهم على أن سلاحهم في إفساد الأمم بالجنس و المخدِّرات، فيُلْهون المسلمين عن دينهم وقضاياهم الكبيرة بتلك السفاسف، حتى أصاب الجميع
«رجالًا ونساءً» السعار الجنسي.
حدثه ” بدر ” بالقول اللين و العقل و الحكمة في النصح، واضعًا تلك الآية نصب عينيه..
«ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» [النحل: 125]
فقال بوجهٍ غير عابس:
” الله – سبحانه – مُطَّلع علينا في جميع أحواله، يعني ربك عز وجل شايفك و يعلم خائنة عينك وما يخفي صدرك، إذًا ربنا – سبحانه – بيراقب أفعالك، مثلًا.. لو أنَّ شخصًا مهيبًا، وصاحب دين و خُلق، اطَّلع عليك و شافك و أنت مُنهَمِك في الفُرجة على المقاطع دي، كيف سيكون حالك ؟ قال النبي -: (أن تَستَحْيي من الله تعالى كما تستحيي من الرجل الصالح من قومه)
رواه الطبراني في الكبير، والبيهقي. ”
خفض العامل الشاب بصره بخجل، فتابع ” بدر” يربت على كتفه بين الحين و الآخر، ليذكِّره بكلام ابن القيم في كتاب “الجواب الكافي” عند معرض كلامه عن علاج إطلاق النظر للحرام؛ حيث قال:
“وكم مِن نظرةٍ أوقعتْ في قلب صاحبها البلاء، فصار – والعياذ بالله – أسيرًا لها.. كم مِن نظرة أثَّرتْ على قلب الإنسان حتى أصبح أسيرًا في عِشْق الصور..”
صمت لدقيقة، و تابع بابتسامة أوسع:
” طالما قلت إنك عاوز تتوب، فأنت كده أدركت نصف التوبة ”
” يعني إيه ؟ ”
” يعني حققت شرط من شروط التوبة وهو الندم على الذنب، و لأن الذنب ده بينك و بين ربنا، فأنت عشان تكمل شروط التوبة، يبقى تجاهد نفسك تترك الذنب ده نهائيًا و يبقى عندك النية القوية إنك مش هتروح للذنب ده تاني، و كُن على يقين إن ربنا سبحانه سيعينك على المجاهدة و اكمال التوبة..
يقولُ اللَّهُ تَعالَى في الحديث القدسي:
«أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي، وأنا معهُ إذا ذَكَرَنِي، فإنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وإنْ ذَكَرَنِي في مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ في مَلَإٍ خَيْرٍ منهمْ، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ بشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ باعًا، وإنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً.»
الراوي : أبو هريرة، المحدث البخاري ، المصدر صحيح البخاري.
الصفحة أو الرقم: 7405 .
معنى الحديث إن ربنا عشان رحيم بعباده، فهو سبحانه و تعالى يُعطي العامِل أكثر مِمَّا عمل، و لو تقربت إلى ربك تَقرُبًا قليلًا، تقرب الله منك كثيرًا، و لو تقربت منه كثيرًا، تقرب الله منك أكثر، بس أنت أعزم النية و توكل على الله . ”
” طيب يا باشمهندس إيه الحاجات اللي أعملها تساعدني على الجهاد و التوبة ؟ ”
رد ” بدر ” بنبرة تحفيزية:
” زور المقابر؛ عشان تتذكَّر الموت و سكرته، و القبر و ظلمته، و حاول تصوم لو كل أسبوع يومين مثلًا اثنين و خميس، لو مش قادر تبعد عن مشاهدة المقاطع دي، يبقى ابعد تليفونك عنك و استعمل أبو زراير اللي مفيهوش نت لمدة شهر بس جاهد نفسك فيهم، اعتبر نفسك داخل تحدي و حياتك متوقفة على الفوز بيه ”
” أنا قرفان من نفسي، حاسس إني وِحش أوي ”
” أكابر الصحابة كانوا مشركين، ثم فتح الله قلبهم للتقوى، وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – مِن أشدِّ أعداء الإسلام حتى قال قائلهم: “لو أسلم حمار آل الخطاب، ما أسلم عمر”، وشاء الله أن يُسلِم، ويكون إسلامه فتحًا للإسلام، و خليك دايمًا على وضوء عشان أول الآذان ما يأذن تروح تصلي من غير تكاسل، توجَّه إلى مَن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، و ردد دايمًا دعاء سيد الاستغفار..
«اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت » و برضو أذكار الصباح و المساء هتحفظك، أنت أهم خطوة خدتها هي النية السليمة في التوبة، و إن شاء الله ربنا هيعينك في الباقي و هيكون سهل عليك، و أنا موجود معاك بإذن الله لو احتاجت أي حاجة، و لتكنْ على درايةٍ بأن ترْكَ هذا النوع من المعاصي يحتاج إلى مجاهدةٍ ذاتيةٍ، وصراعٍ مع النفس؛ لإخراج الهوى مِن القلب الذي هو حجاب عن الله والدار الآخرة، وينتصر فيه الإيمان الكامن في النفس أخيرًا؛ كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69]
زي ما قُلت لك أبدأ بالمجاهدة، و سيُعينك الله.”
شعر العامل بالارتياح بعدما تحدث مع بدر، و شكره مُتجهًا لعمله، بينما ” بدر ” نهض ليجتمع مع بقية المهندسين؛ لالقاء نظرة أخيرة على السيارة قبل المرحلة الأخيرة، و هي تجربتها.
شمر ” بدر ” عن ساعديه لتبرز أوردته القوية و الواضحة، و انحنى يلقي نظرة فاحصة أسفل السيارة، ثُم الجوانب و بكل شيءٍ بها، ليمسح وجهه بهدوءٍ، و رَدَّدَ صَوتَهُ في حَنْجرَته:
” اللهمّ إنّي توكلت عليك، وسلمت أمري إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ”
و ركب السيارة تحت أعين الجميع المُترقبة في خوفٍ و توتر، ثُم ذكر اسم الله و قلبه يخفق حتى وصل صوت دقاته لحنجرته، فابتلع ريقه و أغمض عينيه يزفر بهدوء؛ لكيلا يشتت نفسه، و أدخل مفتاح السيارة لتشغيلها، تزامُنـًا مع اتساع أعينهم القلقة المنتظرة للفرج..
صوت مُحرك السيارة بدأ بالظهور و تعالت الهمسات و الهمهمات، و ذِكر اسم الله لا يبرح لسان ” بدر ” فقام بالضغط على دواسة الدوبرياج و دواسة الوقود، ثُم قام برفع قدمه عن دواسة الدبرياج تدريجيًا و قلبه يخفق بشدة مع كل حركة، و ظلت قدمه تضغط على دواسة الوقود، لتتحرك السيارة و بعد دقائق جابت المساحة الشاسعة بسرعة البرق، و نجح المشروع و تحقق حلم ” بدر الشباب ” !
بدأوا جميعًا بالتهليل و احتضان بعضهم البعض باستيعاب بطيء، بينما ” بدر ” ترجل عنها و عينيه تذرف الدموع حرّها، وهو يقول بفرحةٍ ناطقةٍ:
” الحمدلله.. الحمدلله.. الحمدلله، قد جعلها ربي حقا ”
و انحنى يسجد لله في بُكاءٍ أبكى المهندس مرتضى و العم عبده و آخرون، تلك الفرحة التي ذَرَفَتْ لَهَا العيون..
نهض البدر يمسح دموعه، و بدأ الجميع بالتهنئة بهذا المشروع الفريد من نوعه.
وتم اصدار قرار بتولي ” بدر الشباب ” إدارة المجلس التنفيذي لشركة سيارات العبد، و هو أعلى منصب داخل الشركة تحت إشراف مالكها المهندس مرتضى، ومهام المدير التنفيذي تقتصر في الإدارة والتخطيط ومتابعة حركة العمل وكافة الأمور التي تتعلق بإدارة الشركة، كما أنه يعمل على مراجعة التقارير و يبحث في المشكلات ويضع لها خطط للحل، ومن مهامه أيضا الإشراف على الموظفين و متابعة كافة الأقسام؛ نفهم من ذلك أن ” بدر” أصبحت المسؤوليات قوية على كاهله، و لكن بفيتامين اليقين بالله سيستطيع تحمل كل تلك المسؤوليات المُشرّفة.
و لأجل نجاح مشروعهم الفخم، قرر ” مرتضى”
عمل وليمة ضخمة غدًا في الشركة، و اخراج الطعام للفقراء و المحتاجين و العاملون في الشوارع، مثل عُمال النظافة المحترمون وغيرهم.
