رواية فوق جبال الهوان الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم منال سالم
رواية فوق جبال الهوان الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم منال سالم
رواية فوق جبال الهوان البارت التاسع والعشرون
رواية فوق جبال الهوان الجزء التاسع والعشرون

رواية فوق جبال الهوان الحلقة التاسعة والعشرون
باستخدام الدهاء والمكر، تمكن رجال الأمن من استدراج تلك الشرذمة القليلة المتورطة في إفشاء المعلومات السرية لعتاة الإجــرام، ممن يعملون لحساب الطرف المعادي سرًا، عن طريق منحهم المضلل من الأخبار، ليكون وقع المفاجأة والصدمة قويًا على كل الأطراف، وهذا ما حدث بالفعل، حيث تحركت الفرق الأمنية تحت تعليمات القيادات العليا لتنفيذ مخطط الهجوم على واحدة من تلك المجموعات الخطيرة.
لم تكن مجرد مشاهد عابرة تبثها الشاشة الفضية في المسارح السينمائية، بل كان الأمر واقعًا يُعاش حرفيًا، حيث احتدمت المطاردة بين رجال الأمن وأتباع الهجام، بما فيهم “كرم” أثناء محاولتهم إتمام مهمة غير شرعية، ليتعقد الوسط كليًا، بظهورهم في المشهد، لتعم الفوضى، ويركض الجميع في كل الاتجاهات نحو السيارات المتناثرة هنا وهناك، لتتحول الطرقات إلى ساحة معركة متنقلة تم تبادل إطلاق النـــار بشكل مكثف فيها.
استقل “كرم” بجوار تابعه المخلص “عباس” في سيارته الدفع الرباعي، وراح الأخير يدعس على دواسة البنزين ليشق بها الطرقات شقًا، وكأنه يسابق الريح، فيما ظل الأول يلعن بكلمات نابية تعرضه للغدر والخيانة رغم حرصه على إنجاز كل شيء بنفسه.
تلاحقت دقات قلب “عباس” وتساءل وهو يحاول مفاداة إحدى سيارات الشرطة التي تسير في عقبه:
-العمل إيه يا كبيرنا؟
أطل “كرم” برأسه من نافذته، ووجه سلاحه الآلي تجاه السيارة، ليفرغ فيهم خزانته قبل أن يدخل جسده لبدن السيارة قائلًا بصوت حانق:
-حاول تزوغ منهم الملاعين دول.
أضاف “عباس” في توترٍ متعاظم ظاهر عليه، وقد اشتدت قبضتاه على المقود:
-احنا اتعمل علينا كمين.
بينما راح “كرم” يتوعد في حنقٍ، وتعابير وجهه يكسوها الغضب الشديد:
-ورب العزة ما هسيب اللي غفلنا التغفيلة دي، بس نطلع الأول منها.
أمسك بعدها بهاتفه المحمول ليتواصل مع شقيقه، إلا أن وجد تجاهلًا منه كالعادة، فدمدم في غير صبرٍ:
-رد يا “زهير”؟ إنت كمان لما بتختفي ما بعرفش أوصلك.
احتدمت المواجهة، وأصبحت مركبة الشرطة قريبة للغاية من سيارته، فهدر “كرم” يأمر تابعه بحزمٍ:
-حاسب يا “عباس”! دوس بنزين أكتر!
فرغت خزانة ســلاحه الآلي، فاضطر لاستخدام مسدسه، وبدأ في البحث عن ثغرة يتمكن عن طريقها من إصابة هدفه، وتعطيل سيارة خصمه، لم يكف عن اللعن أو السباب وهو لا يزال يصوب ناحيتهم إلى أن تمكن من إصابة الزجاج الأمامي فتهشم:
-يا ولاد الـ ….