قام ” بدر ” بالاتصال على ” عائشة ” و اخبارها بالأمر، فقد كانت تدعو ربها بتضرع منذ الفجر و كذلك أمه، و عندما علمت عائشة بنجاح مشروع زوجها، صاحت بفرحة مصحوبة بالدهشة طاغية طغت على ملامح “مفيدة” هي الأخرى، و أخذا يحمدان الله كثيرًا.
دلفت ” عائشة ” لغرفة زوجها سريعًا تضع أحمر الشفاه، و تفرد شعرها الغجري الكثيف المموج، و بدلت ثيابها بأخرى ضيقة و مُجسمة، مما انتبهت لها ” مفيدة ” و قالت بغمزة ذات مغزى:
” ايوه بقى، الله يسهله ”
لم تستطع ” عائشة ” منع نفسها من الضحك، و هتفت بضحكاتها الصاخبة:
” اللي في دماغك تنسيه، إحنا لسه كاتبين كتب كتابنا، ها.. يعني فكك يا ماما ”
مَطَّت ” مُفيدة ” شفتيْهِا، و أردفت بمراوغة:
” يابت.. اومال مين اللي كان بيجري وراكِ من هنا لهنا امبارح و يقولك واحدة كمان عشان خاطري يا عائش ! ”
جَحَظَتْ عين ” عائشة ” وهي تنظر لصورتها في المرآة، و تبسمت بخجلٍ قائلة:
” أنتِ فهمتي غلط، كان جايب لي مارشميلو و عجبه طعمه و أنا مرضيتش أديله، فجرى ورايا عشان ياخد واحدة كمان ”
مصمصت بشفتيها ساخرة:
” عليا أنا يا بت الكلام ده، طب ده عمك محمد الله يرحمه..
قاطعتها ” عائشة ” سريعًا بتوسل:
” أبوس ايدك غيري صنف الفول اللي بتاكليه، غيري الراجل خالص.. بصي بلاش دش بصل مع الفول، كُلي لقيمات لقيمات، كده أحسن ليكِ و لنا، عشان يعم السلام على الجميع ”
تجاهلت كلامها، و أخذت تتفحص ملابسها لتقول:
” بقولك إيه.. ما تفكك من البجامة الهبلة دي و البسي حاجة فشتشي، حاجة صفرا ملعلعة كده فيها بُربُرق ”
سكتت عائشة عن الكلام، و نتأت حدقتُها وبرزت هاتفة بنفاذ صبر:
” فشتشي و بُربُرق ! ”
أومأت مُفيدة بحماس، فتابعت عائشة مسايرتها في الكلام:
” طب همشي معاكِ سكة و هوافقك في الاقتراح المذهل ده، بس افرضي سيف جه فجأة ! هتحوشي عني لو بدر مسكني فرمني ؟ ”
” طبعًا اومال ”
” امم فعلًا، بأمارة ما روحتي قولتي له إني رقصت في كتب كتاب نورا، ماما عاملينا أكننا لسه مخطوبين، قشطة ؟ ”
” عسل و فطير مشلتت، روحي غيري بجامة بكار و رشيدة دي ”
” يا مُنجي من المهالك يارب ”
تمتمت بها عائشة داعية الله في سرها، أن يأت زوجها سريعًا لاغاثتها من براثن والدته.
مرت ساعات و ساعات ملت فيهم ” عائشة ” من الانتظار، و هاتف ” بدر ” فصل بسبب نقص شحن البطارية دون معرفتها بذلك، فاتخذت مكانًا في الصالة و بكت في صمتٍ متخيلة أنه بعد الثراء الذي أنعم الله به عليه، سيخونها !
ربتت مفيدة على شعرها بحنانٍ قائلة:
” يا بت والله زمانه جاي إن شاء الله، اغزي الشيطان ”
” لأ، بدر بيخوني ”
” أنتِ عبيطة يا عائشة ! ده أنتِ مهجة قلب البدر يابت، و أنتِ أكتر واحدة عارفة هو بيحبك قد إيه ”
مسحت دموعها الحقيقية مردفة:
” ممكن يكون اتصاحب على بنات في الجامعة، و واحدة منهم عجبته، بقولك إيه.. بتحبي الاندومي ! ”
” قومي لمي اندومك و روحي عند هاجر بدل ما اتعصب عليكِ ”
ضحكت من بين دموعها، و قالت باسمةً:
” والله نفسي هفتني على اندومي فجأة، اعمل إيه ؟ ”
” اعملي لي واحد معاكِ ”
” قشطة ”
نهضت بالفعل لتحضر كيسين من الاندومي، الذي تشتريه في الخفاء دون علم بدر، و تخفيه بين ملابسها المُعلقة.