بأعجوبة تكاد تكون أقرب إلى المعجزة، نجح “عباس” في الإفلات من قبضة رجال الشرطة، ونجا من الوقوع في فخ الإمساك به، فيما سقط البقية تحت وابل الأعيرة النـــارية المكثفة. بأنفاس لاهثة التفت ناظرًا إلى “كرم” الذي كان يضغط بيده الممسكة بالســـلاح على كتفه الغارق في الدماء ليسأله في توجسٍ شديد:
-إنت بخير يا ريسنا؟
أجابه وهو يزيد من ضغط على موضع الجرح:
-الطلقة جت في كتفي…
ظل يسحب أنفاسًا عميقًا قبل أن يتابع أوامره له:
-ركز إنت بس في السكة، وأنا هكتم الدم.
سأله في تحيرٍ، وهو يوزع نظراته بينه وبين الطريق أمامه:
-نطلع على فين كده؟
بعد لحظة من التفكير أعلمه:
-ودينا عند بيت “توحيدة”، وخلي حد من الدكاترة الألاضيش بتوعنا يحصلنا على هناك.
قال في طاعة تامة مومئًا برأسه:
-وجب.
……………………………
وردها اتصالًا هاتفيًا موجزًا من “عباس” يُخبرها فيه بإعداد البيت لاستقبال مع “الهجام” دون إعطائها أي توضيح أو تفاصيل زائدة، فظنت أنها زيارة عادية كتلك التي يقوم بها من آن لآخر، بحثًا عمن تمتعه، وتمنحه دفقة أنثوية من السعادة والراحة، لتحظى في النهاية برضاه ونفحة من ماله السخي. انطلقت “وِزة” في حماسٍ تصفق بيديها وهي تلقي بأوامرها على الجميع:
-قومي يا بت إنتي وهي وضبوا المكان أوام، “كوبارتنا” جاي على هنا، وعايزاكو تكونوا على سِنجة عشرة، محدش عارف مين حظها هيضرب النهاردة.
لتلمح “توحيدة” جالسة على طرف الفراش، ووجهها الذليل يكاد يلامس صدرها من انحنائه، دنت منها، ورمقتها بنظرة احتقارية طافت عليها من رأسها لأخمص قدميها قبل أن توكزها في ذراعها صائحة فيها بنبرة معبأة بالإهانة:
-وإنتي يا “توحيدة” اختفي، سِحنتك بتغم النفس، وسيدنا مش ناقص حاجة تقرفه.
نهضت من موضع جلوسها قائلة بوجومٍ:
-والله وبقالك قيمة يا بنت الـ….
قبل أن تتلفظ بشيءٍ تندم عليه لاحقًا أخرستها “وِزة” بالإطباق على فكها، اعتصرته تحت راحتها قائلة بتهديدٍ صريح:
-عندك! إياكي تغلطي، بدل ما تشوفي الوش التاني، وإنتي مجربة قلبة سي “عباس” عليكي، فما بالك بكبيرنا!
ضمت “توحيدة” شفتيها غيظًا، مانعة نفسها من التفوه بسبةٍ مسيئة، لتتحرك إلى الأمام، لكنها تأوهت من الألم فجأة، حيث ركلتها “وِزة” بقدمها في ردفها بخشونةٍ، لتستدير ناظرة إليها بعينين تشتعلان كمدًا منها، ليتبع ذلك نعتها المحقر منها:
-يا غوري يا وش الفقر، جيبالنا النحس بأعدتك دي.
لم تجرؤ على الرد عليه، وانسحبت إلى الخارج؛ لكن داخلها ظل يغلي كأتونٍ متقد، تتمنى فقط لو أتيحت لها الفرصة لتنفجر فيها.
……………………………..
حلت الصدمة على رأسه حينما أبصر آخر من يتوقع اللقاء به في هذا المكان، وأشد ما أغاظه قيام ذلك المقيت بالهجوم عليه وإهانته بوقاحةٍ على مرأى ومسمع من الجميع. تغاضى “زهير” عن إساءته التي يمكن أن تُســـال فيها الدماء كنوعٍ من رد الاعتبار لشخصه ليسأله مباشرة وهو يزيح قبضتيه عنه:
-إنت بتعمل إيه هنا يا “فارس” يا “عُرباني”؟
كلاهما كانا على معرفة وثيقة ببعضهما البعض، فمقر احتجازهما كان مشتركًا لجماعتيهما، فـ “فارس” ينتمي لجماعة “العُربان”، ونال اسم شهرته هذا نظرًا لوجوده بينهم، فطغى على لقب عائلته الأصلي، وهم معروف عنهم شدتهم وانحيازهم المتعصب لكل من يقع تحت طائلة أمرهم، خاصة إن تجرأ أحدهم على المساس بهم، ناهيك عن كونهم كُثر ومن ذوي النفوذ القوية، تلك التي يصعب الصمود أمام بطشها مهما كنت تملك من شجاعة أو جرأة، فيما كانت كنية “زهير” الشقيق الأصغر لزعيم جماعة “الهجام”، العقل المدبر لإنجاز المهام العويصة، وأحد خصومهم المتناحرين، وإن حرص “كرم” على تجنب الصراع معهم نظرًا لتشددهم الأعمى، إلا أن ذلك لم يمنعه من مواجهتهم في بعض المواقف التي تتطلب إثبات القوة والسيطرة.
ولكون كل جماعة تسعى لفرض سطوتها على البقية، وتولي زمام الحكم مجازًا داخل السجن، وإجبار من فيه على الخضوع لقوانينهم الخاصة نشبت عشرات المشادات العنيفة بين كافة الأطراف، لتضطر القوات الأمنية لفض الشغب الدائر بينهم –باستمرارٍ- بفصل غالبيتهم ونقلهم إلى أماكن احتجازٍ أخرى لتقليل الاحتكاك.
كان “فارس” خبيرًا في التعامل مع أمثاله من الحقراء، لذا دون سابق إنذارٍ سدد له لكمة قوية أسفل فكه وهو يرد بعجرفةٍ:
-ملكش فيه.
ارتد “زهير” للخلف من إثر الضربة المباغتة التي كادت تطيح به؛ لكنه تماسك، وصاح في حنقٍ، وقد نزف خيطًا من الدماء من جانب فمه:
-لأ ليا يا روح أمك…
ثم أشهر ســــلاحه النــاري في وجهه ليهدده بغضبٍ جم:
-وأنا هقتلك، ومش هيفرق معايا تبقى من “العُربان” ولا لأ!!
في غير مبالاةٍ تحداه “فارس” وهو يفرد ذراعيه على امتدادهما:
-طب اعملها كده ووريني!
فيما ارتفعت شهقات كلًا من “عيشة” وابنتها، وظنتا أن جريمة شنيعة على وشك الوقوع في صالة منزلهما.
من فوره تدخل “رجائي” قائلًا بتوجسٍ:
-يا جماعة استهدوا بالله، ما يصحش كده، احنا جايين كلنا نعمل واجب العزا، مافيش داعي نكبر المواضيع.
غمره في تلك اللحظة حنقًا لا عظم له، فارتفع صياح “زهير” هادرًا:
-هي كبرت خلاص، وهنجيب ناهيتها وقتي.
ارتعدت فرائص “إيمان” وتشبثت أكثر بوالدتها لترتعش شفتاها متمتمة:
-الحقي يا ماما، شكلها مش هتخلص على خير!
ردت عليها بنفس الخوف الكبير:
-استرها علينا يا رب….
ثم استطردت تتوسل وهي تشير بيدها:
-بالله عليك يا “فارس” تهدى يا ضنايا، ده برضوه عريس “دليلة”، وآ…
قاطعها “فارس” قبل أن تنهي كلامها بحسمٍ:
-على جثتي لو ده حصل!
استفزه بتحديه السافر، فانتزع زر الأمان عن سلاحه ليهتف بلا ترددٍ:
-يبقى إنت اللي حكمت على نفسك بالمـــوت!
بابتسامةٍ مغترة خاطبه وهو يستعرض عضلاته أمامه:
-وأنا جاهز.