______
في جهةٍ أخرى، و على شاحنة صغيرة مكشوفة الخلفية امتلأت بالورود الجورية التي تتميز بأزهارها الكبيرة و الفاخرة، جلب منها ” بدر ” عدة ألوان جميلة مثل الأحمر والوردي والأبيض، و تم جمعها و تشكيلها على هيئة باقات كثيرة، فكان منظر خلاب و رائع لأبعد حد، و ذلك بمساعدة
” زين ” الذي عندما علم بالأمر؛ جاء بسيارته سريعًا لمساعدة زوج أخته في اعداد تلك الهدية الجميلة لعائشة.
بعدما استلم ” بدر ” حقائب من المال بقيمة خمسة ملايين دولار، اتجه معه ” مرتضى ” لوضعها في حسابه البنكي، ثُم أخذ بدر منهم مبلغ جيد كصدقة لتوزيعه على الفقراء، و اشترى لعائشة طاقم من الألماس غاية في الرقة و الفخامة، و عاد يتابع اعداد شاحنة الورود الجورية، ذلك النوع المبهر و المفضل لدى عائشة.
و ها هو الآن على مشارف الاقتراب من منطقة منازل عائلة الخياط، و عائشة تنتظره على أحر من الجمر في الشرفة المطلة على الشارع، ما إن رأت شاحنة الورود تلك تدخل منطقتهم، اتسعت عينيها بدهشةٍ تتابع جمال المشهد الأخَّاذ، فاستدعت على الفور حماتها هاتفة:
” ماما الحقي، عربية محملة ورد جوري، الورد اللي بعشقه ! ”
جاءت مفيدة على صياحها، لتهتف بدهشة هي الأخرى:
” دي وقفت عندنا ! ”
كادت عين عائشة تخرج من مكانها بصدمةٍ، وهي تقع على أخيها ” زين ” يخرج رأسه من النافذة، فقد قاد هو السيارة و بدر يتخفى بجانبه..
” معايا رسالة من البدر لمهجة قلب البدر، بيقول إن كل ورود العالم ما تجيش حاجة قصاد جمال ضحكتك ”
وضعت عائشة يدها على فمها تضحك باستيعاب أخيرًا، و بدأت عيناها تدمع دموع الفرحة الغير متوقعة، وهي تهمس:
” بدر ! ”
« دوبني حُبك.. يا أسمر يا بو شامة
غير صوتك ما يعجبني.. و البحّة علامة
و العطر بشفافك.. يسكرني
يا حِلُو يا.. معذبني »
ترجل ” بدر ” من السيارة و تابعته عيون الأهل، حتى جاء ثلاثي أضواء المسرح المرح يشاهدون مفاجأة بدر الرومانسية، و خرجت ” هاجر ” بجانب ” نورا ” من الشرفة يشاركهما ” زياد ” في اعجابٍ واضح بجمال الورود، و أخذ ” زين ” يلقي عليهم بالباقات وهو يهتف بمرحٍ:
” قرب يا بيه قربي يا هانم، شوفوا بدر بيعمل إيه، قالك إيه قالك آه، و حُب بدر لعائش مش هنقدر نتخطاه، و اللي بيحب النبي يصلي عليه ”
أثناء ذلك وقعت عينيه على ” شهد ” تتأمله لأول مرة ضاحكةً على ما يقوله، فتبسم في خجلٍ و تقدم بعفوية منه يعطي لها باقة الورود قائلًا
” مينفعش أرمي لك الورد، الورد يجي لحد عندك ”
جاء ” قُصي ” ليقف عازلًا بينهما بغيرة على شقيقته، ليهمس لزين:
” سيف حكى لي على كل حاجة، أنا أخوها و بقولك اتقدم لو بتحبها، و فكك من إبراهيم ده بيحب عشرة ”
اتسعت ابتسامة ” زين ” و بحث بعينيه على
” شهد ” ليجدها اختفت وراء ” أُبَيِّ ” بخجل تزامُنًا مع تشغيل ” إبراهيم ” لكاسيت السيارة الخاصة به، لتصدح تلك الكلمات تزيد من احراج
” زين “..