صدح هاتف “زهير” برنين متواصل، إلا أنه تجاهل الرد عليه، وظل متحفزًا للقضاء على خصمه اللدود، بينما أوشك “عادل” على التدخل للفض بينهما، إلا أن قبضة والده التي التفت حول معصمه جعلته يتسمر في مكانه، لينظر إليه مستنكرًا، والأخير يوصيه بصوتٍ خفيض، وكأنه يريد أن يحافظ على كونهما أطياف غير مرئية في هذا المشهد العصيب:
-إياك، إنت شايفه عامل إزاي؟
همس محتجًا بتحيزٍ:
-يعني هنسكت على الجريمة اللي بتحصل دي؟
ظلت نبرته على خفوتها وهو يخبره في عجزٍ:
-واحنا في إيدنا إيه؟
قال بإصرارٍ معاند رافضًا البقاء في موقف الضعيف المتخاذل:
-في إيدنا نمنعه!
فجــأة اتجهت كافة الأنظار تجاه “سِنجة” الذي اقتحم المكان ليصيح بأنفاس منفعلة ومتلاحقة:
-إلحق يا ريس “زهير”، في كمين اتعمل على كبيرنا، واحنا مش عارفين نوصله.
جزع للأخبار غير المحمودة، واستدار تجاهه متسائلًا في ذهول مشوبٍ بشيءٍ من الذعر:
-بتقول إيه؟
بالكاد التقط “سِنجة” أنفاسه ليقول بارتعابٍ وربكة:
-احنا محتاجينك دلوقت يا ريس.
أصبح “زهير” مضطرًا للرحيل إلزاميًا، فخفض فوهة سلاحه بعدما أعاد زر الأمان إلى موضعه ليقول في وعيدٍ مخاطبًا “فارس” على وجه الخصوص:
-حظك فلت من الموت النهاردة، بس مش هسيبك تتهنى، استلقى وعدك مني.
لم يبدُ مباليًا للحظة بما اعتبرها تهديداته الفارغة، وهتف في استبسالٍ عجيب:
-مستنيك، وعنواني ما يتوهش…
قبل أن يختتم حديثه الموجه إليه، انطلق “زهير” ركضًا إلى الخارج، ليحاول “فارس” اللحاق به مكملًا كلامه المستفز:
-استرجل بس واسأل عن “فارس العُرباني”، وإنت عارف هتلاقيني فين!!!
فيما شعرت “إيمان” بثقل جسد والدتها التي انفلتت أعصابها من كم الضغوطات الرهيبة التي لا تنفك تتركهما ليومٍ، ابتلعت ريقها، وهمهمت:
-يا لهوي على التوتر اللي احنا فيه!!
كان ذلك ما ينقصها، معايشة أجواء القـــتل نصب عينيها! بحثت “عيشة” عن أقرب أريكة لتجلس عليها وهي تندب في يأسٍ وحسرة:
-أنا مش حمل ده كله.
اتجه “فارس” عائدًا إليها ليقول معتذرًا ومبررًا:
-حقك عليا يا مرات عمي، بس أنا عارف النوعية دي، أخرها كلام وبس.
اعترضت على طريقته قائلة بخوفٍ أمومي:
-وليه تورط نفسك معاه؟ إنت ناقص بلاوي يا ابني!
قال في جراءةٍ لا يمكن التشكيك فيها:
-أنا أده، وأد جماعته كلها، متخافيش عليا، دول مقامهم تحت جزمتي.
تقدم ناحيتهما “عادل” ليقول دون مقدمات تمهيدية:
-لو تسمحولي يا جماعة أدخل، فأنا من رأيي مالوش لازمة تفضلوا في المكان ده، هو مش هيسيبكم، وهيفضل يضايقكم، فالأفضل تشوفوا بديل.
أيده “رجائي” في اقتراحه، ودعمه:
-وأنا من رأي “عادل” ابني، الأحسن تبعدوا عن القلق ده.
ليضيف ابنه مجددًا:
-وكمان ممكن تبلغوا البوليس إنهم بيهددوكوا.
أتى تعليق “عيشة” ساخطًا ومتهكمًا إلى حدٍ كبير:
-هو احنا ودانا في داهية غير البلاغات!!
زوى “عادل” ما بين حاجبيه مرددًا باستغرابٍ
-مش فاهم!
في لطافةٍ واهتمام أمسكت “إيمان” بكف والدتها، وأخبرتها في شيءٍ من الإلحاح:
-تعالي نروح بيتي يا ماما، “راغب” مسافر، ومافيش قلق ولا حوارات زي اللي بتحصل هنا.
قبل أن تنطق أمها بكلمة تساءل “فارس” مستفهمًا:
-والدلدول ده عارف سِكة بيتك؟
نظرت إليه قائلة بعد لحظةٍ من التردد:
-للأسف. أيوه.
أخبرها في جديةٍ تامة:
-يبقى الأسلم نشوفلكم مطرح تاني مايعرفش عنه خبر.
علقت عليه بتصميمٍ:
-ماشي، بس لحد ده ما يحصل احنا هنفضل في بيتي، أكيد مش هسيب ماما ولا “دليلة” يتبهدلوا.
بدا حديثها منطقيًا، فقال بعد زفرة سريعة:
-طيب، وأنا هظبطلكم مُكنة أمان الجن الأزرق مايعرفش يوصلكم فيها.
بشيءٍ من الإرهاق نهضت “عيشة”، وخاطبت ابنتها في لهجةٍ آمرة:
-روحي شوفي أختك وصحيها، عقبال ما أجهز.
اكتفت بالإيماء برأسها، وعاودت أدراجها إلى الداخل، لتتابع كلامها إلى ضيفيها اللذين لا يزالا متواجدان بمنزلها:
-أنا أسفة على اللي حصل ده كله، إنتو مالكوش ذنب.
في وقارٍ رد عليها “رجائي”:
-مايصحش الكلام ده، “فهيم” الله يرحمه كان صاحبي، وماينفعش أشوف أهل بيته في ورطة وما أقفش معاهم.
حانت منها نظرة ممتنة له، وقالت:
-كتر خيركم.
تحدث “فارس” من ورائها وهو يخطو تجاه الضيفين:
-روحي يا مرات عمي اجهزي، وأنا هوصل الضيوف لبرا.
-ماشي.
قالت كلمتها الموجزة وهي تسرع في خطاها نحو الداخل، ليشرع “عادل” في الكلام مرة أخرى بأدبٍ:
-لو تسمح لي يا بابا ممكن أقول حاجة؟
هز رأسه قائلًا:
-اتفضل.
التفت لحظتها محدقًا في وجه “فارس” ليقول بهدوءٍ مغلف بالجدية:
-احنا هنروح مع الجماعة المكان اللي مدام “إيمان” عايشة فيه، يعني زيادة اطمئنان وكده.
اعترض عليه الأخير بوجهٍ منقلب التعبيرات:
-مالوش لازمة، معاهم راجل سداد.
أصر على رغبته قائلًا بتصميمٍ:
-طبعًا، ده أكيد، بس احنا علشان زي ما قولتلك نطمن عليهم، ونتأكد إنهم بخير.
وكأن نزعته الذكورية انتفضت بداخله، فتقدم “فارس” ناحيته، إلى أن أصبحت المسافة الفاصلة بينهما خطوة واحدة، آنئذ وضع يده على كتفه، وربت بخشونة وقوة عليه قائلًا بنوعٍ من العجرفة، كأنما يطرده بشكلٍ مبطن:
-تسلم، ما نجلكش في حاجة وحشة.
فهم ما يرمي إليه من أسلوبه الجاف، وتجاوز عن ذلك، ليسترسل:
-احنا معانا عربية، هحاول أجيبها قريب من المكان هنا بحيث نوصلكم.
مرة ثانية ربت على كتفه بقوةٍ أكبر، وقال رافضًا عرضه صراحة:
-وأنا عندي عربيتي، ما تتعبش نفسك!
لم يكن الموقف يحتاج لاستعراضٍ للخدمات، فقطع “رجائي” بوادر ذلك التحدي المعاند الظاهر بينهما بقوله الحاسم:
-خلينا نستنى تحت أفضل يا “عادل”، وسيب الجماعة يجهزوا على راحتهم.