” أنتِ مين و اسمك ايه؟
ماشيه ليه؟ رايحه فين ؟
ارجعي.. اسمعيني
دا الغُنىٰ و الكلام
مش مكفي اللي أنا حاسس بيه.. دي بتحصل مرة في مية سنة، مش شايف غير أنتِ و أنا ”
رمق ” بدر ” ” إبراهيم ” بتحذير، فأطفئ الكاسيت في الحال، بينما ” زين ” اتجه لـ
” مُجاهد” الذي جلس أمام منزله يمصمص القصب بشراهة، و قرر البوح بمشاعره تجاه ابنته و ليحدث ما يحدث..
” عمي مُجاهد، أنا بحب شهد و عاوز اتزوجها ”
نظر له ” مُجاهد ” باستيعاب و إدراكٍ بطيء، ليردف:
” كلكوا بقيتوا حبيبة دلوقت ما عدا اللي هيجلطني ده ! طيب أنا هتكلم معاها بس عامةً مفيش حاجة غير بعد الثانوية ”
رد بلهفةٍ وهو يأخذ عود قصب و يجلس بجانبه
” و أنا هستناها، هات ده بقى ”
تجاهل ” بدر ” كل ما يحدث حوله، و ألقى لعائشة المصدومة بباقة ورد من أسفل لأعلى الشرفة وهو
ي
صيح:
” كانت حياتي كالصريم، و جئتِ أنتِ فأصبحتُ في نعيم ”
اتسعت ابتسامتها العذبة، و ازدادت دموعها الجميلة، ثُم اختفت من الشُرفة؛ فعلم أنها ستأتي له، مما سارع هو بالذهاب إليها ليجدها تهبط من الدَرَج بهرولةٍ، و قبل أن تخطو الدرجة الأخيرة؛ وجدته بستقبلها بابتسامته الساحرة، فالتقطها بين ذراعيه يبث قُبلاته في شعرها الذي تبعثر على كتفه للأمام؛ من قوة دفع جسدها ناحيته..
همست بنبرة تهدج و ارتعاش من البُكاء:
” أنتَ أغلى حاجة في حياتي ”
“أنتِ كل حياتي يا عائش”
في الخارج، ابتعد ” سيف الاسلام ” عن الانظار، و رفع هاتفه ليحادث حماه المستقبلي..
آتاه الرد بعد لحظات، فلم ينتظر ” سيف ” القاء الرجل التحية حتى، و هتف:
” أنا مش بتاع خطوبة و كلام فاضي من ده، أنا طريقي سريع مفيهوش مطبات ”
نظر ” حافظ ” للهاتف بدهشة، فتساءلت ” روان ” باستفسار لنظرة والدها، وهي تحمل أخوها الرضيع بين ذراعيها:
” في إيه يا بابا ؟ ”
رد ” حافظ ” باستيعاب أخيرًا:
” أهلًا باللي شرفنا في الامارات ”
تابع ” سيف ” كلامه بصوتٍ عالٍ وصل لمسامع روان فضحكت في صمت:
” ليه خطوبة و تأخير ! هي عارفاني و عارفة شخصيتي كويس و أنا حافظها، و الشقة جاهزة و المأذون جاهز و هي موجودة و أنا موجود يبقى ليه نحط حدود ! ”
قال حافظ أخيرًا..
” طيب طيب اهدى.. في ايدي ايه اعمله، لله الأمر من قبل و من بعد.. بنتي بتحب واحد مجنون ربنا يكون في عونها ”
” مسمر روان في الكرسي و أنا من بكرة هجيب المأذون و عيلة الخياط و جايين ”
صدرت من ” حافظ ” ضحكة بقلة حيلة قائلًا:
” يلا، ما إحنا في زمن السرعة بقى ”
أغلق الهاتف و صاح مُناديًا على ” قُصي ”
” واد يا بتاع جونغكوك أنت، عاوزك في حوار و هات زين و المسطول إبراهيم معاك ”
بداخل منزل ” بدر ” جاءت ” مفيدة ” بطاقم الألماس، و ألبسته لعائشة قائلة بابتسامة حنونة:
” تتهني بيه يارب ”
و ألبسها ” بدر ” العقد الرقيق هامسًا في أُذنها بينما يرفع شعرها ليجمعه على كتفها كله:
” و رب بدر لأفسدك من الدلال ”
دندنت بصوتها المزعج:
« الحُب بان في عيوني.. و ايديه تقول خبوني
من شوقها للمس ايديك، و الدنيا تبقى أنا و أنت.. و لا بسأل فين أو امتى، طول ما أنا في حُضن عينيك».
____
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية يناديها عائش)