على مضضٍ استجاب له مرددًا:
-ماشي.
فيما ودعه “فارس” بغطرسةٍ، وهذه النظرة الحادة مصوبة عليه:
-بالسلامة.
ما إن خرج الاثنان من البيت حتى شرع “عادل” في الشكاية وهو يهبط على الدرجات:
-أسلوبه صعب أوي البني آدم ده.
تفهم “رجائي” طبيعة تصرفاته الفظة، وقال معللًا ذلك:
-اعذره، دول أهل بيته، واحنا نعتبر زي الغُرب برضوه بالنسبالهم.
بقي “عادل” على تصميمه هاتفًا:
-بس أنا برضوه مش هسيبهم لحد ما أطمن إنهم بقوا في أمان.
كان والده متيقنًا أن ابنه لن يتراجع عن شيء عقد العزم عليه مهما حاول إثنائه عنه، لذا لم يتجادل معه كثيرًا، واقتضب في الرد:
-طيب.
………………………………………
كانت شقيقتها لا تزال تحت تأثير المهدئ الذي تناولته قبل برهة، وبالتالي تعذر على “إيمان” إفاقتها، بالكاد تمكنت من إلباسها عباءتها فوق ثيابها المنزلية، وأحكمت لف حجاب رأسها حول شعرها، لتستعين بـ “فارس” ليقوم بحملها برفقٍ إلى الخارج، هبط الدرجات بحرصٍ، ومحاولًا الانتباه لخطواته لئلا يتعثر وينكفئ بها على وجهه، فيلحق الأذى بكليهما.
كعادتها المتطفلة السمجة، استوقفتهما “إعتدال” وهي تقف أمام باب منزلها المفتوح، لتتساءل في صفاقةٍ، ونظراتها المملوءة بالاتهامات تجول عليهما في فضولٍ:
-كبدي عليها الغلبانة، على فين العزم كده بيها؟
بادلها “فارس” نظرة احتقار صريحة قبل أن يرد بوقاحةٍ فجة:
-ما يخصكيش!
وضعت إصبعيها على طرف ذقنها، ولامته في استعتابٍ مصطنع:
-يادي العيبة! إزاي تقول كده بس؟ ده احنا هنا كلنا أهل، وقلوبنا على بعض.
جاء رده صادمًا لها:
-في ناس كده ماينفعش معاها إلا السك على قفاها…
برزت عيناها على اتساعهما، ليكمل في حدةٍ:
-ويالا من سكتي.
اعترضت طريقه بعنادٍ، وأخبرته في لهجةٍ شبه محذرة:
-بس دي تعتبر مرات سي “زهير”، كبير منطقتنا، ولازمًا ياخد خبر باللي يخصها، ده هو موصيني عليها.
زجرها بغلظةٍ:
-مايهاش على ذمته يا ولية إنتي، وأنا مش هسيب لحمي وعرضي للديــابة ينهشوه، وخصوصًا الكلب سيدك!
تدلى فكها للأسفل في ذهول:
-إيه؟!!
كرر عليها بنفس الأسلوب الصارم:
-اللي سمعتيه، ويالا اديني سكة بدل ما أشوطك من قدامي.
في التو تراجعت للخلف هاتفة في غير تصديق:
-كمان!!
تجاوزها “فارس” متابعًا هبوطه للأسفل، لتشيعه “إعتدال” بنظرتها النارية وهي تدمدم من ورائه بقنوطٍ غاضب:
-عشنا وشوفنا، بقى أنا أتهزق من واحد زي ده؟
كورت قبضتها، وضربت على الدرابزين هاتفة في توعدٍ:
-وربنا ما سكتاله، أنا ههول الدنيا لسي “زهير” خليه يعلقه في وسط الحتة ويبقى عبرة!
…………………………………..
بحذرٍ وحيطة، مدد “فارس” جسد “دليلة” على المقعد الخلفي من سيارته، لتجلس والدتها بجوارها، وتحاوطها من كتفيها لتضمها إلى صدرها، وكأنها تحميها، فيما استقرت “إيمان” جالسة في المقعد الأمامي مجاورة لـ “فارس” الذي استدل منها على عنوان مسكنها. لدهشتها تفاجأت بملاحقة “عادل” ووالده لسيارتهم، ولم تعلق بشيءٍ.
بعد برهةٍ كانت السيارتان تصطفان أمام مدخل بنايتها الحديثة، ترجلت “إيمان” أولًا، وفتحت الباب الجانبي، ليتمكن “فارس” من حمل شقيقتها مرة أخرى، ثم تقدمته لترشده إلى مكان المصعد، بينما ظلت “عيشة” للحظات تتحدث إلى “رجائي” وابنه لتشكرهما على صنيعهما الطيب، طالبة منهما الرحيل بتهذيبٍ، إلا أن “عادل” رفض الذهاب قبل أن يتأكد من استقرار الأسرة.
سرعان ما لحقت بابنتيها، لتقوم بمخاطبة “فارس” في امتنانٍ، وأربعتهم بداخل المصعد:
-تعبناك معانا يا ابني.
رد في هدوءٍ:
-ما تقوليش كده يا مرات عمي، ده احنا أهل، وواجب عليا أحميكم.
ما إن فُتح الباب المعدني حتى خرجت “إيمان” أولًا، وأشارت بيدها نحو باب بعينه:
-اتفضل، السكة من هنا.
أخرجت مفتاحها من حقيبتها، ودستها في قفله، لتدفع الباب بيدها، وتمدها نحو الحائط حتى تضغط على زر الإنارة، لتجد مفاجأة غير سارة في انتظارها، شهقت مصعوقة عندما رأتها فارغة من أثاثها، بهتت ملامحها، وتخشبت في موضعها غير مصدقة ما تبصره عيناها، لتلحق بها أمها هاتفة في صدمة مماثلة لها:
-يا نصيبتي! إيه اللي حصل لشقتك؟
استفاقت من ذهولها الصادم، ورددت بمنطقيةٍ:
-شكل البيت اتسرق.
لطمت “عيشة” على صدرها هاتفة:
-يادي المصيبة!
هرولت “إيمان” داخل أرجاء الشقة لتتفقدها، فكانت خالية من كل شيء، فيما بعد بعض الصناديق الكرتونية التي تحتوي على ثيابها ومتعلقاتها الشخصية. سمعت صوت والدتها تأمرها في جزعٍ مبرر:
-نادي على مرات البواب أوام خلينا نفهم اللي حصل!
أومأت برأسها في طاعة، وأسرعت إلى الخارج لتستدعيها، فيما استمر “فارس” في حمله لـ “دليلة”، لتخبره والدتها في حرجٍ:
-حطها يا ابني على الأرض، هتفضل شايلها كده.
اعترض عليها قائلًا بمكابرة:
-ماينفعش، الدنيا مبهدلة، وأنا مرضهاش ليها.
جاءت زوجة حارس البناية على وجه السرعة، فبادرت “إيمان” بسؤالها بصوتٍ قلقٍ، ووجهها يشي بارتعابٍ بائن:
-هو إيه اللي حصل يا “أم عبده” في غيابنا؟
كانت الأخيرة على قدرٍ كبير من الهدوءٍ، فبادلتها السؤال بآخر مستنكرٍ:
-هو إنتي معندكيش خبر يا ست “إيمان”؟
ضاقت المسافة ما بين حاجبيها وهي تلاحقها بسؤالها المستفسر:
-خبر بإيه؟
تصعبت بشفتيها قائلة، وقد تفقه ذهنها لجهلها التام بما أقدم عليه زوجها في غفلة منها:
-سي “راغب” هو اللي فضى الشقة من العفش وعارضها للبيع.
اتسعت عيناها على الأخير، فيما استطال وجهها في صدمة متعاظمة، لتهتز شفتاها متسائلة بوجلٍ أشد سيطر على كامل بدنها، واجتاح كافة جوارحها:
-بتقولي إيه …………………………… ؟!!!!
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية فوق جبال الهوان)